تفسير سورة الحشر

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الخ، قال المفسرون: نزلت في بني النضير، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة في مبادئ الهجرة، صالحه بنو النضير على ألا يكونوا عليه ولا معه، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما غزا أحداً وهزم المسلمون، ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ونقضوا العهد، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن يكونوا معهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل أبو سفيان في أربعين، واجتمع مع كعب عند الكعبة، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، فأخبر الله النبي بذلك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف، فدخل عليه محمد بن مسلمة ومعه أربعة من الأوس، فقتلوه في حصنه غيلة، فألقى الله الرعب في قلوب بني النضير، وكان قتله في ربيع الأول من السنة الثالثة، وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة، وكانوا بقرية يقال لها زهرة، على ميلين من المدينة، فلما سار إليهم رسول الله، وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا له: يا محمد ذرنا نبكي شجوناً ثم ائتمر أمرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب، ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم، ألا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون، حتى نلقتي بمكان نصف بيننا وبينك، فيسمعون منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج ثلاثون حبراً منهم، حتى كانوا في براز الأرض، قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه، ومعه ثلاثين رجلاً من أصحابه، كل يحب الموت قبله؟ ولكن أرسلوا إليه: كيف نفهم ونحن ستون، اخرج في ثلاثة من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فيسمعون منك، فإن آمنوا بك آمنا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الله بذلك، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد، غزا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين الذين عاهدوهم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على من يأمرهم به، فقبلوا ذلك، فصالحهم على الجلاء، وعلى أن كل أهل بيت يحمل على بعير ما شاؤوا من متاعهم ما عدا السلاح، ففعلوا ذلك، وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء، إلا أهل بيتين من آل الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان، سفيان بن عمير وسعد بن وهب فأحرزا ما لهما. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ الجملة حال من لفظ الجلالة.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بيان لبعض آثار قدرته تعالى الباهرة الظاهرة. قوله: ﴿ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ حال من ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
قوله: (هم بنو النضير من اليهود) أي وهم من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل ينتظرون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليدخلوا في دينه. قوله: (بالمدينة) أي أرضها بالقرب منها، وذلك كانوا بقرية بينها وبين المدينة ميلان. قوله: ﴿ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾ متعلق بأخرج، وإضافة أول للحشر من إضافة الصفة للموصوف، أي للحشر الأول، واعلم أن الحشر أربع: فالأول إجلاء بني النضير، ثم بعده إجلاء أهل خيبر، ثم في آخر الزمان تخرج نار من قعر عدن تسوق الناس، ثم في يوم القيامة حشر جميع الخلق. قوله: (إلى خيبر) صوابه من خيبر كما صرح به غيره، وذلك أن عمر أجلى اليهود من خيبر وجميع جزيرة العرب، إلى أذرعات وأريحاء من الشام. قوله: ﴿ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ﴾ أي لما كان بهم من القوة وشدة البأس وكثرة أعوانهم من قريظة وقريش، وبكم من الضعف وقلة العدد. قوله: (به تم الخبر) أي بالفاعل تم خبر ﴿ أَن ﴾ ومحصلة أن الضمير اسم ﴿ أَن ﴾ و ﴿ مَّانِعَتُهُمْ ﴾ خبرها، و ﴿ حُصُونُهُم ﴾ فاعله، ويصح أن ﴿ مَّانِعَتُهُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ حُصُونُهُم ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ﴿ أَن ﴾.
قوله: (أمر وعذابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، وبه اندفع ما أوهمه ظاهرة الآية، من أن الله تعالى يوصف بالإتيان، فأفاد بأن الآية من قبيل المتشابه، وأوله بتقدير مضاف نظير﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ ﴾[الفجر: ٢٢].
قوله: (لم يخطر ببالهم) تفسير لقوله: ﴿ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾.
قوله: (من جهة المؤمنين) إضافة جهة لما بعده بيانية. والمعنى: جاءهم عذاب الله من جهة لا تخطر ببالهم وهم المؤمنون، لأنهم مستضعفون بالنسبة لهم، فلا يخطر ببالهم أنهم يقدرون عليهم. قوله: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾ أي أنزله فيها بشدة، قوله: (بسكون العين وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بقتل سيدهم) أي وكان قتله في ربيع الأول من السنة الثالثة كما تقدم. قوله: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ ﴾ مستأنف أتى به للأخبار عنهم بذلك. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما سبعيتان. قوله: (من أخرب) راجع للتخفيف، وأما التشديد فهو من خرب. قوله: (من خشب) بفتحتين وضمتين وضم وسكون جمع خشبة. قوله: ﴿ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ أي من داخل الحصون، وقوله: ﴿ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي من خارجها ليدخلوها، وعطفها على أيديهم من حيث إنهم سبب في ذلك، لأن بني النضير لما نقضوا العهد، كأنهم سلطوا المؤمنين على تخريب دورهم. قوله: ﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾ أي اتعظوا بحالهم ولا تغتروا ولا تعتمدوا على غير الله، فالاعتبار النظر في حقائق الأشياء، ليستدل بها على شيء آخر. قوله: ﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ ﴾ الخ.
﴿ أَن ﴾ مصدرية، وهي وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ، وخبره محذوف وجوباً، والتقدير لولا الكتب موجود. قوله: ﴿ ٱلْجَلاَءَ ﴾ بالفتح والمد، يطلق على الخروج من الوطن والاخراج منه، وهو المراد هنا، ويطلق على الأمر الجلي الواضح. قوله: ﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ﴾ كلام مستأنف مبين لعاقبتهم كأنه قال: إن نجوا في الدنيا من القتل، لم ينجوا في الآخرة من العذاب الدائم، فهو ثابت لهم على كل حال. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي المذكور من العذابين بسبب أنهم الخ. قوله: ﴿ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ ﴾ ﴿ مَن ﴾ شرطية، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ ﴾ الخ إما نفس الجزاء وحذف منه العائد، وقد قدره المفسر بقوله: (له) أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه، وعلى كل فالشرط وجوابه تتميم لما قبله، وتقدير لمضمونه وتحقيق لسببه.
قوله: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ ﴾ الخ ﴿ مَا ﴾ شرطية و ﴿ مِّن لِّينَةٍ ﴾ بيان لما، و ﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف أي فقطعها، والجملة جواب الشرط، واللينة قيل هي النخلة مطلقاً، وقيل هي النخلة الكريمة، وقيل غير ذلك، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فخرج أعداء الله عند ذلك فقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أمن الصلاح قطع الشجر وقطع النخل؟ فهل وجدت فيما زعمت، أنه نزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم شيئاً مما قالوا، وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في القطع وتركه، فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، فأنزل الله هذه الآية. قوله: ﴿ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أي رضاه. قوله: (أي خيركم في ذلك) أي القطع والترك. قوله: ﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾ الخ، لما بين حال بني النضير وما وقع لذواتهم، أخذ يبين ما وقع في أموالهم. قوله: (رد) ﴿ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾ أشار بذلك إلى أن الأموال التي كانت بأيدي بني النضير، ليست لهم بالأصالة، بل هي لمن أطاع الله تعالى، وتلذذهم بها إنما هو صورة تعد منهم، وذلك لأن الله تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق لهم ما في الأرض جميعاً، ليستعينوا بها على طاعته، فالكفار حيث عصوا ربهم، فليس لهم استحقاق في تلك النعم. قوله: ﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ ﴾ الخ، خبر ما الموصولة، و ﴿ أَفَآءَ ﴾ صلته. قوله: (أسرعتم) الخ، أي فالإيجاف اسراع المشي. قوله: (يا مسلمين) هكذا بالياء هنا وفيما تقدم، وهو سبق قلم، وصوابه بالواو، ولأن المنادى يبنى على ما يرفع به ولا شك أن جمع المذكر السالم يرفع بالواو، فيبنى المنادى عليها. قوله: ﴿ مِنْ ﴾ (زائدة) أي المفعول. قوله: ﴿ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ هي ما يركب من الإبل، غلب ذلك عليها من بين المركوبات، فالعرب يطلقون لفظ الراكب على راكب البعير، والفارس على راكب الفرس. قوله: (أي لم تقاسموا فيه مشقة) أي لم تقطعوا اليها مسافة، ولم يحصل منكم حرب، وذلك لكون قريتهم قريبة، ولم يركبوا اليها خيلاً ولا إيلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان راكباً جملاً، وقيل: حمارً مخطوماً بليف، فافتتحها صلحاً، فكان الأمر في تلك الأموال مفوضاً له صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾ أي فعادته تعالى جارية، بأن الرسل ليسوا كآحاد الأمة، بل يسلطهم الله على من يشاء، من غير أن يقتحموا المشقات ويقاسموا الشدائد، فتحصل أن مال الكفار، إذا حصل من غير قتال، فهو فيء يوضع تحت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي بيانه، ومثله المال الذي جهلت أربابه، ومال من مات ولا وارث له، والجزية، وأعشار أهل الذمة، وخراج الأرض على ما هو مبين في الفروع، ويقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده الخليفة. قوله: (فأعطى منه المهاجرين) أي لا على أنه غنيمة، بل يوصف الفقر، ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، لأنهم كانوا قد قاسموهم في الأموال والديار. قوله: (وثلاثة من الأنصار) أي وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان لهذا السيف ذكر وشأن عندهم.
قوله: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾ ببيان لمصرف الفيء إثر بيان رده على رسول الله، وحذف الواو من هذه الجملة، لأنها بيان للأولى، فهي غير أجنبية منها. قوله: (كالصفراء) الخ، أي وأرض قريظة والنضير وهما بالمدينة، وفدك وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وقرى عرينة وينبع. قوله: ﴿ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ اختلف في قسم الفيء، فقيل: يسدس لظاهر الآية، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل: يخمس للخمسة المذكورين، وذكر الله للتعظيم. وفي القرطبي: وقال قوم منهم الشافعي: إن معنى الآيتين أن ما هنا والأنفال واحد، أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال، قسم على خمسة أسهم، أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، لأنهم منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المرصدين للقتال في الثغور، لأنهم قائمون مقام الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين، من سد الثغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء، فأما السهم الذي كان من خمس الفيء والغنيمة، فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، كما قال عليه الصلاة والسلام:" ليس في من غنائمكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم "اهـ. وقالت المالكية: لا خلاف في أن الغنيمة تخمس، وأما ما انجلى عنه أهله دون قتال فلا يخمس، ويصرف في مصالح المسلمين باجتهاد الإمام، ومثله جميع ما كان محله بيت المال، وليس معنى الآيتين واحداً، بل آية الأنفال فيما أوجف عليه، وما هنا فيما لم يوجف عليه، وقوله: ﴿ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ الخ، ليس المقصود منه التخميس، وإنما المقصود التعميم باجتهاد الإمام فتدبر. قوله: (من بني هاشم وبني المطلب) هذا مذهب الشافعي، وعند مالك لآل بني هاشم فقط. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ المراد بهم ما يشمل الفقراء. قوله: (المنقطع في سفره) أي والمحتاج ولو غنياً ببلده. قوله: (أي يستحقه النبي) الخ، إنما لم يقل الله، والنبي إشارة إلى أن ذكر اسم الله للتعظيم والتبرك على التحقيق، وظاهر الآية أن الفيء يخمس خمسة أخماس، وأن للنبي خمسة وليس مراداً، بل التخميس إنما هو للخمس لا للمال من أصله، فالاشتراك المذكور إنما هو في الخمس، وتقدم أن ذلك مذهب الشافعي، وأما عند مالك فلا تخميس، وإنما النظر فيه للإمام. قوله: ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ ﴾ الخ.
﴿ كَيْ ﴾ ترسم هنا مفصولة من ﴿ لاَ ﴾.
قوله: (بمعنى اللام) أي لا التعليل، والمعلل ما يستفاد مما سبق، أي جعل الله الفيء لمن ذكر لأجل ألا يكون لو ترك على عادة الجاهلية دولة أي يتداوله الأغنياء، كل من غلب منهم أخذه واستأثر به، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة، أخذ الرئيس ربعها لنفسه، ثم يصطفي بعد أخذ الربع منها ما شاء، فنسخ هذا الأمر، وجعله الله يصرف في مصالح المسلمين على الوجه المتقدم. قوله: (وأن مقدرة بعدها) أي فالنصب بأن لا بها. قوله: ﴿ يَكُونَ ﴾ أي الفيء فيكون ناقصة اسمها ضمير يعود على الفيء، و ﴿ دُولَةً ﴾ خبرها، وعلى هذه القراءة يكون بالتحتية لا غير، وقرئ أيضاً برفع ﴿ دُولَةً ﴾ على أن كان تامة مع التحتية والفوقية من يكون، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: ﴿ دُولَةً ﴾ التداول حصول الشيء في يد هذا تارة وهذا أخرى، والاسم الدولة بفتح الدال وضمها، وجمع المفتوح دول كقصعة وقصع، وجمع المضموم دول مثل غرفة وغرف، ومعناهما واحد، وقيل: الدولة بالضم في المال، وبالفتح في الحرب. قوله: ﴿ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ الخ، أي ما أعطاكم من مال الغنيمة، وما نهاكم عنه من الأخذ والقول فانتهوا، وقيل في تفسيرها: من آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه، فالآية محمولة على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لأنه لا يأمر إلا بالإصلاح، ولا ينهى إلا عن فساد، فنتج من هذه الآية، أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله، وأن كل ما نهى عنه النبي نهى من الله، فقد جمعت أمور الدين كما هو معلوم. قوله: (متعلق بمحذوف) الخ، أي القصد منه التعجب والمدح للمهاجرين الذين اتصفوا بتلك الصفات. قوله: (أي اعجبوا) أي تعجبوا من حال المهاجرين، حيث تنزهوا عن الديار والأموال، وتركوا ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. قوله: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ أي أخرجهم كفار مكة. قوله: ﴿ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ عطف على ﴿ دِيَارِهِمْ ﴾ وعبره فيه بالخروج، لأن المال لما كان يستر صاحبه كان كأنه ظرف له. قوله: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً ﴾ الخ، الجملة حالية، والمعنى: طالبين الرزق من الله، لإعراضهم عن أملاكهم الدنيوية، ومرضاة الله تعالى في الآخرة. قوله: ﴿ وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ عطف على قوله: ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ فهو حال أيضاً لكنها مقدرة، أي ناوين النصرة، إذ وقت خروجهم لم تكن نصرة بالفعل. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾ أي الخالصون في إيمانهم، حث اختاروا الإسلام. وخرجوا عن الديار والأموال والعشائر، حتى روي: أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه، ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء، ما له دثار غيرها، وفي الحديث:" إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً ".
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ الخ، شروع في الثناء على الأنصار، إثر بيان الثناء على المهاجرين، والموصول إما معطوف على الفقراء فيكون من عطف المفردات، وقوله: وَ ﴿ يُحِبُّونَ ﴾ الخ، حال أو مبتدأ، وجملة ﴿ يُحِبُّونَ ﴾ خبره. قوله: (أي المدينة) أي اتخذوا منزلاً بإسلامهم من قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فعصموها وحفظوها بالإسلام، فكأنهم استحدثوا بناءها. قوله: (أي القوة) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَٱلإِيمَانَ ﴾ معمول لمحذوف ويكون من عطف الجمل، إذ لا معنى لتبوؤا الإيمان، وهذا أحد الوجوه الجارية في قوله: علفتها تبناً وماء بارداً، أو ضمن ﴿ تَبَوَّءُوا ﴾ معنى لزموا. والمعنى: لزموا الدار والإيمان، أو شبه تمكنهم في الإيمان باتخاذه منزلاً، ففيه جمع بين الحقيقة والمجاز. قوله: ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ ﴾ أي نفوسهم. قوله: (حسداً) أي ولا غيظاً ولا حزازة، فالمراد بالحاجة هذه المعاني، روي" أن المهاجرين كانوا في دور الأنصار، فلما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين، من إنزالهم إياهم منازلهم، وإشراكهم إياهم في الأموال، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار "وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة المتقدم ذكرهم. قوله: (أي أتى النبي) بيان للفاعل المحذوف، وقوله: (المهاجرين) بيان للمفعول القائم مقام الفاعل، وقوله: (من أموال بني النضير) بيان لما. قوله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي في كل شيء من أسباب المعاش، حتى إن من كان عنده امرأتان، كان ينزل عن احداهما، ويزوجها واحداً من المهاجرين، والإيثار تقديم الغير على النفس، وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وغاية المحبة والصبر على المشقة. قوله: ﴿ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ أي يقدمون غيرهم في الأموال مع احتياجهم اليها، وهذا الوصف لا يخص الأنصار، فقد روي عن ابن عمر أنه قال: اهدي لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعثه اليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى تداولها سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأول، فنزل هذه الآية. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم امكث عنده في البيت حتى تنظر ما يصنع بها، فذهب بها الغلام اليه وقال له: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجاتك، فقال: وصله الله ورحمه ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى فقدها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، ووجده قد ربط مثلها إلى معاذ بن جبل، فقال: اذهب بها اليه، وامكث في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها اليه وقال له: يقول لك أمير المؤمنين، اجعل هذه في بعض حاجاتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، فجاءت امرأة معاذ وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فرمى بهما اليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال: إنهم أخوة بعضهم من بعض، ونحو عن عائشة وغيرها. قوله: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ ﴿ مَن ﴾ شرطية و ﴿ يُوقَ ﴾ فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ الخ جزاؤه، وهو كلام عام قصد به التنبيه على ذم الشح، وفي قوله: ﴿ يُوقَ ﴾ إشارة إلى أن الشح أمر غريزي في الإنسان، لا ينجو منه الشخص إلا بمعونة الله تعالى، مع مجاهدة النفس ومكابدتها. قوله: (حرصها على المال) فيه إشارة إلى الفرق بين البخل والشح، فالبخل منع الأموال، والشح صفة راسخة يصعب معها على الرجل تأتي المعروف وتعاطي مكارم الأخلاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ". وقال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال بعضهم: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه، ولم يمنع شيئاً أمر الله بإعطائه، فقد وقاه الله شح نفسه. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُوا ﴾ إما معطوف على الفقراء، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ ﴾ حال أو مبتدأ، وجملة ﴿ يَقُولُونَ ﴾ خبره. قوله: (من بعد المهاجرين والأنصار) أي من بعد هجرة المهاجرين وإيمان الأنصار. قوله: (إلى يوم القيامة) أي فالعبدية تشمل التابعين وأتباعهم إلى آخر الزمان. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ ﴾ أي بالموت عليه، فينبغي لكل واحد من القائلين لهذا القول، أن يقصد بمن سبقه من انتقل قبله، من زمنه إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل جميع من تقدمه من المسلمين، لا خصوص المهاجرين والأنصار. قوله: (حقداً) هو الانطواء على العداوة والبغضاء. قوله: ﴿ رَءُوفٌ ﴾ بقصر الهمزة ومدها بحيث يتولد منها، وقراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾ الخ، لما ذكر الثناء على المهاجرين والأنصار وأتباعهم، أتبعه بذكر أحوال المنافقين الذين نافقوا مع بني النضير، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه الخطاب. قوله: ﴿ لإِخْوَانِهِمُ ﴾ اللام للتبليغ، والمعنى مبلغين إخوانهم. قوله: (لام قسم) أي موطئة لقسم محذوف أي والله. قوله: (في الأربعة مواضع) أي ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾.
﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ ﴾.
﴿ وَلَئِن قُوتِلُواْ ﴾.
﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾، بل في الخمسة هذه الأربعة، وقوله: ﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ ﴾ لأن اللام مقدرة معه. قوله: ﴿ أُخْرِجْتُمْ ﴾ (من المدينة) أي أخرجكم النبي وأصحابه. قوله: ﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ ﴾ عطف على قوله: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾ وكذا قوله: ﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ ﴾ فمقولهم ثلاث جمل، والقسم الواقع منهم اثنان، ثم كذبهم الله اجمالاً وتفصيلاً بعد. قوله: (في خذلانكم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ أَحَداً ﴾ أي من النبي والمؤمنين، وقوله: ﴿ أَبَداً ﴾ ظرف للنفي. قوله: (حذفت منه اللام) أي وحذفها قليل في لسان العرب، والكثير اثباتها. قوله: ﴿ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي فيما قالوه. قوله: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ ﴾ تفصيل لكذبهم وهو تكذيب لقولهم ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾ وقوله: ﴿ وَلَئِن قُوتِلُواْ ﴾ الخ، تكذيب لقولهم ﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ ﴾ الخ، وقوله: ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ من تمام تكذيبهم في المقالة الثالثة. قوله: (جاؤوا لنصرهم) جواب عما يقال: إن قوله: ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ مناف لقوله: ﴿ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ فأجاب بأن المعنى خرجوا القصد نصرهم، وحينئذ فلا يلزم منه نصرهم بالفعل، وأجيب أيضاً: بأن قوله: ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ أي على سبيل الفرض والتقدير. قوله: (واستغنى بجواب القسم) الخ، أي للقاعدة المعروفة في قول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم   جوب ما أخرت فهو ملتزمقوله: (أي اليهود) هذا أحد أقوال في مرجع الضمير، وقيل: عائد على المنافقين، وقيل: عائد على مجموع اليهود والمنافقين وهو الأقرب. قوله: ﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً ﴾ الخ، أي خوفهم منكم في السر، أشد من خوفهم من الله الذي يظهرونه لكم، وهذه الجملة كالتعليل لقوله: ﴿ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ﴾ كأنه قال: إنهم لا يقدرون على مقابلتكم، لأنكم أشد رهبة. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ما ذكر من كون خوفهم من المخلوق، أشد من خوفهم من الخالق. قوله: (مجتمعين) أشار بذلك إلى أن جميعاً حال. قوله: (وفي قراءة جدر) أي وهي سبعية أيضاً، غير أن من قرأ جدار بالألف يلتزم الامالة في جدار، وأما الصلة في بينهم بحيث يتولد منها واو، فمن قرأ جداراً بدون أحد هذين الوجهين، فقد قرأ بقراءة لم يقرأ بها أحد. قوله: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ راجع لقوله: ﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً ﴾ الخ، أي فعجزهم عن قتالكم ليس لضعف فيهم، بل هم في غاية القوة من العدد والعدة، وإنما يضعفون في حربكم للرعب الذي في قلوبهم منكم. قوله: (متفرقة) أي لعظم الخوف، فقلوبهم لا توافق الأجسام، بل فيها حيرة ودهشة. قوله: (خلاف الحسبان) حال أي خلاف ظنكم فيهم بمقتضى جميعة الصور. قوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ إنما خص الأول بلا يفقهون، والثاني بلا يعقلون، لأن الأول متصل بقوله: ﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ وهو دليل على جهلهم بالله فناسبهمم عدم الفقة، والثاني متصل بقوله: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ﴾ وهو دليل على عدم عقلهم، إذ لو عقلوا لما تشتتت قلوبهم وتحيرت وامتلأت رعباً.
قوله: ﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره بقوله: (مثلهم) أي صفة بني النضير العجيبة التي تقع لهم من الاجلاء والذل، كصفة أهل مكة فيما وقع لهم يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل، فكل حصل له خزي الدنيا وعذاب الآخرة. قوله: (بزمن قريب) أي وبين وقعة بدر ووقعة بني النضير، وهو سنة ونصف، لما تقدم أن غزوة بني النضير كانت في ربيع الأول من السنة الرابعة، وغزوة بدر كانت في رمضان من الثانية. قوله: (مثلهم أيضاً) أي صفة بني النضير، وقوله: (في سماعهم) ببان المثل، وقوله: (وتخلفهم) أي تخلف المنافقين عنهم، وقوله: ﴿ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾ المراد به حقيقته لا شيطان الإنس، وقوله: ﴿ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ ﴾ بيان لمثل الشيطان، وبالجملة فقد ضرب الله لهم مثلين: الأول بكفار مكة الذين اغتروا بعددهم وعددهم وحضروا بدراً فكانت الدائرة عليهم، والثاني من حيث اغترارهم بكلام المنافقين لهم ومخالفتهم لهم، بإغراء الشيطان لإنسان معين على الكفر، حتى أوقعه فيه ومات عليه ثم تبرأ منه. قوله: ﴿ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ﴾ المراد به برصيصا العابد، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الانسان الذي قال له الشيطان راهب، نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان ووطئها فحملت ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاءه الشيطان فوعده إن سجد له أن ينجيه منه، فسجد له فتبرأ منه "وقصته مبسوطة في الشبرخيتي على الأربعين، في شرح الحديث الرابع، فانظرها إن شئت. قوله: (كذباً منه ورياء) أي قوله هذا كذب منه ورياء، لأنه لا يخاف الله أبداً. قوله: (أي الغاوي) اسم فاعل من غوى يغوي كرمى يرمي، والمراد به الانسان الذي غره الشيطان وقوله: (والمغوي) اسم فاعل أيضاً من أغواه يغويه وهو الشيطان. قوله: (وقرئ بالرفع) أي شاذاً. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الخ لما ذكر صفات كل من المنافقين واليهود، وما آل اليه أمرهم، وعظ المؤمنين بموعظة حسنة، تحذيراً من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم، وذلك أوقع في النفس. قوله: ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ﴾ اللام لام الأمر، والحكمة في التنكير، الاشارة إلى أن الأنفس الناظرة لمعادها المعتبرة بغيرها قليلة جداً عديمة المثيل. قوله: ﴿ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ ﴿ مَّا ﴾ اسم موصول، و ﴿ قَدَّمَتْ ﴾ صلته، والمعنى ولتبحث وتحصل نفس العمل الذي قدمته لغد، وذلك لأن جميع ما تعلمه في الدنيا ترى جزاءه في القيامة، فليختر العاقل أي الجزاءين، لما ورد في الحديث:" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ". قوله: (ليوم القيامة) سمي غداً لقرب مجيئه، قال تعالى:﴿ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ ﴾[النحل: ٧٧] فكأنه لقربه شبيه بما ليس بينه وبينه إلا ليلة واحدة، والتنكير في غد للتعظيم والايهام، كأنه قيل: لغد لا تعرف النفس كنه عظمته وهوله. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ كرره للتأكيد، أو الأول إشارة للأمر بأصل التقوى، والثاني للأمر بالدوام عليها. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ الخبير المطلع على خفيات الأشياء؛ القادر على الاخبار بما عجزت عنه المخلوقات، وقوله: ﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي من خير وشر. قوله: (تركوا طاعته) أشار بذلك إلى أن المراد بالنسيان الترك، وليس المراد به عدم الحفظ والذكر. قوله: (أن يقدموا بها خيراً) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير: فأنساهم تقديم خبر لأنفسهم، فثمرة نسيانهم الله نسيان أنفسهم، أي فترك حقوق الله خسرانهم، وهو نظير قوله تعالى:﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾[الإسراء: ٧]،﴿ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ﴾[محمد: ٣٨]،﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾[الروم: ٤٤] لأنه المستغنى عن كل ما سواه.
قوله: ﴿ لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾ أي الذين نسوا الله، فاستحقوا الخلود في النار. قوله: ﴿ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ أي الذين اتقوا الله، فاستحقوا الخلود في الجنة. قوله: ﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾ هذا كالتذليل لقوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾[الحشر: ١٨] الخ، وذلك لأن الله تعالى، لما أمر المؤمنين بالتقوى والنظر في العواقب والعمل النافع، ونهاهم عن الغفلة والتشبيه بمن نسي طاعة الله، ذيله بما يرغبهم في طاعة الله ويقربهم اليه زلفى. قوله: (وجعل فيه تمييز كالانسان) المقصود من هذا الكلام، التنبيه على قساوة قلوب الكفار وغلظ طبائعهم، وفيه رمز لمن قل خشوعه عند تلاوة القرآن، وأعرض عن تدبره، ولم يأتمر بأوامره، ولم ينته بنواهيه، فالواجب التدبر في القرآن، الخشوع عند قراءته، فإنه لا عذر في ترك ذلك، إذ لو خوطب بهذا القرآن الجبال، مع تركيب العقل فيها، لانقادت لمواعظه، ولرأيتها خاشعة مشفقة من خشية الله. قوله: (المذكورة) أي في هذه السورة أو في سائر القرآن. قوله: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي ﴾ الخ، لما وصف الله تعالى كلامه بالعظم، ومن المعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بوصف عظمه تعالى فقال: ﴿ هُوَ ﴾ أي الذات المتصفة بالكمالات أزلاً وأبداً الواجبة الوجود، وقوله: ﴿ ٱللَّهُ ﴾ خبر عن ﴿ هُوَ ﴾ وقوله بعد ذلك: ﴿ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ إما خبر ثان أو صفة للفظ الجلالة، وذكر لفظ الجلالة بعد الهوية، لأن الهوية هي الذات، والجلالة اسم الذات ومظهرها. قوله: ﴿ ٱلْمَلِكُ ﴾ أي المتصرف في خلقه بالايجاد والاعدام. قوله: ﴿ ٱلْقُدُّوسُ ﴾ أي المنزه عن صفات الحوادث، وأتى به عقب الملك، لدفع توهم أنه يطرأ عليه نقص كالملوك. قوله: ﴿ ٱلسَّلاَمُ ﴾ أي الذي يسلم على عباده المؤمنين في الجنة، وعلى الأنبياء في الدنيا، أو السالم من كل نقص، أو المؤمن من المخاوف والمهالك. قوله: (المصدق رسله بخلق المعجزة لهم) أي وأولياءه بالكرامات، وعباده المؤمنين على إيمانهم وإخلاصهم، لأنه لا يطلع على الإخلاص إلا هو. قوله: (أي الشهيد على عباده) وقيل معناه المطلع على خطرات القلوب. قوله:(القوي) أي فهو من عز بمعنى غلب وقهر، فيكون من صفات الجلال، ويصح أن يكون من عز بمعنى قل، فلم يوجد له نظير، فهو من صفات السلوب. قوله: (جبر خلقه على ما أراد) أي من إسلام وكفر وطاعة ومعصية، فإذا أراد أمراً فعله، لا يحجزه عنه حاجز، فهو من صفات الجلال، ويصح أنه مأخوذ من الجبر بمعنى الإصلاح، كقولهم: جبر الطبيب الكسر أي أصحله، فيكون من صفات الجمال. قوله: ﴿ ٱلْمُتَكَبِّرُ ﴾ من الكبرياء وهي التعالي في العظمة، وهي مختصة به تعالى لما في الحديث القدسي:" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدة منهما قصمته، ثم حذفته في النار ". قوله: (عما لا يليق به) أي من صفات الحدوث. قوله: ﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أتى بالتسبيح عقب قوله: ﴿ ٱلْمُتَكَبِّرُ ﴾ إشارة إلى أن هذا الوصف مختص به، وينزه سبحانه عن مشاركة الغير له. قوله: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ﴾ كرر الهوية لأنها حقيقة الذات المتصفة بالكمالات، فما يذكر بعدها من الصفات فهو كشف لها. قوله: ﴿ ٱلْخَالِقُ ﴾ أي الموجد للمخلوقات من العدم. قوله: (المنشئ) أي المبدع للأعيان المبرز لها. قوله: ﴿ ٱلْمُصَوِّرُ ﴾ أي المبدع للأشكال على حسب إرادته، فأعطى كل شيء من المخلوقات، صورة خاصة وهيئة منفردة، يتميز بها على اختلافها وكثرتها. قوله: (مؤنث الأحسن) أي الذي هو أفعل تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء، ووصفت بالحسنى لأنها تدل على معان حسنة، من تحميد وتقديس وغير ذلك، ووصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الوحدة وهو فصيح، ولو جاء على المطابقة لقال الحسن بوزن آخر، ويصح ان يراد من الحسنى المصدر، ويقال فيه ما قيل في زيد عدل، ووصف الجمع به ظاهر لأنه لا يثنى ولا يجمع. قوله: ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الخ، ختمها بالتسبيح كما ابتدأها به، إشارة إلى أنه المقصود الأعظم والمبدأ والنهاية، وأن غاية المعرفة بالله تنزيهه عما صورته العقول.
Icon