بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية وأربعون ركوعاً.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿ الم ﴾ : أوائل مثل هذه السورة مما استأثر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم.
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ : أي : هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ : لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي : لا ترتابوا، ﴿ هُدًى ﴾ : بيان ونور ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ : الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم.
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ : يصدقون ﴿ بِالْغَيْبِ ﴾ : أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته، ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾، يعدلون أركان الصلاة الخمس أو يواظبون عليها، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ : أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة.
﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ : هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، ﴿ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ سائر الكتب، ﴿ وَبِالآخِرَةِ ﴾ الدار الآخرة ﴿ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ لا يشكون أصلا.
﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ من هذه صفته، ﴿ عَلَى هُدًى ﴾ : أي مستقر ومستعل على بيان ونور ﴿ مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ : الفائزون بمطالبهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ .
: ستروا الحق وهجروا التوحيد ﴿ سَوَاءٌ ﴾ : مصدر وصف به ﴿ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ﴾ : تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه قيل في جواب أأنذرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، جملة مفسرة ومؤكدة .
﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ﴾، أي : طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾، أي : مواضعه أو أطلق مجازاً على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ : غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ : في الآخرة.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ : حقيقة لأن قلوبهم لا تطابق لسانهم نزلت في المنافقين.
﴿ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ : يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويعتقدون أنه ينفعهم عند الله كنفعهم عند بعض المؤمنين كما قال تبارك وتعالى :" يوم يبعثهم الله جميعا " الآية، أو يعملون عمل المخادع أو المراد من مخادعة الله مخادعة رسوله، ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ : دائرة الخداع راجعة إليهم في الدنيا أيضا مفتضحون ولا يحسون لغفلتهم.
﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ : شك ونفاق، ﴿ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ﴾ : كلما كفروا بآية ازدادوا مرضا ونفاقا، ﴿ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : مؤلم ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ : بسبب كذبهم ومن قرأ " يكذبون " بالتشديد فمعناه بتكذيبهم آيات الله.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ : للمنافقين ﴿ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ : بالكفر والمعصية وإظهار أسرار المؤمنين مع الكفار ﴿ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ أي على الهدى نداري الفريقين المؤمنين والكافرين ونصطلح معه ونريد الإصلاح بينهم وبين أهل الكتاب.
﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ : ردهم أبلغ رد لتعريضهم على المؤمنين في قولهم إنما نحن مصلحون.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ ﴾ : المهاجرون والأنصار أو مؤمنو أهل الكتاب، ﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ﴾ : الهمزة للإنكار واللام للناس والسفه خفة رأى وهذا قول سرهم فيما بينهم فأفضحهم الله، ﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾.
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ : صادفوا ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ : خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت معه وشياطينهم سادتهم أو أصحابهم ﴿ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ ﴾ : في الدين، ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ : نلعب بالمؤمنين.
﴿ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ : يجازيهم جزاء استهزائهم أو يرجع وباله إليهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما يُفتح لهم باب في الجنة فإذا انتهوا إليه سُدّ عنهم ورُدّوا إلى النار، ﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ : يملي لهم ويمهلهم فحذف اللام أو يزيدهم ويقويهم ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ : تجاوزهم عن الحد ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ : يتحيرون والعمه في البصيرة والعمى في البصر.
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ﴿ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ﴾، أسند إليها وهو لأربابها لمشابهة التجارة الفاعل من حيث إنها سبب الريح والخسران، ﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ : لطرق التجارة.
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ : أي : حالهم كحال الذين أوقدوا، ﴿ فَلَمَّا أَضَاءتْ ﴾، النار ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾، وأمنوا ما يخافون ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، المراد من إيقادها فبقوا في ظلمة وخوف، ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ : جمع الظلمة لكثرتها، ثم إن المنافقين بإظهار الإيمان أمنوا في الدنيا وإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، أو المراد إيمانهم أولا ثم كفرهم ثانيا، فيكون إذهاب النور في الدنيا كما قال تعالى :( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا( ، وهذا منقول عن كثير من السلف.
﴿ صُمٌّ ﴾ : أي : هم عن قبول الحق صم، ﴿ بُكْمٌ ﴾ : عن قول الحق، ﴿ عُمْيٌ ﴾ : لا يبصرونه، فهذا فدلكة التمثيل فالضمير للمنافقين أو للمستوقدين والمعنى لما أذهب نورهم أدهشتهم الظلمة بحيث اختلت حواسهم، ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ : إلى الهدى الذي باعوه.
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ ﴾ كأصحاب مطر أو سحاب وهو مثل آخر وأو للتساوي كجالس الحسن أو ابن سيرين، أي : أنت مخير في التمثيل بأيهما شئت، وقال بعض المفسرين : إن هذين مثلان لقومين أي : مثل بعضهم هذا ومثل بعضهم هذا فإنهم لا يخلون عن أحد هذين المثلين، ﴿ مِّنَ السَّمَاءِ ﴾ : من جميع جوانب السماء لا من أفق دون أفق وفهم هذا من السماء المعرف أو من السحاب ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ ﴾ : في الممطر أو السحاب ظلمة تكاثف المطر والغمامة والليل وهي فاعل الظرف، ﴿ وَرَعْدٌ ﴾ : ملك موكل بالسحاب فيطلق على صوته أو صوت يسمع من السحاب ﴿ وَبَرْقٌ ﴾ : نار تخرج من السحاب أو لمعان صوت الملك أو نار طارت من فيه إذا اشتد غضبه ﴿ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ ﴾ : أناملهم ﴿ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ ﴾ : شدة صوت الرعد ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ : مخافة الهلاك، ﴿ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴾ : لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به لا ينجيهم الخداع.
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ ﴾ : يأخذ بسرعة ﴿ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم ﴾ : أضاء لازم أو متعد، أي : أضاء لهم ممشى ﴿ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ﴾ وكذلك أظلم لازم أو متعد، ﴿ قَامُواْ ﴾ : وقفوا، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ ﴾ أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق ﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه، ﴿ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، فليحذروا شبّه القرآن والإيمان بالصيب وما فيه من شبه المبطلين واعتراضاتهم بالظلمات وما فيه من الوعيد والأهوال وذكر النار والحساب بالرعد فيسد أذنه مع أنه لا خلاص عنها ويدل عليه قوله تعالى :( والله محيط بالكافرين( واهتزازهم لما ظهر لهم من غنمية وراحة يطمح عليه أبصارهم بمشيهم في ضوء البرق وتحيرهم في الأمر وتوقفهم حين عروض شبهة أو بلاء ومحنة بتوقفهم إذا أظلم ثم ننبه بقوله :" ولو شاء الله لذهب " إلخ على أن السمع والبصر والتوسل إلى الفلاح وهم صرفوهما إلى الحظوظ العاجلة وسدوها عن الفوائد الحقيقية ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها فإنه قادر مطلق.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ عام للمؤمن والكافر والمنافق ﴿ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ : وحدوه، ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ : اخترعكم من غير سبق مثال ﴿ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، عطف على مفعول خلق، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، أي : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين، أو خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى أو خلقكم لكي تتقوا.
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾ : بساطاً غير حزنة غليظة، ﴿ وَالسَّمَاء بِنَاءً ﴾ : قبة مضروبة عليكم، ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ السحاب ﴿ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ بيان تقدم ﴿ رِزْقاً ﴾ : مرزوقاً أو من للتبعيض ورزقا مفعول له ﴿ لَّكُمْ ﴾ : صفة رزقاً على الأول ومفعول المصدر على الثاني، ﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً ﴾ : أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله تعالى ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ والحال أنكم من أهل العلم، أو تعلمون أن الأنداد لا تماثله بوجه.
﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ شك ﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا ﴾ : أي : القرآن، ﴿ عَلَى عَبْدِنَا ﴾ : محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ﴾ : طائفة من القرآن معبر عنها بسورة كذا ﴿ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ : مثل القرآن في البلاغة والإخبار عن الغيب، ﴿ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم ﴾ : واستعينوا بأعوانكم أو آلهتكم، ﴿ مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ : أي : ادعوا من شئتم غير الله، وقيل : ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم مثله ولا تستشهدوا بالله فإنه علامة العجز، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ : إنه من كلام البشر.
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ : فيما مضى ﴿ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ : بعده أبداً وهذه معجزة أخرى ﴿ فَاتَّقُواْ ﴾ : احذروا واتقوا بالإيمان ﴿ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا ﴾ : ما يوقد به النار ﴿ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ : حجارة الكبريت فتكون أشد وأنثن وأظلم وهو قول كثير من السلف وقيل حجارة الأصنام، ﴿ أُعِدَّتْ ﴾ : النار والحجارة ﴿ لِلْكَافِرِينَ ﴾.
﴿ وَبَشِّرِ ﴾ البشارة خير سار يظهر أثر السرور في البشرة ﴿ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ : عملاً بلا رياء، أو كل ما حسنه الشرع ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ : بأن لهم ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ : دار الثواب وهي سبعة ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ : تحت أشجارها وغرفها ﴿ الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا ﴾ مبتدأ من الجنات ﴿ مِن ثَمَرَةٍ ﴾ : بيان تقدم كرأيت منك أسداً } : ليس لهم خوف فوات نعمة.
ولما قالت الجهلة : الله أجل من أن يضرب الأمثال بالصيب والمستوقد وبيت العنكبوت والذباب فنزلت .
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي ﴾ : لا يستنكف من ﴿ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾ : أن يبيّن شبها ﴿ مَّا ﴾ أي : أي مثل ﴿ بَعُوضَةً ﴾ : صغار البق عطف بيان لمثلاً ﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ في الصغر والحقارة كجناحها أو في الكبر كالذباب، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾ المثل ﴿ الْحَقُّ ﴾ : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ﴿ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا ﴾ : أي شيء ﴿ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ : نصب على التمييز أو الحال، ﴿ يُضِلُّ بِهِ ﴾ : بالمثل ﴿ كَثِيراً ﴾ : من الكفار، أي : إضلال كثير وضع الفعل موضع المصدر جواب ماذا، ﴿ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ : من المؤمنين، ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ : الخارجين عن حد الإيمان.
﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ ﴾ : يفسدون ويتركون ﴿ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ : هو قوله :( ألست بربكم( ، أو عدم كتمان شيء نزل من عند الله في الكتب ﴿ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ : توكيد العهد من الآيات في الكتب ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ : أي : كقطع الأرحام والقرابات أو أعم كالإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الآيات في التصديق وهو بدل من ضمير به، ﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ : بأنواع المعاصي، ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ : باشتراء الفساد والعقاب بالصلاح والثواب.
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾ : معناه التعجب أي : أخبروني على أي حال تكفرون، ﴿ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ : تراباً أو نطفاً في أصلاب الآباء، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ : بخلق الحياة فيكم أو في الأرحام، ومعنى الفاء في الثاني أظهر، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ : في الدنيا، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ : عند نفخ الصور، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ : بعد الحشر لجزاء العمل.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم ﴾ : لأجل انتفاعكم ﴿ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ لكي تنتفعوا به وتعتبروا، جميعاً حال من ما، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ﴾، قصد وارتفع إليه فخلق السماء بعد خلق الأرض لكن دحوها متأخر هكذا ذكره ابن عباس وفيه إشكال سنذكره في سورة ( والنازعات ) والأولى أن ثم للتراخي الرتبي لا الزماني على أن فيه أيضا ما ستقف عليه، ﴿ فَسَوَّاهُنَّ ﴾ : الضمير للسماء لأنه في معنى الجمع عدلهن مصونة عن العوج والفتور ﴿ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ : بدل أو تفسير، ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فإن بالعلم يصح الخلق ويحكم الفعل.
﴿ وَإِذْ ﴾ : أي : واذكر إذ ﴿ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ : مطلق الملائكة أو ملائكة الأرضين وهو تعداد نعمة ثالثة عامة ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ : يعني آدم هو خليفة الله في أرضه ينفذ قضاء الله وأحكامه أو المراد من الخليفة البدل، أي : من الجن والملائكة فإنهما كانا سكان الأرض حينئذ أو المراد قوم يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن كقوله تعالى :( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض( ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ﴾ كما فعله الجن قبلهم وهو تعجب واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة، ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ ﴾ نبعدك عن السوء، ﴿ بِحَمْدِكَ ﴾ : متلبسين به، ﴿ وَنُقَدِّسُ ﴾ : نطهر نفوسنا عن المعاصي، ﴿ لَكَ ﴾ : لأجلك أو نقدسك عما أضاف إليك الفكرة فاللام زائدة، ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : من المصلحة أو بأن أجعل فيهم الأنبياء والصديقين والشهداء أو أعلم أن فيكم من يعصيني وهو إبليس.
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء ﴾ : خلق في قلبه علماً ﴿ كُلَّهَا ﴾ : اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة ، ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ : الضمير للمسميات إذ التقدير أسماء المسميات والتذكير لتغليب العقلاء ﴿ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي ﴾ : أخبروني ﴿ بِأَسْمَاء هَؤُلاء ﴾ تبكيت وتنبيه لهم على قصورهم، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ : أنكم أحقاء بالخلافة أو لن يخلق الله تعالى خلقاً أعلم منكم فإن الملائكة قالوا ذلك بينهم.
﴿ قَالُواْ ﴾ إقرار بالعجز ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾، صدروا الكلام به استعذاراً عن الجرأة في الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ ﴾ : الذي لا يخفى عليه خافية ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ : القاضي العدل، أو المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة.
﴿ قَالَ ﴾ : لما ظهر عجزهم ﴿ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم ﴾ : أعلمهم، ﴿ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾، قال أنت جبريل، أنت ميكائيل حتى وصل الغراب، ﴿ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ وظهر فضل آدم عليه السلام عليهم ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ﴾ استفهام توبيخ فإن الأدب التوقف لأن يبين، ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : ما غاب فيها عن الخلق، ﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ : أي : أعلم ما تظهرونه بألسنتكم وما تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء من قولكم علانية أتجعل فيها من يفسد فيها وسراً لن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منا وما أسر إبليس من الكبر في نفسه.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ﴾ عطف على " وإذ قال " ﴿ لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ : السجود حقيقي طاعة لله وتعظيماً لآدم وهو مشروع قبل انحناء لا وضع جبهة أو السجود لله وآدم قبلة وقد ضعفهما بعض العلماء ﴿ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ صح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه من نوع من الملائكة المسمين بالجن وصح عن الحسن رضي الله عنه أنه ليس منهم ﴿ أَبَى ﴾ : امتنع، ﴿ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ ﴾، في سابق علم الله أو صار ، ﴿ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾، أو كان كافراً من الجن فأسلم وعمل الملك ثم كفر.
﴿ وَقُلْنَا ﴾، بعد سجود الملائكة، ﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾، دار الخلد وقيل بستانا في الأرض، ﴿ وَكُلاَ مِنْهَا ﴾، أكلا، ﴿ رَغَداً ﴾، واسعاً، ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾، أي : مكان من الجنة، ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾، بالأكل والأصح أنها شجرة معينة لا تتعين عندنا، ﴿ فَتَكُونَا ﴾، عطف على " تقربا " أو جواب النهي ﴿ مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾ : الذين وضعوا أمر الله تعالى غير موضعه.
﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ : الضمير للشجرة، أي : حملهما على الزلة بسببها أو للجنة أي فبعدهما عن الجنة، ﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ : من النعيم والكرامة، ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ﴾ : انزلوا على الأرض جمع الضمير لأنهما أصلا الإنس فكأنهما الجنس أو المراد هما والشيطان ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ أي : متعادين والعداوة بين ذريتهما لقوله تعالى :( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ( ، أو بين المؤمنين والشيطان، ﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ : موضع قرار ﴿ وَمَتَاعٌ ﴾ : تمتع ﴿ إِلَى حِينٍ ﴾ : الموت وقيل القيامة.
﴿ فَتَلَقَّى ﴾ تلقن ﴿ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ : ومن قرأ برفع كلمات ونصب آدم فمعناه بلغته وهي :" ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية أو غيرها ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ : رجع عليه بالرحمة، ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ يقبل التوبة ويكثر إعانتهم عليها ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ : المبالغ في الرحمة.
﴿ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾ كرر للتأكيد وليترتب عليه قوله ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾ : يا بني آدم، ﴿ مِّنِّي هُدًى ﴾ أنبياء والبيان، ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾ : أقبل على الهدى وقبل ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ حين يشتد الأمر على العصاة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما فاتهم من أمور الدنيا، والشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ قسيم لم تبع، أي : كفروا بالآيات المنزلة جناناً وكذبوا لساناً، أو كفروا بالله وكذبوا بالآيات ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾
أي : أولاد يعقوب هيجهم بذكر أبيهم، أي : يا بني العبد المطيع لله ﴿ اذْكُرُواْ ﴾ : احفظوا ولا تنسوا، أو اشكروا، ﴿ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ : فلق البحر وجعل الأنبياء فيهم وإنجاءهم من فرعون وغيرها ولا شك أن نعمة الآباء نعمة الأبناء، ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ﴾ في محمد عليه الصلاة والسلام أو في امتثل أمري، ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ : ارضى عنكم وأدخلكم الجنة، أو بالقبول والثواب، ﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ خصوصا في نقض العهد.
﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ ﴾، أي : القرآن ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ فإنكم تجدون محمداً مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ : أول فوج يكفر بما أنزلت من أهل الكتاب، ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ ﴾ : لا تستبدلوا، ﴿ بِآيَاتِي ﴾ : بالإيمان بها ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ : الدنيا بحذافيرها، أو ما يصيب العلماء من السفلة فإنهم عينوا كل سنة للعلماء شيئا فخافوا إن أسلموا يفوت ذلك عنهم وتفوت الرياسة أيضا، فكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ : أي : فاخشون لا فوات الرياسة.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾، أي : لا تخلطوه، فإن علماء اليهود يزيدون في آيات الله ما يشتهون، ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾، عطف على المنهي، أو وأن تكتموا الحق فالواو للجمع، أي : لا تجمعوا بينهما، ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ بأنكم تكتمون وتلبسون.
﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ أي : صلاة المسلمين، ﴿ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾، أي : زكواتهم والمراد طاعة الله تعالى والإخلاص، ﴿ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ أي : كونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم وهو الصلاة، عبر عن الصلاة بالركوع لأن صلاة اليهود ليس فيها ركوع.
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ﴾ : بالإيمان، ﴿ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ : تتركوها من البر كالمنسيات، نزلت في أخبار اليهود ينصحون سرا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام ولا يتبعونه ، ﴿ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ﴾ : تقرءون، ﴿ الْكِتَابَ ﴾ : التوراة التي فيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ : قبح صنيعكم.
﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾ : لما أمروا بما هو شاق عليهم وهو ترك المال والرياسة عولجوا بالاستعانة على طلب الآخرة بحبس النفس عن المعاصي أو الصيام لما فيه من كسر الشهوات أو الصبر على أداء الفرائض والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ﴿ وَإِنَّهَا ﴾ أي : الصلاة فإن الصبر داخل فيها، قيل : تقديره إنه لكبير وإنها لكبيرة فحذف اختصاراً ولم يقل وإنهما إشارة إلى أن كلا منهما لكبير، أو الضمير للاستعانة ﴿ لَكَبِيرَةٌ ﴾ : ثقيلة ﴿ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ المؤمنين حقا الساكنين إلى الطاعة، قال ابن جرير : الآية عامة لبني إسرائيل وغيرهم.
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ : يتيقنون ﴿ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ﴾ : محشورون إليه، ﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ : أمورهم راجعة إليه فيحكم بالعدل.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ وهو كما مر جعل الأنبياء فيهم وخلاصهم من البلاء كرره تأكيداً، ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ ﴾ : بما أعطيتم من الملك والكتب والرسل ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : عالمي زمانكم وتفضيل الآباء شرف الأبناء.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً ﴾ : احذروا ما فيه من العقاب ﴿ لاَّ تَجْزِي ﴾ : لا تقضي فيه ﴿ نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ : من الحقوق أو من الجزاء فنصبه على المصدر حينئذ والجملة صفة يوما، ﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ : في شأن الكفار رد عليهم حيث قالوا : آباؤنا الأنبياء شفعاء لنا، ﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ : فداء وقيل بدل، ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ ولا لهم ناصر يمنعهم من العذاب.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم ﴾ : عطف على نعمتي وتفصيل لها ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ : أتباعه ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ : يبغونكم، والجملة حال، ﴿ سُوَءَ الْعَذَابِ ﴾ : أفظعه وأشده نصب على مفعول يسومونكم ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾ : يقتلون بيان ليسومونكم ﴿ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ ﴾ يتركون أحياء للخدمة ﴿ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم ﴾ صنيعهم، ﴿ بَلاءٌ ﴾ : محنة ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ : أو الإشارة إلى الاتجاه فالبلاء بمعنى النعمة وهو قول كثير من السلف .
﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا ﴾ : فصلنا بين بعضه وبعض ﴿ بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ : كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما أو بسببكم أو ملتبسا بكم ﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ اقتصر على ذكر الآل للعلم بأن فرعون أولى بالغرق، ﴿ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ : غرقهم.
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا ﴾ : واعدنا بمعنى وعدنا، أو الله وعد الوحي وموسى المجيء إلى الطور ﴿ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾، يعني انظر إلى نعمتي عليهم ثم إلى كفرانهم ثم إلى عفوي عنهم، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾، إنها، ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ بعد مضى موسى، ﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾، بشرككم.
﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا ﴾ : محونا ذنوبكم، ﴿ عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾، أي : الاتخاذ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ لكي تشكروا عفوي.
﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾، أي : الجامع بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل وقيل الفرقان انفراق البحر، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ : لكي تهتدوا بالكتاب.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ : العابدين للعجل، ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾ : معبوداً، ﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ : خالقكم، قالوا كيف نتوب ؟ قال :﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي : كل منكم من لقي فأصابتهم سحابة سوداء لا ينظر بعضهم بعضاً ففعلوا فغفر الله للقاتل والمقتول والقتلى سبعون ألفاً أو ليقتل البريء المجرم، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾، أي القتل، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ﴾، من حيث إنه وصلة إلى الحياة الأبدية، ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾، أي : ففعلتم فتاب عليكم، ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ : الذي يكثر قبول التوبة، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ : المبالغ في الرحمة.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ ﴾ : لن نقر، ﴿ لَكَ ﴾، أي : اذكروا نعمتي بعد الصعق، إذ سألتم ما لا يستطاع لكم، فإن موسى اختار سبعين رجلاً ليعتذروا إلى الله من الشرك، فلما سمعوا كلام الله قالوا ذلك، ﴿ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ : عياناً ونصبه على المصدر أو الحال، ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ : صيحة من السماء أو نار، ﴿ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ : ما أصابكم فلما هلكوا بكى وتضرع موسى قائلا : ماذا أقول لبني إسرائيل إذ أهلكت خيارهم ؟ فتضرع وتناشد حتى أحياهم الله تعالى وهذا قوله.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم ﴾ : أحييناكم، ﴿ مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ : بسبب الصاعقة، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ : نعمة البعث.
وكلام بعض السلف أن طلب الرؤية حين خرجوا لأجل التوبة من عبادة العجل، وكان قبل الأمر بالقتل، وكلام بعض أخر أن هذا بعد القتل والله أعلم.
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ﴾ : السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه، ﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ﴾ : الترنجين أو عسلاً ألذ من عسلنا أوخبز الرقاق، ﴿ وَالسَّلْوَى ﴾ طير هو السماني أو يشبه السماني، ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾، أي : قلنا لهم كلوا من حلالات، ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾، يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا فحذف اختصاراً، ﴿ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ : بالكفران.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ ﴾ : أمروا به بعد التيه، ﴿ هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾، بيت المقدس أو أريحا، قيل هم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ﴾ : واسعاً منصوب على المصدر، ﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ ﴾ : القرية، ﴿ سُجَّداً ﴾ : منحنين كالركع تواضعاً أو ساجدين لله شكراً، ﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾، أي : مسألتنا خطة، أي حط عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أي مغفرة استغفروا، وقيل أقروا بالذنب، قال عكرمة : قولوا لا إله إلا الله ﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾ : بسجودكم ودعائكم وهو جواب الأمر، ﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ : ثوابا وإحساناً.
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ : فقالوا حبة في شعرة، أو حنطة، وحاصله أنهم أمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يستغفروا فاستهزءوا وهذا غاية العناد والمخالفة، ولهذا قال الله تعالى ﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء ﴾ : عذاباً أو طاعوناً أو برداً، ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ : بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى.
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾، أي : اذكروا نعمتي في إجابتي دعاء نبيكم في شأنكم لما عطشتم في التيه، ﴿ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾ : حجر خفيف مربع قيل إذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء، وعند بعض أنه لم يكن حجراً معيناً، بل يضرب أي حجر كان فينشق ﴿ فَانفَجَرَتْ ﴾، تقديره فضرب فانشقت، ﴿ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ : كل سبط، ﴿ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ : عينهم التي يشربون منها خاصة بهم، ﴿ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾، أي : قلنا لهم ذلك، ﴿ مِن رِّزْقِ اللَّهِ ﴾، أي : ما رزقكم الله من المن والسلوى وماء العين، ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ ﴾ : لا تعتدوا، ﴿ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ : حال إفسادكم .
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ ﴾، أي : اذكروا نعمتي في إنزال المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً ثم اذكروا سؤالكم استبدال الأطعمة الدنية بذلك، ﴿ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾، كانوا يأكلون المن بالسلوى فيكون واحداً أو أرادوا بالوحدة أنها لا تتبدل كما يقال طعام فلان واحد، أي لا يتغير ألوانه، ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ : سله بدعائك لنا إياه، ﴿ يُخْرِجْ لَنَا ﴾ : يظهر لنا مجزوم بجواب فادع، ﴿ مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا ﴾ : من الخضروات ما لا ساق لها تفسير لما تنبت وقع موقع الحال، ﴿ وَقِثَّآئِهَا ﴾، هو معروف، ﴿ وَفُومِهَا ﴾، هو الحنطة أو الثوم والعرب تقلب الفاء ثاء والثاء فاء، أو الخبز أو اسم لكل حب يؤكل، ﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ ﴾ : موسى، ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾ : أخس، ﴿ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ : المن والسلوى لنفعهما أو طعمهما وعدم الحاجة إلى السعي، ﴿ اهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ : مصراً من الأمصار، أي : هذه الأشياء كثيرة في الأمصار لا حاجة إلى الدعاء أو مصر فرعون وجاز صرفه لسكون وسطه، ﴿ فَإِنَّ لَكُم ﴾ : فيها، ﴿ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ﴾ : كضرب القبة، ﴿ الذِّلَّةُ ﴾ : الجزية فيكون المراد يهود وقعوا في عصر نبينا عليه الصلاة والسلام أو الهوان، ﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ : الفاقة أو فقر القلب ولم يزل عليهم أثر البؤس وإن كانوا ذوى مال، ﴿ وَبَآؤُوْاْ ﴾، أي : صاروا أحقاء، ﴿ بِغَضَبٍ ﴾
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، أي : قبل البعث مثل " حبيب النجار " وبحيرا الراهب " وغيرهما أو المؤمنين من الأمم الماضية أو المؤمنين من هذه الأمة أو المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ ﴾ : دخلوا في دين اليهودية، ﴿ وَالنَّصَارَى ﴾ : أهل دين عيسى، ﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ : الخارجين من دين إلى دين قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، أو فرقة من أهل الكتاب أو عباد الملائكة أو قوم يوحدون الله ولا يتبعون نبيّا، ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾، أي : من آمن إيمانا معتدّاً به فدخل فيه من استقر على دينه قبل النسخ كاليهود قبل بعثة عيسى والنصارى قبل والصابئون من آمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ : بوعده، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ : في الآخرة حين الفزع الأكبر، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : على تفويت الثواب، ومن مبتدأ " فلهم أجرهم " خبره والجملة خبر إن، أو بدل بعض من اسم إن وخبرها، فلهم أجرهم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ : باتباع أحكام التوراة ذكرهم ما أخذ عليهم من العهود، ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾، لما نزل التوراة أبوا قبولها لما فيها من التكاليف فأمر جبريل بقلع جبل الطور فظلله فوقهم حتى كان قبل الأمر بالقتال/١٢ ] قبلوا، ﴿ خُذُواْ ﴾ أي : قلنا له خذوا، ﴿ مَا آتَيْنَاكُم ﴾ : من الكتاب واعملوا به، ﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ : بجد وطاعة، ﴿ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ﴾ : اقرءوا ولا تنسوه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ : لكي تتقوا عن المعاصي.
﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ : أعرضتم عن الوفاء بعد أخذ الميثاق، ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ : بتوبته عليكم أو بتأخير العذاب، ﴿ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ : المغبونين الهالكين.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ﴾، حال، ﴿ الَّذِينَ اعْتَدَواْ ﴾ : جاوزوا عن الحد، ﴿ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾، أمرناهم بالعبادة وترك صيد البحر فيه فخالفوا، ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾، أي : نودوا يا أهل القرية كونوا قردة أو معناه بتكويننا إياهم، وليس ثم قول والمسخ صوري ومعنوي والخسء الصغار والطرد.
﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ : المسخة أو القردة أو القرية، ﴿ نَكَالاً ﴾ : عبرة، ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ : لمعاصريهم أو لما بحضرتها من القرى أو لأهل تلك القرية أو لأجل ما تقدم من ذنوبهم وهو قول كثير من السلف، ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾، من بعدهم أو ما تباعد عنها أو ما حواليها أو لما تأخر من الذنوب ، ﴿ وَمَوْعِظَةً ﴾ : وزجراً، ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ : الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى ﴾، أي : اذكروا نعمتي في خرق العادة لكم، ﴿ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾، وذلك أنه وجد قتيل فيهم وكانوا يطالبون بدمه فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله، ﴿ قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾، أي : مهزوءاً بنا أو نفس الهزؤ للمبالغة، ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾، فإن الهزؤ في مثل ذلك جهل، بل يوهم أن يكون كفراً لأنه أخبر من الله.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾ : ما صفتها شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ ﴾ : لا هرمة كبيرة، ﴿ وَلاَ بِكْرٌ ﴾، لا صغيرة لم يلحقها الفحل، ﴿ عَوَانٌ ﴾ : وسط، ﴿ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ المذكور من الفارض والبكر، ﴿ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾، أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾، الفقوع خالص الصفرة وأشد ما يكون منها أو صافية اللون تكاد تبيض وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء فضل تأكيد كأنه قال صفراء شديد الصفرة صفرتها، ﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ : تعجبهم.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ : أسائمة أم عاملة، ﴿ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ : لكثرة البقر الموصوف بالوصف المذكور، ﴿ وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ : إلى وصفها أو إليها إذا بينتها لنا.
﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ : غير مذللة للعمل صفة بقرة، ﴿ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ : تقلبها للزراعة صفة ذلول، ﴿ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾، لا مزيدة للتأكيد ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾، عن العيب أو أخلص لونها قيل سلمها أهلها من العمل، ﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾، لونها واحد لا سواد فيها ولا بياض، ﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾، بحقيقة وصف البقرة لنا، ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾، أي : حصلوها فذبحوها، ﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾، لتطويلهم وكثرة مراجعتهم كذا حاصل كلام ابن عباس رضي الله عنهما أو لغلائها فإنهما اشتروها بثمن كثير وصح عن عكرمة : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير أو الخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾، هذا أول القصة وإنما قدم البعض لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك مسارعة الامتثال، ﴿ فَادَّارَأْتُمْ ﴾ : اختلفتم واختصمتم، ﴿ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ : مظهر لا محالة أمر القاتل، وإعمال مخرج لأنه حكاية مستقبل.
﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ﴾، أي : القتيل عطف على فادرأتم، ﴿ بِبَعْضِهَا ﴾، أي البقرة وفيه خلاف أنه كان بعضاً معيناً أو لا وإن كان معيناً فأي عضو منها، ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى ﴾، يدل على محذوف هو فضربوه فحيى، ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ : دلائل كمال قدرته، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس.
﴿ ثُمَّ قَسَتْ ﴾ : غلظت حتى لم تعتبر بالآيات، ﴿ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ : جميع الآيات التي تقدم ذكرها أو إحياء القتيل وثم للاستبعاد، ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ﴾ : في صلابتها، ﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ : منها كالحديد وأو للتخيير أي : من عرف حالها صدر عنه التشبيه بالحجارة، أو القول بأنها أشد أو شبهها بهذا أو ذاك أو بمعنى بل أو قلب بعضهم كالحجارة وبعضهم أشد يعني قلوبهم لا تخرج من أحد المثلين عطف على كالحجارة من غير حذف أي : قلوبهم أشد قسوة من الحجارة أو على حذف مضاف هو مثل أي مثل شيء أشد، ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ﴾، تعليل للأشدية، ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء ﴾، أي : ولم يكن جارياً، ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ﴾ : من رأس الجبل، ﴿ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ( ( * )أي : التفجر ) ﴾ وهل لمسلم أن ينكر قدرة الله تعالى في خلق الخشية والتسبيح في الجمادات ؟ نعم لمن يتبع الفلسفة أن يتحمل التمحل في أمثال ذلك والله تعالى بمحض فضله قد عصمنا منه، قال بعض السلف الأول ( ( * )أي : التفجر ) كثرة البكاء والثاني ( ( ** )أي الانشقاق ) قلته والثالث بكاء القلب من غير دمع، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، وعيد على ذلك.
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ ﴾، أيها المؤمنون، ﴿ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ﴾، تحدث اليهود الإيمان لأجل دعوتكم، ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ : طائفة من أسلافهم، ﴿ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ﴾، هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام وبعدا ما رجعوا حرفوا كلام الله تعالى، أو المراد علماؤهم يحرفون التوراة، ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ : يغيرونه، ﴿ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ : فهموه، ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أنهم مفترون وإذا كان هذا حال علمائهم فما طمعكم بسفلتهم وجهالهم.
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾، أي : منافقوا اليهود، ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ : بأنكم على الحق ورسولكم مبشر في التوراة، ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ ﴾، عاتب من لم ينافق على من نافق بقوله ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ : في التوراة من صفة النبي عليه الصلاة والسلام،
﴿ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ : لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الدنيا والآخرة فيقولوا : كفرتم بما علمتم صدقه، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، أي : أليس لكم عقل وهو من كلام رؤسائهم أو كلام الله تعالى، أي : لا تعقلون حالهم وأن لا مطمع في إيمانهم، قال مجاهد : قال النبي عليه السلام ليهود قريظة : يا إخوة القردة والخنازير، فقالوا من أخبر بهذا محمداً ما خرج هذا إلا منا أفتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله والأول قول أكثر السلف ويمكن أن يكون هذا القول تخويف رؤسائهم جهلتهم ليردعوا عن إظهار ما في التوراة مع المؤمنين لا أنه من صميم القلب أو اعتقادهم أنهم مؤاخذون بما تكلموا به لا بما اعتقدوا وأسروا في أنفسهم ولهذا قال الله تعالى.
﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ﴾، من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾، منه فالحجة عليهم ثابتة حدثوا به أو ما حدثوا وما يسرون من الكفر وما يظهرون من الإيمان.
﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ : من اليهود، ﴿ أُمِّيُّونَ ﴾، من لا يكتب ولا يقرأ، ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾، أي : لكن يعلمون الأكاذيب التي سمعوا من كبرائهم أو غير عارفين بالكتاب إلا أنهم يقرؤون قراءة عارية عن معرفة المعنى وعلى هذا الاستثناء متصل وهذا لا ينافي كونهم أميين فإنهم مع كونهم لا يمكن لهم أن يقرؤوا من الكتاب شيئا يحفظون الكتاب أو يتمنون على الله تعالى كقولهم :﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ ، و﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ﴾ الآية ، ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾، قوم ليس لهم إلا ظن لا علم لهم أو يكذبون.
﴿ فَوَيْلٌ ﴾ : هلاك أو واد في جهنم ﴿ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ﴾، هم أحبارهم حرفوا كتاب الله زادوا فيه ونقصوا، ﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، ليستبدلوا به رئاستهم وما يصل إليهم من سفلتهم، ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من الكذب، ﴿ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ : من السفلة أو مما يكسبون من المعاصي والأولى أن يكون ما مصدرية في مما كتبت ومما يكسبون.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، أي : اليهود، ﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ : قليلة سبعة أيام بكل ألف سنة من الدنيا يوماً أو أربعين يوماً لأن عبادة العجل كانت أربعين يوماً، ﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ أَتَّخَذْتُمْ ﴾، همزة الاستفهام دخلت على ألف الوصل، ﴿ عِندَ اللّهِ عَهْداً ﴾، ميثاقاً بذلك، ﴿ فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ﴾، أي : إن اتخذتم عهداً فهو لا يخلف الميثاق، ﴿ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أم معادلة للاستفهام، أي : أي الأمرين كائن أو منقطعة بمعنى بل.
﴿ بَلَى ﴾، إثبات لما نفوه من خلود النار، ﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾، أي : شركاً أو كبيرة، ﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾، أي صار كالشيء المحاط لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا شأن الكافر، ﴿ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، ذكرهم بما أمرهم في التوراة، ﴿ لاَ تَعْبُدُونَ ﴾، وهو نفي بمعنى النهي مقدر بالقول أو تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف " أن صار الفعل مرفوعاً فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار ، ﴿ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾، تقديره تحسنون أو وأحسنوا بهما إحساناً، ﴿ وَذِي الْقُرْبَى ﴾ : القرابة، ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ : من لا يجد ما ينفق على نفسه وأهله، ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ : قولاً حسناً وسماه حسناً للمبالغة دخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ : بطريق فرض عليكم في ملتكم، ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن الميثاق وهو التفات سواء كان خطاباً مع الموجودين ومن قبلهم بالتغليب أولا، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ ﴾ من ثبت على اليهودية قبل نسخها أو من أسلم، ﴿ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ﴾ : قوم عادتكم الإعراض.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ : في التوراة، ﴿ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ﴾ : بأن لا يقتل بضعكم بعضاً، ﴿ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ : ولا يخرجه من منزله، ﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾، اعترفتم بلزوم الميثاق، ﴿ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ : على أنفسكم بذلك أو أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم.
﴿ ثُمَّ ﴾، للاستبعاد، ﴿ أَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ﴾، الجملة حال والعامل معنى الإشارة أو بيان لهذه الجملة، ﴿ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم ﴾، تتعاونون والجملة حال، ﴿ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ بالمعصية والظلم، ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى ﴾ : يطلبون الفداء، ﴿ تُفَادُوهُمْ ﴾، فديتموهم، كانت قريظة حلفاء الأوس والنظير حلفاء الخزرج فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فنزلت، ﴿ وَهُوَ ﴾، أي : الشأن، ﴿ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾، فاتصل بقوله وتخرجون فريقا وما بينهما اعتراض أو هو مبهم وإخراجهم تفسيره، ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ﴾، أي الفداء، ﴿ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾، أي : القتل والمظاهرة والإخراج ، ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ ﴾ : عذاب وهوان، ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : خزي قريظة كان القتل والسبي ولبني نضير الجلاء وضرب الجزية على غيرهم، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾، أي : أشد أنواعه، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، تأكيد للوعيد.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ ﴾ : آثروها على الآخرة، ﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ ﴾، لا يهون ولا ينقص، ﴿ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ : يمنعون من عذاب الله.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ : التوراة، ﴿ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ : أرسلنا على أثره الرسل، ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾، ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى وبعض أحكامه مخالف للتوراة والبينات إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام وإخباره بالغيب، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾، أي : جبريل فإنه كان قرينه يسير معه حيث سار، أو الاسم الذي به يحيى الموتى، أو الإنجيل أو الروح الذي نفخ فيه،
﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ ﴾ وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به " وهو ولقد آتينا " توبيخاً لهم على تعقيبهم ذاك بهذا، ﴿ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى ﴾ : ما لا تحب، ﴿ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ : عن اتباعه، ﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ﴾ : كعيسى ومحمد عليهما السلام، ﴿ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾، كزكريا ويحيى جاء بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية ولمراعاة الفواصل.
﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ : أوعية للعلم لا يحتاج إلى علم آخر، أو عليها غشاوة، أو لا نفقه ما تقول كما في قوله تعالى :" وقالوا قلوبنا في أكنة " ، ﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ﴾ أي : ليس الأمر كما زعموا أن قلوبهم أوعية للعلم بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها بكفرهم أو قلوبهم لم تأب قبول الحق لخلل فيها بل لأن الله طبع عليها بالكفر، ﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾، أي : يؤمن منهم القليل فقليلاً حال، أو إيماناً قليلاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب، أو لا يؤمنون أصلاً لا كثيراً ولا قليلاً.
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ﴾، أي : القرآن، ﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ : التوراة وجوابه محذوف دل عليه جواب لما الثانية، أو لما الثانية تكرار للأول فإن ما عرفوا والكتاب واحد والفاء للإشعار بأن مجيئه كان عقيب استفتاحهم به، ﴿ وَكَانُواْ ﴾ : اليهود والواو للحال، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ : قبل نزوله، ﴿ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ : يستنصرون على المشركين يقولون اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوث في التوراة، ﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ ﴾ : من الحق، ﴿ كَفَرُواْ بِه ﴾ : بغيا وحسدا، ِ ﴿ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ﴾، ما نكرة مميزة لفاعل بئس المستتر فيه والفعل صفته، أي : بئس ما باعوا فإنهم باعوا ثوابها بالكفر، ﴿ أَن يَكْفُرُواْ ﴾، هو المخصوص بالذم، ﴿ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً ﴾، أي : أن يفكروا حسداً، ﴿ أَن ﴾، أي : لأن، ﴿ يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ : النبوة والكتاب، ﴿ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾، فإن كفرهم للحسد على أن النبوة في غيرهم، ﴿ فَبَآؤُواْ ﴾ : رجعوا ، ﴿ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾، لكفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو القرآن بعد كفرهم بعيسى وتضييعهم التوراة والإنجيل، أو عبادتهم العجل وقوله بغضب ظرف لغو وعلى غضب صفة له، ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾، فإن عذابهم للإهانة وعذاب العاصي للطهير.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ : اليهود، ﴿ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ : القرآن، ﴿ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ : التوراة، ﴿ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ : بما سواه أو بما بعده، ﴿ وَهُوَ ﴾، أي : ما وراءه، ﴿ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾، فإن القرآن مصدق للتوراة، ﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان بالتوراة، ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، وفعل آبائهم فعلهم مع أنهم رضوا به.
ثم يعد عليهم قبائحهم بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ : اليد والعصا وغيرهما، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾، إلها، ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ : بعد مجيئه رسولاً أو ذهابه إلى الطور، ﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ : قوم عادتكم الظلم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ : قلنا لكم، ﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ﴾ : ما أمرتم به في التوراة، ﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ : بجد، ﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾ : أطيعوا، ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا ﴾ : قولك أو بالآذان، ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ : أمرك أو بالقلوب وليس هذا بألسنتكم لكن لما سمعوا وتلقوه بالمعصية نسب إلى القول اتساعاً، ﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾، أي : أشربوا في قلوبهم حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم وفي كلام السلف : لما أحرق العجل برد بالمبرد ثم نسف في الماء فمن شرب وفي قلبه حب العجل اصفر لونه، ﴿ بِكُفْرِهِمْ ﴾، فإنهم مجسمة فأعجبوا العجل، ﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ : بالتوراة كما زعمتم فبئس ما أمركم به إيمانكم بها والمخصوص بالذم محذوف أي : هذا الأمر وحاصله لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني آباءهم، وأنتم لو كنتم مؤمنين ما كذبتم محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ ﴾، أي : في علم الله وحكمه، ﴿ خَالِصَةً ﴾، أي : خاصة بكم كما تقولون :" لن يدخل الجنة إلا من كان هودا " الآية ، منصوب على الحال، ﴿ مِّن دُونِ النَّاسِ ﴾، أي : الباقين، ﴿ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، أي : ادعوا بالموت على الكاذب من الفريقين، والمراد منه المباهلة كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أو معناه فسلوا الموت لأن من أيقن أن مأواه الجنة حن إليها سيما إذا علم أنها لا يشاركه فيها غيره.
﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ : للعلم بكذبهم، ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ : كتحريف التوراة وإضافته إلى اليد ؛ لأن أكثر الجنايات باليد فأضيف إليها الأعمال وإن لم يكن لليد فيها مدخل، ﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴾ : تهديد.
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾، أي : على نوع من الحياة وهو طول العمر لعلمهم بسوء عاقبتهم، ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾، عطف في المعني على الناس، أي أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، أو عطف على أحرص بتقدير وأحرص من الذين وهو عطف الخاص على العام أو اليهود أحرص منهم مع أن المشركين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم إليها شديد، وزيادة حرص اليهود لعلمهم بأنهم صائرون إلى النار بخلاف المشركين، قيل : تقديره : ومن الذين أشركوا ناس يود أحدهم فمن الذين أشركوا خبر مبتدأ محذوف صفته " يود أحدهم "، فإن من اليهود من قال : عزير ابن الله فيكون مشركاً، ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ﴾، أي : اليهود جملة مستأنفة، ﴿ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾، لو للتمني، ﴿ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ ﴾ : بمعيده، ﴿ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾، وضمير هو لمصدر يعمر، وأن يعمر بدله، أو لأحدهم وأن يعمر فاعل بمزحزحه، ﴿ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾.
﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ﴾ أي : القرآن، ﴿ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : بأمره وجواب الشرط محذوف، أي : من كان عدوه فلا إنصاف له، فإنه نزله أو تقديره فهو عدو لي، فليعلم أنه نزله، أو فليمت غيظا، ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ : لما قبله من الكتب نزلت جوابا لليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ولولا أنه ولي محمد عليه الصلاة والسلام لآمنوا، ﴿ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، ورد عليهم حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة، فقال الله : إنه ينزل بهما على الكافرين وبهدى وبشرى للمؤمنين.
﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾، فيه تنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء فمن عادى أحدهم فقد عادى الجميع ووضع الظاهر أي : للكافرين موضع المضمر للدلالة على أن عداوة الله لهم لكفرهم وعداوتهم كفر وقيل الواو هاهنا بمعنى أو.
﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾، نزلت في ابن صوريا حين قال : يا محمد ما أنزل إليك آية بينة فنتبعك [ ( * ) أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، كما في الدر المنثور للسيوطي ( ١/١٨ ) ]، ﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴾، المتجاوزون عن الحد.
﴿ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً ﴾، عطف على محذوف والهمزة للإنكار، أي : أكفروا بالآيات، وكلما عاهدوا نزلت حين ذكرهم نبينا عليه الصلاة والسلام ما أخذ عليهم من الميثاق في شأنه قالوا : والله ما عهد إلينا ولا أخذ ميثاق في شأنك. ﴿ نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ : نقضه وطرحه، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، رد لما يتوهم أن الفريق هم الأقلون، فإنهم بين ناقض عهد أو جاحد معاند، والمؤمنون أقلون.
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾، كعيسى ومحمد عليهما السلام، ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ ﴾، أي : التوراة، فإنهم جحدوا ما فيها من صفة محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ﴾، كشيء يرمى وراء الظهر غير ملتفت إليه، ﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ : ما فيها مع أنهم عالمون.
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ﴾، عطف على نبذ، أي : تركوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرأها الشياطين وتحدثها، ﴿ عَلَى ﴾ : عهد، ﴿ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾، أي : في زمانه وتعديته بعلى لتضمين الكذب فإن الشياطين كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم لما مات سليمان أو نزع منه ملكه استخرجوه، وقالوا : تسلطه في الأرض لهذا السحر، فتعلموه، وبعضهم نفوا نبوته وقالوا : ما هو إلا ساحر فبرأه الله مما قالوا فقال :﴿ وَمَا كَفَرَ ﴾ : عبر عن السحر بالكفر لتغليظه، ﴿ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾، إشارة إلى ما كتبوا من السحر، ﴿ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾، عطف على السحر أو على ما تتلوا، أي : يعلمونهم ما ألهما، ﴿ بِبَابِلَ ﴾، ظرف أو حال، وهو اسم موضع من الكوفة، ﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾، عطف بيان للملكين وعند بعض من السلف أن ما نافية، فيكون عطفا على ما كفر، أي : ما كفر سليمان ولا أنزل على الملكين، أي : جبريل وميكائيل، فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلي سليمان فردهم الله وعلى هذا، فقوله :" ببابل " متعلق بيعلمون وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله تعالى بالسحر وقعا بدل بعض من الشياطين، ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ ﴾، أي : الملكان، أو الرجلان، ﴿ مِنْ أَحَدٍ ﴾، أي : أحداً، ﴿ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ﴾ : ابتلاء واختبار، ﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ : بتعلمه وذلك لأن تعلمه للعمل كفر أو تعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصحية منهما له، ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ﴾، ضمير الجمع لما دل عليه من أحد، ﴿ مَا يُفَرِّقُونَ ﴾ : من السحر، ﴿ بِهِ ﴾ : بسببه، ﴿ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم ﴾، أي : السحرة، ﴿ بِضَآرِّينَ بِهِ ﴾ : السحر، ﴿ مِنْ أَحَدٍ ﴾ : أحداً، ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : إرادته، ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾، أي : نفعاً يوازي ضره، ومجمل قصتهما أن الملائكة طعنوا أهل الأرض فسادهم، فقال الله تعالى لهم : لو كنتم على طبعهم لكنتم مثلهم، فقالوا : نحن لا نعصي إلهنا، فاختار الله تعالى من بينهم ملكين من أعبدهم وركب فيهما الشهوة وأرسلهما إلى الأرض فعصيا فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختار عذاب الدنيا، فالآن هما معذبان إلى يوم القيامة والله يمتحن عباده بهما، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ ﴾ : اليهود، ﴿ لَمَنِ اشْتَرَاهُ ﴾ : استبدل السحر بكتاب الله تعالى واللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل، ﴿ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ : من نصيب، ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ ﴾، أي : باعوا، ﴿ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ : حقيقة ما فعلوا.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾ : بمحمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ واتَّقَوْا ﴾، نبذ كتاب الله تعالى واتباع كتب الشياطين، ﴿ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ ﴾، أي : لشيء من الثواب خير لهم، أو جواب لو محذوف وهو لأثيبوا ولمثوبة إلخ. . استئناف واختيار الجملة الاسمية في جواب لو للدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما في سلام عليك وأصله لأثيبوا مثوبة خيراً مما شروا به أنفسهم، ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾، أي : من أهل العلم أو يعلمون أن الثواب خير.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾، نهى الله تعالى المؤمنين عن أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا، أي : أرعنا سمعك، أي : اسمع منا وفي لمية المنع خلاف والمشهور أن لهذا اللفظ معنى قبيحا بلغة اليهود وهم لما سمعوا هذا اللفظ من المسلمين يأتونه ويقولون راعنا ويضحون سرا،
﴿ وَقُولُواْ انظُرْنَا ﴾، أي : إلينا، ﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾، ترك هذه اللفظة سماع قبول لا كاليهود قبل : إنه عليه السلام إذا تكلم معهم قالوا : راعنا، أي راقبنا وتأن بنا حتى نفهم، فمنعوا من تلك الكلمة وأمروا بانظرنا أي : انتظرنا، ﴿ وَلِلكَافِرِينَ ﴾ : الذين سبوا وتهاونوا رسلنا، ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم ﴾، هو مفعول يود، ﴿ مِّنْ خَيْرٍ ﴾، من للاستغراق، ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، من للابتداء والخير هاهنا الوحي أو علم بين تعالى شدة عداوتهم حسداً للمؤمنين لئلا يغتروا بنفاقهم، ﴿ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ﴾ : بنبوته أو أعم، ﴿ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، فحرمان البعض ليس لضيق في الفضل، بل لحكم ومصالح.
﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ : نبطل حكمها أو النسخ رفعها من القرآن، ﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ : نمحها عن القلوب ومن قرأ ننسأها أي : نؤخرها، أي : في اللوح المحفوظ أو نثبت قراءتها ونبدل حكمها فعلى هذا النسخ عكسه ، ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ : أنفع للعباد في الدارين، ﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ : في المنفعة نزلت حين قالوا : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء ثم يأمر بخلافه فما هذا إلا كلامه، ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ : من النسخ والتبديل.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته بدليل " وما لكم "، ﴿ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : يفعل ما يشاء فيهما من نسخ وتغيير، والآية وإن كانت خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، لكن في الحقيقة رد وتكذيب لليهود لإنكارهم نسخ التوراة، ﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ : وال يلي أمركم، ﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ : ينصركم قيل الفرق بينهما أن الوالي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا.
﴿ أَمْ تُرِيدُونَ ﴾، أي : ألم تعلموا أنه يأمر وينهى كما شاء أم تعلمون وتقترحون في السؤال فأم معادلة للهمزة أو منقطعة ، ﴿ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ ﴾ : محمداً عليه الصلاة والسلام فإنه رسول الله إلى الناس أجمعين، ﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ : أهل الكتاب قالوا ائتنا بكتاب نقرأه وفجر لنا أنهاراً نصدقك فأنزل الله تعالى، أو قريش سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا ، ﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾، أي : يشتري الكفر به، ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴾.
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾، كان من أحبارهم رجال جاهدوا في رد الناس عن الإسلام فأنزل الله تعالى، ﴿ لَوْ يَرُدُّونَكُم ﴾، لو بمعنى أن، ﴿ مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ﴾، حال من كم، أو مفعول ثان ليردون لتضمين معنى التصيير، ﴿ حَسَداً ﴾ علة ود، ﴿ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ﴾، أي : تمنوا من عند أنفسهم لا من قبل التدين أو معناه حسداً مبالغاً مبعثاً من أصل نفوسهم، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ : في التوراة، ﴿ فَاعْفُواْ ﴾ : عن مجازاتهم، ﴿ وَاصْفَحُواْ ﴾، وأعرضوا عنهم، ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ : بالقتال أو القتال والسبي والجلاء، أو إسلام بعض والباقي لبعض، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة ﴾، أي : اصبروا على المخالفة والجئوا إلى الله تعالى بالبر، ﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ ﴾، أي : ثوابه،
﴿ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ : فلا يضيع عمل عامل.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، أي : أهل الكتاب، ﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾، وهذا لف بين قولي اليهود والنصارى ثقة بفهم السامع،
﴿ تِلْكَ ﴾، إشارة إلى ألاّ ينزل على المؤمنين خير أو أن يردوهم كفاراً وألا يدخل غيرهم، أو إشارة إلى الأخير بحذف المضاف أي أمثالها، ﴿ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ : التي تمنوها على الله تعالى باطلاً، ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ : على اختصاصكم بالجنة، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾
﴿ بَلَى ﴾ : إثبات لما نفوا من دخول غيرهم الجنة، ﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ ﴾ : أخلص له نفسه، أو دينه أو عمله، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ : متبع نبي الله عليه الصلاة والسلام، قيل : مؤمن، ﴿ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ : ثابت لا ينقص، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ : في الآخرة عند الفزع الأكبر، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : على ما مضى.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ ﴾ : أمر يعتد به أي : دينهم باطل من أصله نزلت حين قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود، ﴿ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ : مطلقاً دائماً، ﴿ وَهُمْ ﴾، أي : الفريقان، ﴿ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾، وفي كتاب كل منهما تصديق من كفروا به، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ مثل ذلك الذي سمعت، ﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ آباؤهم الذين مضوا أو عوام النصارى أو مشركوا العرب قالوا في نبيهم أو أمم قبلهما، ﴿ مثل قولهم ﴾، وبّخهم الله على التشبه بالجهال وهو مفعول مطلق لقال وكذلك مفعول به وقيل كذلك مبتدأ ومثل قولهم مصدر أو مفعول ليعلمون، ﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ بما استحقوا عن الحسن هو تكذيبهم وإدخالهم النار.
﴿ ومن أظلم ممن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾، عام لكل من خرب مسجدا، وإن كان سبب نزوله منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة ويحج عام الحديبية، وأي خراب أعظم مما فعلوا من إخراج المسلمين واستحواذهم بالأصنام، أو نزلت في الروم خبروا بيت المقدس، ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ : المانعون، ﴿ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾، خبر معناه الطلب لا تمكنوهم من دخولها إلا تحت هدنة أو جزية، أو بشارة للمسلمين أنه سيكون كذلك، أو ما كان ينبغي أن يدخلوها إلا خاشعين فضلا أن يخربوا، أو ليس الحق أن يدخلوا إلا خائفين عن المسلمين فضلا من أن يمنعوهم منها، ﴿ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ : قتل وسبي أو جزية، ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ : له الأرض كلها إن منعتم الصلاة في أحد المساجد، ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾، أيَّ : في أي مكان توليتم القبلة، ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾، أي : جهته التي أمر بها لا يختص بمسجد ومكان، أو معناه بأي جهة وجهتم إليها وجهكم فثم قبلة الله المشرق والمغرب، أو ذاته مطلع بكم، ﴿ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ ﴾ : محيط بالأشياء رحمة لا يضيق على عباده، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بالأعمال في الأماكن أو نزلت في صحابة عميت عليهم القبلة فتحروا القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ثم تبيّن خطأهم ، أو نزلت في صلاة التطوع حين السير أو في تحويل القبلة لما عبرت اليهود بأن ليس لهم قبلة معلومة، أو لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " ( غافر : ٣٠ )، قالوا أين ندعوه فنزلت، أو لما مات النجاشي قال النبي صلى الله عليه وسلم : صلوا عليه، قالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة كيف نصلي عليه ؟ فنزلت، نقله ابن جرير رضي الله عنه .
﴿ وَقَالُواْ ﴾ : اليهود في عزير والنصارى في المسيح والمشركون في الملائكة، ﴿ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ﴾ : نزه نفسه عن ذلك، ﴿ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : أي : مخلوق وملك فلا مناسبة لشيء مع الله فلا ولد، ﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ : منقادون لا يمكن لهم الامتناع عن مشيئته.
﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : مبدعهما وخالقهما بلا سبق شيء، أو بديع سماواته وأرضه، ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ : قدر وأراد، ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، من كان التامة، أي : يكونه فيكون ولا واجب أن هناك حقيقة قول كما ابتدأ المسيح بأمر كن من غير والد والملائكة كذلك ومن قرأ فيكون بالنصب فهو جواب الأمر.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ : مشركوا العرب أو بعض اليهود والنصارى، ﴿ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ ﴾، أي : هلا يكلمنا عيانا، ﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾، كما قال تعالى :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ﴾ الآية ( الإسراء : ٩٠ )، ﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ : من كفار الأمم الماضية، ﴿ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ : في العناد، ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ : أيقنوا وطلبوا الحق لا من عاند واستكبر.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ : متلبسا، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ : بالصدق، ﴿ بَشِيراً ﴾ : بالجنة، ﴿ وَنَذِيراً ﴾ : من النار، ﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾، أي : لست بمسؤول عنهم لِمَ لَمْ يؤمنوا، ومن قرأ بصيغة النهي فذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : ليت شعري ما فعل أبواي، فنزلت وقيل معناه لا تسئل عن حالهم فإنك لا تقدر أن تخبر عنها لفظاعتها.
﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى ﴾، كانوا يرجحون أن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام إلى دينهم حين كان يصلي إلى قبلتهم، فلما صرفت القبلة أيسوا منه فأنزل الله، ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ : دينهم وقبلتهم، ﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد، ﴿ إِنَّ هُدَى اللّهِ ﴾ : الذي بعثني به، ﴿ هُوَ الْهُدَى ﴾ : طريق الحق، ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾ : آراءهم الباطلة، ﴿ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ : القرآن والسنة، ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ : يدفع عنك العقاب وهو تهديد شديد للأمة.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾، أي : جنس الكتاب من الكتب المتقدمة، ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾، حال كونهم لا يحرفونه ولا يكتمون ما فيه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، ﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، أي : بكتابهم دون من يحرفه ويكتمه ولا يحل ولا يحرم حلاله وحرامه أو أولئك يؤمنون بالقرآن لا من يحرف كتابه، أو معناه الذين آتيناهم القرآن حال كونهم يتبعونه حق اتباعه هم المؤمنون بالقرآن لا غيرهم، ﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : عالمي زمانكم.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾. ، كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وكأنه الفذلكة والمقصود بالذات.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى ﴾ : اختبر أي : عامل معاملة المختبر، ﴿ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ : ربّ إبراهيم، ﴿ بِكَلِمَاتٍ ﴾، في الكلمات اختلاف كثير، أي : شرائع وأوامر ونواهي أو ثلاثين خصلة عشر في البراءة، " التائبون العابدون " ( التوبة : ١١٢ ) إلخ. . . وعشر في أول سورة " قد أفلح المؤمنون " ( المؤمنون : ١-٩ )، " وسأل سائل " ( المعارج : ٢٢-٣٤ )، وعشر في الأحزاب، " إن المسلمين والمسلمات " ( الأحزاب : ٣٥ ) إلخ. . ، أو عشر خصال خمس في الرأس : قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد : تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء [ ( * ) أخرج هذا التفسير الحاكم في " المستدرك، ٢/٢٦٦، عن ابن عباس من قوله، وقال :" صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " وأقره الذهبي ]، أو مناسك الحج، أو أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى :" فسبحان الله حين تمسون " ( الروم : ١٧ ) إلخ الآية أو الآيات التي بعدها " إني جاعلك للناس إماما " وغيرها، ﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ : أداهن تامات وقام بهن حق القيام، ﴿ قَالَ ﴾، استئناف كأنه جواب لمن قال ماذا قال له ربه حين أتمهن ؟، أو بيان لقوله ابتلي، عند من يقول هي الكلمات، ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ : يقتدى بك وإمامته مؤبدة إلى الساعة، ﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾، عطف على الكاف، أي : اجعل من أولادي أئمة، ﴿ قَالَ ﴾ : الله، ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾، في تفسيره أيضا كثير خلاف الأرجح أنه إجابة لملتمسه وإشارة إلى أن في ذريته من لا يصلح للإمامة والنبوة.
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ ﴾ : الكعبة، ﴿ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ﴾ : مرجعاً يأتون ثم يرجعون ثم يأتون أو موضع ثواب، ﴿ وَأَمْناً ﴾ : من المشركين أبداً فإنهم لا يتعرضون لأهل مكة ويتعرضون لمن حولها، أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليها كما هو مذهب أبي حنيفة وقيل يأمن الحاج من عذاب الآخرة، ﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ ﴾، مقام إبراهيم الحجر المعروف، أو مسجد الحرام أو الحرم أو مشاعر الحج وقد صح أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال : نعم، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله :" واتخذوا " إلخ وهو عطف على عامل إذ أعني اذكر، أو مقدر بقلنا ، ﴿ مُصَلًّى ﴾، يسن الصلاة خلفها أو مدّعى، ﴿ وَعَهِدْنَا ﴾ : أمرنا ولأنه بمعنى الوحي عدى بإلى، ﴿ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾، أي : بأن طهراه من الأصنام وما لا يليق به أو ابنياه على التوحيد على اسمه وحده، ﴿ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ : لمن يطوف ولمن يجلس في المسجد ولمن يصلى، أو المراد من الطائفين الغرباء ومن العاكفين المقيمين والركع السجود جمع راكع وساجد.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا ﴾ : المكان، ﴿ بَلَداً آمِناً ﴾ : ذا أمن، أو آمن من فيه، ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، من آمن بدل البعض أهله، ﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ ﴾، عطف على من آمن وهو من كلام الله، نبه الله تعالى أن الرزق عام دنيوي لا كالإمامة، أو مبتدأ تضمن معنى الشرط، ﴿ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾، خبره وقليلاً نصبه بالمصدر، ﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾، أي : ألجئه إليها، ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾، أي : العذاب .
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ ﴾ : الأساس، ﴿ مِنَ الْبَيْتِ ﴾ : ورفعها البناء عليها، ﴿ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾، كان يناوله الحجارة يقولان :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾، بنائنا البيت ، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ ﴾ : لدعائنا، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ : بنياتنا.
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ : مخلصين منقادين، ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا ﴾، أي : اجعل بعض أولادنا، ﴿ أُمَّةً ﴾ : جماعة، ﴿ مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ : خاضعة مخلصة والأصح أنها تعم العرب وغيرهم، ﴿ وَأَرِنَا ﴾ : أبصرنا، ﴿ مَنَاسِكَنَا ﴾ : معالم حجنا أو مذابحنا، ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا ﴾ : مما فرط عنا، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ : للتائب.
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ ﴾ : في الأمة المسلمة، ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ يَتْلُو ﴾ : يقرأ، ﴿ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ﴾ : القرآن، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ : السنة أو الفهم في الدين أو العلم والعمل به ، ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ : عن الشرك، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ ﴾ : الغالب، ﴿ الحَكِيمُ ﴾ : واضع الأشياء في محالها.
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ : استبعاد عن ذلك أي لا يرغب أحد، ﴿ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ : خسرها أو جهل نفسه أو ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره والمستثنى بدل من ضمير يرغب لأنه في معنى النفي، ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ : اخترناه للرسالة، ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ : وهذه حجة وبيان لقوله " ومن يرغب ".
﴿ إِذْ قَالَ ﴾، ظرف لاصطفينا أو بأضمار اذكر كأنه قال : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى، ﴿ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ﴾ : استقم على الإسلام أو أخلص العمل لله أو أسلم نفسك إلى الله وفوض أمرك إليه، قال ابن عباس –رضي الله عنهما- : حقق ذلك حيث لم يستعن بغير الله حين ألقي في النار، ﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
﴿ وَوَصَّى بِهَا ﴾ : بالملة أو كلمة الإخلاص، ﴿ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾، أي وصى هو أيضا بنيه، ﴿ يَا بَنِيَّ ﴾، على إضمار القول أو متعلق بوصى لأنه نوع من القول، ﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ﴾ : دين الإسلام، ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾، أي : داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه.
﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ﴾، منقطعة والهمزة للإنكار أي : ما كنتم حاضرين، وهذا رد على اليهود حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، ﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ﴾، تم الكلام ثم ابتدأ بقوله :﴿ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ﴾، كأنه قال : اذكر ذلك الوقت حتى لا تدعى إليه اليهودية أو متعلق بقالوا نعبد، ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً ﴾، نصبه على البدل من إله آبائك وإسماعيل عمه فهو من التغليب، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾، حال من معمول نعبد.
﴿ تِلْكَ ﴾، أي : إبراهيم ويعقوب وبنوها، ﴿ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ : مضت، ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ : من العمل، ﴿ وَلَكُم ﴾ : يا معشر اليهود، ﴿ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾، أي : انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، ﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ : لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم.
﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ﴾، قالت اليهود للمؤمنين : كونوا على ديننا فهو الحق، وقالت النصارى مثله، ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾، أي : نكون أهل ملته، أو نتبع ملته ﴿ حَنِيفاً ﴾ : مائلا عن الباطل إلى الحق حال عن إبراهيم، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، وهذا تعريض للمخاطبين.
﴿ قُولُواْ ﴾ : أيها المؤمنون، ﴿ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ﴾ : القرآن، ﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ ﴾ : أولاد يعقوب وفيهم الأنبياء، ﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾، أفردهما بحكم أبلغ لأن التراع فيهما، ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ ﴾ : المذكورون وغيرهم، ﴿ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ : كاليهود يكفر ببعض ويؤمن ببعض واحد بحسب الوضع يستوى فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ ﴾ : لله، ﴿ مُسْلِمُونَ ﴾ : مخلصون منقادون.
﴿ فَإِنْ آمَنُوا ﴾، أي : أهل الكتاب، ﴿ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ ﴾، المثل صلة والباء زائدة أي : مثل إيمانكم بالمذكور، أو هو من باب التعجيز إذ لا مثل لدين الإسلام نحو قوله تعالى :" فأتوا بسورة من مثله " ( البقرة : ٢٣ )، ﴿ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ : أعرضوا عن الإيمان،
﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ : خلاف ونزاع، ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ﴾، تسكين للمؤمنين ووعد بالحفظ والنصرة، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، من تمام الوعد والوعيد لا في طلب حق.
﴿ صِبْغَةَ اللّهِ ﴾، من تتمة المقول أي : قولوا التزمنا دين الله، أو صبغنا الله صبغته وهي فطرة الله فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغ حلية المصبوغ، نقل أن النصارى يغمسون أولادهم في ماء أصفر ويقولون : هو تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم فيكون للمشاكلة، ونقل أن بني إسرائيل قالوا لموسى : هل يصبغ ربك ؟ فناداه ربه أن قل نعم أنا أصبغ الألوان وأنزل الله على نبيه :" صبغة الله " ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ﴾ : لا صبغة أحسن من صبغته، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾
﴿ قُلْ ﴾ : يا محمد لأهل الكتاب، ﴿ أَتُحَآجُّونَنَا ﴾ : أتجادلوننا ، ﴿ فِي اللّهِ ﴾، في دين الله وأمره حيث قالوا الأنبياء منا فنحن أولى بالله منكم، ﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ : لا اختصاص له بقوم دون قوم، ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ : لكلّ جزاء عمله فليس ببعيد أن يكرمنا الله تعالى، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾
﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾، أم منقطعة والهمزة للإنكار، ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ﴾، " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما " ( آل عمران : ٦٧ )، و﴿ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾، يقرأون في التوراة أن الدين الإسلام وأن هؤلاء الأنبياء براء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، وعيد لهم.
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، كرر مبالغة في الزجر عما في الطباع من الاتكال بالأشراف من الآباء، قيل : الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب وفي الآية لنا، وقيل : المراد بالأمة في الأول : الأنبياء وفي الثاني : أسلاف أهل الكتاب.
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ﴾ : اليهود ومشركوا مكة، ﴿ مَا وَلاَّهُمْ ﴾ : ما صرفهم، ﴿ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾، وهي الصخرة، ﴿ قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ : ملكاً لا يختص به مكان دون مكان، ﴿ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : تقتضيه الحكمة فتارة إلى الصخرة ثم إلى الكعبة.
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ : كما هديناكم صراطاً مستقيماً، وقيل إشارة إلى ولقد اصطفيناه في الدنيا، أي : كما اخترنا إبراهيم عليه السلام، ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ : عدولا خياراً، ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ ﴾ : على صدقكم، ﴿ شَهِيداً ﴾، وذلك لأن الأمم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء، فالأنبياء يأتون بأمة محمد عليه الصلاة والسلام فيشهدون بالتبليغ، فتقول الأمم : من أين عرفتم ؟، فيقولون : أخبرنا نبينا في كتابه ، ثم يزكيهم محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾، أي : أصل أمرك استقبال الكعبة، فإنها قبلة إبراهيم، لكن جعلنا قبلتك بيت المقدس، قوله :" التي كنت عليها " أحد مفعولي جعل، أي : الجهة التي كنت عليها ، وقيل : تقديره وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، وعلى هذا التي صفة القبلة أقول والله أعلم بمراده : يحتمل أن يراد من التي كنت عليها الكعبة، أي : خاطرك مائل إليها، فإن الأصح أن القبلة قبل الهجرة الصخرة لكن خاطره الأشرف مائل إلى أن تكون الكعبة قبلة، ﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ : علماً حالياً يتعلق به الجزاء، ﴿ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ : عند نسخ القبلة، ﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ : يرتد، والظاهر أن تقديره متميزاً، ممن ينقلب حال من فاعل يتبع، أو ثاني مفعولي نعلم، وقد نقل أن كثيرا من المسلمين ارتدوا عند تحويل القبلة، ظنا منهم أن هذا حيرة منه عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَإِن كَانَتْ ﴾، أي التولية ، وإن مخففة، ﴿ لَكَبِيرَةً ﴾ : ثقيلة، ﴿ إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾، أي : هداهم الله، ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ : بالقبلة الأولى، وتصديقكم واتباعكم نبيكم في القبلة الثانية، أو صلاتكم إلى الصخرة، ففي الصحيح أن الصحابة سألوا كيف حال إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى ؟ فنزلت، ﴿ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ﴾، أي : تردد وجهك في جهة السماء انتظاراً لجبريل والوحي بتغيير القبلة، فإنه يحب أن تكون " قبلة " قبلة أبيه إبراهيم، ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ ﴾، نمكنك استقبال قبلة من وليته كذا، أي صيرته واليا له، ﴿ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾، تحبها، ﴿ فَوَلِّ ﴾ : اصرف، ﴿ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، أي : نحوه، ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ ﴾، من بر وبحر، وهو بمعنى الشرط، أي : أينما كنتم فالفاء، ﴿ فَوَلُّواْ ﴾، للجزاء، ﴿ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، حين الصلاة، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ﴾ : اليهود، ﴿ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾ : أمر الكعبة، ﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾، ليقينهم بحقية محمد عليه الصلاة والسلام، وبأن الكعبة قبلة إبراهيم، ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾
﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ﴾ : دالة على أن الكعبة قبلة، ﴿ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾، لأنهم حساد جاحدون، ﴿ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾، قطع لأطماع اليهود الرجوع إلى الصخرة ثانيا، ﴿ وَمَا بَعْضُهُم بتابع قبلة بعض ﴾ اليهود تستقبل الصخرة، والنصارى مطلع الشمس، فمحال أن تراعي خاطرهم، إن أردت مثلا لاختلافهم، ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ﴾، مثلا، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾، بأن لك الحق بالوحي، ﴿ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾، مثلهم وبالحقيقة هذا تهديد لأمته.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ : علماءهم، ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ : محمدا بنعته وصفته، ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ﴾ : كمعرفتهم أبناءهم بلا التباس، ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾، أي : نعته وصفته، أما العوام فلا يعرفون شيئا، وأما المؤمنون منهم فلا يكتمون، ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، فإنهم يقرؤون في كتابهم.
﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾، مبتدأ أو خبر واللام للإشارة إلى الحق الذي يكتمونه، أو إلى ما عليه محمد عليه الصلاة والسلام، أو تقديره هو الحق حال كونه من ربك ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ : الشاكين فيما أخبرتك، وهذا مبالغة في تحقيق الأمر، أو أمر للأمة.
﴿ وَلِكُلٍّ ﴾ : من أهل الأديان، ﴿ وِجْهَةٌ ﴾ : قبلة، ﴿ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ : وجهه، ووجهة الله حيت توجه المؤمنون، أو الله مولى الأمم إلى قبلتهم، ﴿ فَاسْتَبِقُواْ ﴾ : بادروا، ﴿ الْخَيْرَاتِ ﴾ : قبول أمر القبلة وغيره، ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ ﴾، أنتم وأهل الكتاب، ﴿ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً ﴾ : يحشركم إليه ويجازيكم ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ : من الإماتة والإحياء والجمع، ﴿ قَدِيرٌ ﴾
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ : من أي مكان خرجت، افعل ما أمرت به، فالفاء في، ﴿ فَوَلِّ ﴾، للعطف على مقدر، ﴿ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، إذا صليت، ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ : المأمور به، ﴿ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، لما كان النسخ من مظان الفتن والشبه، أكد وكرر وبالغ مراراً، ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ ﴾، أحد من الآحاد، ﴿ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾، فإن اليهود قالت : ما درى محمد أين قبلته حتى هديناه، فلما صرفت القبلة بطلت صورة حجتهم، ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ : من الناس، كمشركي مكة، فإنهم قالوا : محمد قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، والاستثناء متصل، قيل : معناه لئلا يكون لأحد من اليهود حجة، إلا للمعاندين منهم، فحجة المنصفين أن يقال لم لا يحول إلى قبلة إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ وحجة المعاندين، أنه ما ترك قبلة الأنبياء إلا ميلاً إلى دين قومه، والمراد من الحجة ما يساق سياقها، ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾، المشركين، فمطاعنهم لا تضركم، ﴿ وَاخْشَوْنِي ﴾ : فلا تخالفوا أمري، ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾، بتكميل الشريعة، وهو عطف على قوله لئلا يكون، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ : لكي تهتدوا أنتم خصوصا إلى قبلة إبراهيم.
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ﴾، متصل بما بعده، أي : كما ذكرتم بالإرسال، فاذكروني، أو بما قبله، ومعناه : ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة كما أتممتها في الدنيا بإرسال رسول منكم، ﴿ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ : يحملكم ما تصيرون به أزكياء من رذائل الأخلاق، ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ ﴾ : القرآن، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ : السنة، ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ : بالفكر من الأحكام والشرائع.
﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾ : بالطاعة أو في الرخاء، ﴿ أَذْكُرْكُمْ ﴾ : بالمغفرة أو في الشدة، ﴿ وَاشْكُرُواْ لِي ﴾ : نعمي، ﴿ وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾، بجحد نعمي، ومن أطاع الله فقد شكر ومن عصاه فقد كفر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ ﴾ : على طلب الآخرة، ﴿ بِالصَّبْرِ ﴾ : عن المعاصي، ﴿ وَالصَّلاَةِ ﴾، التي هي أم العبادات ، ﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ : بالعون والنصرة.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ ﴾، هم، ﴿ أَمْوَاتٌ بَلْ ﴾ : هم، ﴿ أَحْيَاء ﴾، نزلت في قتلى بدر من المسلمين وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة، ﴿ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ : ما حالهم.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ : ولنصيبنكم إصابة من يختبركم، ﴿ بِشَيْءٍ ﴾، أي : قليل، ﴿ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ﴾، أي : القحط، ﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ ﴾ : خسران الأموال، ﴿ وَالأنفُسِ ﴾ : الموت أو هو المرض والشيب، ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ : الحوائج، وحكى عن الشافعي رضي الله عنه : الخوف، خوف الله والجوع رمضان، ونقص الأموال الزكوات والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد، ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ : يا محمد، ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ﴾ : مما ذكر، ﴿ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ ﴾ : عبيد أو ملكاً، ﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ : في الآخرة فلا يضيع عمل عامل.
﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ ﴾ : مغفرة ، أو ثناء من الله وأمنه من العذاب، ولكثرتها وتنوعها جمعها، ﴿ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾، لطف وإحسان، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ : إلى الصواب أو إلى الجنة.
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ﴾ : جبلان بمكة، ﴿ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ ﴾ : من أعلام مناسكه، ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾، الحج والعمرة عبادتان معينتان في الفقه، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ ﴾ : إثم، ﴿ عَلَيْهِ ﴾، في ﴿ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ : بالجبلين، كان فيهما صنمان معروفان، وأهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الحق وزهق الباطل، كره المسلمون الطواف بينهما فأنزل الله، وعند الشافعي : هو ركن الحج بدليل الأحاديث والآية لا تنافيه، ﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾، من صلاة وزكاة وطواف وغيرها، أو تطوع بالسعي عند من يرى أنه سنة ونصب خيرا على المفعول المطلق، أو تطوع بمعنى : فعل وأتى، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ ﴾ مجازيه بعمله، ﴿ عَلِيمٌ ﴾، لا يخفى عليه خافية.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ﴾، علماء اليهود، ﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾، صفة محمد، وآية الرجم، وغيرهما، ﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ﴾ : التوراة، ﴿ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ : جمع الخلق سوى الجن والإنس أو الملائكة والجن والإنس المؤمنون، يعني : يقولون اللهم العنهم قد نقل أن البهائم والطيور إذا اشتدت السنة تعلن عصاة بني آدم .
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ : رجعوا عن الكتمان، ﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾، ما أفسدوا، ﴿ وَبَيَّنُواْ ﴾ للناس ما كانوا كتموه، ﴿ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ : بالقبول والمغفرة، ﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ ﴾ : المبالغ في قبول التوبة، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ : كثير الرحمة.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ : ماتوا على الكفر، ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾، المراد من الناس المؤمنون، أو هذا في الآخرة يوقف الكافر فيلعنه جميع الناس، حتى إنه يلعن نفسه.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ : في اللعنة، ﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾، أي : لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، وقيل : لا ينظر إليهم نظر رحمة.
﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾، كفار قريش قالوا : يا محمد ! صف لنا ربك فأنزل الله، ﴿ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ : ليس في الوجود إله غيره، ﴿ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾، هما كالحجة لوحدانيته، فإنه مولى النعم وحده، فغيره لا يستحق العبودية، ولما سمعه المشركون، قالوا : إن كنت صادقاً في أن لا إله إلا الله فأتنا بآية، فأنزل الله.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ : تعاقبهما، ﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ : بنفعهم أو بالذي ينفعهم من الركوب والحمل، ﴿ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء ﴾، السماء السحاب، أو الفلك، أو جانب العلو، ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ ﴾ : بالنبات، ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ : جدوبتها، ﴿ وَبَثَّ فِيهَا ﴾، فرق في الأرض، عطف على أحيا، والمجموع صلة، أو على ما أنزل بتقدير الموصول، أي : وما بثه، ﴿ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾، في مهابها وأحوالها، ﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾، أي : المذلل لأمر الله، بينهما لا ينزل ولا ينقشع، ﴿ لآيَاتٍ ﴾ : دلالات على وحدته، ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ : يتفكرون فيها.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ﴾ : أصناماً جعلوا له أمثالاً يعبدونهم، ﴿ يُحِبُّونَهُمْ حال البلاء، قال تعالى :" فإذا ركبوا في الفلك " ، { وَلَوْ يَرَى ﴾ : لو يعلم، ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾، باتخاذ الأنداد، ﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ : عاينوه يوم القيامة، ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾، ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لو محذوف، أي : لو يعلمون أن القدرة لله جميعا لا قدرة لأندادهم، إذ يرون العذاب، أي : يوم القيامة، لندموا أشد الندامة، ومن قرأ ولو ترى بالتاء، فالذين ظلموا مفعوله من رؤية البصر، وإذ يرون العذاب بدل من الذين، وأن القوة بدل اشتمال من العذاب، وجواب لو محذوف أيضا أي لرأيت أمرا فظيعا.
﴿ إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ ﴾ : القادة من الملك وغيره، وهو بدل من إذ يرون، فيكون ظرفا لقوله أن القوة، ﴿ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ : الأتباع، يقول الملائكة :" تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " ، ﴿ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾، الواو للحال، وقد مضمرة، ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ﴾، أي : بسبب كفرهم، أو متلبسا ومتصلا بهم، ﴿ الأَسْبَابُ ﴾، أي : المودة، أو كل وصلة بينهم في الدنيا، أو الأعمال التي يعملونها في الدنيا، أو الحيل وأسباب الخلاص.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ : الأتباع، ﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾، أي : ليت لنا رجعة إلى الدنيا، ﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ : من المتبوعين، ﴿ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك الإراء الفظيع، ﴿ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ : سيئاتهم، أو حسناتهم التي ضيعوها، ﴿ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ : ندامات وهو ثالث مفاعيل يريهم، أو حال على أنه من رؤية البصر، ﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾، أصلا.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾، نزلت في قوم حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر، وحلالا مفعول كلوا، أو حال من ما في الأرض، والطيب ما يستطاب في نفسه، غير ضار للأبدان والعقول أو المستلذ، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾، أي : سبله وطرقه، يعني لا تقتدو به، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ : ظاهر العداوة، عند ذوي البصيرة.
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ ﴾ : المعاصي كلها أو معصية لا حد فيها، ﴿ وَالْفَحْشَاء ﴾ : معصية فيها حد أو البخل، ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : كاتخاذ الأنداد، وتحليل الحرام وتحريم الحلال.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾ : لهؤلاء المشركين، أو طائفة من اليهود ، ﴿ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا ﴾ : وجدنا، ﴿ عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾، الواو للعطف أو الحال والهمزة للتوبيخ والتعجيب، وجواب لو محذوف، أي : لو كان آبائهم جهلاء لاتبعوهم.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ : فيما هم فيه من الجهل والضلال، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ﴾، أي : كمثل الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي : دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول، بل إنما تسمع صوته فقط، هكذا نقل في تفسيرها عن السلف، وحاصله أنهم في انهماكهم في تقليد الجهل كالبهائم التي ينعق راعيها بها فتسمع الصوت ولا تفهم معناه، وقيل : تقديره مثل داعي الذين كفروا معهم " كمثل الذي " الآية وهو الأظهر، ﴿ صُمٌّ ﴾ : عن سماع الحق، ﴿ بُكْمٌ ﴾ : لا يتفوهون به، ﴿ عُمْيٌ ﴾ : من رؤية مسلكه، ﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ : ولا يفهمونه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾ : حلالات، ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، لما أباح الله للناس ما في الأرض سوى ما حرم، أمر المؤمنين أن يتحروا حلالاته ويقوموا بحقوقها فقال :﴿ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ ﴾ : على ما أحل لكم، ﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة فإن عبادتكم لا يتم إلا بالشكر.
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ : التي ماتت من غير ذكاة، ﴿ وَالدَّمَ ﴾، أي : دما مسفوحا والسمك والجراد والكبد والطحال مستثنى بالحديث ، ﴿ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ﴾ : وتخصيص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل، ﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ﴾ : ما ذكر اسم غير الله عند ذبحه، وهذه الآية رد على من حرموا على أنفسهم أشياء من عند أنفسهم، فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقاً فلا يرد أن المحرمات غيرها كثيرات، ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ ﴾ : أحوج ولجئ إليه، ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ : خارج على السلطان أو مستحله أو آكله من غير اضطرار أو متجاوز القدر الذي أحل له وقيل باغ بالاستئثار على مضطر آخر، ﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾، متعد عاص بسفره أو غيره متعد ما حد له، فيأكل أكثر مما يمسك رمقه ، أو يتعدى حلالا وهو يجد عن الحرام مندوحة، ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، في تناوله، ﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، حيث رخص بالأشياء.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾، رؤساء اليهود، ﴿ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ : من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ﴾ : بما أنزل الله، ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، من مال يأخذونه من سفلتهم كما مر، ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾، أي : لا يأكلون يوم القيامة ملأ بطونهم إلا النار، ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، كناية عن الغضب، أو لا يكلمهم بما يسرهم، ﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ : لا يمدحهم ولا يثنى عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : مؤلم.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ : في الدنيا، ﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾ : في الآخرة، ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾، تعجب من حالهم، وما تامة مبتدأ، أو استفهامية توبيخية، ما بعدها الخبر.
﴿ ذَلِكَ ﴾، أي : ذلك العذاب، ﴿ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ ﴾، أي : جنس الكتاب أو القرآن، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾، وهم أخذوه هزوا، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ ﴾، أي في جنس الكتاب، والاختلاف الإيمان ببعض دون بعض، أو في التوراة، والاختلاف التحريف أو في القرآن واختلافهم تكذيبه بأنه سحر وشعر، ﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ : لفي خلاف بعيد عن الحق.
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾، أي : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا بعد ذلك شيئا، كما هو في أول الإسلام، فهذا حين نزول الفرائض، أو قبلة اليهود المغرب وقبلة النصارى المشرق، فأنزل الله أو لما تحولت القبلة شق ذلك على أهل الكتاب وبعض المؤمنين، فهذه الآية بيان حكمته، وهو أن المراد امتثال أوامر الله، وهو البر وليس في لزوم التوجه قبل مشرق أو مغرب بر إن لم يكن عن أمر الله، ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ﴾ أي : برّ من آمن، أو ذا البر من آمن بالله ﴿ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ ﴾، أي : جنسه، أو القرآن، ﴿ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ : حب المال، أي : أخرجه وهو محب له، وقيل : على حب الله، ﴿ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ : قرابات الرجل، ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾، من لا يجد ما يكفيه، ﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ : المسافر الذي انقطع عنه ما يكفيه في سفره والضعيف صرح به السلف ﴿ وَالسَّآئِلِينَ ﴾ : من ألجأته الحاجة إلى السؤال، ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾، أي : في تخليصها بمعاونة المكاتبين، وقيل في فك الأسارى، ﴿ وَأَقَامَ الصَّلاةَ ﴾ : المفروضة، ﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ : المفروضة ويكون قوله :" وآتى المال " بيان المصارف، أو صدقات السنة، ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ : الله والناس، عطف على من آمن، ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء ﴾ : حال الفقر ونصبه على المدح لفضل الصبر، ﴿ والضَّرَّاء ﴾ : المرض، ﴿ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ : القتال لله، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾، في إيمانهم، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾، لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ ﴾، أي : فرض، ﴿ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾، كان بين حيين قتل ودماء، وكان لأحد الحيين فضل على الآخر، فحلفوا أن يقتلوا بالعبد منهم الحر، وبالمرأة الرجل، وبالواحد الاثنين فنزلت :﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ﴾، أي : ليتساووا وليتماثلوا في القصاص فلا يدل على ألا يقتل الحر بالعبد، والذكر بالأنثى كما لا يدل على عكسه، ومن قال بعدم قتل الحر بالعبد فدليله الحديث، وروى عن بعض السلف أنها منسوخة بقوله تعالى :" النفس بالنفس " فالقصاص ثابت بين الحر والعبد والذكر والأنثى، ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، تقديره فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، أي : ولى الدم شيء من العفو، فإن عفا لازم، بمعنى : أخذ الدية بعد استحقاق الدم، ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، أي : فعلى العافي أن يطالب الدية بالمعروف ولا يعنف، ﴿ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾، أي : وعلى المعفو عنه أن يؤديها بإحسان لا يمطل ولا يبخس، ﴿ ذَلِكَ ﴾، الحكم الذي هو أخذ الدية، ﴿ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ : مما كان محتوما على الأمم قبلكم، من القتل في اليهود، والعفو في النصارى، ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى ﴾ : بالقتل، ﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ : بعد العفو، ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : في الآخرة أو في الدنيا بأن يقتل ولا يأخذ منه الدية.
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾، أي : لكم في حكم القصاص نوع حياة عظيمة، لأن العلم به يردع عن القتل مخافة القصاص ويدفع الفتنة المنجرة إلى القتال العظيم، ﴿ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ﴾، دوي العقول، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ عن القتل أو لكي تترجوا فتتركوا محارم الله.
﴿ كُتِبَ ﴾ : فرض، ﴿ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾، أي : أسبابه، ﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾، أي : مالا أي مال، أو مالا كثيرا، واختلف في الكثرة، فعن علي رضي الله عنه : لا بد أن يزيد على أربعمائة دينار، ﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ﴾، وكان وجوبه في بدء الإسلام فنسخ ، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالعدل فلا يتجاوز الثلث، ﴿ حَقّاً ﴾، أي : حق ذلك حقا ﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : عن الشرك.
﴿ فَمَن بَدَّلَهُ ﴾ : غيّره من الأوصياء والشهود، ﴿ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾ : من الميت، ﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ ﴾، أي التبديل، ﴿ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾، قد وقع أجر الميت على الله، ﴿ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ﴾ : يسمع كلام الميت، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : يعلم تبديل المبدل.
﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾، أي : علم، ﴿ مِن مُّوصٍ جَنَفاً ﴾، خطأ في الوصية مثل أن يوصى بأكثر من ثلث، ﴿ أَوْ إِثْماً ﴾ : عمداً، ﴿ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾ : بين الورثة والموصى لهم، ﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ : في التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق، ﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، ذكر الغفران لمطابقة ذكر الاثم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾، صيام رمضان، أو ثلاثة أيام من كل شهر وعاشور إثم نسخ، ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، من لدن نوح أو أهل الكتاب، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، المعاصي، فإن الصوم تضييق لمسالك الشيطان.
﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾، تقديره صوموا أياما، ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، أي : فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر، إن أفطر بحذف الشرط، والمضاف والمضاف إليه للقرينة، ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾، أي : الصحيح المقيم، ﴿ فِدْيَةٌ ﴾، إن أفطروا، ﴿ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾، كان في بدء الإسلام الخيار بين الصوم والإطعام عن كل يوم مسكينا فنسخ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا تستطيعان الصوم، وعلى هذا معنى الذين يطيقونه يصومون طاقتهم وجهدهم، ويؤيده بعض القراءة وهو " يطوّقونه " أي : يكلفونه، ﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾، بأن أطعم أكثر من مسكين كل يوم، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَأَن تَصُومُواْ ﴾، أي : الصوم، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، أيها المطيقون أو المطوقون من الإفطار والفدية، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : فضائل الصوم.
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾، مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شهر رمضان، ﴿ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، جملته ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجما إلى الأرض، وهو خبر شهر رمضان أو صفته، والخبر فمن شهد، ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾، أي : هاديا بإعجازه، ﴿ وَبَيِّنَاتٍ ﴾، آيات واضحات، ﴿ مِّنَ الْهُدَى ﴾ : مما يهدي إلى الحق، ﴿ وَالْفُرْقَانِ ﴾ : يفرق بين الحق والباطل، ﴿ فَمَن شَهِدَ ﴾ : حضر ولم يكن مسافراً، ﴿ مِنكُمُ الشَّهْرَ ﴾، أي : فيه، ﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾، أي : فيه، ﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضاً ﴾ : مرضا يشق، أو يضر عليه الصيام، ﴿ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، الآية الأولى تخيير للمريض والمسافر والمقيم، وهذه لهما دون المقيم، فلا تكرار، بل علم من هذه نسخ الأولى، ﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾، فلذلك أباح الفطر للسفر والمرض، ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ﴾، عطف على اليسر مثل " يريدون ليطفئوا " أو تقديره وشرع لكم ذلك، أي : جملة أحكام الصوم لتكملوا، أي : لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر، ﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ ﴾ : لتعظموه، ﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ : أرشدكم إليه من وجوب الصوم ورخصة الفطر بالعذر، أو المراد تكبيرات ليلة الفطر، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ : الله في نعمه، أو رخصة الفطر.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾، أي : فقل اني قريب أطلع على جميع أحوالهم ، قال أعرابي يا رسول الله : أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه فنزلت ، وروي أن بعض الصحابة قالوا : أين ربنا، فنزلت، وروى لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت، وروى أن اليهود قالوا : كيف يسمع الله الدعاء وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء كذا وكذا سنة ؟ فنزلت، ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾، أي : فليجيبوا لي إذا دعوتهم للطاعة كما أجيبهم إذا دعوني إلى مهامهم، ﴿ وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ﴾ : أمر بالثبات والدوام، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾، راجين إصابة الرشد، وهذه الآية المتخللة بين أحكام الصوم إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء في الصوم والفطر، وروي :" ثلاثة لا ترد دعوتهم ، الإمام العادل والصائم حتى أو حين – يفطر، ودعوة المظلوم ".
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ : ليلة الصيام التي تصبح منها صائما والرفث عبارة عن الجماع، وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، كان في بدء الإسلام غير جائز، ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ﴾، أي : سكن، وشبه باللباس لاشتمال كل على صاحبه اشتمال اللباس على اللابس، ﴿ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾، سكن، أي : لما كان بينكم غاية الخلطة رخصنا لكم لئلا يشق عليكم، ﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾ : تظلمونها بما هو حرام عليكم ؛ ووقع ذلك على عمر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت فنزلت، ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ : لما تبتم، ﴿ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾، محا عنكم أثره، ﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾، والمباشرة كناية عن الجماع، ﴿ وَابْتَغُواْ ﴾ : اطلبوا، ﴿ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ﴾ : ما أثبته في اللوح المحفوظ من الولد أو ليلة القدر أو الرخصة التي كتب الله لكم وما أحل الله لكم، ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾، جمع الليل، ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ ﴾، بياض الصبح، ﴿ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ﴾ : من سواد الليل، ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، بيان للخيط الأبيض، ﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾، فإنه آخر وقته، كان الأكل والشرب بعد العشاء، أو النوم حراماً فبعض الصحابة نام عن فطره فلما انتصف النهار غشى عليه فنزلت، ﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾، كان إذا اعتكف الرجل فخرج من المسجد جامع إن شاء ورجع، فأنزل الله تعالى النهي عن المباشرة ما داموا عاكفين فيها، ﴿ تِلْكَ ﴾، أي : الأحكام المذكورات ، ﴿ حُدُودُ اللّهِ ﴾، أي : ذوات حدود الله، ﴿ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾، نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل، لئلا تداني الباطل فضلا أن يتخطى، أو المراد من الحدود المحارم، وتكون تلك إِشارة إلا لا تباشروهن، أي هذا وأمثاله محارم، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ : مثل هذا التبيين، ﴿ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ : مخالفة الأمر.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾، أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بوجه لم يبحه الله، ﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ : ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام، عطف على المنهي، أو نصب بتقدير أن، ﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً ﴾ : طائفة، ﴿ مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ ﴾ : بما يوجب الإثم كاليمين الكاذبة، ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : أنكم مبطلون.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ ﴾، سأل بعض الصحابة ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد ثم ينقص ؟ فنزلت ، ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾، سألوا عن حكمة اختلاف حال القمر فأجاب بأن الحكمة الظاهرة أنه معالم للناس يوقتون بها أمورهم سيما الحج، ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾، كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، أو الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخلوا من قبل بابهم فنزلت، ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾ : بر، ﴿ مَنِ اتَّقَى ﴾ : المحارم، ﴿ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ : واتركوا سنة الجاهلية، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، في تغيير أحكامه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ : لكي تظفروا بالفلاح والهدى، ووجه اتصال هذه الآية بما قبله أنه لما ذكر الحج ذكر أيضا شيئا من أفعالهم في الحج استطراداً، وفيه تنبيه على أنهم يخترعون أشياء لا حكمة فيها، ولا يسألون ولا يتفكرون فيها ويسألون عن شيء حكمته ظاهرة.
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، إعلاء لكلمته، ﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، كما أن همتهم قتالكم فلتكن همتكم كذلك، ﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ : لا تظلموا في القتال، بأن تقتلوا النساء والشيوخ والصبيان وأنهم ليسوا من الذين يقاتلونكم ، وبأن تفعلوا المثلة والغلول، وروي أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة، ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ : لا يريد بهم الخير، وعن بعض السلف أن قريشا صدوا المسلمين عن الحج وصالحوهم على رجوعهم من قابل، فخاف المسلمون من عدم وفائهم وقتالهم في الحرم شهر الحرام وكره المسلمون ذلك فنزلت، ومعناه : قاتل من قاتلك ولا تظلم بابتداء القتال، فالآية منسوخة.
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ : وجدتموهم في حل أو حرم، ﴿ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾، أي : مكة، فإن قريشا أخرجوا المسلمين منها، والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح، ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾، أي : شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم في الحرم، وجزاء سيئة سيئة مثلها، ﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، حرمة له، ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ ﴾، وابتدأو بالقتال عنده، ﴿ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ : مكافأة، ﴿ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ : يفعل بهم ما فعلوا، قال بعضهم : آية " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " منسوخة بهذه الآية، وهذه منسوخة بآية السيف في براءة، فهي ناسخة منسوخة، والأكثر على أنها محكمة لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم .
﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ : عن القتال والكفر، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، يغفر لهم ما قد سلف.
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ : شرك ، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ﴾، خالصاً فلا يعبد شيء غيره، ﴿ فَإِنِ انتَهَواْ ﴾ : عن الكفر، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ ﴾ : لا قتل ولا نهب، ﴿ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾، لا عليهم، فإنهم قد ارتدعوا عن الظلم.
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾، صدهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة عن العمرة، وخرج المسلمون لعمرة القضاء فيه سنة أخرى، وكرهوا القتال لحرمته، فنزلت، أي : هذا بذاك وهتكة بهتكة فلا تبالوا، ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾، أي : كل حرمة وهو ما يجب المحافظة عليه يجرى فيه القصاص، وهم هتكوا حرمة شهركم بصدكم فافعلوا به مثله ، ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، أي : ادخلوا مكة عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، فيما لم يرخص لكم، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾، فيحرسهم ويعلى كلمتهم.
﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : في جهات الخير، ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، بعدم الإنفاق فيها، وصح عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا : الآية في النفقة لا في القتال ، أو تقديره لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بالإسراف، بحيث لا يبقى لكم شيء أصلا، أو معناه : أنفقوا في الجهاد ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة بترك القتال والإمساك عن الإنفاق في الجهاد، والباء زائدة، والمراد من الأيدي الأنفس، أو تقديره ولا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء، ﴿ وَأَحْسِنُوَاْ ﴾ : أعمالكم، أو الظن بالله، ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ : بمناسكهما وحدودهما وسننهما، أو بأن تحرم من دويرة أهلك، أو بأن تخرج لهما لا لغرض آخر من تجارة وغيرها، أو بأن تكون النفقة حلالا، ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ : منعتم والمراد حصر العدو، أو أعم كالمرض فيه خلاف، ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾، أي : فعليكم ما تيسر، ﴿ مِنَ الْهَدْيِ ﴾، يعني من أحصر وأراد التحلل تحلل بذبح هدى من بدنة أو بقرة أو شاة، ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ﴾ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }، أي : أنتم محرمون حتى يصل هديكم محلا يحل ذبحه فيه وهو مكان الحبس وعليه الشافعي، أو حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ الحرم وذبح وعليه الحنفي، ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾ : مرضا يحتاج إلى الحلق، ﴿ أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ﴾، كجراحة وقمل، ﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ : فعليه فدية إن حلق، ﴿ مِّن صِيَامٍ ﴾ : ثلاثة أيام، ﴿ أَوْ صَدَقَةٍ ﴾، ثلاثة آصاع على ستة مساكين، ﴿ أَوْ نُسُكٍ ﴾، ذبح شاة، وهو مخير في الثلاثة، ﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾، العدو، أو كنتم في حال أمن، أي : إذا تمكنتم من أداء المناسك، ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾، أي : استمتع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة في أشهر الحج إلى أن وصل الحج فحج، أي : من اعتمر أشهر الحج وأحل ثم حج في تلك السنة، ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ ﴾، أي : فعليه ما استيسر، ﴿ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾، أي : الهدى، ﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ﴾ : في أيام الاشتغال به، أي : بعد الإحرام وقبل التحلل، أو في أشهر بين الإحرامين، ﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ : إلى أهلكيم، لا قبل الوصول، أو المراد من الرجوع الفراغ من الحج، ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾، فائدتها العلم بأن الواو لا بمعنى أو، والمراد العدد المعين لا الكثرة، ﴿ ذَلِكَ ﴾، أي : هذا الحكم، ﴿ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، هم أهل الحرم، أو أهل مكة، أو من كان وطنه من مكة دون مسافة القصر أو من دون الميقات، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، أي : مخالفته، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ : لمن لم يتقه.
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ ﴾، أي : وقته، ﴿ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ : معروفات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، أو تمامه وفائدته كراهة العمرة في بعضه، أو في تمامه والأكثرون على عدم جواز الإحرام بالحج في غيرها، ﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ : أوجب على نفسه بالإحرام، ﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ : لا جماع ومقدماته من التقبيل والتكلم به في حضورهن في حكمه، ﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ : هي المعاصي، فإنها في الإحرام أقبح، أو خاص بمحظورات الإحرام فقط، ﴿ وَلاَ جِدَالَ ﴾ : لا مخاصمة، أو لا مراء، وروى أن المشركين يقفون في الحج ويجادلون، فبعضهم يقول نحن أصوب وبعضهم يقول نحن أو لا جدال في مناسكه، فإنه قد بين اله تعالى أشهره ومواقفه، ﴿ فِي الْحَجِّ ﴾ : في أيامه وفي شأنه، ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ﴾ : فلا يضيع، حث على الخير بعد النهي عن الشر، ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾، كان أهل اليمن يحجون بلا زاد مظهرين التوكل، ثم يسألون الناس فنزلت، ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، ومن التقوى الكف عن السؤال والإبرام، ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾، أي : واتقوا عقابي وغضبي يا ذوي العقول.
﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ : إثم، ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾، أي : في أن تبتغوا، ﴿ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ : عطاء ورزقاً منه بالتجارة حين الإحرام، كان المسلمون كرهوا التجارة في الحج، فنزلت، وأيضا روى أنه سئل هل للجالبين حج ؟ فنزلت، ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ﴾ : انصرفتم عنها، ﴿ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾، بالدعاء والتلبية، ﴿ وَاذْكُرُوهُ ﴾، بالتوحيد والتعظيم، ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ : كما ذكركم بالهداية فهداكم أو كما علمكم، ﴿ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ ﴾، أي : الهدي، ﴿ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ : الجاهلين بالطاعة، وإن : هي المخففة، واللام : هي الفارقة.
﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾، أي : من عرفة، كان القريش لا يخرجون من الحرم يقفون عند أدنى الحل قائلين : نحن أهل الله، فلا نخرج من الحرم بخلاف الناس، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة ويخرجوا من الحرم كسائر الناس، وحينئذ ثم : للتراخي في الإخبار، أو من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها، وحينئذ المراد بالناس : إبراهيم عليه السلام، أو جميع الناس، ﴿ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ ﴾، من جاهليتكم، ﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، يغفر الذنب وينعم.
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ : فرغتم من العبادات الحجية، ﴿ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ ﴾، أهل الجاهلية يقفون ويذكرون مفاخر آبائهم، فأمرهم الله بذكره كذكرهم مفاخر آبائهم، أو كقول الصبي : أبه أمه، كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فالهجوا أنتم بذكر الله بعد النسك، ﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾، عطف على كذكركم، أو على ذكركم، والمعنى : ذكراً أشد ذكراً على الإسناد المجازي، وصفا للشيء بوصف صاحبه كشديد الصفرة صفرته، أو عطف على آبائكم، أي : كذكركم قوما أشد مذكور به من آبائكم وأما عطفه على الضمير المضاف إليه لكذكركم فضعيف، قيل : أو بمعنى بل، ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾، أي : اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة ، ﴿ وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾، نصيب أو من طلب خلاف.
﴿ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، يدخل فيها كل خير في الدنيا وصرف كل شر، ﴿ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾، مثلها يدخل فيها الخير كله، ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، تخصيص بعد التعميم ؛ لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص، والتعميم أولى.
﴿ أُولَئِكَ ﴾، أي : الفريق الثاني، ﴿ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾، أي : مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، والدعاء كسب، لأنه عمل، أو من أجل ما عملوا، ﴿ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، يحاسبهم مع كثرتهم وكثرة أعمالهم في لمحة، وقيل : سريع الحساب مع الفريق الثاني لأن يتخلصوا من هوله.
﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ : أيام التشريق، والمراد : التكبير بعد الصلوات وعلى الأضاحي وعند الجمرات، ﴿ فَمَن تَعَجَّلَ ﴾ : عجل في النفر، ﴿ فِي يَوْمَيْنِ ﴾، ونفر بعد رمي اليوم الثاني ﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ ﴾ : في النفر إلى اليوم الثالث، ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، في تأخره، لا كما قال بعض من أهل الجاهلية، فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر، ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾، أي : التخيير، أو الأحكام المذكورة ؛ لأنه الحاج حقيقة، أو عدم الإثم لمن اتقى في حجه، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾، للجزاء.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ : يروقك ويعظم في نفسك قوله، ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، أي : قوله في أمور الدنيا، أو يعجبك فيها لا في الآخرة، ﴿ وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ : يحلف على أن ما في قلبه موافق للسانه، أو يبارز الله بما في قلبه من الكفر، كما قال تعالى :" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " ، ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ : أشد الخصومة والجدال، نزلت في أخنس بن شريك، فإنه حلو الكلام سيئ السريرة منافق، أو عام في المنافقين.
﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ : انصرف عنك، أو صار واليا، ﴿ سَعَى ﴾، أي : قصد، ﴿ فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾، كما فعله الأخنس حين رجع إلى مكة أحرق زرع المسلمين وعقر الحمر، أو إذا تولى سعى في الأرض فساداً –منع الله القطر فهلك الحرث والنسل، ﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ : لا يرتضيه.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾، حملته الأنفة ، وحمية الجاهلية على الإثم المأمور بتركه لجاجاً –الخصومة- يقال : أخذته بكذا، إذا حملته عليه، ﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ : كفته جزاء، ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾، أي : والله لبئس المقر جهنم.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي ﴾ : يبيع، ﴿ نَفْسَهُ ﴾ بالبذل في الجهاد، أو في جميع الأوامر، ﴿ ابْتِغَاء ﴾ : طلب، ﴿ مَرْضَاتِ اللّهِ ﴾، نزلت في صهيب بن سنان الرومي، عذبه المشركون ليرتد فأعطى جميع أمواله وخلص دينه وأتى المدينة ، وأكثر السلف على أنه عام في كل مجاهد في سبيل الله، ﴿ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، لإرشادهم إلى الهدي.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾ : في الإسلام، أو في الطاعة، وكافة : حال من السلم، أي : خذوا بجميع عرى الإٍسلام وشرائعه أو حال من الفاعل، أي : ادخلوا فيه بكليتكم لا تخلطوا به غيره وهو خطاب للمسلمين وعن بعضهم أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب، فإنهم مع أن أسلموا عظموا السبت وحرموا الإبل وأحبوا قراءة التوراة، فأمروا بتركها، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ : آثاره التي زين لكم، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ : ظاهر العداوة.
﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ ﴾ : عدلتم عن الحق، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾، على أن الإٍسلام هو الحق، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ : لا يعجزه الانتقام، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : لا ينتقم بظلم.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾، استفهام بمعنى النفي، ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ ﴾، مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى، أو تقديره : يأتيهم باسمه، ﴿ فِي ظُلَلٍ ﴾، جمع ظلة، ﴿ مِّنَ الْغَمَامِ ﴾، السحاب الأبيض، والعذاب إذا جاء من مكان يجيء الخير منه يكون أصعب، ﴿ وَالْمَلآئِكَةُ ﴾، هو على الحقيقة، ﴿ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ : تم أمر هلاكهم، أو فرغ من حسابهم فأوقعوا من عقابهم وذلك يوم القيامة، ﴿ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾، فيجازيهم.
﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، هو سؤال تقريع، ﴿ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾، معجزة ظاهرة على نبوة موسى، أو آية في الكتاب على نبوة محمد عليهما السلام، وكم : مفعول ثان ، أو مبتدأ والعائد محذوف، وآية : مميزة، ومن : للفصل، والجملة إما مفعول ثان لسل وتقديره : سلهم قائلا كم آتيناهم ؟ أو في موقع المصدر، أي : سلهم هذا السؤال، ﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ ﴾، أي : آياته، فإنها أجل نعمة لأنها سبب الهداية فجعلوها سبب الضلالة، أو حرفوها، ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ﴾، وعرفوها، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ : يعاقبه أشد عقاب.
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾، حسنت في أعينهم حتى أعرضوا عن غيرها، ﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ : فقراء المؤمنين كبلال وعمار، ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾، الشرك، ﴿ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، لتقواهم لأنهم في الجنة وهم في النار، ﴿ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، في الدارين.
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾، بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على الحق ، أو متفقين على الجهل على عهد إبراهيم، ﴿ فَبَعَثَ اللّهُ ﴾، أي : اختلفوا فبعث على الوجه الأول، وحذف لدلالة قوله " فيما اختلفوا " عليه، ﴿ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴾، مع الأنبياء، لا مع كل واحد، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾، متلبسا به، ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾، أي : الكتاب، مجازاص، أو الله، ﴿ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، أي : في شيء التبس عليهم، ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ﴾ : في الكتاب الذي أنزل لدفع الاختلاف، ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾، أي : الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾، الحجج الظاهرات الواضحات، ﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾، أي : اختلفوا حسدا وظلما، واختلافهم : كفر بعضهم بكتاب بعض وتحريفهم كتاب الله، ﴿ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، أي : لمعرفته، ﴿ مِنَ الْحَقِّ ﴾، بيان لما، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ : بإرادته، كاختلافهم في القبلة وفي إبراهيم وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، لا من جمع له أسباب الهداية.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ﴾، أم منقطعة، ومعنى الهمزة الإنكار، لما هاجر المسلمون وتركوا الديار والأموال فأصابهم ما أصابهم من الجهد وضيق العيش نزلت تشجيعا لهم وتطييبا لقلوبهم، ﴿ وَلَمَّا يَأْتِكُم ﴾، أي : لم يأتكم وزيدت عليه ما، ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ ﴾، مضوا، ﴿ مِن قَبْلِكُم ﴾ : حالهم التي هي مثل في الشدة أو سنتهم ﴿ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ﴾، الفقر والأسقام والمصائب والنوائب، ﴿ وَزُلْزِلُواْ ﴾، بأنواع البلايا وخوف العدو، ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾، أي : إلى الغاية التي يقول الرسول ومن معه فيها، ﴿ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ﴾، أي : بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى استبطئوا النصر، ﴿ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾، أي : قيل لهم ذلك إجابة لطِلْبتهم، يعني لا بد لكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتصبروا كما صبروا.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾، نزلت في شيخ كبير كثير المال، قال يا رسول الله : بما نتصدق على من ننفق ؟، ﴿ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾، حاصله أن المنفق هو كل خير والاهتمام في شأ ن المصرف ؛ لأن الخير لا يعتد به إلا بعد وقوعه موقعه، ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، فيجازيكم بقدره، والآية في نفقة التطوع، وعن بعضهم هي منسوخة بفرض الزكاة.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾، شاق مكروه طبعا عليكم، ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾، وهذا عام في الأمور كلها، ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ ﴾ : ما هو خير لكم، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، واعلم أن الجهاد فرض كفاية.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾، نزلت في سرية قاتلوا المشركين أول رجب وهم يظنون أنه من الجمادى فعيرهم المشركون وقالوا : إن محمدا استحل الشهر الحرام ، ﴿ قِتَالٍ فِيهِ ﴾، بدل اشتمال، ﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾، أي : ذنب كبير، واختلف في أنه منسوخ أو لا، ﴿ وَصَدٌّ ﴾ : منع، ﴿ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾، كمنعهم المسلمين عن العمرة، ﴿ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾ : بالله، ﴿ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، أي : صد عنه، ﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ﴾ : أهل المسجد، وهم المؤمنون، ﴿ مِنْهُ ﴾ : من المسجد، ﴿ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ﴾، وزرا مما فعلته السرية خطأ، ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾، أي : الشرك، أو ما يرتكبونه من الإخراج والكفر، ﴿ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ : أفظع مما ارتكبوه، ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ ﴾، أي : المشركون، ﴿ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ ﴾، أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين، وحتى معناه التعليل، أي : يقاتلونكم كي يردوكم، ﴿ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾، هو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بنفسه : إن استطعت فاضربني، ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ : من يرجع عن دينه إلى دينهم، ﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾، أي : يرجع ثم يموت على الكفر، ﴿ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ : النافعة وبطلت، ﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾، لما يفوتهم بالردة ما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، ﴿ وَالآخِرَةِ ﴾، بسقوط الثواب، ﴿ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال وهو مذهب الشافعي.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، نزلت في تلك السرية لما ظن بهم أنهم لو سلموا من الإثم ليس لهم أجر، ﴿ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ﴾ : ثوابه، ﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ ﴾، لما فعلوا من قلة الاحتياط، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ : بإجزال الأجر.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾، أي : عن تعاطيهما، قال عمر ومعاذ وسعد : يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال ؟ فنزلت ، والميسر : القمار، ﴿ قُلْ فِيهِمَا ﴾، أي : في تعاطيهما، ﴿ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾، حيث يؤذي إلى مخاصمة وفحش وزور وهذا لا يدل صريحا على حرمتهما لأنه مؤدى إلى الإثم لا أن الإثم يحصل منه، والمحرِّمة ما في المائدة، ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ : من كسب المال والطرب وغيرهما، ﴿ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾، فإن مفاسدهما التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منها، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾، لما نزل قوله :" فللوالدين والأقربين " سأل عمرو بن الجموح عن مقدار ما ينفق فنزل، ﴿ قُلِ الْعَفْوَ ﴾، أي : ما فضل من المال عن العيال، أو أفضل مالك وأطيبه، قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل : مبينة بها قاله مجاهد وغيره، ﴿ كَذَلِكَ ﴾، أي : مثل ما فصل وبين لكم هذه الأحكام، ﴿ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ﴾، أي : سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، أي يبين تبيينا مثل لهذا، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾
﴿ فِي ﴾، أمر، ﴿ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾، لتعلموا زوالها وفناءها وإقبال الآخرة وبقاءها، وقيل : متعلق بيبين أي : يبين لكم الآيات في أمر الدارين لعلكم تتفكرون، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾، لما نزل " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " إلخ، اعتزلوا مخالطة اليتامى ولا يأكل أحد معهم، فشق ذلك عليهم فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت، ﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾، أي : على حدة، أو مداخلتهم لإصلاحهم خير من مجانبتهم، قيل : أو إصلاح أموالهم من غير أجرة خير، ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾، أي إن خلطتهم طعامكم وشرابكم بطعامهم وشرابهم، وقيل : إن تصيبوا من أموالهم أجرة من قيامكم بأمورهم، ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾، أي : فهم إخوانكم، ولا بأس من الخلطة أو من إصابة بعضكم من مال بعض، ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾، أي : يعلم من قصده الإفساد أو الإصلاح فيجازيه، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ ﴾، العنت : المشقة، أي : لو شاء الله إعناتكم لأعنتكم : كلفكم ما يشق عليكم من المجانية مطلقا دون المخالطة، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ : غالب يقدر على الإعنات، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : يحكم بحكمته فيتسع لكم.
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾، كانت لأبي مرثد الغنوي خليلة مشركة فبعدما أسلم أراد أن يتزوج بها، فنزلت " والمشركات " هاهنا عامة في كل من كفرت بالنبي عليه الصلاة والسلام لكن خصت منها حرائر الكتابيات بقوله :" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " ، وقيل : المراد بها عبدة الأوثان ؛ فلا يدخل فيها أهل الكتاب، ﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ ﴾، أي : من حرة مشركة كانت لعبد الله بن رواحة فأعتقها كفارة أن لطمها وتزوجها فطعنوا فيه وعرضوا عليه نسيبة مشركة، فنزلت، ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾، الواو للحال، وبمعنى أن، أي : وإن أعجبتكم بمالها وجمالها، ﴿ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ﴾، أي : لا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا وهو على عمومه، ﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾، أي : رجل مؤمن وإن كان عبدا خير من مشرك وإن كان سريا، ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾، أي : المشركون والمشركات، ﴿ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾، أي : الأعمال الموجبة لها، ﴿ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ ﴾، أي : العمل الموجب لهما، قيل : تقديره وأولياء الله يدعون، بإقامة المضاف إليه مقام المضاف تعظيما لهم، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾، أي : بأمره وشرعه أو بتوفيقه أو بقضائه، ﴿ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ : لكي يتذكروا، أو ليكونوا بحيث يرجى عنهم التذكر.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾، إذا حاضت نساء اليهود لا يؤاكلونهن ولا يخالطونهن فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت ، والمحيض مصدر، ﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾، أي : الحيض مستقدر، ﴿ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ﴾، اجتنبوا مجامعتهن إذا حضن، ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ﴾، بالجماع، ﴿ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ : من الدم، أو يعتسلن وقراءة حمزة والكسائي وهو " يطهّرن " دالة عليه سيما مع قوله، ﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾، أي : بالماء، ﴿ فَأْتُوهُنَّ ﴾ : بالوقاع، ﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ﴾، أن تعتزلوهن منه وهو الفرج، أو من المأتى الذي حلله لكم وهو القبل، ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ : من الذنوب، ﴿ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ : المترهين عن الأقذار، كإتيان الحائض وفي الدبر .
﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾، أي : مزرع للولد، ﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾ : مزرع الولد لا غير، ﴿ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾، من أي جهة شئتم مقبلة أو مدبرة لا كما قالت اليهود : إن مجامعة المرأة من دبرها في قبلها يجعل الولد أحول ودنس عند الله، ﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ ﴾ : ما يدخر لكم الثواب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو التسمية عند الجماع، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾، في معاصيه، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ﴾، فاحذروا عن الفضيحة، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ : الكاملين في الإيمان الذين اجتنبوا المعاصي.
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً ﴾، اسم لما يعرض دون الشيء، ﴿ لِّأَيْمَانِكُمْ ﴾ : أراد منها الأمور المحلوف عليها من البر والتقوى، وهي صلة عرضة أو الفعل، ﴿ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾، عطف بيان للإيمان، أي : لا تجعلوا الله مانعا لما حلفتم عليه من الخير، بل افعلوا الخير ودعوا اليمين كما قال السلف في معنى الآية : لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير لكن كفر عن يمينك واصنع الخير ويجوز أن يكون اللام للتعليل، أي : لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به مانعاً لأن تبروا، وقيل : والعرضة بمعنى المعرض للأمور وأن تبروا علة النهي، أي : لا تجعلوه معرضا للإيمان فتبتذلوه بكثرة الحلف به أرادة بركم فإن الحلاف مجترئ على الله وهو غير متق، ﴿ وَاللّهُ سَمِيعٌ ﴾ : لأيمانكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بمقاصدكم.
﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ﴾، هو ما يجري على اللسان عادة ك : لا والله وبلى والله، أو هو حلف يرى أنه صادق ولا يكون كذلك، أو أنت تحلف وأنت غضبان، أو أن تحرم ما أحل الله لك، أو أن تحلف عن الشيء ثم تنساه، ﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ : وهو أن يحلف ويعلم أنه كاذب، ﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ ﴾ : لم يؤاخذ باللغو، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ : لا يعجل بالعقوبة وإن حلف كاذبا.
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾، أي : يحلفون على أن لا يجامعوهن، وعدى بمن لمعنى البعد، وهو خبر لقوله، ﴿ تَرَبُّصُ ﴾، أي : توقف، ﴿ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾، أي : للحالف حق التلبث في تلك المدة لا يطالب فيها بوطء ولا طلاق، ﴿ فَإِنْ فَآؤُوا ﴾ : رجعوا بالحنث، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ للمولى إثم الحنث وإضرار المرأة، والأصح أنه يجب عليه الكفارة.
﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ : وطلقوا، ﴿ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ﴾ : بما يقولونه، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بما يفعلونه، وعند كثير من السلف : أنه تقع تطليقة بمجرد مضي أربعة أشهر، إما بائنة أو رجعية، وفي الآية دلالة على أنه يوقف، فيطالب إما بهذا أو بهذا، وعليه كثير من السلف أيضا.
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ ﴾ : المدخول بهن من ذوات الأقراء، ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ﴾، يحملنها على الانتظار، خبر معناه الأمر للتأكيد، ﴿ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ﴾، أي : أطهار أو حيض، ثم يجوز لهن أن يتزوجن، ونصبه على الظرفية، أي : مدتها، أو المفعولية أي : مضيها، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد بقرأين، ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾، من حبل أو حيض ، ﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، هذا تغليظ وتأكيد لا تقييد، ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ : أزواجهن جمع بعل والتاء لتأنيت الجمع، ﴿ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ : إلى النكاح والرجعة، ﴿ فِي ذَلِكَ ﴾ : في زمان التربص وهو العدة، وكان الرجل يرجع إلى امرأته وإن طلقها مائة إلى أن نزلت " الطلاق مرتان " فصار قسمين بائنة ورجعية، فليس الضمير أخص من المرجوع إليه، ﴿ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ﴾ : بالرجعة لا إضراراً وهو تقييد للأحقية ، ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ﴾، أي : لهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالوجه الذي لا ينكر في الشرع والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في الحسنة لا في جنس الفعل، ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ : زيادة في الحق وفضل فيه، أو شرف وفضل في الدنيا والآخرة، ﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ﴾، يأمر كما أراد بمقتضى حكمته.
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾، كان الطلاق غير محصور في الجاهلية في عدد، ثم إن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال : لا أطلقك ولا أؤويك أبدا، أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك وهكذا، فشكت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فنزلت، وحاصله أن الطلاق الرجعي مرتان، ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أي : إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فلك الخيار في المراجعة وحسن المعاشرة ، ﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ : بالطلقة الثالثة ، أو بألا تراجعها ضراراً ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ﴾ أيها الولاة ﴿ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ : من الصداق، ﴿ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا ﴾ أي : الزوجان، ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ﴾ من مواجب الزوجية، ولما كان الولاة يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع كأنهم الآخذون والمؤتون ، ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ أيها الحكام في المزاوجة، ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ أي : لا جناح على المرأة فيما أعطيت ولا على الرجل فيما أخذ، وحاصله أنه لا يجوز أن تضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الصداق، نعم إذا تراضيا وطبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا، ولهذا كثير من السلف والخلف على أن الخلع حرام إلا أن يكون الشقاق من المرأة، لكن ذهب الشافعي إلى أنه إذا جاز في حال شقاقها فبطريق الأولى عند الاتفاق، لكن في غير هاتين الصورتين فحرام، ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ بالمخالفة، ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ : عقب النهي بالوعيد مبالغة في التهديد.
﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾، أي : بعد اثنتين، فهو مرتبط بقوله :" الطلاق مرتان "، نوع تفسير لقوله :" أو تسريح بإحسان "، وذكر بينهما الخلع دلالة على أن الطلاق يكون مجانا تارة وبعوض أخرى، ﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ﴾ أي : بعد ذلك الطلاق ﴿ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ أي : حتى يطأها زوج آخر، يعني في نكاح صحيح، أو المراد من النكاح : العقد، والإصابة قد علم من الأحاديث الصحاح، ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾ : الزوج الثاني ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ﴾، بنكاح جديد ﴿ إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ﴾ : من حقوق الزوجية، ﴿ وَتِلْكَ ﴾ أي : الأحكام المذكورة ﴿ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ : يفهمون، ثم اعلم أن شرط التحليل في النكاح فاسد إلا عند أبي حنيفة، وقد صح " لعن الله المحلل والمحلل له "، والخلاف في أن الناكح بنية التحليل هو المحلل أم لا، وكلام السلف يدل على أنه المحلل الملعون.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ الأجل يطلق للمدة ولمنتهاها والبلوغ : الوصول، وقد يقال للدنو على الاتساع، وهو المراد هاهنا ، ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : راجعوهن من غير ضرار، ﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ : أو خلوهون لتنقضي عدتهن عدتهن من غير تطويل، وهذا إعادة لبعض ما سبق للاهتمام به، ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ﴾ : لا تراجعوهن إرادة إضرارهن كما سبق ﴿ لَّتَعْتَدُواْ ﴾ لتظلموهن بالتطويل والإلجاء إلى الافتداء وهو عين الضرر ، ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ بتعريضها للعقاب، ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً ﴾ كان الرجل يطلق أو يعتق أو ينكح فيقول : كنت لاعبا فنزلت، ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ : التي منها الهداية، ﴿ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ : القرآن، ﴿ وَالْحِكْمَةِ ﴾ : السنة، وقيل : مواعظ القرآن، أفردهما بالذكر لشرفهما ﴿ يَعِظُكُم بِهِ ﴾ : بما أنزل، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ تأكيد وتهديد.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي : انقضت عدتهن ﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ أيها الأولياء، وقيل : الضمير للناس كلهم، أي : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، ﴿ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ أي : الذين كانوا أزواجا لهن، نزلت في أخت معقل بن يسار، طلقها زوجها، فلما انقضت عدتها جاء يخطبها، ومعقل منع أن يتزوجها، ﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم ﴾ أي : الخطاب والنساء، وهو ظرف لا تعضلوهن أو لأن ينكحن، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بما يعرفه الشرع، وهو حال عن الفاعل، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي : النهي والخطاب لك أحد ، أو الكاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطب، أو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني : ما أنزل إليك وقلنا لك ﴿ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ ﴾ أي : ترك العضل، ﴿ أَزْكَى ﴾ : أنفع ﴿ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ : من دنس الإثم، ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ ﴾، النافع الصالح، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : لقصور علمكم.
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ ﴾، لفظه خبر ومعناه أمر، على سبيل الاستحسان، ﴿ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ ﴾ : سنتين، ﴿ كَامِلَيْنِ ﴾ : تحديداً لا تقريبا ﴿ لِمَنْ أَرَادَ ﴾، أي : ذلك لمن أراد ﴿ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ فعلم أن أقصى مدتها سنتان، ولا اعتبار بالرضاعة بعدهما وعليه السلف وأنه يجوز أن ينقص عنهما، ﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ﴾ أي : الأب، وعبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه ﴿ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ﴾، أي : على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ حسبما يراه الحاكم وهو يقدر، ﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ تعليل للتقييد بالمعروف ولإيجاب المؤن، ﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ بأن تدفعه عن نفسها لمضرة أبيه بتربيته، بل عليها إرضاعه، ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ ﴾، أي : الأب ﴿ بِوَلَدِهِ ﴾ بأن ينزع عنها إضراراً لها، ولا " تضار " إلخ تفصيل لما قبله، أي : لا يكلف كل منهما الآخر ما ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد، ﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ ﴾ عطف على " وعلى المولود له "، وما بينهما تعليل معترض، أي : وعلى وارث الأب وهو الصبي نفسه، فإنه إذا مات أبوه فمؤن مرضعته من ماله إن كان له مال وإلا تجبر الأم، أو المراد وارث الطفل، يعني إن مات الأب يجبر جميع ورثة الطفل على فرض موته –عصبة كانوا أو غيرهم- على نفقة مرضعته، أو يجبر وارث الطفل المحرم منه بحيث لا يجوز النكاح بينهما على تقدير أن يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى لا الجميع، أو عصبات الطفل فقط ﴿ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ : مثل ما على والده من الإنفاق وعدم الإضرار أو المراد عدم الإضرار فقط لا الإنفاق، ﴿ فَإِنْ أَرَادَا ﴾ أي : الأبوان ﴿ فِصَالاً ﴾ : فطاماً صادراً ﴿ عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ﴾ : بينهما قبل الحولين ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ : في ذلك ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في الفطام ﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ ﴾ : المراضع ﴿ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم ﴾ : إلى المراضع، ﴿ مَّا آتَيْتُم ﴾، أي : أردتم إيتاءه، يعني : أجرتها، أو إلى الأمهات أجرتهن بقدر ما أرضعن ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالوجه المتعارف شرعاً ومروءة، ونفى الجناح مقيد بالتسليم لا لأنه شرط جواز الاسترضاع، بل إرشاد إلى أن الأكثر ثواباً أن يكون الاسترضاع مقرونا بتسليم ما يعطى المرضع، فشبه ما هو من شرائط الأولوية بما هو من شرائط الصحة، فاستعيرت له العبارة مبالغة، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾ : في محافظة حدوده، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، حث وتهديد.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ ﴾ : ويتركون، ﴿ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ﴾ : يحملنها على التوقف، خبر في معنى الأمر، ﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾، أي : عشر ليال، وتقديره وأزواج الذين، أو تقديره يتربصن بعدهم، لأنه لا بد من الضمير في الخبر إذا كان جملة، وخص عنه الحامل لقوله :" وأولات الأحمال أجلهن " إلخ والجمهور على أن عدة الأمة نصفها، ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ : انقضت عدتهن، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ : أيها الأولياء أو المسلمون، ﴿ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ ﴾ : من التعرض للخطاب والتزين، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بوجه لا ينكره الشرع، ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، فيجازيكم عليه.
﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ ﴾، التعريض : إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازاً، كقول المحتاج : جئتك لأسلم عليك، ﴿ مِنْ خِطْبَةِ ﴾، الخطبة بالكسر : طلب المرأة، ﴿ النِّسَاء ﴾ : المعتدات للوفاة، كقولك : إنك جميلة وإن النساء من حاجتي ونحوه، وحرم التصريح بخطبتهن، وأما الرجعية فحرام على غير زوجها التصريح والتعريض، ﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ : أضمرتم فيه من غير تصريح ولا تعريض، ﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾، أي : في أنفسكم فرفع عنكم الحرج في ذلك، ﴿ وَلَكِن ﴾، أي : فاذكروهن ولكن، ﴿ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ : بأن تأخذوا الميثاق عنهن في عدم تزوج غيره، وقال كثير من السلف يعني : الزنا، وقيل : أن يتزوجها في العدة سرًّا، ﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾، أي : لا تواعدوهن بشيء إلا بأن تقولوا، أي : بالتعريض، أو لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة وهي التعريض، ﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾، أي : لا تعزموا عقد عقدة النكاح، ﴿ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ : حتى ينتهي ما كتب من العدة، والإجماع على أنه لا يصح العقد في العدة، وعند مالك أن من تزوج امرأة في عدة ودخل بها، حرام عليه تلك المرأة بالتأبيد، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ : من عزم ما لا يجوز، ﴿ فَاحْذَرُوهُ ﴾ : فخافوا الله ولا تعزموا، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ وبخهم أولا ثم لم يؤيسهم من رحمته.
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، أي : لا تبعة من مهر، أو لا وزر لأنه ليس ببدعي، ﴿ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ ﴾، تجامعوهن، ﴿ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ : توجبوا لهن صداقاً، ونصب فريضة بمعنى مفروضة على المفعول به، وأو بمعنى إلا أن، أو بمعنى إلى أن، أو بمعنى الواو، يعني : لا تبعة من مطالبة مهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة، ولم يُسَمَّ لها مهر، فإذا كانت ممسوسة فعليه مهر المثل، وإذا كانت غير ممسوسة وسمى لها مهرا فلها نصف المسمى، ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾، تقديره : فطلقوهن ومتعوهن من مالكم وهي قبل المسيس وتسمية المهر تستحق المتعة فقط إجماعاً، ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ ﴾ : الغني، ﴿ قَدَرُهُ ﴾ : ما يقدره ويليق به، ﴿ وَعَلَى الْمُقْتِرِ ﴾ : الفقير، ﴿ قَدْرُهُ ﴾ : كذلك، ﴿ مَتَاعاً ﴾ : تمتيعاً، ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ : بالوجه المستحسن شرعاً ومروءة، ، ﴿ حَقّاً ﴾، واجباً صفة متاعاً أو مصدر، ﴿ عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾، على من أحسن إلى نفسه أو إلى المطلقات فسماهم بالمحسنين ترغيبا.
﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾، أي : فلهن أو الواجب لهن، ومنه يؤخذ أنه لا متعة حينئذ وأن الجناح المنفي هو تبعة المهر، ﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾، على وزن يفعلن، أي : يتركن حقهن، ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾، المراد الزوج بأن يسوق إليها المهر كلا فقيل : تسميتها عفواً على المشاكلة، أو لأن المقرر عند العرب سوق المهر إليها حين الزواج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف، فإن لم يسترد فقد عفا عنه، أو المراد الولي، يعني : إذا كانت بكراً، وإليه ذهب مالك، وقيل : وإن كانت كبيرة، ﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾، خطاب للرجال والنساء، ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾، أي : لا تنسوا أيها الرجال والنساء أن يتفضل بعضكم على بعض، ﴿ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ : فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم.
﴿ حَافِظُواْ وعليه الأكثرون، وأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل أو الصبح لأنها مثل العصر، أو الظهر لأنها في وسط النهار، أو واحدة من الخمسة لا بعينها كليلة القدر، وقيل : المغرب لأنها الوسطى في العدد بين الرباعية والثنائية، وقيل : العشاء لأنها بين جهريتين وقيل : صلاة الجماعة، وقيل : الجمعة، وقيل : العيد، وقيل الضحى، وقيل الوتر، { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾، أي : خاشعين ذليلين بين يديه والمراد القنوت في الصبح.
﴿ فَإنْ خِفْتُمْ ﴾، من عدو أو غيره، ﴿ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ : فصلوا راجلين وراكبين مستقبلي القبلة وغيرها وعند أكثر السلف يومئ برأسه حيث كان وجهه، وفيه دلالة على جواز الصلاة حال المشي والمضاربة وإن لم يكن الوقوف، ﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾ : زال خوفكم، ﴿ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾، أي : فصلوا كما علمكم الله بلسان نبيه ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن وقيل : إذا أمنتم فاشكروا الله واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً ﴾، بالنصب أي : يوصون وصية، أو كتب الله عليهم وصية، وبالرفع أي : عليهم وصية، أو كتب عليهم وصية، أو حكم الذين يتوفون وصية، ﴿ لِّأَزْوَاجِهِم ﴾ : لنسائهم، ﴿ مَّتَاعاً ﴾، ناصبه يوصون، أو وصية في قراءة الرفع على حذف الجار أي : بتمتيع، ﴿ إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾، مصدر مؤكد لأنه دل يوصون لأزواجهم ما يمتع به سنة على أنهن لا يخرجن فأكد، أو حال من الأزواج يعني وحق المتوفي أن يوصوا قبل أن يحتضروا، بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا وينفق عليهن من تركته غير مخرجات من مساكنهن ، وهذا في ابتداء الإسلام ثم نسخت المدة بقوله : أربعة أشهر وعشرا والنفقة بالإرث، هذا ما عليه أكثر السلف فكانت الآية متأخرة في التلاوة متقدمة في النزول، ﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ ﴾ : عن منزل الأزواج، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، يا أولياء الميت، ﴿ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ ﴾ : من التطيب وترك الحداد، ﴿ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ : مما لم ينكره الشرع، وهذا يدل على أنها كانت مخيرة بين الملازمة فأخذ النفقة وبين الخروج وتركها، ﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ ﴾ : لا يدفعه أحد عن الانتقام، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : يرعى المصالح.
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ : الذين يتقون الشرك، لما نزل في المتعة :" حقا على المحسنين "، قال رجل : إن شئت أحسنت وإن شئت لم أفعل، فنزلت، وكثير من العلماء استدلوا بهذه الآية على أن المتعة لكل مطلقة .
﴿ كَذَلِكَ ﴾، مثل أحكام الطلاق والعدة، ﴿ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾ : في إحلاله وتحريمه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : تفهمون وتدبرون.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ : فراراً من الطاعون، ﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ ﴾ : أربعة آلاف، أو ثمانية وأربعون ألفا والاختلاف كثير، ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾، مفعول له، ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ ﴾ : في أثناء طريقهم، ﴿ مُوتُواْ ﴾، أي : حكم عليهم بالموت، فماتوا ليعلموا أن لا فرار من قدر الله، ﴿ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾، بمعجزة نبي، ثم دعا ربه بعد مدة طويلة أن يحييهم وهم قائلون : سبحانك لا إله إلا أنت، وكان فيها عبرة ودليل قاطع على المعاد الجسماني، ﴿ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ : حيث أحياهم ليعتبروا ويصدقوا رسله، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾، حيث لم يعتبروا.
وكان سوق هذه القضية بعث على الجهاد فلذلك قال :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : لما علمتم أنه لا ينفع الفرار من الموت، ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ﴾ : لما يقوله المتخلف، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بما يضره.
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ ﴾، مبتدأ وذا خبره والذي صفة ذا وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، ﴿ قَرْضاً حَسَناً ﴾، وهو الإنفاق في سبيله، ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً ﴾، نصب على الحال من الضمير المنصوب، أو على المصدر على أن الضعف اسم المصدر، وجمعه للتنويع، ﴿ كَثِيرَةً ﴾، عن ابن عمر لما نزلت " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة " الآية، قال عليه السلام : رب زد أمتي، فنزلت " من ذا الذي يقرض الله " إلخ، قال رب زد أمتي فنزلت " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ، ﴿ وَاللّهُ يَقْبِضُ ﴾ : يمسك الرزق، ﴿ وَيَبْسُطُ ﴾ : يوسع على ما أراد فلا تبخلوا، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ : فيجازيكم على ما قدمتم.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ ﴾، أي : الجماعة، ﴿ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ ﴾ : وفاة، ﴿ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ﴾، أشمويل، أو شمعون أو يوشع ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً ﴾ : أنهض أميرا لنا للقتال ننتهي إلى أمره، ﴿ نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ جزمه على الجواب، ﴿ قَالَ ﴾ : لهم نبيهم، ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ﴾، هو خبر عسيتم، والشرط فاصل بينهما، يعني : أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم، وأدخل هل مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريراً وتثبيتاً، ﴿ قَالُواْ وَمَا لَنَا ﴾، أي : داع لنا، ﴿ أَلاَّ نُقَاتِلَ ﴾، أي : إلى أن نترك القتال، ﴿ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا ﴾، أي : أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ ﴾ : عن الحرب، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، قيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر، ﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ : فيجازيهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ﴾ أميراً سألتموه للقتال، ﴿ قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ : من أين يستأهل الإمارة ؟ ﴿ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾، لأنه لم يكن من سبط يهوذا ، والملك كان في سبطه، قيل : إنه سقاء، وقيل : دباغ، ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ﴾، أي : وهو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، ﴿ قَالَ ﴾ لهم نبيهم ﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أجاب عن اعتراضهم أولا بأنه لست أنا الذي عينته، بل الله أمرني به، وهو أعلم منكم، وثانيا بقوله، و﴿ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ : ووفور العلم وقوة البدن عماد الملك لأنه أعرف بطرق السياسة ولأنه أقوى على مقاومة العدو، وثالثا بقوله، ﴿ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ﴾، أي : هو مالك الملك، فله أن يؤتيه من يشاء من غير اعتراض عليه، ورابعا : بقوله، ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ : يوسع على الفقير فيغنيه، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بمن يليق بالملك نسيبا أو غيره.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ ﴾، لما طلبوا دليلاً على أن الله اصطفى طالوت، ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ : صندوق أخذ العمالقة منهم، ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ : وقار ورحمة، من ذهب الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، فوضع موسى فيه الألواح ، وروح من الله إذا اختلفوا في شيء يخبرهم ببيان ما يريدون، وفيه أقوال أخر، وفي الجملة في أي مكان كان فيه تطمئن القلوب، ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ عصاه ورضاض الألواح والتوراة، وقيل : ثياب هارون وقفيز من المن، ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ ﴾ : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾، أي : رجوع التابوت، ﴿ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ : علامة لصدقي في اصطفائه، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ : مصدقين، وهذا من تتمة كلام ذلك النبي عليه السلام، وجاز أن يكون ابتداء خطاب من الله.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾، انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، وكانوا ثمانين ألفا، ﴿ قَالَ ﴾، لهم طالوت، ﴿ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم ﴾ : يعاملكم معاملة المختبر، ﴿ بِنَهَرٍ ﴾ : هو بين الأردن وفلسطين، ﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ﴾، أي : شرب بفمه من النهر، ﴿ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ : ليس من أشياعي فلا يصحبني، ﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾، من طعم الشيء، إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا، ﴿ إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾، استثناء منقطع من قوله فمن شرب، ﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، أي : وقع أكثرهم في النهر وكرعوا إلا قليلا، أو أفرطوا إلا قليلا، فإنه أيام الحر فكان من اغترف روى، ومن شرب منه لم يرو، والقليل ثلاث مائة وبضعة عشر، أو أربعة آلاف من ثمانين ألفا، ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ﴾، أي : النهر، ﴿ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾، أي : القليل الذي لم يخالفوه، ﴿ قَالُواْ ﴾ : بعضهم لبعض، أو ضمير قالوا للذين خالفوا وشربوا، ﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾ : لكثرتهم وقلتنا، ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ : يعلمون، ﴿ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ ﴾ : تيقنوا لقاءه وثوابه، وهم العلماء من القليل، ومن قال ضمير قالوا للذين خالفوا، يقول : المراد من الذين يظنون، هم القليل بجملتهم، فهم والكثيرون تقاولوا بذلك والنهر بينهما، ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ ﴾ : فرقة، وكم خبرية، أو استفهامية، ومن زائدة أو مبينة، ﴿ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : بحكمه وأمره، ﴿ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ : بالنصر والإثابة.
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ ﴾ : ظهروا ودنوا، ﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ ﴾ : أصبب وأنزل، ﴿ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ : بتقوية قلوبنا، ﴿ وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
﴿ فَهَزَمُوهُم ﴾ : كسروهم، ﴿ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ : بقضائه ونصره، ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾، كان في عساكر طالوت، وقد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشركه في أمره ونعمته، فوفى بوعده، ثم آل الأمر إلى داود، ﴿ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ﴾ : ملك بني إسرائيل، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ : النبوة، ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾، من صنعة الدروع ومنطق الطير، ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾، كما دفع العمالقة بجنود طالوت، ﴿ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾ : بغلبة الكفار، أو بشؤمهم، ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : فيدفع عنهم ببعضهم بعضا.
﴿ تِلْكَ ﴾، إشارة إلى حديث الألوف، والتابوت، وطالوت وجالوت، ﴿ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ : بالوجه المطابق، ﴿ وَإِنَّكَ ﴾ : يا محمد، ﴿ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ : ومنها يعلم رسالتك، حيث تخبر بها عن تلك المغيبات من غير أن تقرأ وتسمع، أو إنك منهم، فلا بد أن تصبر كما صبروا.
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾ : المذكورة قصصهم، أو اللام للاستغراق، ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، بأن خصصناه بمنقبة، وإن استووا في القيام بالرسالة، ﴿ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ﴾ : هو موسى كلَّمه في الطور، قيل : هو ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلمه ليلة المعراج، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾، أي : محمدا عليه الصلاة والسلام، فخواصه أكثر، وأبهمه لأنه متعين الرجحان، وقيل : إبراهيم، وقيل : إدريس، وقيل أولو العزم، ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ : الحجج القواطع، خصه بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ : بجبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ ﴾، هداية الناس واتفاقهم، ﴿ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم ﴾ : من بعد الرسل، فلا يختلفون في الدين، ولا يكفر بعضهم بعضا، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ : الواضحات، ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ ﴾ : ثبت على الإيمان بتوفيقه، ﴿ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ﴾ : كالنصارى، صاروا فرقاً وتحاربوا، ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ﴾، كرره تأكيدا ليعلم كل أحد أنه من عند الله لا من عند أنفسهم، ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ فيوفق بعضهم فضلا، ويخذل بعضهم عدلا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ﴾، أراد الزكاة المفروضة، أو الإنفاق في سبيل الخير مطلقاً، ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾، فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب ﴿ وَلاَ خُلَّةٌ ﴾، حتى يعينكم، " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " ، ﴿ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾، حتى تتكلوا على شفعاء، إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولا، ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾، قيل : وضع الكافرون موضع التاركون للزكاة تغليظا، ويمكن أن يكون المراد منه : والكافرون هم الذين يضعون الأشياء غير موضعها، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم، في ألا تنفقوا، فتضعوا أموالكم غير موضعها.
﴿ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ : هو المتفرد بالألوهية للكائنات، ﴿ الْحَيُّ ﴾ : في نفسه لا يموت أبدا، ﴿ الْقَيُّومُ ﴾ : دائم القيام بتدبير الخلق، ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾ : فتور يتقدم النوم، أي : لا تأخذه سنة بلا نوم، ﴿ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ : فلا يستغني ذكر أحدهما عن الآخر، وفي تقديم السِّنة مراعاة ترتيب الوجود، وهو كالمبين للحي القيوم ، ﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ : ملكا وخلقاً، تقرير لقيوميته، وتفرده بالألوهية، ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ ، بيان لعظمته وجلاله، ونفي لزعم الكفار أن الأصنام شفعاء، ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ : ما قبلهم، أو أمور الدنيا، أو ما يعلمون، أو ما حضر عندهم، والضمير لما في السموات وما في الأرض، فإن فيهم العقلاء، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾، ما بعدهم، أو أمور الآخرة، أو ما لا يعلمون، أو ما غاب عنهم، ﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ ﴾ : من معلوماته، ﴿ إِلاَّ بِمَا شَاء ﴾ : أن يعلموا، ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾، الكرسي : العلم ، أو الكرسي المشهور وهو يدل على عظمته، وقيل : هو الملك والسلطنة، ﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ ﴾، لا يثقلها ، : السموات والأرض، والإضافة إلى المفعول، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ : ذاتاً وقدراً وقهراً، المتعالي عن الأنداد، ﴿ الْعَظِيمُ ﴾ : كل شيء دونه حقير.
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، نزلت في رجل مسلم له ابنان نصرانيان أراد إكراههما لدخولهما في الإسلام، فالحكم خاص بأهل الكتاب، أو منسوخ بآية القتال، وهو خبر بمعنى الأمر، وقيل : خبر حقيقة، إذ الإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيراً، لكن قد تميز الإيمان من الكفر بالحجج والآيات، فلا يحتاج إلى الإكراه، ولهذا قال :﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ : الشيطان، ﴿ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ ﴾ : طلب الإمساك من نفسه أو تمسك، ﴿ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ﴾ : من الحبل الوثيق المحكم، ﴿ لاَ انفِصَامَ لَهَا ﴾ : المأمون من الإنقطاع، وهو الإيمان، ﴿ وَاللّهُ سَمِيعٌ ﴾ : بالأقوال، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بالنيات.
﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ : ناصرهم، ومتولي أمورهم، ﴿ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ : الجهل، وهو أجناس كثيرة، ﴿ إِلَى النُّوُرِ ﴾ : الهدى والعلم، وهو واحد، والجملة خبر بعد خبر أو حال، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ : الشياطين يتولون أمورهم ويزينون الجهل لهم، ﴿ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ ﴾ : الفطري، أو لما كان سببا لعدم إيمانهم كأنه أخرجهم، ﴿ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وعيد وتحذير.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ ﴾ : جادل، تعجب من حماقة نمرود، ﴿ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ﴾، أي : لأن آتاه، يعني : بطر الملك حمله على ذلك، ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾، ظرف لحاج، ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، أي : الدليل على وجوده حدوث الأشياء بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، فإنه يدل على وجود فاعل مختار، ﴿ قَالَ ﴾ : الذي حاج، ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ : بالعفو عن القتل والقتلى ، أو قاله عناداً ومكابرة، وأوهم أنه الفاعل لذلك، وهذا القول أظهر، ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾، أي : إذا كنت كما ادعيت من الإماتة والإحياء فمن هذا صفته هو المتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير الكواكب وحركاتها، وهذه الكواكب تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلاها تحيي وتميت فأت بها من المغرب !، ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ : أخرس في هذا المقام، وصار مبهوتاً مغلوباً، ﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ : الذين ظلموا أنفسهم بالاتباع عن الحق، قيل : لا يهديهم محجة الاحتجاج.
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾، الأول في قوة قوله : أرأيت مثل الذي حاج، فعطف عليه بقوله :" أو كالذي "، وقيل : الكاف مزيدة والمار عزير، أو الخضر ، أما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، حين خربه بختنصر، ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ : ساقطة على سقوفها، أي : خرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو من خوى إذا خلا، أي : خالية مع سلامة عروشها، ﴿ قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ : استبعاداً لتعميرها بعد شدة خرابها، والظاهر أن المراد به أهل القرية، فيكون استعظاماً لإحيائها، ﴿ فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ﴾، أي : فألبثه ميتا مائة عام، أراه آية في نفسه، ﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ : بالإحياء، ﴿ قَالَ ﴾ : الله لو بواسطة ملك، أو بلا واسطة، ﴿ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، كقول الظان، ﴿ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ ﴾، ذكر أن معه عنبا وتينا وعصيرا، فالطعام الأولان، والشراب الأخير، ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ : لم يتغير لا العنب والتين تعفنا، ولا العصير استحال، أفرد الضمير، لأنهما كجنس واحد، ﴿ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾، كيف تفتت عظامه، حتى تعلم مكثك مائة سنة، ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ﴾، أي : وفعلنا ذلك لنجعلك، وقيل عطف على مقدر، أي : فعلنا ذلك ليزداد بصيرتك ولنجعلك، قيل : كان هو أسود الشعر وبنو بنيه شيب، ﴿ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ ﴾ : عظام الحمار، ﴿ كَيْفَ نُنشِزُهَا ﴾ : نحييها، أو نرفعها، فنركب بعضها على بعض، والجملة حال من العظام، وكيف منصوب بننشزها، ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ : ما أشكل عليه، قيل : تقديره لما تبين له أن الله على كل شيء قدير، ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ففاعل تبين مضمر يفسره ما بعده، أي : صار العلم عينيا بعدما كان غيبيّا.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾، ذكروا لسؤاله أسباباً منها، أنه لما قال لنمرود : ربي الذي يحيي ويميت، أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، ومنها أنه رأى جيفة أكلتها السباع والطيور فسأل، ﴿ قَالَ ﴾ : الله، ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ : بأني قادر على الإحياء، قال له ذلك ليجيب بما أجاب، فيعلم الناس غرضه، أي : أتنكر ولم تؤمن ؟، ﴿ قَالَ بَلَى ﴾، آمنت، ﴿ وَلَكِن ﴾، سألت، ﴿ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، بالمعاينة، ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ ﴾، اختلفوا في أنها ما هي، قيل : غرنوق وطاوس وديك وحمامة، ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾، أي : قطعهن منضمات إليك، أو اضممهن إليك لتعرف شأنها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء، ﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ﴾ : من الجبال التي بحضرتك، وكانت أربعة أو سبعة، ﴿ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ﴾، تقديره على المعنى الثاني : فصرهن وجزّئهن، ثم اجعل إلخ، ﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ ﴾ : قل تعالين، ﴿ يَأْتِينَكَ سَعْياً ﴾ : ساعيات مسرعات، أمر بخلط ريشها ولحومها ففعل، وأمسك رؤوسها ثم دعاهن فجعلت أجزاءهن يطير بعضها ببعض، حتى اتصلت ثم أسرعن إلى رؤوسهن، ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ : لا يعجزه شيء، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ : في تدبيره.
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : في طاعته أو الجهاد أو هو والحج، ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ حث على الخير بعد أدلة التوحيد، وتقديره : مثل نفقتهم كمثل، أو مثلهم كمثل باذر حبة، ﴿ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ﴾ أي : يخرخ منها ساق له سبع شعب لكل منها سنبلة فيها مائة حبة، وهذا تمثيل لا يجب وجوده ﴿ وَاللّهُ يُضَاعِفُ ﴾ : تلك المضاعفة، أو على تلك المضاعفة ويزيد عليها ﴿ لِمَن يَشَاءُ ﴾، بحسب الإخلاص ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ : لا يضيق عليه الإنفاق ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بقدر الإنفاق ونياتهم.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً ﴾ : لا بقول ولا بفعل على من أعطوه ﴿ وَلاَ أَذًى ﴾ : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها، ثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ﴿ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ : بلا منة أحد ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ : من أهوال القيامة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، على ما فات منهم.
﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ : كلام حسن ورد جميل، ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ : عفو عن ظلم، أو تجاوز عن استطالة السائل، ﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ ﴾ : عن إنفاق كل منفق، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ : لا يعجل في العقوبة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ ﴾، ثواب ﴿ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ ﴾، أي : كإبطال المنافق الذي ينفق، ﴿ رِئَاء النَّاسِ ﴾، نصب على المفعول له أي : كمن يتصدق لأجل مدحة الناس وشهرته بالصفات الجميلة، مظهراً أنه يريد وجه الله، ﴿ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ ﴾ أي : مثل المرائي، أو مثل من أتبع إنفاقه منّا أو أذى، ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾ : حجر أملس، ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾ : مطر كبير القطر، ﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ : أملس تقيّا من التراب، كذلك أعمال المرائين تضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال مما يرى الناس كالتراب ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ ﴾، الضمير للذي ينفق، باعتبار المعنى فإنهم كثيرون ﴿ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾، لا ينتفعون بما فعلوا ﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾، الخير وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر عنها.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ : تصديقا وتيقنا من أصل أنفسهم أن الله سيجزيهم على ذلك، أو يثبتون أين يضعون صدقاتهم ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ ﴾، أي : مثلهم في الزكاة كمثل بستان، ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾ : بموضع مرتفع، زاد ابن عباس والضحاك : فيها الأنهار ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ : مطر شديد ﴿ فَآتَتْ ﴾ : أعطت، ﴿ أُكُلَهَا ﴾ : ثمرتها، ﴿ ضِعْفَيْنِ ﴾، بالنسبة إلى غيرها من البساتين ﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي : فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر، يعني : نفقاتهم زاكية عند الله، وإن كانت تتفاوت بسبب أحوالهم، كما أن الجنة تثمر قلّ المطر أو كثر، أو يضعف ثواب صدقاتهم قلّت النفقة أو كثرت ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص.
﴿ أَيَوَدُّ ﴾، الهمزة للإنكار ﴿ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، هما لما كان أشرف وأنفع الأشجار جعل الجنة منهما تغليبا لهما، ثم ذكر سائر الأشجار ليدل على التغليب ﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ : كبر السن، فإن الفقر فيه أصعب، والواو للحال بتقدير : قد ﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء ﴾ : صغار ونسوان ﴿ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ﴾ : ريح عاصف ﴿ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾، فصار أحوج ما كان إليها عند الشيخوخة وكثرة ضعاف الأولاد، والمثل لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم نكص على عقبيه فعمل آخر عمره بالمعاصي، حتى أغرق أعماله، أو للمنافق والمرائي فإنهم إذا ماتوا واحتاجوا غاية الاحتياج إلى أعمالهم، فقدوها بمرة، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾، لكي تتفكروا فتعتبروا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ ﴾ : تصدقوا، ﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ : حلاله وخياره ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ﴾، أي : من طيبات ما أخرجنا من الحبوب والثمار والمعادن، ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ﴾ : لا تقصدوا الرديء ، ﴿ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾، حال من الفاعل، أو من المفعول، ومنه متعلق به، والضمير للخبيث، أي تخصونه بالإنفاق، أو منه حال من الخبيث، والضمير للمال، كانت الأنصار يعلقون أقناء البسر على حبل في مسجد المدينة للفقراء، فتعمد الرجل منهم إلى الحشف، فأدخله مع أقناء البسر، فأنزل الله فيمن فعله " ولا تيمموا " إلخ، ﴿ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾، أي : والحال أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، إلا بإغماض بصر ومساهلة، فلا تجوزوا في حق الله ما لا تجوزون في حقوقكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه : لو كان لكم على أحد حق، فجاء بحق دون حقكم، لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ ﴾، عن إنفاقكم ﴿ حَمِيدٌ ﴾، بقبوله وإثباته.
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ : يخوفكم الفقر لتبخلوا ولا تنفقوا في مرضات الله، ﴿ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ﴾ : بالبخل، أو المعاصي مطلقاً، ﴿ وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ ﴾، الوعد للخير والشر، أي : يعدكم جزاء إنفاقكم مغفرة ذنوبكم، ﴿ وَفَضْلاً ﴾، خلفاً أفضل مما أنفقتم ﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ : واسع الفضل ﴿ عَلِيمٌ ﴾ : بالإنفاق.
﴿ يُؤتِي الْحِكْمَةَ ﴾ : تفسير القرآن، أو الإصابة في القول، أو خشية الله، أو الفهم، أو السنة، أو الفقه في الدين، أو العقل، أو النبوة ، ﴿ مَن يَشَاءُ ﴾، مفعول أول، ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾، في الحديث " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها "، ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ ﴾ : ما يتعظ بالآيات، ﴿ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ : ذوو العقول.
﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ ﴾، قليلة أو كثيرة، حق أو باطل ﴿ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ ﴾، في طاعة، أو معصية ﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ﴾، فيجازيكم عليه ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ : الذين يضعون المال في غير موضعه، ﴿ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ : ينصرونهم ويمنعونهم من العقوبة.
﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ : إن أظهرتموها فنعم شيئا إبداؤها ﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء ﴾، تعطوها مع إخفائها، ﴿ فَهُوَ ﴾، أي : إخفاؤها، ﴿ خَيْرٌ لُّكُمْ ﴾، والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن السر في التطوع أفضل من العلانية بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفا، ﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم ﴾ أي : الله، أو الإخفاء، ومن قرأ مجزوما فهو عطف على محل جواب الشرط ﴿ مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، " من " للتبعيض ، أو لتبيين الجنس، أي يكفر شيئا، هو السيئات ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، ترغيب في الإخفاء.
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ أي لا يجب عليك جعل الناس مهديين، فإنه ليس في يدك وقدرتك، ولكن الهداية من الله، ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ﴾ أي : ثوابه، فلا تمنوا على أحد، ﴿ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ﴾، الواو حال، أو عطف، يعني : المؤمن لا ينفق إلا لمرضات الله، وقيل : نفي في معنى النهي، قال عطاء الخرساني : معناه : إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله، فإنك مثاب لنيتك، سواء كان السائل مستحقا أو غيره، برا أو فاجراً ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ : ثوابه، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾، فلا ينقص ثواب صدقاتكم، " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بأن لا يتصدق إلا على المسلمين، حتى نزلت ليس عليك هداهم، فأمر بالصدقة بعدها على كل سائل من كل دين "، وهذا في التطوع، أما الواجب ، فلا يجوز صرفه إلى الكافر.
﴿ لِلْفُقَرَاء ﴾ أي : الصدقات لهم، وهم الأولى والأحق، وإن جاز صرفها إلى غيرهم كما علم من الآية الأولى ﴿ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، حبسوا أنفسهم في الجهاد، أو أصحاب الصفة، الذين انقطعوا بكليتهم إلى الله ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ ﴾ : ذهابا فيها للتجارة لاشتغالهم بالجهاد، أو بالله ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ ﴾ بحالهم، ﴿ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ من أجل تعففهم عن السؤال، ﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ من التخشع وأثر الجهد والصفاء، ﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ أي : إن سألوا عن ضرورة لم يلحوا في السؤال، ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، ترغيب في الإنفاق سيما على من تعرفه بسيماه.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ أي : يعُمُّون الأحوال بالخير، نزلت في ربط الخيل يعلفونها دائما في سبيل الله، أو في علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- كان له أربعة دراهم فتصدق درهما ليلا، ودرهما نهارا، ودرهما سرّا، ودرهما علانية ، ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ في القيامة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ : على ما فات عنهم، قال تعالى :" لا يحزنهم الفزع الأكبر "
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ لما ذكر الأبرار المخرجين للصدقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالظلم، وعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأكل أعظم المنافع، والربا شائع في المطعومات، ﴿ لاَ يَقُومُونَ ﴾ من قبورهم، ﴿ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ﴾ أي : إلا قياما كقيام المصروع، ﴿ مِنَ الْمَسِّ ﴾ أي : الجنون، وهو متعلق بلا يقومون، أو بيقوم، وفي الحديث " مر عليه السلام ليلة الإسراء على قوم بطونهم كالبيوت ، وأخبر أنهم أكلة الربا "، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي : العقاب، ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ : بسبب أنهم، ﴿ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ : اعترضوا على أحكام الله، وقالوا : البيع مثل الربا، وإذا كان الربا حراما فلا بد أن يكون البيع كذلك، ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ يحتمل أن يكون تتمة كلام المعترض المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله ردا عليهم، أي : اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم، ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ : بلغه وعظ من الله، ﴿ فَانتَهَىَ ﴾ : فاتعظ وتبع النهي حال وصول الشرع إليه، ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ من المعاملة، أي : له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية، ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ﴾ : يحكم يوم القيامة بينهم، وليس من أمره إليكم شيء، ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ إلى تحليله وأكله، ﴿ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ لكفرهم.
﴿ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا ﴾ : يذهب بركته، فلا ينتفع في الدنيا والآخرة به، قد ورد :" ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ : يكثرها وينميها، وقد ورد " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد "، ﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ ﴾ : لا يرتضي، ﴿ كُلَّ كَفَّارٍ ﴾ : مصر على تحليل الحرام ﴿ أَثِيمٍ ﴾ : فاجر بارتكابه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، بما جاء من الله، ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ ﴾ عطفهما على الأعم لشرفهما ، ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من آت، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على فائت.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ : اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رأس المال بعد الإنذار، إن كنتم مؤمنين بشرع الله، كان بين ثقيف وبني مخزوم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، طلبت ثقيف فتشاجروا فنزلت.
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ ولم تذروا ما بقي من الربا، ﴿ فَأْذَنُواْ ﴾ : فاعلموا، ﴿ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب، أو لا بد للإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم الحرب والسلاح، ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ بأخذ الزيادة، ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ بوضع رؤوس الأموال، وقيل فهم منه أن المصر، أي : على التحليل ليس له رأس ماله، لأنه مرتد وماله فيء.
﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ : وقع غريم ذو عسرة، ﴿ فَنَظِرَةٌ ﴾ أي : فعليكم تأخير، ﴿ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ : يسار، لا كفعل الجاهلية إذا حل الدين، يطالب إما بالقضاء وإما بالربا، ﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ بإبراء رأس المال، ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ : أكثر ثوابا، وقيل : خير مما تأخذونه، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ما فيه من الأجر.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ﴾ : يوم القيامة، أو يوم الموت، ﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أي : جزاء ما عملت، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ بنقص ثواب وهذه آخر آية نزلت من القرآن، عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليال، أو واحد وثلاثين يوما.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾، أي : تعاملتم بمعاملات مؤجلة فاكتبوها، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلت في السلف، حرم الله الربا وأباح السلف، وهذا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، وعن كثير من السلف : أن الأمر للوجوب، ولكن نسخ بقوله :" فإن أمن بعضكم بعضا " ، ﴿ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ : بالسوية، لا يزيد ولا ينقص، ﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ ﴾ أي : لا يأب أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليمها، أو مثل ما علمه من كتابة الوثائق، قال عطاء ومجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب، ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ أمر بها بعد النهي عن الإباء تأكيدا، قيل : جاز أن يتعلق كما علمه الله به، فالنهي مطلق والأمر مقيد، ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ : الإملال والإملاء واحد، أي : وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين، ﴿ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ أمر بأن يقر بمبلغ المال من غير نقصان، ﴿ فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ﴾ : محجوراً عليه بتبذير ونحوه، ﴿ أَوْ ضَعِيفاً ﴾ : صبيا، أو مجنونا، ﴿ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ﴾ بخرس، أو جهل باللغة، ﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ﴾ : الذي يلي أمره، من وكيل، أو قسيم، أو مترجم، ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾ : بالصدق، ﴿ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ ﴾، اطلبوا شاهدين، أن يشهدوا على الدين، ﴿ من رِّجَالِكُمْ ﴾ : رجال المسلمين، ﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ﴾ أي : إن لم يكن الشهيدان رجلين، ﴿ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ أي : فالمستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عند الشافعي، وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة، ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ﴾ لعلمكم بعدالتهم، ﴿ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ أي : إن نسيت إحدى المرأتين الشهادة، ذكرتها الأخرى، فهو علة اعتبار العدد، والعلة في الحقيقة التذكير، ولما كان الضلال سببا له نزل منزلته، ﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ لأداء الشهادة، وعند بعض معناه : إذا دعوا للتحمل ، وحينئذ تسميتهم شهداء باعتبار المشارفة، وما زائدة ومنه علم أن تحمل الشهادة فرض كفاية، ﴿ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ ﴾ أي : لا تملوا، ولا تمنعكم الملالة أن تكتبوا الحق، ﴿ صَغِيراً أَو كَبِيراً ﴾ : قليلا كان الحق أو كثيراً، ﴿ إِلَى أَجَلِهِ ﴾ : إلى وقت حلوله، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ إشارة إلى أن تكتبوه ﴿ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ ﴾ : أعدل، ﴿ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ : أثبت لها، وهما مبنيان من أقسط وأقام على مذهب سيبويه، ﴿ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ ﴾ أي : أقرب في ألا تشكوا، لأن ترجعوا بعد الشك في كتابتكم، ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ ﴾ التجارة، ﴿ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾ استثناء من الأمر بالكتابة، وإدارتها بينهم : تعاطيهم إياها، يدا بيد، ومن قرأ :" تجارة " بالرفع فعنده كان تامة، أو تديرونها خبر كان، ﴿ وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ مطلقا مؤجلا، أو معجلا، وهذا الأمر محمول على الندب، وعند الشعبي والحسن للوجوب لكن نسخ، ﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ نهي عن الضرارر بهما، مثل أن يكلفا ترك حاجاتهم ومهامهم ولا يعطى جعل الكاتب، وعلى هذا يضار مبني للمفعول، أو معناه نهيهما عن الضرار بزيادة ونقصان، وتحريف وتغيير، فعلى هذا يكون مبنيا للفاعل، ﴿ وَإِن تَفْعَلُواْ ﴾ ما نهيتم عنه، ﴿ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ أي : لاحق لازم بكم، ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾ في مخالفة أمره، ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ﴾ أحكامه وشرائعه، ﴿ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ تكرار لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقبال كل منها، ولأنه أدخل في التعظيم.
﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ أي : مسافرين، ﴿ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ﴾ يكتب لكم، ﴿ فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ أي : فليؤخذ بدل الكتابة، رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، وعند بعض السلف أن الرهن لا يجوز إلا في السفر ، والحديث يرده، ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾ : بعض الدائنين بعض المديونين، ﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ سمى الدَّين أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان منه، ﴿ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ﴾ في الخيانة، ﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ قلبه فاعل آثم، أو مبتدأ، وآثم خبره، والجملة خبر إن، وإسناده إليه للمبالغة، كقوله : هذا مما عرفه قلبي، ولئلا يظن أنه من آثام اللسان ، بل من آثام القلب، الذي هو أشرف الأعضاء، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كتمانها من أكبر الكبائر، ﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ تهديد ووعيد.
﴿ لِلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ خلقا وملكا، ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ : ما خطر ببالكم من السوء، ﴿ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ في الآخرة، لما نزلت غمت الصحابة " فقالوا هلكنا، فقلوبنا ليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها " فنزلت " آمن الرسول " إلى " عليها ما اكتسبت " فنسختها، وتجاوز لهم عن حديث النفس وصرح بنسخها أكثر السلف ، وبعضهم صرحوا بعدم نسخها، وقالوا : يخبرهم الله يوم القيامة بما أخفوا في أنفسهم، فيغفر للمؤمنين، ويؤاخذ أهل الشك والنفاق، فمعنى المحاسبة : الإخبار، وعن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين سألت عن الآية : هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه الله من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفرغ لها، حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير "، فعلى هذا المحاسبة المؤاخذة، لكن المحاسبة إما في الدنيا، وإما في الآخرة، ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ مغفرته، ﴿ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ﴾ تعذيبه، ﴿ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ من المحاسبة وغيرها.
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ وجه نزول الآية قد ذكرناه وهو أنهم قالوا :" سمعنا وأطعنا " لا كما قال أهل الكتاب :" سمعنا وعصينا " قوله :" والمؤمنون " عطف على الرسول، ﴿ كُلٌّ ﴾ : من الرسول والمؤمنين، ﴿ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ يقولون، ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ في الإيمان بهم، ولا نقول :" نؤمن ببعض ونكفر ببعض " ، ﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا ﴾، قول الله، ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ أمره، نسأل، أو اغفر، ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ : المرجع بعد الموت.
﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ما يسعه قدرتها ويتسع فيه طوقها، لا ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ : من خير، ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ : من شر، ولما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي أجدّ وأعمل فيه، جعلت لذلك مكتسبة فيه بخلاف الخير، فإنها لما لم تكن فيه كذلك وصفت بما ليس فيه الاعتمال، فقال : كسبت، ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ سألوا الله التجاوز عنهما فأجاب، ففي الحديث " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان "، وأما دعاؤنا حينئذ بهما، فيمكن أن يكون لإدامة الوعد، وأن يجعلنا ممن وعد له التجاوز عنهما، ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً ﴾ : تكاليف شاقة، تأصر صاحبه، تحبسه في مكانه، وإن أطقناها، ﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾، مثل الذي حمّلْتَه إياهم فيكون صفة إصرا وهو التكاليف الشاقة وما أصابهم من المحن، ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ : من المصائب، والتشديد هاهنا لتعديته إلى مفعول ثان، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ : امح عنا ذنوبنا، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ : واستر عيوبنا، ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ في الدنيا، فلا توقعنا في ذنب آخر، ﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ : ولينا وناصرنا، ﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، وفي الحديث :" في آخر كل دعوة " من هذه الدعوات، قال الله تعالى : فعلت ونعم "، وفي الحديث، " فضلنا على الناس بثلاث : أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت تحت العرش، لم يُعطَها أحدٌ قَبلي ولم يُعْطَها أحدٌ بَعدي .
والحمدل لله حق حمده.