ﰡ
وقيل: إن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر وهي الشام، قال عكرمة: من شك أن الحشر يوم القيامة في
وقد أخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
" عن عائشة قالت كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة، يعني السلاح، فأنزل الله فيهم: (سبح لله) إلى قوله (لأول الحشر)، فقاتلهم النبي ﷺ حتى صالحهم على الإجلاء وأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبب " (١)، وأما قوله (لأول الحشر) فكان إجلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
وعن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم
_________
(١) رواه الحاكم.
(وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله) أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، والفرق بين هذا التركيب، وبين النظم الذي جاء عليه، أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغارتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم.
(فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون ذلك وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح، فإن قتله أضعف شوكتهم، وقيل: إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا والأول أولى لقوله (وقذف في قلوبهم الرعب) فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير، لا في قلوب المسلمين، قال أهل اللغة: الرعب الخوف الذي يرعب الصدر، أي يملأه، وقذفه إثباته فيه، قيل: وكان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به (١)، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح.
" من قوله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر ".
_________
(١) كلام الشوكاني بنصه.
قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي ﷺ على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، والجملة مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال.
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي اتعظوا وتدبروا، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر، قال الواحدي: ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، قال النسفي: وهو دليل على جواز القياس انتهى. والاعتبار مأخوذ من العبور، والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي علم التعبير لأن صاحبه ينقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ومن لم يعتبر بغيره
(ولهم في الآخرة عذاب النار) مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا، متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب، وإن نجوا من عذاب الدنيا.
" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة "، ولها يقول حسان رضي الله تعالى عنه:
وهان على سراة بني لؤي | حريق بالبويرة مستطير |
" عن ابن عباس في الآية قال: اللينة النخلة، قال: استنزلوهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله (ما قطعتم من لينة) الآية "، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير.
(وليخزي الفاسقين) أي ليذل الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم، في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاؤوا، من القطع والترك ازدادوا غيظاً، قال الزجاج: وليخزي الفاسقين بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: (فبإذن الله)، وقد استدل بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق، وكذلك قطع أشجارهم ونحوها، وعلى
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله ".
ْ " وعن ابن عباس قال: جعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكم فيه ما أراد ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها، قال: والإِيجاف أن يوضعوا السير وهي لرسول الله فكان من ذلك خيبر وفدك، وقرى عرينة، وأمر رسول الله ﷺ أن يعمد لينبع فأتاها
(ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) أي سنته تعالى جارية على أن يسلطهم على من يشاء من أعدائه تسلطاً غير معتاد، من غير أن يقتحموا مضايق الخطوب، ويقاسوا شدائد الحروب، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله ﷺ دون أصحابه، لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً (والله على كل شيء قدير) يسلط من يشاء على من أراد. ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فلا حق لكم فيه ويختص به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة على ما كان يقسمه.
قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات، أما الآية الأولى وهي قوله: (وما أفاء الله على رسوله منهم) فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، خالصة له وهي أموال بني النضير، وما كان مثلها وأما
وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية هي في بني قريظة، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين.
(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) المراد بقوله: (لله) أنه يحكم فيه بما يشاء للرسول يكون ملكاً له، (ولذي القربى) وهم بنو هاشم وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة، فجعل لهم حقاً في الفيء قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن تكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً للرسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل: يقسم أسداساً، السادس سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجه القرب، كعمارة المساجد ونحو ذلك.
وعن ابن عباس قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثبة والوطيح والسلالم ووحدوه وكان الذي للمسلمين الشق، والشق ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن رسول الله صلى الله
وأخرج أبو داود عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفايا في النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكان لابن السبيل. وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء، قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله رده على فقراء المهاجرين "، قال البقاعي: ومن زعم أن شيئاًً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدة.
(كيلا يكون) الفيء (دولة بين الأغنياء منكم) دون الفقراء، والدولة اسم لشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة، قال مقاتل: المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم، قرأ الجمهور يكون بالتحتية، ودولة بالنصب، وقرىء بالفوقية ودولة بالرفع، أي كيلا تقع أو توجد دولة، وكان تامة، وقرأ الجمهور دولة بضم الدال، وقرىء بفتحها، قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل وكذا قال أبو عبيدة وجمع المفتوح دول مثل قطعة وقصع، وجمع المضموم دول مثل غرفة وغرف، وقيل: بالضم في المال، وبالفتح في الحرب، ودالت الأيام تدول مثل دارت الأيام تدور وزناً ومعنى، وقيل: بالفتح من الملك بضم الميم، وبالضم من الملك بكسر الميم، قال عمر بن الخطاب ما على وجه الأرض مسلم إلا وله حق في هذا الفيء، إلا ما ملكت أيمانكم.
ثم لما بين سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله ﷺ فقال:
(وما آتاكم الرسول) أي ما أعطاكم من مال الغنيمة والفيء (فخذوه وما نهاكم عنه) أي عن أخذه (فانتهوا) عنه ولا تأخذوه، قال الحسن والسدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه، وقال
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
عن " ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئاًً من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه ". ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم بأخذه الرسول، وترك ما نهاهم عنه، أمرهم بتقواه، وخوفهم شدة عقوبته، فقال:
(واتقوا الله إن الله شديد العقاب) فهو معاقب من لم يأخذ ما أتاه الراسول، ولم يترك ما نهاه عنه.
" عن أبي رافع أن رسول الله ﷺ قال لا ألقين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به، أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "، أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن، والأريكة كل ما اتكىء عليه من سرير أو فراش أو منصة أو نحو ذلك، وفي الباب أحاديث، ثم بين من له الحق في الفيء فقال:
(يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي حال كونهم يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا وبالرضوان في الآخرة (وينصرون الله ورسوله) بالجهاد للكفار بأنفسهم وأموالهم، والمراد نصر دينه وإعلاء كلمته، وهذا حال مقدرة أي ناوين نصرتهما إذ وقت خروجهم لم تكن نصرة بالفعل.
(أولئك) المتصفون بتلك الصفات (هم الصادقون) أي الكاملون في الصدق، الراسخون فيه، قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر، وخرجوا حباً لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها " وعن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة أخرجه أبو داود ثم لما فرغ من مدحهم مدح الأنصار بخصال حميدة فقال:
وقد أخرج البخاري.
" عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم " (١).
(يحبون من هاجر إليهم) وذلك أنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم (ولا يجدون) أي لا يجد الأنصار (في صدورهم حاجة) أي حسداً وغيظاً وحزازة فالمراد بالحاجة هذه المعاني، وإطلاق لفظ الحاجة عليها من إطلاق الملزوم على اللازم على سبيل الكناية، لأن هذه المعاني لا تنفك عن الحاجة غالباً، وفي الكلام مضاف محذوف، أي لا يجدون في صدورهم من حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة.
(مما أوتوا) أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم
_________
(١) رواه البخاري
(ويؤثرون على أنفسهم) أي في كل شيء من أسباب المعاش، والإيثار تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا، رغبة في حظوظ الآخرة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، ووكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي خصصته به وفضلته، والمعنى ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفروج التي تكون فيه وقيل: مأخوذة من الاختصاص وهو الإنفراد بالأمر، فالخصاصة الإنفراد بالحاجة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاًً فقال: ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار، وفي رواية: فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله ﷺ لا تدخريه شيئاًً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليل لضيف رسول الله ﷺ ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله ﷺ فقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة وأنزل الله فيها " هذه الآية " (١).
_________
(١) رواه البخاري.
عن " ابن عمر قال أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت فيهم هذه الآية.
(ومن يوق شح نفسه) قرأ الجمهور يوق بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية، وقرىء بفتح الواو وتشديد القاف، وقرأوا شح بضم الشين، وقرىء بكسرها، وهذا كلام عام، (ومن) شرطية، ويوق فعل الشرط، والشح البخل مع الحرص كذا في الصحاح، وقيل: الشح أشد من البخل، قال مقاتل: شح نفسه حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع شيئاًً أمره الله بأدائه فقد وقى شح نفسه، قال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده والشح أن يشح بما في أيدي الناس يُحبُّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام؛ لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشح الظلم وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
(فأولئك هم المفلحون) جزاء الشرط المتقدم، وفيه رعاية معنى من بعد رعاية لفظها، والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب، أي الفائزون بما أرادوا والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعاً، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس، عن ابن مسعود أن رجلاً قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذلك بالشح، ولكنه البخل،
وعن ابن عمر في الآية قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل وإنه لشر، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، وعن علي ابن أبي طالب قال: من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه.
" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " أخرجه أبو يعلى وابن مردويه، وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي:
" عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم " (١).
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ". رواه النسائي، وفي الجامع الصغير:
" الشحيح لا يدخل الجنة " رواه الخطيب في كتاب البخلاء عن ابن عمر، وقد وردت أحاديث في ذم الشح كثيرة.
ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم فقال:
_________
(١) مسلم.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) المراد بالأُخوّة هنا أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار، قال في المصباح: الأخ لامه محذوفة، وهي واو، وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان، وفي لغة يستعمل منقوصاً فيقال: أخان وجمعه إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما، وضمها لغة، وقيل: جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء وزن آباء أقل: والأنثى أخت، وجمعها أخوات، وهو جمع مؤنث سالم.
(وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا) أي غشاً وحقداً وبغضاً وحسداً (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي كثير الرأفة والرحمة، بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك، أمر الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً، لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم، إن لم يتدارك نفسه بالالتجاء أو باللجإِ (١) إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طوّقه من الغل لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز
_________
(١) لجأ من باب منع وفرح؟.
وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله ﷺ المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم، بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة، حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله، وخير أمته وصالحي عباده، وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإِسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي ﷺ فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية، وقيل لسعيد بن المسيب: ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال: أقول ما قولنيه الله، وتلا هذه الآية، وأخرج ابن مردويه:
" عن ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه: (للفقراء والمهاجرين)، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم) الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: (والذين جاؤوا من بعدهم) الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبب هؤلاء.
ولما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم فقال:
(لئن أخرجتم) اللام هي الموطئة للقسم، وتسمى المؤذنة أيضاًً، أي والله لئن أخرجتم من دياركم (لنخرجن معكم) من ديارنا في صحبتكم وهذا جواب القسم (ولا نطيع فيكم) أي في شأنكم ومن أجلكم (أحداً) ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان، وهو معنى قوله: (أبداً) وهو ظرف للنفي لا للمنفي، ثم لما وعدوهم بالخروج معهم
(والله يشهد إنهم لكاذبون) فيما وعدهم به من الخروج معهم، والنصر لهم، وفيه دليل على صحة النبوة، ولأنه إخبار بالغيب، ووقع كما أخبر وهذا مبني على تقدم نزول الآية على الواقعة، وعليه يدل النظم، فإن كلمة إن للاستقبال وإعجاز القرآن من حيث الإخبار عن الغيب، عن ابن عباس قال: إن رهطاً من بني عوف بن الحرث منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد، وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن أثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل إلى الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
ثم لما أجمل سبحانه كذبهم فيما وعدوا به، فصل ما كذبوا فيه فقال:
(ثم لا ينصرون) يعني اليهود، ولا يصيرون منصورين إذا انهزم
(بأسهم بينهم شديد) أي بعضهم فظ غليظ على بعض، وقلوبهم مختلفة، ونياتهم متباينة، قال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد، وقال مجاهد: (بأسهم بينهم شديد) بالكلام والوعيد، لنفعلن كذا، والمعنى أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدواً ذلوا وخضعوا وانهزموا، وقيل: المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من
والعامة على أن شتى بلا تنوين لأنها ألف تأنيث، ومعنى شتى متفرقة، قال مجاهد: يعني اليهود والمنافقين، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، أي لافتراق عقائدهم، واختلاف مقاصدهم، وروي عنه أيضاًً أنه قال: المراد المنافقون، وقال الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب، قال قتادة: (تحسبهم جميعاً) أي مجتمعين على أمر، ورأي، وقلوبهم متفرقة، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، وهم يجتمعون في عداوة أهل الحق، وقرأ ابن مسعود وقلوبهم أشت أي: أشد اختلافاً، قال ابن عباس في الآية: هم المشركون، وهذا تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
(ذلك بأنهم) أي ذلك الاختلاف والتشتت بسب أنهم (قوم لا يعقلون) شيئاًً مما فيه صلاحهم، فإن تشتيت القلوب يوهن قواهم، ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه
(وبال أمرهم) أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، بقتلهم يوم بدر. وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله مجاهد وغيره، وقيل: المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة: وقيل: قتل بني قريظة، قاله الضحاك، وقيل: هو عام في كل من انتقم الله منه بسبب كفره، والأول أولى (ولهم) مع ذلك (عذاب أليم) في الآخرة، ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال:
" عن علي بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة، وأن امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها، فزينت له نفسه فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت، فقتلها ودفنها، فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له، فذلك قوله: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر) الآية أخرجه أحمد في الزهد، والبخاري في تاريخه، والحاكم وصححه، والبيهقي وغيرهم، قلت: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية، بل يدل على أنه من جملة من
(فلما كفر) أي الإنسان مطاوعة للشيطان وقبولاً لتزيينه (قال) الشيطان (إني بريء منك) إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرؤ من الشيطان يكون يوم القيامة، يتبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب كما ينبىء عنه قوله: (إني أخاف الله رب العالمين) وإن أريد به أبو جهل فقوله: اكفر عبارة عن قول إبليس يوم بدر: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) وتبرؤه قوله: يومئذ (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) الآية وهذا تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، قيل: وليس قول الشيطان: إني أخاف الله على حقيقته، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان كذباً ورياءً، وإلا فهو لا يخاف الله، فهو تأكيد لقوله: (إني بريء منك) قرىء إني بإسكان الياء وبفتحها.
(واتقوا الله) كرر الأمر بالتقوى للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل، فإن ما قدمت لغد عبارة عن أعمال الخير، والثاني في ترك المحارم، لاقترانه بقوله: (إن الله خبير بما تعملون) ورجح هذا الوجه بفضل التأسيس على التأكيد، وأنت خبير بأن التقوى تشمل كليهما فإنها على ما مر في أول البقرة هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك، ولا وجه للتوزيع، بل المقام مقام الاهتمام بأمر التقوى، فالتأكيد أولى وأقوى، ذكره الكرخي، والمعنى لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة، بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار، فقال:
(أصحاب الجنة هم الفائزون) أي الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، وفي الآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباع الشهوات، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة، والعذاب الأليم مع أصحاب النار فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، ولما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم التساوي بينهم في شيء من الأشياء، ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب، وترق له الأفئدة فقال:
(من خشية الله) سبحانه حذراً من عقابه، وخوفاً من أن يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل، يقتضي علو شأن القرآن، وقوة تأثيره في القلوب، قال ابن عباس في الآية: يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل وحملته إياه لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله، فأمر الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديد، والتخشع والخاشع الذليل المتواضع.
" وعن علي وابن مسعود مرفوعاً في الآية قال: هي رقية الصداع " ورواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف رجالهما، وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد مسلسلاً إلى ابن مسعود مرفوعاً، قاله الذهبي: هو باطل، قيل: الخطاب للنبي ﷺ أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، ولتصدع من نزوله عليه وقد
(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته فقال:
(عالم الغيب والشهادة) أي عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر، وقيل: عالم السر والعلانية وقيل: ما كان وما يكون، وقيل: الآخرة والدنيا، وقيل: المعدوم والموجود، وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدماً وجوداً (هو الرحمن الرحيم) قد تقدم تفسير هذين الاسمين.
(السلام) قال ابن العربي: اتفق العلماء على أن معنى قولنا في الله السلام النسبة، تقديره: ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال:
الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل نقص.
الثاني: معناه ذو السلام أي المسلم على عباده في الجنة، كما قال: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).
الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه، وهذا قول الخطابي، وبه قال الأكثر وعليه والذي قبله يكون صفة فعل وعلى أنه البريء من العيوب والنقائص يكون صفة ذات وقيل: السلام معناه السلم لعباده وهو مصدر وصف به للمبالغة.
(المؤمن) أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه وقيل: المصدق لرسوله بإظهار المعجزات وقيل: المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب وقيل: المؤمن الذي يأمن أولياؤه من عذابه ويأمن عباده من ظلمه يقال آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف كما قال تعالى: (وآمنهم من خوف) فهو مؤمن وقال مجاهد: المؤمن الذي وجد نفسه بقوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قرأ الجمهور المؤمن بكسر الميم اسم فاعل من آمن بمعنى أمن، وقرىء بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله: (واختار موسى قومه)، وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفاً فأمنه غيره.
(المهيمن) من هيمن يهيمن إذا كان رقيباً على الشيء، أي الشهيد
(العزيز) الذي لا يوجد له نظير، وقيل: القاهر. وقيل: الغالب غير الغلوب، وقيل: القوي.
(الجبار) جبروت الله عظمته، فعلى هذا هو صفة ذات، والعرب تسمي الملك الجبار، ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير، وعلى هذا هو صفة فعل أو من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السدي ومقاتل واختاره الزجاج والفراء قال: هو من أجبره على الأمر أي قهره، قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك، قلت: وإنه يستعمل ثلاثياً أيضاًً، وقيل: الجبار الذي لا تطاق سطوته، وقيل: هو القهار الذي إذا أراد أمراً فعله لا يحجزه عنه حاجز، وقيل: الجبار هو الذي لا ينال ولا يدانى، والجبر في صفة الله مدح، وفي صفة الناس ذم.
(المتكبر) أي الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد والكبر في صفات الله مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة والعز والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال وفي صفات العلو والعظمة والعز والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال وصفات المخلوقين ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكذب كان كاذباً في فعله فكان مذموماً في حق الناس قال قتادة: هو الذي تكبر عن كل سوء قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء وهو الملك.
ثم نزه سبحانه نفسه الكريمة عن شرك المشركين فقال (سبحانه الله عما يشركون) أي عما يشركونه أو عن إشراكهم به.
(المصور) أي الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة فالتصوير آخراً والتقدير والبرء بينهما أو تابع لهما ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي (المصور) بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارىء، أي الذي برأ المصور أي ميزه (له الأسماء الحسنى) قد تقدم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء ففي القاموس ولا تقل رجل أحسن في مقابلة امرأة حسناء وعكسه غلام أمرد ولا يقال جارية مرداء وإنما يقال هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل وجمعه أحاسن والحسنى بالضم ضد السوأى.
قال الزمخشري: ولله الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك ووصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة كقوله: (ولي فيها مآرب أخرى) وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجميع لكان التركيب الحسن على وزن الآخر كقوله: (فعدة من أيام أخر) لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكراً.
" عن أنس أن رسول الله ﷺ أمر رجلاً إذا أوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر، وقال: إن مت مت شهيداً " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه (١).
" وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ من تعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكاً يطردون عنه شياطين الإنس والجن إن كان ليلاً حتى يصبح، وإن كان نهاراً حتى يمسي "، أخرجه ابن مردويه.
" وعن معقل بن يسار عن النبي ﷺ قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " أخرجه البيهقي والدارمي وأحمد والطبراني وابن الضريس والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
" وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة " أخرجه البيهقي في الشعب وابن عدي وابن مردويه والخطيب.
_________
(١) رواه أحمد.
(هي ثلاث عشرة آية وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، والممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل أي المختبرة أضيف الفعل إليها مجازاً كما سميت سورة براءة المبعثرة والفاضحة، لكشفها عن عيوب المنافقين وعلى هذا فالإضافة بيانية أي السورة الممتحنة، وقيل: بفتح الحاء اسم مفعول إضافة إلى المرأة التي فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله سبحانه: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف والدة إبراهيم بن عبد الرحمن، وعلى هذا فليست الإضافة بيانية، والمعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)