تفسير سورة فاطر

بيان المعاني
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

الذين بوأتهم دار كرامتي بإنابتهم وإخباتهم لأوامري. قالوا قرأ ابن عباس وابن الزبير وعبد الله «فقد كذّب الكافرون» وهذه ان صحّت عنهم فإنهم عنوا بها تفسيرا لا قراءة، وإلا فهي قراءة لا يعتدّ بها ولا يجوز نقلها لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف المجمع عليها. على أن الآية تؤدي هذا المعنى دون حاجة للجنوح إلى هذه القراءة غير الصحيحة المخالفة للإجماع. أما ما قاله بعض المفسرين من أن الخطاب لكفرة قريش خاصة، وأن المعنى ما يعبأ بكم لولا إرادته لدعائكم له لعبادته لما عبأ بكم ولا خلقكم، فلا ينافي ما ذكر في تفسيرها، لأن الخطاب فيها عام يشمل كفرة قريش وغيرهم كما يشمل المؤمنين صدرها عامة أيضا، وقد أوضحنا هذا أعلاه، ثم هدد الكافرين المرادين بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» بقوله جل قوله «فَسَوْفَ يَكُونُ» عذابي لكم «لِزاماً» ٧٧ لا يفارقكم ولا ينفك عنكم بل يحيق بكم ويلزمكم حتى يكبكم في النار ويصليكم فيها، وهذا غاية في التهديد ونهاية في الوعيد لأن المعنى أن التكذيب لازم لمن كذب فلا يعطى التوبة كي ينال جزاءه، أجارنا الله من ذلك ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن إلا
هنا وفي الآية ١٢٩ من سورة طه الآتية فقط. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة فاطر عدد ٤٣- ٣٥
نزلت بمكة بعد سورة الفرقان وهي خمس وأربعون آية، وتسعمائة وسبعون كلمة، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة الملائكة وقد ذكرنا في أول سورة الفاتحة المارة ما يتعلق بأولها، ومثلها في عدد الآي سورة ق.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المحمود بكل مكان، المعبود في كل زمان، حمد نفسه بنفسه، جلت عظمة ذاته وقسمه تكريما لقدره، وتعليما لعباده، كي يمجّدوا خالقهم ورازقهم ومانحهم نعمه «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» بفتقها بعضها عن بعض، لأن الفاطر معناه الشاق وأصل الفطر
107
الشق طولا، تقول فطره أي شقه قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» الآية ٢٠ من سورة الأنبياء في ج ٢ راجع تفسيرها لأنها من معجزات القرآن والأمور الغيبية. ثم تجوز فيه لكل شق، والمعنى أنه موجد خلقهما والعوالم التي فيهما لكونهما من الممكن، والأصل في كل ممكن العدم ليشير إليه قوله تعالى «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» الآية من آخر سورة القصص الآتية، ونظيرتها الآية ٣٧ من سورة الرحمن في ج ٣ من حيث المعنى وقوله ﷺ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرح بذلك فلاسفة الإسلام بقولهم:
الممكن في نفسه ليس... وهو عن علته ايس
فذلك الإله الذي ابتدعها على غير مثال سابق، وشقها بعضها عن بعض، هو المستحق وحده للحمد. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما إني فطرتها أي ابتدأتها بالشق يعني هو الذي حفرها أولا وهو أحق بها. وهو كذلك شرعا إذا كانت الأرض التي فيها غير مملوكة للغير وإلا فلا «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» منه إلى أنبيائه يبلغونهم أوامره ونواهيه وغيرها بالوحي والتكليم، أما الإلهام والرؤيا الصادقة اللذان من جملة أقسام الوحي فليسا بواسطة الرسل- راجع بحث الوحي والإرهاص والفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة.
مطلب جواز إضمار الموصول ولا مجال في طلب الرزق:
وقريء فطر وجعل ماضيين، على إضمار اسم الموصول على مذهب الكوفيين، وأجازه الأخفش وذهب إليه ابن مالك، وحجتهم قوله تعالى «آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآية ٤٦ من سورة العنكبوت في ج ٢ أي والذي أنزل إليكم وقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم... وينصره ويمدحه سواء
أي ومن ينصره ومن يمدحه، ومثله قول الآخر:
ما الذي دأبه احتياط وعزم... وهواه أطاع يستويان
108
أي الذي هواه أطاع. ولم يجز البصريون حذف الموصول الاسمي البتة، وان ابن مالك اشترط لجوازه أن يكون معطوفا على موصول آخر موجود، كما هو في الآية والبيتين وما نحن فيه ليس كذلك، لعدم وجود هذا الشرط في هذه الآية، تدبّر. ثم وصف الله تعالى ملائكته هؤلاء بكونهم «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى» اثنين اثنين «وَثُلاثَ» ثلاثة ثلاثة «وَرُباعَ» أربعة أربعة. واعلم أن العدد هنا ليس للتقييد، فالآية على حد قوله تعالى فمنهم من يمشي على رجلين الآية ٤٩ من سورة النور في ج ٣ لأن من الملائكة من له ستمائة جناح كما روى عن جبريل عليه السلام، ويوجد في الحيوانات من لها سبع وسبعون رجلا، ولكن العمدة على أربع. هذا، واعلم أنه لا يستنبط من هذا أن من الملائكة من له تسع أجنحة، وإن كان يجوز وجوده، وعليه فلا يصح الجمع هنا بين الأصناف الثلاثة ويجزم يكون ملكا له تسعة أجنحة على رأي من ضم هذه الأعداد بعضها لبعض في سورة النساء الآية ٣ في ح ٣، إذ لا يصح أن يجمع أحد بين تسع نسوة، راجع تفسيرها هناك تجد ما يقنعك على أن اللغة العربية تأبى الجمع في مثل هذا، تأمل قدرة القادر فإنه «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» لم يتقيد بعدد ونوع مخصوص أو جنس من أجناس الخلق كله من حسن وقبيح، وهذه الزيادة تتفاوت في الخلق والخلق والصوت والملاحة في العين والأنف والوجه وخفة الروح وجعودة الشعر وفلج الأسنان وطلاقة الوجه وبشاشته وحلاوة المنطق والطول وأضداد ذلك، وفي الصنعة من خياطة وصياغة وحياكة وتجارة وحجامة ونجارة وغيرها، وفي الصفة في الدين والفقر والغنى والمال والعلم والجهل والعقل، وغيرها من كل شيء، لأن الآية عامة تشمل الأوصاف الحسية والمعنوية «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ١ وهذا تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور، أي أن شمول قدرته تعالى بجميع الأشياء مما يوجب قدرته جل شأنه على الزيادة في الخلق كله قال تعالى «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ» رزق وصحة وولد ومطر وغيره من جميع ما يشمله معنى الرحمة «فَلا مُمْسِكَ لَها» من أحد ما البتة «وَما يُمْسِكْ» من تلك
109
الرحمة الشاملة «فَلا مُرْسِلَ لَهُ» أبدا إذ لا يستطيع أحد إمساك ما يرسل كما لا يقدر أن يرسل ما يمسك «مِنْ بَعْدِهِ» كيف يجرؤ أحد أو يقدر على شيء من ذلك «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل أحد وعمله «الْحَكِيمُ» ٢ الذي لا يعمل إلا ما تقتضيه حكمته من إعطاء ومنع ووضع ورفع، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ كان يقول دبر كل صلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. والجد هنا الغنى والبخت أي الحظ، فلا ينفع الغني والمبخوت حظه وغناه، لأنها منك، وإنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك. أنظر رعاك الله ما أدعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عما سواه والإجمال في طلب الرزق اتباعا لأمر الرسول فيه القائل: أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما كتب له منها. فإذا علم هذا وكان من المؤمنين مال إلى إراحة نفسه وسكون باله عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليالي. أخرج ابن المنذر عن عامر ابن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي: هذه الآية، وقوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الآية ١٠٨ من سورة يونس، وقوله تعالى (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية ٧ من سورة هود في ج ٢، وقوله تعالى (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) الآية ٨ من سورة الطلاق في ج ٢. هذا، وبعد أن بين الله تعالى بأنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق كيفما يشاء أمر أهل مكة قوم نبيه محمد ﷺ بشكر نعمه التي من جملتها اختصاصهم به، فقال «يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» التي من جملتها تشريفكم بنبي منكم وجعلكم من أمته
، وأسكنكم حرمه، وأمنكم بمنع غارات الناس عليكم، فأنتم محميّون بحمايته ويتخطف الناس من حولكم فانظروا وتفكروا «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا لكم ولأنعامكم. وهذا استفهام إنكاري لإنكار التصديق وإنكار الحكم، وهو جائز كما في المطول وحواشيه،
110
أما قول الرضي بأن هل لا تستعمل للإنكار فإنه يريد الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الآية ٤٠ من سورة الإسراء الآتية، والمعنى هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو لغيركم؟ كلا، لا خالق سواه البتة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» ٣ أي من أين يأتيكم البهت والافتراء والاختلاق بإنكار البعث والتوحيد مع أن الله يأمركم بهما ومع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم، فكيف يتوقع منكم التكذيب والإنكار، وما سبب صدوره منكم؟ قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا سيد الرسل فلا يهمنك شأنهم ولا يكن تكذيبهم عليك غمّة «فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» من قبل أقوامهم وفي هذه الآية تعزية لحضرة الرسول بقومه وتسلية بمن قبله من الأنبياء الكثيرين الذين كذبتهم أقوامهم وأهينوا وقوتلوا مثله، فله أسوة بهم، وفي قوله تعالى «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ٤ تهديد للكفار، لأن الله تعالى يقول لا تعبأ بهم فمصيرهم إلينا وإنا سنجازي المكذب منهم بما يستحقه. وفيها نعي لكفار قريش بعدم تلقيهم آيات الله بالقبول «يا أَيُّهَا النَّاسُ» ثقوا وتيقنوا «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ثابت واقع لا محالة لا يجوز تخلفه، وهذا الوعد هو الملمع إليه بجملة (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها وطول الأمل فيها والصحة في الأبدان وكثرة الأرزاق والأمن «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ» من حيث أنه غفور رحيم رؤوف كريم عطوف لطيف مما يمليه عليكم «الْغَرُورُ» ٥ من النفس والجن والإنس، فكلها تغركم وكل مبالغ في العزة والأنفة فهو غرور، وأغر كل غرور هو الشيطان الذي يستولي على قلوبكم بوسوسته، لغفلتكم عن ذكر الله في أعمالكم وأقوالكم، فاحذروا خداعه ومكره، ولا تلتفتوا إلى إغوائه وإغرائه، ولا تركنوا إلى الدنيا التي يزيّنها لكم. ثم صرح بذلك الغرور فقال «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ» قديم تأصلت عداوته فيكم، فلا تكاد تزول حتى يزول هو وليس بزائل إلا عند الأجل الذي ضربه الله له، ولستم بمدركيه لأن موعده النفخة الأولى التي لا يحضرها إلّا شرار الناس، فاهجروه رحمكم
111
الله وقوا أنفسكم من عذاب الله، وإذا أردتم التغلب عليه «فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» مبين العداوة واعفوه في كل ما يوسوس به إليكم، لأنه لا يأمر بخير، وعليكم بطاعة ربكم الموجه لفوزكم في الدنيا والآخرة، لأن الشيطان عليه اللعنة «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ» أشياعه وأنصاره الذين يصغون لوساوسه «لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» ٦ معه جزاء عصيانه وعداوته المتتابعة من لدن أبيكم آدم عليه السلام وهذا تنبيه على أن غاية غرضه من دعوة إتباعه إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا، لتوريطهم باقتراف المعاصي فيستحقون معه التخليد في العذاب في تلك النار المسعرة، فالذين يوافقونه ويجيبون دعوته هم «الَّذِينَ كَفَرُوا» بالله ورسوله وكتابه وهؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ»
لا يطيقه البشر، راجع الآية ٣٣ من سورة لقمان في ج ٢ «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فيخالفون المغرور وأعوانه ويلجئون إلى ربهم ليعصمهم منهم ويحفظهم من دسائسهم فأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ٧ على إيمانهم الصادق وأعمالهم الصالحة، وقد زادهم الله على المغفرة الأجر، لأنهم زادوا على إيمانهم أعمالا صالحة فهم المؤمنون حقا المستحقون لكرم الله وإيفاء وعده بما لهم من الكرامة. وهو وعد حقّ ثابت.
هذا ما يؤول إليه حال المؤمن، أما ما يؤول إليه حال الكفرة كأبي جهل وأضرابه الذين هم على شاكلته إلى يوم القيامة، الذين يستحلون دماء المؤمنين وأموالهم ويهينونهم فهم المعنيون بقوله تعالى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» بسبب التزيين وقد حذف الخبر وهو كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح (أي ما هما متساويان) لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم إياه ونظير هذه الآية من جهة عدم حذف الخبر قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ الآية ٦٥ من سورة محمد ونظيرتها الآية ١١٣ من آل عمران، ومثلها من سورة الرعد في ج ٣، وقوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) الآية ١٢٣ من سورة الأنعام في ج ٢ وغيرها هذا، وإن شأن هذا الكافر المزين له سوء عمله وهو
112
أبو جهل على قول بعض المفسرين بأن هذه الآية نزلت فيه، وهي بعمومها تشمل كل من هو على شاكلته) شأن المغلوب على عقله الحائر في أمره مسلوب التمييز، الذي يأتمر برشد ولا يطيع المرشد، وهو أحد الأصناف الثلاثة. والثاني رجل ترد عليه الأمور فيسدّها برأيه، والثالث رجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي، وكأن أبو نواس أشار إلى الأول بقوله:
اسقني حتى تراني... حسنا عند القبيح
وذلك نهاية في الضلال «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» حتى يكون كذلك فتحق عليه الكلمة فيدخل فيهم «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» فيريه الأمور على حقائقها الحسن حسنا فيتبعه والقبيح قبيحا فيتجنبه فيوفق إلى ما وعده الله من المغفرة والأجر فيدخل الجنة.
مطلب أصل الهدى والضلال من الله تعالى:
واعلم أن هذه الآية تصرح بأن الضلال والهدى من الله وحده لا دخل للعبد فيهما، لأنه مقدر عليه في أصل الخلقة يؤيده قوله ﷺ حينما قيل له ما فائدة العمل يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل مسير لما خلق له. راجع تفسير أول سورة القلم المارة، وتفسير الآية ١٧ من سورة الأنعام في ج ٢، والآية ٤١ من سورة الرعد في ج ٣، وهذا ما يحله أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة القائلين بخلافه، إذ لا دخل للاختيار فيما اختاره الله، تدبر. ولهذا البحث تفصيل في الآيتين ٧٧ و ٧٨ من سورة النساء في ج ٣ فراجعه، أما المصرّون على ضلالهم فهم هالكون لا محالة «فَلا تَذْهَبْ» بفتح التاء والهاء، وقريء بضم التاء وكسر الهاء، ونصب نفسك على المفعولية وعلى الأول رفعها على الفاعلية تدبر «نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» فتكثر غمك على كفرهم وإهلاكهم يا سيد الرسل، دعهم فإنهم خلقوا أشرارا لعدم انتفاعهم بما وهبوا من العقل الذي أعطوه ليميّزوا فيه الخبيث من الطيب، ويخلصوا أنفسهم من ذلك ولهذا البحث صلة في الآية ١٢ من سورة الشعراء الآتية، وكلمة حسرات حال من نفس محمد ﷺ إشارة إلى أنها كأنها
113
صارت كلها حسرات لفرط تحسره عليهم وعليه قول جرير:
شقّ الهواجر لحمهن مع السرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
الكلكل ما بين الترقوتين أو باطن الزور وهو من المحزم إلى ما يمس الأرض من الحيوان إذا ربض أو من الصدر، وعليه يكون العطف بيان والهواجر جمع هجر وهو نصف النهار عند الزوال. والمعنى أن مشي الإبل في ذلك الوقت لم يبق منها إلا كلاكلها وصدورها، وهذا ما ذهب إليه سيبويه في البيت، وقال المبرد إن الكلاكل والصدور تمييز محول عن الفاعل، أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها وعليه قوله:
فعلى إثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي مقام
ولكل وجهته، وقال تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الذي خلقهم أزلا «عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» ٨ قبل أن يصنعوه وعليم بما يصنعونه بعد وما هم صائرون إليه، وإنما أظهر صنعهم لخالقه ليعرفوه. وهذا آخر ما نزل في أبي جهل وإخوانه في هذه السورة. وقال الضحاك إن القسم الأخير منها نزل في عمر رضي الله عنه فهو الذي هداه الله والحق العموم فيهما وفيمن هو على شاكلتها إلى يوم القيمة، ثم ذكر شيئا من كمال قدرته فقال:
مطلب الفرق بين ميّت وميت وأن العزة من الله:
«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ» بالتشديد وقريء بالتخفيف وهما بمعنى واحد على المشهور. وقد خصص بعضهم المخفف بالميت حقيقة والمنقل والمائت بالذي لم يمت بعد، الذي على وشك الموت أي يكاد يموت، واستدل بقول القائل:
ومن يك ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
وقول الآخر:
114
والمعوّل على الأول. والإثارة خاصة بالرياح «فَأَحْيَيْنا بِهِ» أي الغيث الناشئ عن السحاب المثار، وعبر عن الميّت بقوله «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات الناشئ عن هطول الغيث عليها «كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض يكون «النُّشُورُ» ٩ للأموات من البشر حين يقومون من قبورهم فكيف يجحدون البعث بعد أن شاهدوا ما هو من نوعه؟ روى ابن الجوزي عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال هل مررت بواد أهلك محلا، ثم مررت به يهتزّ خضرا؟ قلت نعم قال كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه. قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ» فليطلبها من الله لا من غيره «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» فليعتزّ بطاعته من يربدها وليمتنع بمنعته لا بالأصنام التي يبتغي الكافرون الشرف بها، لأن الآية نزلت فيهم قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) الآية ٩١ من سورة مريم الآتية وقال في حق قليلي الإيمان (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) الآية ١٣٨ من سورة النساء في ج ٣ ولا ينافي هذا التأكيد قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية ٩ من سورة المنافقين في ج ٣ لأنها لله بالذات ولرسوله بواسطة قربه منه وللمؤمنين بواسطة قربهم من حضرة الرسول واتباعهم سنّته، ولهذه الإشارة (أعيد الجار وكرر) جاء في مجمع البيان أن أنسا رضي الله عنه روى عن النبي ﷺ أنه قال: إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز، ومن قدر فليطلبها من الله تعالى، فإن الطلب منه إنما يكون بالطاعة والانقياد. وقد تكون بالشجاعة والكرم والعلم، فهذه الثلاثة هي مصدر العزة، إلا أنه إذا لم يقصدها بتقوى الله فلا خير فيها، إذ تكون عزّة دنيوية موقتة مصيرها إلى الذلّ الدائم في الآخرة إذا لم تنزع منه في الدنيا. وجدير بأن ينزعها الله منه، فاذا نزعت يجتمع عليه ذلان، ولهذا قال تعالى قوله «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» بجمع أنواعه صعودا حقيقا سرا كان أو جهرا قولا أو فعلا، لأن له جل شأنه تجسيد المعاني وكيفية صعوده من
115
المتشابه المفوض تأويله إلى الله، وقدمنا ما يتعلق فيه عند تفسير الآية ٣٠ من سورة ق المارة، وسنوضحه ونسهب البحث فيه في تفسير الآية ٨ من آل عمران ج ٣ إن شاء الله، وإن هذا الصعود على تأويل الخلف مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم، أو استعارة تشبيهية أي تشبيه القبول بالصعود، وعلى طريقة السلف صعود يعلم كيفية هو، وعلينا الإيمان به «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» إليه ويقبله جل شأنه، وأعاد بعض المفسرين ضمير يرفعه إلى الكلم الطيب، وضمير النصب الذي هو الهاء إلى العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح.
ومنهم من أعاد ضمير يرفعه إلى العمل الصالح، وضمير المفعول منه إلى الكلم الطيب وعليه يكون المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وما جرينا عليه أولى. قال تعالى «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ» يعملونها قصدا لأن مكر لازم لا يتعدى إلا ضمن معنى القصد أو العمل أو الكسب «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» بسبب مكرهم ذلك «وَمَكْرُ أُولئِكَ» الماكرين «هُوَ يَبُورُ» ١٠ في الدنيا، ويبطل مفعوله مهما كان، وإذا كان كذلك ففي الآخرة فساد محقق، أما مكر الله فيهم فهو ثابت لا يزول، وقد مكر بهم إذ أخرجهم من مكة بواقعة بدر فأرداهم وطرحهم في قليب بدر وسيعذبهم في الآخرة عذابا عظيما. وأصل البوار فرط الكساد، قال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من بوار الأيّم (كالكيس هي من لا زوج لها بكرا أو ثيبا ومن لا مرأة له كذلك) وما قيل إن هذه الآية نزلت في الذين اجتمعوا في دار الندوة لتداول المكر به ﷺ من قتل أو حبس أو نفي، لا صحة له، لأنه لم يحن بعد وقت التداول فيها، لأنها وقعت قبل الهجرة في آخر نزول القسم المكي من القرآن كما سنبينه آخر سورة العنكبوت في ج ٢ إن شاء الله والحق أن هذه الآية عامة في كل ماكر سيء، وسنبيّن تفصيل حادثة الندوة في تفسير الآية ٣٠ من سورة الأنفال في ج ٣ إن شاء الله إذ ذكر فيها هذه الحادثة صراحة، وقد ألمع إليها قبل وقوعها بثلاث سنين في سورة الإسراء الآتية في الآية ٧٦ كما ستطلع إن شاء الله.
ثم ذكر دليلا آخر
116
على صحة البعث والنشور فقال «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» أي خلق أصلكم آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ» خلقكم أنتم يا ذرية آدم «مِنْ نُطْفَةٍ» مكونة من ماءي الرجل والمرأة.
مطلب لكل حظّه من خلق آدم وأن العمر يزيد وينقص:
وقد شمل ضمير خلقكم في هذه الآية ذرية آدم مع أنهم لم يخلقوا في التراب باعتبار ابتداء الخلق منه في ضمن خلق آدم خلقا إجماليا، لأن كلمتي مستقر ومستودع الواردة بعد قوله (أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) في الآية ٩٨ من سورة الأنعام في ج ٢، والملمع إليها في الآية ١٨٩ من سورة الأعراف المارة، تشعر بذلك، وعلى هذا يكون بطريق التسلسل لكل إنسان حظّ من خلق آدم كما سيأتي تفصيله هناك إن شاء الله «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» ذكرانا وإناثا، وزوج بعضكم بعضا لتوالدوا فتكثروا فيباهي بكم الأمم «وَ» اعلموا أيها الناس أنه «ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ» ما تحمله أو تسقطه قبل تمام أجله «إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ» يمد في عمره ويطيله «وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ» من سنين وشهور وأيام وساعات ودقائق وثوان ولحظات «إِلَّا فِي كِتابٍ» مدوّن مثبت عند الله في لوحه المحفوظ الحاوي على أعمال العباد وتقلّباتهم في أصغر من الذرة إلى ما شاء الله من الكبر «إِنَّ ذلِكَ» الذي تزعمونه أيها الناس من كتابة أعماركم وآجالكم وأحوالكم ومعرفة ما يزيد منها وما ينقص وما يبدل أو يغير منها جدا عليكم صعب، لا تتمكنون من إجرائه ولكنه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ١١ سهل لأن الكون بما فيه بمثابة شيء واحد عند الله القائل (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية ٣٨ من سورة لقمان في ج ٢ واعلم أن زيادة العمر ونقصه يكون بالنسبة لأسباب مختلفة لا تعلم إلا عند وقوعها، وهي ثابتة عند الله فلا تكون إلا بعلمه وتقديره، مثلا جاء في الحديث الصحيح أن الصدقة تزيد في العمر وأن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار، وقال كعب لو أن عمر رضي الله عنه دعا الله تعالى آخر أجله.
117
أي لزاد له فيه لما يعلم من أنه مجاب الدعوة، وأن وجوده يعلي شرف الإسلام، إلا أن هذا لا يلزم منه تغيير التقدير الأزلي، لأن في تقديره تعالى تعليق أيضا، وإن كان ما في علمه الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو، فلو شاء لم يوفق المتصدق للتصدق وصلة الرحم وسائر الأعمال التي ورد في الأحاديث أنها تزيد في العمر، على أن الأجل ينقص شيئا فشيئا من حيث لا يحس به، لأن الإنسان لا يعلم أمده حتى يحسب ما مضى من عمره، وقيل في المعنى:
ليس من مات فاستراح بميّت إنما الميّت ميّت الأحياء
إنما الميّت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منها انتقصت به جزءا
والعادّ لها هو الله وسنوفي هذا البحث في تفسير الآية ٣٩ من سورة الرعد في ج ٣ إن شاء الله تعالى في بيان ما يمحوه الله من أعمال وأعمار العباد وأقوالهم وأرزاقهم وما يثبته، وأسباب ذلك ومستنداته. قال تعالى «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ» هنيء مريء يرطب القلب، ويشرح الصدر، وتستريح له الجوارح ويصلح للنبات كله «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» قريب إلى المرارة يحرق القلب، ويقطب الريق، وتعافه النفس، وتنفر منه، عديم الإرواء والإنبات، ضار غير نافع شربه للخلق والنبات، وحتى أنه يضر في مواد البناه، هذا مثل ضربه الله إلى المؤمن والكافر، من أنهما وإن اشتركا في بعض صفات الخلقة فإنهما لا يستويان عند الله وكل منهما نسبة ما شبه به «وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا» من أنواع حيواناته غضا جديدا خلقه لكم أيها الناس، وقد سماه الله لحما، والسمك بالعرف ليس بلحم ولهذا قال الفقهاء من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث لعدم إطلاق اسم اللحم عليه عرفا، كما لو حلف لا يركب دابة فركب إنسانا لا يحنث مع أن الإنسان داخل في معنى الدواب لغة، قال تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) الآية ١٣ من سورة الأنفال في ج ٣ وقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ٥٧ منها أيضا إلا أنه لا يسمى دابة عرفا ولا يخفى أن الأيمان مبناها على العرف، لذلك لا يحنث، وقد سموه الآن اللحم الأبيض وأدخلوه مع الطيور لخفته، وقال مالك
118
والنووي الحالف بالأول يحنث لظاهر الآية، والفتوى على الأول، لأن الحالف حينما يحلف على عدم أكل اللحم يتصور لحوم الأنعام فقط، كما أن الحالف في الركوب لا يتصور ركوب الإنسان بل ما يطلق عليه اسم دابة حقيقة «وَتَسْتَخْرِجُونَ» من البحرين المذكورين كما هو ظاهر العطف «حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» فمن الملح اللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها، ومن الحلو الصدف وعظام السمك التي يصنع منها قبضات السيوف والخناجر وأزرة الألبسة وغيرها، وقد يوجد في بعض الصخور التي في مجاري المياه ماس، قال تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الآية ٢٢ من سورة الرحمن في ج ٣، ولا يبعد أن يوجد شيء من ذلك في النهر العذب، لأنه قد يوجد في البحر الملح عيون عذبة تخرج فيه، فيكون منها اللؤلؤ، ومن هذا ما هو موجود الآن في البحرين حيث يوجد فمن البحر كما صرح به الشيخ محمد خليفة في تاريخه لجزيرة العرب في ص ٢٤٠ عدة عيون ماء حلو يذهب إليها بالقوارب ويستقى منها كما ذكرناه في تفسير الآية ٥٢ من سورة الفرقان المارة وقد أخبرني السيد كامل العاص الرجل الصالح الكريم من أهالي جباة الزيت التابعة لقضاء القنيطرة (من أعمال دمشق) إذ كنت فيها، أنه أثناء وجوده في أمريكا شاهد زمن سيره في البحر ماء حلوا منسابا فيه ويمتاز على ماء البحر بلونه فماء البحر في ذلك المكان يضرب إلى الزرقة بل إلى السواد لشدة عمقه، والماء الحلو المنساب فيه التابع منه يضرب إلى البياض، وهو رجل صادق والله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير. وقال بعض المفسرين إن الحلية لا تكون إلا من الماء المالح، وأن ما جاء في آية الرحمن المارة هو على طريق التغليب وإسناد ما للبعض إلى الكل وهو غير وجيه لمخالفة ظاهر الآية وحملها على التأويل دون ضرورة، ولأنه لو فرض أنه لم يخرج من الماء الحلو إلا الصدف لكفى، لأنه حلية من وجه داخلة في قوله تعالى تلبسونها «وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ» أي ماءي الحلو والمالح، كما هو مشاهد، فلا يقال إنها خاصة بالملح أيضا إلا أن الكبار العظام خاصة في البحر والصغار منها فيه وفي الأنهر «مَواخِرَ» تمخر أي
119
تشق المياه شقا يجريها فيها مقبلة ومدبرة وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح بالتجارات وتزوروا البلدان الناثية والجزر وغيرها، ولتطلعوا على مصنوعات ربكم فيها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ١٢ نعمه عليكم في ذلك كله. واعلموا أن هذا الإله العظيم «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» يدخل أحدهما بالآخر حتى يصير أحدهما بقطرنا مزائدا على الآخر أربع ساعات وكسور بصورة تدريجية، فيبلغ النهار بالصيف أربعة عشرة ساعة ونصف تقريبا، والليل تسعة ونصف، وعلى العكس بالشتاء
ثم يتساويان شيئا فشيئا، وهكذا بعيد الكرة أحدهما على الآخر إلى أن يأذن الله لهذا النظام البديع بالانقراض. وفي بعض الأقطار أكثر من قطرنا وأنقص حتى يبلغ كل منهما اثنين وعشرين ساعة تقريبا «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي» في محوره المخصوص ومسافته المقدرة له، وهكذا يستمران بسيرهما «لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عند الله لا يعلم غيره «ذلِكُمُ» أيها الناس الإله العظيم القادر المبدع «رَبُّكُمْ» الحق لا البشر والملائكة ولا النجوم والحيوان ولا الجماد والأوثان فهو وحده «لَهُ الْمُلْكُ» يتصرف فيه كيف يشاء «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الآلهة «ما يَمْلِكُونَ» من هذا الملك وما فيه وفوقه وتحته «مِنْ قِطْمِيرٍ» ١٣ قدر لفافة النواة ولا أقل منه وإنما مثل به لأن كل تافه يقال له قطمير قال الشاعر:
وأبوك يخصف نعله متوركا ما يملك المسكين من قطمير
وهو على حد الذرة والنقير والفتيل وأف وما ضاهاها ونظير صور هذه الآية ٢٩ من سورة لقمان في ج ٢ والآية ٢٧ من سورة آل عمران والآية ٦ من سورة الحديد والآية ٦١ من سورة الحج في ج ٣، وقدمنا في الآية ٤٧ من سورة يس ما يتعلق بزيادة الليل والنهار وقصرهما بصورة مسهبة، قال تعالى مندّدا بأوثانهم «إِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها المشركون «لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» لأنها جماد «وَلَوْ سَمِعُوا» على سبيل الفرض والتقدير أو الذين من أهل السمع منهم «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» دعاءكم لأنهم عاجزون ومملوكون لله الذي خلقكم
120
وخلقهم، فكيف يقدرون على شيء مما في ملكه أو يشاركونه في شيء منه في هذه الدنيا، كلا لا يقدرون البتة «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» ترونهم «يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» فيجحدونه ولا يعترضون به حيث يضع الله فيها قوة التكلم تبكيتا لعابديها، فتتبرأ منهم ومن عبادتهم «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» ١٤ يعني نفسه المقدسة جلت وعظمت، أي لا يخبرك أيها السامع بحقيقة الأمر مثلي، أنا الله الذي لا يخفى عليّ شيء في سمواتي وأرضي، ومن أصدق من الله راجع الآية ٥٦ من سورة الفرقان المارة «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ» في جميع أموركم الظّاهرة والباطنة وأنتم محتاجون إليه فيها «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» عنكم وعن أعمالكم وعن كل ما في كونه «الْحَمِيدُ» ١٥ المستحق الحمد بإنعامه عليكم، فاحمدوه واشكروه وحسن ذكر الحميد بعد الغنى لمناسبة ذكره بعد الفقر إذ الغنيّ لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما، وهو كالتكميل لما قبله وعليه قول كعب الغنوي:
حليم إذا ما الحلم زيّن أهله مع الحلم في عين العدو مهيب
وذلك الإله الغنى الحميد «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس فيفنيكم بلحظة واحدة «وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» ١٦ غيركم بلحظة أيضا يعبدونه لا يشركون به شيئا «وَما ذلِكَ» الإذهاب والإتيان «عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» ١٧ صعب أو ممتنع بل هين جدا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن ما يأتي به من الخلق أبدع مما هو موجود الآن وهو كذلك لأن القادر المبدع لا يعجزه شيء ولا يرد على هذا قول حجة الإسلام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) لان ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية في كلام ذلك الحجة بمعنى آخر تصورة بفكره الثاقب ولم يبيّنه أو لم نقف عليه ولسنا من رجاله لنرد عليه، وسيأتي توضيح أكثر لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية ٢٧ من سورة إبراهيم في ج ٢.
مطلب لا تزر وازرة وزر أخرى:
121
قال تعالى «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل كل نفس إلّا وزرها وقد مر تفسيرها في الآية ٣٨ من سورة والنجم المارة، وهاتان الآيتان لا يتنافيان مع الآية ٨٨ من سورة النمل والآية ١٤ من سورة العنكبوت في ج ٢ وهي (لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) لأن هذه في الظالمين المضلين لانهم يحملون إثمهم وإثم من يضلونهم «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ» بالأوزار في ذلك اليوم الذي يفر فيه الأخ من أخيه والأب من ابنه والزوجة من زوجها «إِلى حِمْلِها» الذي أثقلها ليحملوا منه شيئا يخففون به عنها مما جنته من الذنوب في الدنيا «لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ» إذ لم يجبها أحد ممن تستنجد به وتستغيث، لان كلا مشغول برزره حائر في أمره «وَلَوْ كانَ» من تدعوه أو ترجوه «ذا قُرْبى» منه، فإنه لا يجيب دعاءه ولا يحمل عنه شيئا. قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول (كل منها) يا بني احمل عني بعض ذنوبي، فيقول لا أستطيع حسبي ما عليّ. وظاهر الآية نص في الحمل الاختياري فيكون ردا لقول المضلين ولتحمل خطاياكم، يؤيده سبب النزول وهو كما روى عن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعليّ وزركم فنزلت هذه الآية، إلا أن المنفي عام وعمومه ينافي اختصاصه بالاختيار، لأنه يعم أقسام الحمل، جبرا أو اختيارا. قال تعالى يا أكرم الرسل «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه فهم الذين تنفعهم الذكرى بوعظك وإنذارك لاولئك المشركين «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» معك ابتغاء مرضات الله فيصلون معك من غير أن أفرضها عليهم اقتداء بك ونأسيا بأفعالك، وذلك أن الركعتين اللتين فرضهما الله على رسوله كانتا خاصتين به يؤديهما في الغداة والعشية ولم يأمر أحدا من أصحابه بفعلها لان الله لم يأمره بذلك وكان بعض أصحابه يفعلونها تأسيا بفعله ليس إلا، وهذا المراد والله أعلم من هذه الصلاة لان الصلاة المكتوبة لم تفرض بعد كما نوهنا به غير مرة عند كل ذكر لفظ الصلاة «وَمَنْ تَزَكَّى» من أوزار المعاصي بفعل الطاعات والقربات وصلى معك هذه الصلاة من غير أن تفرض عليه قصد
122
التطهير لنفسه وتزكيتها «فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ» خاصة لأنه هو المنتفع بها.
وقرأ ابن مسعود وطلحة (أزكى) بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في ابتداء، وهي قراءة شاذة لا عبرة بها لما ذكرنا غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه أو تبديله لا قيمة لقول من يقول بها «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» ١٨ لا إلى غيره فيجازى الدنس على رجسه والمتزكي على طهارته، ثم ضرب الله مثالا آخر للجاهل والمؤمن فقال «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» ١٩ وللكافر والمؤمن بقوله «وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ» ٢٠
وللجنة والنار بقوله «وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ» ٢١ ولمن ينتفع بدعوة الرسل ومن لا ينتفع بها بقوله «وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ»
مطلب في إسماع الموتى:
وختم هذه الآية العظيمة وكل آيات الله عظيمة، بجملة فعلية تعود لكل من هؤلاء وهي «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ» إسماعه سماع قبول فيتعظ بما يسمع ويهتدي به، أما الذين لم يشأ إسماعهم فلا تقدر يا أكمل الرسل على إرشادهم لأنهم في حكم الأموات ولذلك قطع رجاءه منهم بقوله «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ٢٢ فكما أن الموتى لا يجيبون الدعوة فكذلك هؤلاء، وهذه الجملة ترشيح للمصرين على الكفر. ولهذا فيكون المعنى لا تحرص يا حبيبي وتجهد نفسك على دعوة قوم مخذولين، قد سبق لهم الشقاء في علم الله «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ» ٢٣ لهم ومبلغ لا مجبر ولا مسيطر عليهم، فمن سمع منك إنذارك سماع قبول انتفع به وأرشد، ومن أعرض عنه فقد هلك وفسد فاتركه لا تأسف عليه. ولا يرد على هذه مخاطبة الرسول ﷺ قتلى بدر في القليب، لأن المراد نفي الإسماع بطريق العادة، وذلك على طريق المعجزة وهي خارقة للعادة، وما يدريك أن الله تعالى هو الذي أمره بخطابهم على حجة التبكيت والتوبيخ والتقريع بهم، وبأمثالهم إذ ذاك، لأنه لا ينطق عن الهوى، وما يدريك أن الله أسمعهم كلامه أيضا وأعطاهم قوة الرد عليه وإسماعه جوابهم وهو على كل شيء قدير «إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسل لهؤلاء وغيرهم «بِالْحَقِّ بَشِيراً» بالوعد وإنجازه للطائعين «وَنَذِيراً» بالوعيد
123
وتنفيذه للعاصين «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» ٢٤ من نبي أو رسول أو خليفة لهما، وهذا عموم خص منه العرب ما بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، إذ لم يرسل إليهم رسول ولا خليفة رسول ولم يترك لهم كتاب، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى من سورة السجدة والآية ٤٤ من سورة سبأ في ج ٢، وقد مرّ شيء عنه في تفسير الآية ١٦ من سورة يس المارة.
مطلب عدم انقطاع آثار الأنبياء وعدم تكفير فاعل الكبيرة:
ولا يقال إن أكثر الأمم بين إبراهيم وموسى، وموسى وعيسى، وعيسى ومحمد ﷺ ومن قبلهم لم يسلف فيها نذير وقد خلت من النبوة، لأن آثار الأنبياء فيهم باقية، وما وقع من العذاب على الكافرين منهم تنافله الخلق عن السلف، ولم ينقطع التعبد بصحف إبراهيم وإرشاده إلى زمن موسى، ولا بالتوراة إلى زمن عيسي، ولا بالإنجيل إلى زمن محمد بالنسبة لأهل الكتاب، وكذلك من قبلهم إذ دامت وصايا الأنبياء فيهم بالتناقل، وعلى هذا لم يخل وجه الأرض من آثار النبوة إذ كلما اندرست تعاليم نبي أعقبه الآخر فيحدد عهده وينشر أوامر ربه فيهم، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث قبل تمام اندراس أحكام التوراة والإنجيل، فجدد ما اندرس من ذلك شأن الأنبياء قبله وبعد أن آتاه القرآن عمم أحكامه وأمر برفض ما يخالفه، لأنه الحكم الأخير القاطع الساري على أهل الأرض إلى وقت إبادتهم، فهو خاتم الكتب السماوية، كما أنه خاتم الرسل والأنبياء، وآثار إنذاره وإرشاده الحسي والمعنوي مما جاء به من عند ربه، وما سنّه لأمته باق بتمامه إلى اليوم وبعده وإلى أن يرث الأرض ومن عليها بارئها، وقد تعهد الله له بحفظ كتابه إلى اندراس هذا الكون وحتى لا يبقى من يقول لا إله إلّا الله. قال عليه الصلاة والسلام: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق- وفي رواية لا يضرهم من خالفهم- حتى يأتي أمر الله القائل:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية ١٠ من سورة الحجر في ج ٢، حتى إذا جاء أمره بخراب هذا الكون رفعه بموت أهله وعدم تعلمه، واكتفى بهذه الآية بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرها مقرونين في أولها، لأن
124
النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكرها عليها، قال بعضهم: إن عموم هذه الآية وقوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) الآية ٢٩ من سورة الانعام في ج ٢، يفيد أن في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرونهم. وهو قول باطل لا تخفى سماجته على البهائم أمثال هذا القائل.
وما نقل عن الشيخ محي الدين قدّس سره في هذا المعنى لا يكاد يصح، وإذا كان موجودا في كتبه فهو من جملة ما دس فيها عليه من الجمل التي يبعد أن تصدر عن مثله. قال محمود الآلوسي في تفسيره رأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر وأنا أقول إذا لم يكن كفرا فهو قريب منه، والأولى أن لا يكون كفرا لاحتمال التأويل في ذلك وكل ما احتمل فيه التأويل لا يكفر به، وعلى فرض أنها كبيرة ففاعلها لا يكفر راجع تفسير الآية ٧٦ من سورة يس والآية ١٩ من سورة الفرقان المارتين، قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم وآذوهم كما فعل بك قومك وقد «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الواضحات مثل ما جئتهم به «وَبِالزُّبُرِ» الصحف المكتوبة على الألواح المنزلة من لدنا على أنبيائهم السابقين «وَبِالْكِتابِ» الذي أنزلناه جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور «الْمُنِيرِ» ٢٥ كل منها بأوضح وأفصح الدلائل على توحيدنا ومع ذلك لم يؤمنوا، فلا تذهب نفسك حسرات عليهم. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من نكد قومه ليخفف عنه بعض همه عليهم واهتمامه بهم، لاستعجال إيمانهم، وإن شأنه شأن من قبله من الأنبياء مع أقوامهم، وان له أسوة بهم في عدم قبول الدعوة وتحمل الأذى «ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بهم وبكتبهم بعقوبات متنوعة بعد إمهالهم مددا يتذكر فيها من يتذكر «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» ٢٦ عليهم وتعذيبي لهم إنه كان شيئا عظيما لم يتصوروه، ولم يقدر على إنزال مثله غيري أنا الإله المنتقم ممن كفر بي، وفي هذه الآية تهديد لقريش قوم محمد ﷺ بأنهم إذا لم يؤمنوا يحل بهم ما حلّ بغيرهم من النكال «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» في الخضرة والحمرة والصفرة
125
وغيرها مما لا يحصر لونا وجنسا وشكلا ونوعا، مع أنها تخرج من أرض واحدة وتسقى بماء واحد، وتتفاوت بالنمو وتختلف بالحجم والطعم، وتنضج بسبب واحد، وتختلف بذلك كله، فسبحان البالغ بالقدرة والصنع «وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ» طرق جمع جادة، ويأتي بمعنى النهر وطريقه، وخطط مختلفة اللون أيضا منها «بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها» لأن كل طريق على لون أرضه، وكل لون يتشعب منه ألوان كثيرة من الزرقة والصّفرة «وَغَرابِيبُ سُودٌ» ٢٧ يقال أسود حالك لشديد السواد تشبيها بالغراب، كما يقال أبيض ناصع وأحمر قاني، وما أشبه ذلك، والغربيب أبعد لون في السواد، وجاء في الحديث: إن الله يبغض الشيخ الغريب الذي يخضب شعره بالسواد ويتمادى في السّفه أو الذي لا يشيب لسفاهته وعدم اهتمامه بآخرته، وفي مثله يقول الشاعر:
العين طامحة واليد شامخة والرجل لائحة والوجه غربيب
يريد أن شعره أسود حالك وكلمة سود بالآية بدل من غربيب المعطوفة على بيض، وهي لم تتكرر بالقرآن «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أيضا لأنها كلها من الأرض، والأرض متنوعة فتتبع أصلها «كَذلِكَ» كاختلاف الأثمار والجبال. وهنا تم الكلام فيما يتعلق بذلك.
مطلب خشية الله تعالى:
ثم يبدأ بقوله «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» قال ابن عباس: إنما يخافني من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. وقال مقاتل: أشد الناس خشية لله أعلمهم به. وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله ليس بعالم. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: صنع رسول الله شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ رسول الله ﷺ فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو الله إني لأعلمهم به وأشدهم له خشية (ومعنى ترخّص أي لم يشدد فيه، وتنزه تباعد عنه وكرهه) ورويا عن أنس قال: خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم
126
كثيرا، فغطى أصحاب رسول الله وجوههم لهم خنين (بكاء مع غنة) والمراد بالعلماء هنا المخلصون العارفون بالله العالمون بما يليق به من صفات وأفعال حق العلم والمعرفة، لا العالمون بالمنطق واللغة والهندسة والرياضيات والكيمياء والسحر وغيرها، لأن هذه وإن كانت علوما يطلب تعليمها لمصالح الدنيا، إلا أنها لا تكون مدارا لخشية الله المنوه بها في الآية التي كلما ازداد بها العالم معرفة ازداد معرفة بالله، وكان أكثر خشية له من غيره. نعم إن في علم الطب وتشريح الأعضاء والوقوف على كامل خلق الله ما يوجب الخشية لله والرجوع إليه، وجدير بالكافر أن يؤمن إيمانا كاملا لما يرى من بديع صنع الله في خلقه، ولكن قليل ما هم أولئك الذين يتفكرون في ذلك. روى الدارمي عن عطاء قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه. قال يا رب أي عبادك أغنى؟
قال أرضاهم بما قسمت له. قال يا رب أي عبادك أخشى؟ قال أعلمهم بي.
وصح عنه ﷺ أنه قال: أنا أخشاكم لله وأتقاكم له. وقرأ بعضهم برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء، وأول يخشى بيعظم، وليست بشيء لأن يخشى لا يأتي بمعنى يعظم من حيث اللغة فضلا عن انها قراءة بخلاف الظاهر، ولذلك لا عبرة بها، وإن كان المعنى صحيحا لما فيها من التكليف دون حاجة، والتأويل دون مستند ومعناها على الوجه الذي ذكرناه أولى وأليق «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب كامل القدرة على الانتقام ممن لا يخشاه «غَفُورٌ» ٢٨ لمن خشيه وأناب إليه. واعلم أنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، ومن كان كذلك فحقه أن يخشى، قالوا أنزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه إذ ظهرت عليه خشية الله حتى عرفت فيه، وهو أحق وأولى أن تنزل فيه الآيات، إلا أن الآية عامة، ولا دليل يخصصها بأحد فيدخل فيها أبو بكر دخولا أوليا، وكل من يخشى الله إلى يوم القيامة خشية حقيقية قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» مع حضرة الرسول قبل أن تفرض عليهم تأسيا به «وَأَنْفَقُوا» تطوعا على الفقراء والمساكين من قراباتهم وغيرهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته «مِمَّا
127
رَزَقْناهُمْ»
من فضلنا مما هو فاضل عن كفايتهم «سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ» بذلك الإنفاق «تِجارَةً» مع الله تعالى فقد نيل ثوابه «لَنْ تَبُورَ» ٢٩ تكسد بل تتداول دائما، وقد تعهد الله لمثل هؤلاء على لسان رسوله بقوله واعدا مؤكدا «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ» كاملة على أعمالهم هذه «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة عظيمة، وما بالك بزيادة الله أيها القارئ فهي وهو أعلم كما قال ابن عباس مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم تخطر على قلب بشر «إِنَّهُ غَفُورٌ» كثير المغفرة لذنوب عباده المنفقين في سبيله «شَكُورٌ» ٣٠ لعملهم هذا
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْكِتابِ» هو من كلامنا الأزلى ليس بسحر ولا كهانه ولا شعر، وإنما «هُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه وقد أنزلناه «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب المتقدمة لاشتماله عليها وزيادة كثيرة لم تذكر فيها ولم تنزل على أحد قبلك، لأنه خاتمة الكتب أنك خاتم الرسل وهو ناسخ لكل ما يخالفه مما في الكتب القديمة «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» ٣١ ببواطن الأمور وظواهرها، يحيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أمتك المخلصين الجارين على طريقك، لأننا اصطفيناهم لك من بعدهم كما اصطفيناك لهم من بعد الرسل، قال ابن عباس يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه اصطفاهم على سائر الأمم، واختصّهم بكرامته، بأن جعلهم اتباع سيد الرسل، وخصّهم بأفضل الكتب، وجعلهم خير الأمم ثم قسمهم جل شأنه أقساما ثلاثة فقال «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» وهم المرجون لأمر الله مثل الآتي ذكرهم في الآية ١٠٨ من سورة التوبة في ج ٣ فهؤلاء إن شاء عذّبهم بعدله، وإن شاء عفا عنهم بفضله «وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهؤلاء مقطوع لهم بالنتيجة بأنهم من أهل الجنة، لقوله تعالى «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» الآية ١٠٤ من سورة التوبة لأن عسى فيها للتحقيق وهكذا كل عسى بالبينة لله تعالى «وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» وهؤلاء يدخلون الجنة بغير
128
حساب، المرادون في قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية ١٠٢ من التوبة أيضا، كما سنبين هذا كله في محله في تفسير هذه الآيات وآخر سورة الواقعة الآتية إن شاء الله تعالى قال عمر رضي الله عنه على المنبر بعد تلاوة هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له، وجاء أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، وأما الظالم فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو، ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة- رواه أبو الدرداء- وقال ابن عباس: السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها. وقال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما. فوافق هذا التأويل القرآن والحديث والأثر وقول السلف الصالح، فتدبر وانظر لنفسك أي الدار تختار.
واعلم أن المتلبس بإحدى هذه الخصال الثلاث، ما كان تلبسه إلا «بِإِذْنِ اللَّهِ» وأمره وإرادته وتوفيقه وقضائه وقدره «ذلِكَ» إيراث الكتب والاصطفاء لمحمد ﷺ وأمته «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» ٣٢ الذي لا أكبر منه، إذ لم يعطه أحدا قبلهم، فكل الأمم لم تختص بما خصت به هذه الأمة كما أن رسولها خص بأشياء لم تختص بها الأنبياء قبله، راجع تفسير الآية ١٥٨ من سورة الأعراف المارة، وأي فضل أعظم من هذا، لأن السابقين منهم يدخلون الجنة فور خروجهم من قبورهم، والمقتصدين بعد الحساب، والظالمين بعد العذاب. ثم بين جل بيانه بعض ذلك بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» إقامة دائمة «يَدْخُلُونَها» بمحض الفضل لا دخل للكسب فيها «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً» مرصعا فيها، ومن هنا تعلم أهل الدنيا ترصيع الذهب بالأحجار الكريمة «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» ٢٣ ناعم زيادة في التنعم والترف، ولما رأى أهل الجنة ما غمرهم به الله من فضله شكروه «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» الذي كنا نكابده في الدنيا خوف عاقبة هذا اليوم في عدم قبول الأعمال والمؤاخذة على ما صدر منّا. روى البغوي عن أبي عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس
129
على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» ٣٤ ومن فضله وكرمه لعباده أنه يغفر الذنب العظيم ويشكر العمل القليل «الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ» وهي الجنة لأنها دائمة لا يبرح عنها أهلها ولا يفارقونها عطاء «مِنْ فَضْلِهِ» ولطفه وعطفه، لأن العمل مهما كان كثيرا لا يؤهل صاحبه ما ذكره الله له هنا. ومن تمام النعمة أنه «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ» تعب ولا مشقة «وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» ٣٥ كلال وملالة ولا فتور وإعياء، ولم تكرر هذه الكلمة إلا في الآية ٢٨ من سورة ق المارة وهذه الأحوال لا تحصل إلا بنتيجة العناء، وهذا من جملة ما من الله به على عباده المؤمنين. هذا أيها الناس حال أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، أما حال أهل النار فانظروا ماذا يحلّ بهم من المنتقم الجبار واسألوا الله العافية.
مطلب نذر الموت ومعنى الغيب:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ» بعذابها «فَيَمُوتُوا» مرة ثانية ويستريحوا منه «وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» فيها بل يبقى مشتدا عليهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع الذي لا تقواه القوى «نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» ٣٦ لآياتنا جحود لنعمنا، مكذب لرسلنا، ثم بين حالهم فيها أجارنا الله منها بقوله «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها» يتصايحون من شدّة الألم ودوامه بأصوات عالية، ولما لم ينفعهم ولما يرد عليهم، يعودون فيستغيثون قائلين «رَبَّنا أَخْرِجْنا» من هذا العذاب وأعدنا إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً» كما تحب وترضى فنطيع الرسل، ونصدق الكتب، ونؤمن باليوم الآخر، ونعترف لك بالوحدانية الفردة، ونعمل يا ربنا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» في الدنيا قبلا من التكذيب والجحود والإشراك، فيوبخهم الله تعالى بقوله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» في الدنيا «ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» لو أردتم ذلك لأنا أمهلناكم مدة كافية ما بين الخامسة عشرة من أعماركم إلى الستين، فأكثر وأقل، ولم يجدر
130
بكم ذلك الإمهال. وقيل المراد بهذا العمر هو سن البلوغ الثامنة عشرة سنة فقط، أو سن الكمال الأربعون سنة، أو سن الانتهاء الستون فما فوق، وقد ذكّرناكم على لسان رسلنا وخوفناكم سوء العاقبة فلم تتذكروا ورفضتم كتبي ورسلي وأنكرتم وحدانيتي «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» من قبل فأبيتم قبول إرشاده، ولم تعتبروا بما جرى على من قبلكم، ولم يؤثر فيكم ما ترون من علامات الموت، وأصررتم على ظلمكم «فَذُوقُوا» عذاب النار التي كنتم تكذبون بها لأنكم ظلمة «فَما لِلظَّالِمِينَ» اليوم لدينا «مِنْ نَصِيرٍ» ٣٧ يخلصهم مما هم فيه. هذه الآية جواب من الله عز وجل للظالمين وتوبيخ لهم على عدم رجوعهم إلى الله في الدنيا مع تمكنهم منه خلال المدة التي عاشوها فيها. أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة والنسائي وغيره عن سهل بن سعد قال قال رسول الله ﷺ أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة. وعنه بإسناد الثعلبي قال قال رسول الله ﷺ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. والنذير في الآية يطلق على النبي فكل نبي نذير لأمته من بين يدي عذاب أليم ويطلق على القرآن لأن فيه من التحذير والأمر والنهي ما يكفي لمن كان له قلب، ويطلق على الشيب لأنه نذير الموت فقد جاء في الأثر: ما من شعرة تبيضّ إلا قالت لأختها استعدي للموت. ويطلق على كلّ واعظ آمر بالمعروف ناه عن المنكر. ونذر الموت غير الشيب كثيرة، منها المرض والحمى وموت الأقران والأقارب وبلوغ سن الهرم وقيل فيه:
رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك من نذير
وقائلة تخضّب يا حبيبي وسود شيب شعرك بالعبير
فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسودا وجه النذير
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»
مع خفائه ودقته فعلم كل شيء في العالم داخل في هذا العلم، لأنه ظاهر بالنسبة لذلك، لأن السرّ والعلن عنده سواء، وهذا الغيب هو بالنسبة للملائكة والجن، وإلا فلا غيب عليه البتة راجع الآية ٢٦ من سورة الجن المارة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»
٣٨
131
والذي يعلم خفايا القلوب، لا يخفى عليه علم غيرها وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذي الموضوع لمعنى الصحبة، أي فمن جملة علمه تعالى يعلم أنهم بعد اعترافهم بهذا العذاب (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الإنكار والجحود والتكذيب- راجع تفسير الآية ٢٩ من سورة الأنعام في ج ٢ قال تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» يخلف بعضكم بعضا «فِي الْأَرْضِ» كلما انقرض جيل خلفه غيره، فالأحرى أن تعتبروا بمن سلف من الأمم الخالية، لأن مصيركم سيكون مثلهم، فمن آمن فله ثواب إيمانه، وكذلك «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» يعاقب بمقتضاه «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» بغضا وكرها شديدا في الدنيا، واحتقارا وذلا وحرمانا من كل خير «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» ٣٩ في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين وكرر الجملة تأكيدا وإيذانا بأن مصير الكفر اقتضاءان قبيحان مرّ ان: المقت في الدنيا والخسارة في الآخرة، فلو لم يكن الكفر مستوجبا غير هذين لكفى به شرا، فكيف إذا كان يستوجب أشياء أخر؟ «قُلْ» يا سيّد الرسل لهم هذا لعلّهم يرجعون إليّ قبل أن يمتنع عليهم لا يمكنهم الرجوع، ثم يقول لهم جل قوله تبكينا وتقريعا مما يزيد في أسفهم «أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان النامية والجامدة «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى يكونوا شركاء فيها، أروني أي جزء من أجزائها خلقوه حتى جعلتموهم شركائي في العبادة وصيّرتموهم آلهة وعبدتموهم: فإذا كانوا لم يخلقوا شيئا منها فأخبروني «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» معي وهل خلقوا منها شيئا، وهل يعلمون ما فيها وما مصيرها؟ وإذا لم يكن لهم شيء من ذلك أيضا، فأعلموني «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً» ذكر فيه أن لهم شيئا من ذلك «فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ» حتى يظنّوا بأن لهم علاقة في خلق السموات والأرض أو شركة فيها «بَلْ» ليس لهم شيء فيها أصلا ولا علم لهم بما فيهما، وان ما اتخذوه من تلقاء أنفسهم جمادا عنادا، وما انتحلوه من عبادة الملائكة وغيرهم
132
زورا لأنهم، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولا على حفظ أنفسهم من التعدّي ولكن ما «إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً» من نفع وضرّ وخير وشر وقوة وضعف «إِلَّا غُرُوراً» ٤٠ وخداعا في قولهم بعضهم لبعض إنها شفعاؤهم عند الله، وغير ذلك.
مطلب الأرض عائمة كالسماء:
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» فيمنعهما من الوقوع بإمساكه إياهما إمساكا قويا لا يقدر عليه الثقلان، ولا تنصوره العقول، ولا يكيف كيفيته أحد. وهذه الآية الجليلة تدل على أن الأرض كالسماء غير مستقرة على شيء بل هي طائفة عائمة في الفضاء، وأنه تعالى كما أنه يمنع السماء المبنية على غير عمد أو على عمد غير مرئية كما يأتي في الآية ١٠ من سورة لقمان ج ٢ والآية ٢ من سورة الرعد في ج ٣، من أن تسقط أو تنخفض أو ترتفع بسبب إمساكه إياها، فكذلك يمنع الأرض من أن تميد أو تتحرك أو تنخفض عن مستواها أو ترتفع عن مستقرها بسبب ذلك الإمساك المحكم أيضا «وَلَئِنْ زالَتا إِنْ» ما «أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» أي لا يمسكهما أحد سواه البتة، وتفيد أيضا بأن الأرض كبقية الأجرام السماوية لا عمد تقلها ولا دسار ينظمها كما ثبت أخيرا عند علماء الفلك، وإن زوال جرم ما من هذه الأجرام من مركزه يفضي إلى تهافتها كلّها وعدم رجوعها إلى مركزها لاستحالة تأثير قوى التجاذب فيها بعد اختلاف موازنتها وفك ارتباط بعضها عن بعض. وسيأتي هذا اليوم لا محالة وهو الملمع إليه بقوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ)، الآية ١ من سورة الانفطار (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، الآية ١ من سورة التكوير، (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية ٨ من سورة المعارج، (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) الآيتان من سورة الطور، وهذه وما قبلها وبعدها من الآيات القاطعات المشعرة بخراب هذا الكون وانقراض أجزائه، وهذا من الأمور الغيبية التي لم يعلمها في عهد نزول القرآن أحد إلا مكوّنها، وكم من علوم مكنونة فيه لم يطلع
133
عليها أحد «إِنَّهُ كانَ» ولم يزل «حَلِيماً» لا يعجل العقوبة على عباده علهم يرجعوا إليه رحمة بهم «غَفُوراً» ٤١ لما سبق منهم إذا تابوا وأتابوا، وتشير هذه الآية العظيمة إلى أن كفر هؤلاء يكاد تهد السموات وتغور الأرض منه، لعظمته عند الله لولا أن قدرته البالغة ممسكة لها قال تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الآية ٨٢ من سورة مريم الآتية، أي أن ما هم عليه من الشرك والكفر يكاد يسبب ذلك لولا عظمة الله الحائلة دونه.
هذا، ولما جاهر مشركو العرب بقولهم لعن الله اليهود والنصارى كيف أتتهم رسل الله فكذبوهم وحلفوا لو جاءهم رسول لاتبعوه، فأنزل الله «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» نبي يرشدهم إلى السداد «لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» يعني اليهود أو النصارى أو الصابئة لانهم من أهل الكتاب أيضا ثم اختلفوا بعضهم مع بعض في التحليل والتحريم وقولهم هذا كناية عن شدة التمسك بما يدعوهم إليه ذلك النذير الذي تمنوه قال تعالى مكذبا لهم «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ» وأي نذير كريم أمين خطير منهم معروف لديهم بالصدق، لأنهم خلقوا قبل مبعثه «ما زادَهُمْ» مجيئه إليهم وهديه لهم وجهده عليهم لإنقاذهم مما هم فيه من الشرك والكفر «إِلَّا نُفُوراً» ٤٢ عنه وتباعدا عن رشده، وإيذاء له فوق ذلك، لا لأنه لم يكن نبيا وصادقا في دعواه، بل كان نفورهم منه «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ» طلبا للكبرياء فيها فتعاظموا عن قبول الإيمان به عنادا لمرسله وحسدا له على ما خصّه الله به من بينهم، ولامر آخر وهو «وَمَكْرَ السَّيِّئِ» أي عملهم القبيح الذي هو اجتماعهم على الكفر والإشراك بالله واتفاقهم على تكذيب رسوله وخداعهم له وتحين المكر فيه «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فيونعهم فيه سوء عاقبته. وجاء في المثل من حفر لأخيه جبّا وقع فيه مكبا، فيا ترى هل أرادوا بمكرهم هذا أن جحودهم لما جاءهم به من عند ربه خيرا لأنفسهم؟ كلّا بل شر وأي شر لقوله تعالى «فَهَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء المخالفون لرسولنا محمدا «إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ» وهي أن كل أمة كذبت
134
رسولها حاق بها عذاب الاستئصال، ولا محيص لها من الخلاص عنه «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ» التي أمضاها على خلقه بقضائه وقدره «تَبْدِيلًا» عن مجراها الطبيعي أبدا ولا تغييرا، وهؤلاء قومك يا سيد الرسل إذا أصرّوا على كفرهم نزل بهم العذاب لا محالة «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» ٤٣ عن وقتها المقدر لها في الإهلاك وغيره، بل تقع حتما فيه وقد نال بعض هؤلاء الكفرة يوم بدر ما نالهم من العذاب قتلا وأسرا ونشريدا، وهذا عذابهم الأدنى وسينالهم العذاب الأكبر في الآخرة راجع الآية ٢١ من سورة السجدة في ج ٢ قال تعالى «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» فيعتبروا بأخبارهم وآثارهم وكيفية إعلاكهم وأسباب تدميرهم؟ وهذه الآية كالاستشهاد والاستدلال على جريان سنة الله المبينة في الآية قبلها، والاستفهام إنكاري، أي لم يسيروا وينظروا أو يسمعوا بهم، «وَكانُوا» أولئك المهلكون من الأمم قبلهم «أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» وأعظم بأسا وأجساما، وأكثر أموالا وأولادا، فلا يغتر قومك يا حبيبي بقوتهم وأموالهم وأولادهم، فهم دونهم بكثير، راجع الآية ٢١ من سورة غافر، والآية ٣٥ من سورة سبأ في ج ٢، والآية ٧٠ من سورة التوبة في ج ٣، ومهما كانت قوتهم فليست عند الله بشيء «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ» مهما كان عظيما مما كان «فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما من خلق الله، ومن خلق شيئا لا يعجزه إبادته، ولا يصعب عليه كيف يسوقه إلى قبضته «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «عَلِيماً» بذلك كله لا يحتاج الدلالة والاعانة من أحد «قَدِيراً» ٤٤ على خلقه وجميع مكوناته، لا يفلت أحد من قبضته، كيف وقد قال جل قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الآية ٦٧ من سورة الزمر في ج ٢، ومن كان كذلك فلا يعجزه شيء. قال تعالى «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا» من الآثام والمعاصي والمخالفات «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» أي الأرض التي يوقعون فيها المنهيات كلها من الإنس والجن وغيرهما
135
Icon