تفسير سورة الشعراء

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (طسم (١)
قُرِئَتْ بإدغام - النون في الميم ووصل بعض الحروف ببعض، وقُرِئَتْ
طَسِينْ مِيمِ بتبيين النونِ، والوقف على النونِ.
ويجوز - ولا أعلم أَحَداً، قرأه - طَسِميماً - على أن يُجْعَلَ طسم اسما للسورَةِ بمنزلة قوله: خَمْسَةَ عَشَرَ، ولا تجوز القراءة به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)
فيه وجهان أَحَدُهُمَا على معنى أَنهم وُعِدُوا بالقرآن على لِسَانِ مُوسَى
فكان المعنى هذه آيات الكتاب الذي وُعِدْتُم به على لسان مُوسَى، وعلى
معنى هذه آيات الكتاب المبين.
وقد فَسَّرنا ذلك فِي أَول سُورةِ البَقَرةِ في قوله: (الم ذلك الكتاب).
* * *
وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
قال أبُو عبيدةَ: معناه مُهْلِك نفسك، وقيل قاتل نَفْسَك، وهذا كقوله:
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦).
وموضع أن النصبُ مفعول له، المعنى فلعلك قاتل نفسَكَ لتَركِهِم
الإيمان، فأعلمه اللَّه سبحانه أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر
على ذلك ألا أنه - عزَّ وجلَّ - تعبَّدهم بما يستوجبون به الثوابَ مع الإيمان.
وأنزل لهم مِنَ الآياتِ ما يتبينُ به لمن قَصْدُه إلى الحق فأمَّا لو أنْزَل على
كل من عَنَدَ عَنِ الحق عذاب في وَقْتِ عُنُودِهِ لَخَضَعَ مضْطَرًّا، وآمن إيمان من
لا يَجِدُ مَذهبا عن الِإيمان.
* * *
وقوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤)
معناه فتظَل أَعْنَاقُهُمْ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى
المستَقْبَلِ تقول: إنْ تَأتِني أَكْرَمتُكَ، معناه أكْرِمْك، وإن أتيتني وأحْسَنْتَ معناه وتُحسنُ وَتُجْمِلُ.
وَقال (خَاضِعِينَ) وذكر الأعناق لأن معنى خُضوع الأعْنَاقِ هُوَ خضوعُ
أصحاب الأعناق.
لَما لم يكن الخُضُوعُ إلا لِخُضُوعِ الأعْنَاقِ جاز أن يُعَبَّر عن
المضافِ إليه كما قال الشاعر:
رأَتْ مَرَّ السِّنين أَخَذْنَ منِّي كما أَخَذ السِّرارُ من الهِلالِ
لَمَّا كانت السنُونَ لا تكون إلا بِمَرٍّ أخبر عن السنينَ وإن كان أضاف
إليها المُرُور، وَمِثلُ ذلك أَيْضاً قول الشاعر:
مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ... أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم
كأنَّه قال تسفهتها الرياح، لما كانت - الرياح لا تكون إلا بالمرور.
وجاء في التفسير " أعْنَاقُهم " يُعنى به كبراؤهم ورؤساؤهم، وجاء في اللُّغَةِ أَعْنَاقُهُمْ جَمَاعَاتهم، يقال: جاء لي عُنقٌ من الناس أَيْ جَمَاعَة وذكر بَعْضُهُمْ وجهاً آخَر، قالوا: فظلًتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ هُمْ، وأضَمَرُهم.
وَأَنْشَدَ
ترى أَرْباقَهم مُتَقَلِّديها كما... صَدِئ الحَدِيدُ عن الكُماةِ
وهذا لا يجوز في القرآن، وهو على بَدلِ الغَلَطِ يجوز في الشِعْرِ، كأنه
قال: يرى أرباقهم يرى متقلِّديها، كأنَّه قال: يرى قوماً متقلدين أَربَاقَهُم فلو
كان على حذف هم لكان مما يجوز في الشعر أَيضاً (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٦)
أنباء: أخبار.
المعنى فَسَيعلمون نبأ ذلك في القِيامَةِ.
وجائز أن يعجل لهم بعض ذلك في الدنيا نحو ما نالهم يَوم بَدْرٍ.
* * *
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧)
معنى زوج نوع، ومعنى كريم محمود فيما يحتاج إليه، كمعنى من كل
زوج نافع لا يقدر على إنبانه وإنشائه إلا ربُّ العَالَمِين.
ثم قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿خَاضِعِينَ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن «أعناقُهم». واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ. وأُجيب عنه بأوجهٍ، أحدُها: أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ، كما قِيل: لهم وجوهٌ وصدورٌ قال:
٣٥٠٥............................... في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ
الثاني: أنه على حذفِ مضافٍ أي: فظلَّ أصحابُ الأعناقِ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ. وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ ﴿وَقُمْراً مُّنِيراً﴾ [الفرقان: ٦١]. الثالث: أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه:
٣٥٠٦............................. كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ
الرابع: أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس، وهم الجماعةُ، فليس المرادُ الجارحةَ ألبتَّةَ. ومن قولُه:
٣٥٠٧ أنَّ العراقَ وأهلَه... عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
قلت: وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ. إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم. الخامس: قال الزمخشري: «أصلُ الكلامِ: فظلًُّوا لها خاضعين، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع، وتُرِكَ الكلامُ على أصله، كقولهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامة، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور». قلت: وفي التنظير بقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ «نظرٌ؛ لأنَّ» أهل «ليس مقحماً ألبتَّةَ؛ لأنه المقصودُ بالحكم وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ. السادس: أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله ﴿ساجِدِين﴾ و ﴿طائِعِين﴾ في يوسف والسجدة.
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في»
أعناقُهم «قاله الكسائي، وضَعَّفه أبو البقاء قال:» لأنِّ «خاضعين» يكون جارياً على غيرِ فاعلِ «ظَلَّتْ» فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل، فكان يجبُ أَنْ يكونَ «خاضعين هم». قلت: ولم يَجْرِ «خاضعين» في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له، وهو الضمير في «أعناقُهم»، والمسألة التي قالها: هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ. على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه: ﴿مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
دليلًا على أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - واحد وأن المخلوقات آياتٌ تدُلُ عَلَى أن
الخالق واحدٌ ليس كمثله شيء.
وقوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمِنِينَ).
معناه وما كان أكثرهم يؤمن، أي علم اللَّه أَن أَكثَرهم لا يؤمنُونَ أَبداً كما
قال: (ولَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ) أي لستم تعبدون ما أعبُدُ الآن
(ولا أنتم عابدونْ ما أعْبُدُ) فِيمَا يُسْتَقْبل، وكقوله في قصة نُوح عليه السلام: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، فأعلمه أن أكثر هم لَا يُؤمِنُونَ.
* * *
وقوله: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
موضع (إِذْ) نصبٌ، على معنى.. وَاتْلُ هذه القصةَ فيما تَتْلُو.
ودليل ذلك قوله عطفاً على هذه القصة: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نبأ إبْرَاهِيمَ).
* * *
وقوله: (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣)
بالنصْبِ والرفْعِ، فمن رفع فعطف على أَخَاف، على معنى إني
أخاف. ويضيقُ صدري.
وَمَن نَصَبَ فعطفً على أن يكذِبُونِ، وأن يضيق صدري وأن لا ينطلق لساني.
والرفع أكثر في القراءة.
وقوله تعالى: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ).
أي ليعينني وُيؤازِرَني على أمري، وَحُذِفَ لأن في الكلام دليلاً
عليه.
* * *
قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
يعني بالذنب الرجُل الذي وَكَزهُ فقضى عليه، إني أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي بقتلي إياهُ.
* * *
(قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
كَلَّا: ردع وزجر عن الإقامة على هَذَا الظنِّ، كأنَّه قال: ارْتَدع عن هذا
الظنِّ وَثقْ باللَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦)
معناه إنا رِسَالَةُ رَبِّ العالمين، أي ذوو رسالة رب العالمين.
قال الشاعِرُ:
لقد كَذَب الواشُون ما بُحتُ عندهم... بسِرٍّ ولا أَرْسَلْتهم برَسُول
* * *
وقوله سُبْحَانَه: (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)
موضع (أن) نَصْبٌ، المعنى أُرْسِلْنا لترسل - أي - لأنْ تُرْسلَ معنا بني إسرائيل.
* * *
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨)
أي مولوداً حين وُلدْتَ.
(وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ).
ويجوز من عُمْرِكَ بإسكان الميم، ويجوز من عَمرِك بفتح العَيْنَ، يقال:
هو العُمْر والعُمُرُ والعَمْر في عُمْر الإنْسانِ، فأمَّا في القَسَمِ فلا يجوز إلا
" لَعَمْرُ اللَّهِ " لا غير - بفتح العين.
ذكر سيبويه والخليل وجميع البصريين أن القسَمَ مفتوح لا غَيْر.
فاعْتَدَّ فرعون على موسى بأنه ربَّاه وَليداً منذ وُلدَ إلى أَنْ كَبِرَ.
* * *
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩)
وقرأ الشعبي (فِعْلَتَكَ) - بكسر الفاء -
والفتح أجود وأكثره لأنه يريد قتلت النفس قَتْلَتَكَ على مذهب المرةِ الواحدة، وقرأ الشعبي على معنى وقتلت القِتْلَةَ التي عرفتها، لأنه قتله بوكزةٍ، يقال: جَلَسْتُ جَلْسَة تُرِيدُ مَرةً واحدة، وجَلَسْتُ جِلْسَةً - بالكسر تريد هيئة الجلوس.
(وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
فيه وجهان:
أحدهما من الكافرين لنعمتِي، والآخر وأنت من الكافرين بقتلك الذي قتلت فنفى موسى - ﷺ - الكفر واعترف بأن فعله ذلك جهلٌ فقال: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)
أي من الجاهِلِينَ، وقد قرئت: وأنا من الجاهلين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١)
(فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا)
يعنى التوراة التي فيها حكم اللَّه.
* * *
وقوله تعالى: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢)
أخرجه المفسرون على جهة الإنكار أنْ تكون تلك نِعْمة، كأنَّه قال فأيَّةُ
نعمةٍ لك عليَّ في أَنْ عَبَّدْتَ بني إسرائيل.
واللفظ لفظ خبر، والمعنى يخرج
على ما قالوا على أن لفظه لفظ الخبر وفيه تبكيتٌ للمخاطب كأنَّه قال له: هذه نعمة أَن اتخذت بني إسرائيل عبيداً على جهة التبكيت لِفِرْعَوْنَ، واللفظ
يوجب أن موسى - ﷺ - قال: هذه نِعْمَة لأنك اتخذت بني إسرائيل عبيداً ولم تتخذني عَبْداً.
ويقال: عَبَّدْتُ الرجُلَ، وَأَعْبَدْتُه، اتخذته عَبْداً.
وموضع (أن) رفع على البَدَلِ من نعمةٍ، كأنَّه قال: وتلك نِعمة تَعَبُّدُكَ بني إسرائيل وتركك إياي غير عَبْدٍ.
ويَجُوزُ أن يكون " أَنْ " في موضع نَصْبٍ، المعنى إنما صارت
نِعْمَة على لأن عَبَّدْتَ بَنِي إسْرَائيل. أي لو لم تفعل ما فعَلْتَ لكفلني أهلي
ولم يَلْقُوني في اليمِّ، فإنما صارت نِعْمَةً بما فَعَلْتَ من البلاء.
وقال الشاعر في أَعْبَدْتُ اتخذتُ عَبْداً:
عَلامَ يُعْبِدُني قَوْمي وقد كَثُرَت... فيهمْ أَباعِرُ ما شاؤوا وعِبْدانُ؟
(١)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣)
فأجابه موسى - ﷺ - بما هو دليل على اللَّه - جلَّ وعزَّ - بما خلق مما يعجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله فقال:
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
فتحيَّر فرعونُ ولم يَرْدُدْ جَوَاباً يَنْقُضُ به هذا القول، فقال لمن حوله: (ألَا
تَسْتَمِعُونَ).
فزاده موسى في البيان فقال: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَنْ عَبَّدتَّ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان ل «تلك»، كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ﴾ [الحجر: ٦٦]. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه. والثالثَ: أنها بدلٌ من «نعمةٌ». الرابع: أنها بدلٌ من «ها» في «تَمُنُّها». الخامس: أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي: بأَن عَبَّدْت. السادس: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي. السابعُ: أنها منصوبةٌ بإضمار أعني. والجملة مِنْ «تَمُنُّها» صفةٌ لنعمة. و «تُمُنُّ» يتعدَّى بالباء فقيل: هي محذوفةٌ أي: تمُنُّ بها، وقيل: ضَمَّنَ «تَمُنُّ» معنى تَذْكُرُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فلم يجبه أيضاً، فقال: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
فقال موسى زيادة في ال*بانة:
(قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
فلم يجبه في هذه الأشْياء بنقض لحجته.
* * *
(قَالَ لَئِنِ ائخَذْتَ إِلهَا غَيْري لأجْعَلَنك مِنَ المَسْجُويخينَ).
فزاده في البيان واحتجَّ بما شاهده هو والملأ من حوله:
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢)
والثعبان الكبير من الحيَّات.
فإنْ قال قائل: فكيف جاء، فإذا هِي ثعبان مبين.
وفي موضع آخَرَ (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ)، والجانُّ الصغيرُ من الحيَّاتِ؟
فالجواب في هذا مما يَدُل على عِظم الآية، وذلك أن خَلقَها خلقُ الثعبان
واهتزازُها وحركتها وخفتُها كاهتزاز الجَانِّ وخِفتِه.
* * *
(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
نَزَعَ يده من جيبه فأخرجها بيضَاءَ بَيَاضاً نُوريًّا، مِنْ غَيْرِ سوءٍ من
غير بَرَص، فلم يكن عنده دفع لما شَاهَدَهُ إلا أَن قال: إن هذا سحر فَقَالَ
(لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤).
فجعل الآية المعجِزَة سحراً، ثم استكانَ وخضع للذين هم من أتباعه
فقال:
(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦)
(أَرْجِهْ)
بكسر الهاء وضمها، وبالياء والواو أرْجِهي وأَرْجِهُو وأَخَاه.
(وابْعَثْ فِي المَدائِن حَاشِرِينَ).
فمعنى: أرْجِهُ " أخِّرْهُ، وجاء في التفسير احْبسْهُ وأخاه، والمعنى -
واحِدٌ، وتأويله أخره عن وقتك هذا وأخرْ اسْتِتْمامَ مُنَاظَرتِه إلى أن يجتمع لك
السَّحَرةُ.
* * *
وقوله: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
فغنيٌّ عن أن يقول فبعث فجمع السَّحرة.
* * *
وقوله: (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
أي لكم مع أجْرَتِكم وجزائكم على غلبتِكُمْ موسى إن غلبتموه مع
الفائدة، القربى والزلْفَى عندي.
ويقرأ (أئن لنا لأجراً) على جهة الاستفهام.
ويجوز إن لنا لأجراً - على غير الاستفهام.
وعلى جهة الثقَةِ مِنْهُمْ به، قَالُوا إن لَنَا لأجْرًا).
أي إنك مِمن يَحْبُونا وَيُجَازِينَا.
* * *
(فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥)
أي مما جَمَعُوا من كيدهم وعِصِيِّهمْ.
ورُوِي عَنْهُمْ أنهم كانوا
اثني عشر ألف ساحر (١)، فنُصِرَ موسى عليه السلام أكثرَ ما كانَ السحرُ وأَغْلَبُه على أَهْل ذلك الدهر، وكانت آيتُهُ آيةً باهرةً من جهتين:
إحداهما أنه أتى بما يعجِزُ عنه المخلوقون.
والثانية أن السحرة، وعَدَدُهم هذا العَدَدُ أُلْقُوا سَاجِدينَ.
* * *
(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧)
فَسَلَّمُوا الأمْر للهِ وتبينَ لهم ما لا يُدْفَعُ.
وكذلك بعث النبي - ﷺ - أشعرَ ما كانت العرب وأخطب ما كنت وأبلغ ما كانت، فدعاهم إلى الإيمان باللَّهِ مع الآيات التي أتى بها النبي - ﷺ - وبالقران الذي دعاهم إلى أن يأتوا بسورَة مِثله فعجزوا عن الإتيان بسورة مثله.
ويروى أيضاً أن السَّحَرَةَ كانوا تسعَة عَشَرَ ألْفاً.
وقوله: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
(فَلَسَوْفَ تَعْلَمونَ).
اللام دخلت على سوف بمعنى التوكيد، ولم يُجِزِ الكوفيون: إن زيد
لَسَوفَ يَقوم، وقد جاء دخول اللام على سوف، وذلك أن اللام مُؤَكِدَةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ).
ْوروي في التفسير أن أول من قطع وصَلَّب فرعونُ.
* * *
(قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠)
أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا مع أملنا للمغفرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
(١) كلام يفتقر إلى سندٍ صحيحٍ.
بفتح " أن " أي لأنْ كنا أول المؤمنين، وزعم الفراء أنهم كانوا أوّل مُؤمِني
أهل دَهْرهِمْ، وَلاَ أحسبه عرف الرواية فِي التفسير لأَنه جاء في التفسير أن الذين كَانُوا مَعَ موسَى عليه السلام ستمائة ألف.
وقيل ستمائة ألف وسبعون ألفاً.
وإنما معنى (أنْ كُنَّا أوَّلَ المؤمِنين).
أي أول من آمن في هذه الحال عند ظهور آية موسى حين ألقوا حبالهم وعصيهم واجتهدوا في سِحْرِهم.
ويقال: لا ضير ولا ضَوْرَ، في معنى لا ضرَّ ولا ضَرَرَ.
* * *
وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
يقال: أسرى يُسْري إذا سار لَيْلاً، وَسَرَى يَسْرىْ، قيل هو في معنى أسْرَى يُسْري أيضاً.
* * *
وقوله: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣)
أي أرسل من جمع له الجيش، معناه فجمع جمعَه، فقال:
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
والشرذمة في كلام العرب القليل.
يُروى أن هؤلاء الذين سَمَّاهُمْ شرذمةً كانوا ستمائةِ أَلْفٍ وسَبْعينَ ألفا، وكانت مقدمَةُ فرعون سبعمائة ألف كل رَجُل منهم على حِصَانٍ، وعلى رأسه بيضة، فاستقل من مع موسى عليه السلام عند كثرة جمعه.
وقال " قليلون " فَجمعَ " قَلِيلاً " كما يقال: هؤلاء واحدون
فيجمع الواحد، كما قال الكميت:
فقد رَجَعُوا كحيٍّ واحِدِينا
* * *
وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥)
يقال قد غاظني فلان، ومن قال أغاظني فقد لَحَن.
* * *
وقوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)
ويقرأ: حَاذِرُون، وجاء في التفسير أن معنى حَاذِرُون، مُؤْدُونَ.
أي ذَوُو أداة، أي ذَوُو سِلَاح والسلاح أداة الحرب، فالحاذر المستعذ، والحذِرُ المتيقِظُ.
* * *
وقوله تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
أي في وقت شروق الشَمس، يقال أشرقنا أي دَخَلْنَا في وقْتِ طلوع
الشمس، ويقال شرقت الشمْسُ إذا طلعت، وأشرقَتْ إذا أضاءت وصَفَتْ، وأشرقنا نحن دخلنا في الشروق.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
أي لمَّا واقف. جمعُ موسى جمعَ فرعونَ وكان أصحاب موسى قد خَرجُوا ليلاً، فقال أصحابُ مُوسى: (إنا لَمُدْرَكُونَ) أي سيُدْرِكُنَا جَمعُ فرعَوْنَ هذا الكثيرُ، وَلَا طاقة لَنَا بِهِمْ.
* * *
(قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)
أي قال موسى كلا أي ارتدعوا وازدجروا نجليس يدركوننا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)
أي كُل جزءٍ تَفَرقَ مِنْهُ.
(كالطوْدِ العَظِيم).
أي كالجبل العظَيم.
* * *
وقوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
أي قَربْنَا ثَمَّ الآخرين مِنَ الغَرقِ، وهم أصحاب فرعون -
وقال أبو عبيدة: أَزْلَفْنَا جمعنا ثَمَّ الآخرين.
قال ومن ذلك سميت مُزْدَلفة جمعاً.
وكلا القولين حسن جميل، لأن جمعهم تقريب بَعْضِهِم من بَعْض
وأصل الزلْفَى في كلام العرب القرْبَى.
* * *
قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩)
ْمعناهُ خَبَرَ إبْراهيم.
* * *
وقوله: (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١)
معناه مقيمين على عِبَادَتِها.
* * *
وقوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢)
إن شئت بَيَّنْتَ الذال، وإنْ شِئْتَ أَدْغَمْتَها في التاء فجعلتها تَاء
فقلت (إتدْعُونَ)، وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء.
ويجوز إذدُعونَ، ولم يُقْرأ بها كما قال مُذكِر، وأصله مُذْتَكِرْ.
* * *
وقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧)
قال النحويون: إنهُ اسْتِثناء ليس من الأول، أي لكن رب
العالمين، ويجوز أن يكونوا عبدوا مع اللَّه الأصنام وغيرها، فقال
لهم: أن جميع من عَبَدُتُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ لأنهم سوَّوْا آلهتهم
باللَّهِ فأعْلَمَهُمْ أنه قد تبرأ مما يَعْبُدونَ إلا اللَّهَ فإنه لم يَتَبرأ من عبادته.
* * *
وقوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
جاء في التفسير أن خطيئته قوله: إن سَارَّة أُخْتي، وقوله بل فعله
كبيرهم هذا فَاسْألُوهُمْ.
وقوله: (فَقَالَ إني سَقِيمٌ).
وقد بينَّا معنى قوله: (بل فعله كبيرهم هذا).
ومعنى خطيئتي أن الأنبياء بَشَر، وقد يجوز أن يقع عليهم
الخطيئة إلا أنهم صلوات الله عليهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم
مَعْصُومون مُخْتَارُون على العالمين كل نبي هو أفضل من عالم أهل
دَهْرِه كُلِّهِمْ.
* * *
قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
معناه اجعل لي ثناء حسناً باقياً إلى آخر الدهر.
* * *
وقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠)
معناه قُربَتْ، وتَأويله أنه قرب دخولهم إياها، ونظرهم إليها.
* * *
قوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)
أي أظْهرت لِلضَّالينَ، والغَاوي الضال.
* * *
وقوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤)
أي في الجحيم، ومعنى كُبْكِبُوا طُرِحَ بعضُهم على بعْض.
وقال أهل اللُّغَةِ معناه دُهْوِرُوا (١)، وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب كأنَّه
إذا أُلقِيَ يَنْكَبُّ مرةً بعد مرةٍ حتى يسْتَقِر فيها يَسْتَجِيرُ باللَّهِ منها.
* * *
وقوله: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨)
معناه واللَّه ما كنَا إلَّا في ضلالٍ مبين حيث سويناكم باللَّهِ - عز
وجل - فأعظمناكم وعبدناكم كما يُعْبَدُ اللَّهُ.
(١) قال في اللسان:
وقال الزجاج في قوله (فكُبْكِبُوا فيها هم والغَاوونَ) أَي في الجحيم قال ومعنى كبكبوا طُرِحَ بعضهم على بعض وقال غيره من أَهل اللغة معناه دُهْوِرُوا ودَهْوَرَ سَلَحَ ودَهْوَرَ كلامَه قَحَّمَ بعضَه في إِثر بعض ودَهْوَرَ الحائط دفعه فسقط وتَدَهْوَرَ الليلُ أَدبر والدَّهْوَرِيُّ من الرجال الصُّلْبُ الضَّرْب الليث رجل دَهْوَرِيُّ الصوت وهو الصُّلْبُ الصَّوْتِ قال الأَزهري أَظن هذا خطأَ والصواب جَهْوَرِيُّ الصوت أَي رفيع الصوت ودَاهِرٌ مَلِكُ الدَّيْبُلِ قتله محمد بن القاسم الثقفي ابن عمر الحجاج فذكره جرير وقال وأَرْضَ هِرَقْل قد ذَكَرْتُ وداهِراً ويَسْعَى لكم من آلِ كِسْرَى النَّواصِفُ وقال الفرزدق فإِني أَنا الموتُ الذي هو نازلٌ بنفسك فانْظُرْ كيف أَنْتَ تُحاوِلُهْ فأَجابه جرير أَنا الدهرُ يُفْني الموتَ والدَّهْرُ خالدٌ فَجِئْني بمثلِ الدهرِ شيئاً تُطَاوِلُهْ قال الأَزهري جعل الدهر الدنيا والآخرة لأَن الموت يفنى بعد انقضاء الدنيا قال هكذا جاء في الحديث وفي نوادر الأَعراب ما عندي في هذا الأَمر دَهْوَرِيَّة ولا رَخْوَدِيَّةٌ أَي ليس عندي فيه رفق ولا مُهاوَدَةٌ ولا رُوَيْدِيَةٌ ولا هُوَيْدِيَةٌ ولا هَوْدَاء ولا هَيْدَاءُ بمعنى واحد. اهـ (لسان العرب. ٤/ ٢٩٢).
وقال السَّمين:
قوله: ﴿فَكُبْكِبُواْ﴾: أي: أُلْقُوا، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض. قال الزمخشري: «الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ. جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى». وقال ابن عطية نحواً منه، قال: «وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ بَيِّنٌ نحو: صَرَّ وصَرصَرَ» وهذا هو مذهب الزجاج. وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ مذاهبَ، أحدها: هذا. والثاني: وهو مذهبُ البصريين أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ. والثالث وهو قول الكوفيين أنَّ الثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني، فأصل كَبْكَبَ: كَبَّبَ بثلاثِ باءات. ومثلُه: لَمْلَمَ وكَفْكَفَ. هذا إذا صَحَّ المعنى بسقوطِ الثالث. فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من غيرِ خلافٍ نحو: سِمسِم وخِمْخِم.
وواو «كُبْكِبوا» قيل: للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ. وقيل: لعابديها
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)
ْدَخَلَتْ التاء وقوم نوح مُذَكَرونَ، لأن المعنى كذبت جماعَةُ قَوْمُ
نوح، وقال المرسلين، ويجوز أَنْ يكُونُوا كذَبُوا نوحاً وحْدَه، ومن كذب
رَسُولاً واحِداً من رسل اللَّه فقد كذَّب الجماعة وخالفها، لأن كل رسول
يأمر بتصديق جميع الرسل، وجائز أن يكونَ كذبَتْ جميع الرسُلِ.
* * *
وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦)
وقيل (أَخُوهُمْ) لأنه منهم، وكل رسول يأتي بلسان قَوْمِه ليوضع
لهم الحجةَ ويكون أَبْينَ لهم.
* * *
وقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١)
ويقرأ (وأتْباعُكَ الأرْذلون*، وهي في العربية جَيِّدةٌ قَويَّة لأن واو
الحال تصحبُ الأسماءَ أكثَر في العربية، لأنك تقول: جئتُكَ
وَأَصْحَابُكَ الزيدُونَ، ويجوز: وَصَحِبَك الزيْدُونَ، والأكثر جئتك وَقَدْ
صَحِبَكَ الزيدون، وقيل في قوله: الأرْذَلُون: نسبوهم إلى الحياكةِ
والحجامَةِ، والصناعات لا تَضُرُّ في باب الدِّيَانَاتِ.
* * *
وقوله: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦)
أي بالحجارة.
* * *
وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
واحدها فَلَك وجمعها فُلْك، وزعم سيبويه أنه بمنزلة - أَسَدٍ
وَأُسْدٍ، وقياس فُعْل قياس فَعَل، أَلا ترى أنك تقول قُفْل وإقفال
وجمل وأجمال، وكذلك أَسَدٌ وأُسْدٍ وآسَادٍ، وفَلَك وفُلْك وأَفْلَاك في
الجمع - والمشحون المملوء، يقال شحنته أي ملأتُه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨)
يقرأ رِيع ورَيْع - بكسر الراء وفتحها - وهو في اللغة الموضعُ
المرتفع من الأرض ومن ذلك كَمْ رَيْعُ أَرْضِكَ، أي كم ارتفاع أرْضِكَ.
جاء في التفسير: (بِكُلِّ رِيعٍ) كل فجٍّ والفَجُّ الطريق المُنْفَرِجُ في
الجبل، وجاء أيضاً بِكل طريق.
وقوله (آية) عَلَامَةً.
* * *
وقوله: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)
واحد المصانع مَصْنَعة وَمَصْنَع، وهي التي تتخذ للماء، وَقِيلَ
مَبَانٍ ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي لِأنْ تَخْلدوا، أَيْ وتتخذون مباني
للخلودِ لا تتفكرون في الموتِ.
* * *
وقوله: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)
جاء في التفسير أَن بطْشَهم كانَ بالسَّوطِ والسَّيْفِ، وإنما أنكر ذلك
عليهم لأنه ظلم، فأمَّا في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨)
الهضيم: الداخل بعضه في بعض، وهو فيما قيل أن رُطبَهُ بغير
نوًى، وقيل الهضيم الذي يَتَهشمُ تَهَشماً.
والهضيم في اللغة الضامِرُ الداخل بعضه في بعض ولا شيء في الطلع أبلغ من هذا.
* * *
وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩)
(فَرِهِين).
جاء في التَفسير أَشِرِين وجاء في التفسير فَرِحِين، وقرئت (فَارِهين)
ومعنى فَارِهين حاذقين.
و" فرهين " منصوب على الحال.
* * *
وقوله: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣)
أي مِمن له سَحْر، والسحْرُ الرِّئةُ، أي إنما أَنْتَ بَشَر مِثْلُنَا.
وجائز أن يكون (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) من المفَعَّلِينَ من السحْر أي ممن قد سُحِرَ
مرة بعد مَرة.
* * *
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا [خَلْقُ] الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
ويقرأ (خُلُقُ الأولينَ)، فمن قرأ خُلُق الأولِين بِضَمِ الخَاءِ فمعناه
عادَةُ الأولين، ومن قرأ خَلْقُ بفتح الخاء، فمعناه اخْتِلاقُهُمْ وَكَذِبُهُمْ.
وفي (خَلْقُ الأولين) وجه آخر، أي خُلقْنَا كما خُلِقَ من كان قَبلَنَا، نحيا
كما حَيُوا، ونموتُ كما ماتوا وَلَا نُبْعَثُ، لأنَّهُمْ أنكروا البعث.
* * *
وقوله: (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨).
معناه احكم بيني وبينهم حكماً، والقاضي يسمى الفَتَّاحُ مِن هذا.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦)
الأيكةُ الشجر الملتَف، ويقال أيكة وَأَيْك، مثل أجَمَة، وأَجَم
والفصل بين واحده وجمعه الهاء. ويقال في التفسير إن أصحاب
الأيكة هؤلاء كانوا أصحاب شجر مُلْتَف، ويقال إن شجرهم هو الدَّومُ.
والدَّوْمُ هو شجر المُقْلِ.
وأكثر القراء - على إثبات الألف واللام في الأيكة، وكذلك يَقرأ أبو عمرو وأكثر القرَّاءِ، وقرأ أهل المدينة أصحابُ لَيْكة مفتوحة اللام، فإذا وَقَفَ - على أَصْحَاب، قَالَ ليكَة المرْسَلِين.
وكذلك هي في هذه السورَةِ بغير ألف في المصحف، وكذلك أيضاً في
سورة (ص) بغير ألف وفي سَائِر القرآن بألف.
ويجوز وهو حسن جدًّا:
" كذَبَ أصحاب آلأيكة المُرْسَلِينَ " بِغَيْر ألف في الخطَ - على الكسر - على
أن الأصل الأيكة فَألْقِيتِ القمْزَ فقيل لَيْكَةِ، والعرب تقول الأحمر
جاءني، وتقول إذا أَلْقَتْ الهمزة لَحْمَرُ جاءَ في بفتح اللام وإثبات ألف
الوصل، ويقولون أيضاً: لاحْمر جاءني يُرِيدُون الأحمر؛ وإثبات الألف
واللام فيهما في سائر القرآن يدل على أنَّْ حَذْفَ الهمزة منها التي هي
ألف الوصل بمنزلة قولهم لاَحمر.
قال أَبُو إسْحَاق: - أعني إن القَراءَةَ بِجر لَيْكَةِ، وأنت تريد الأيكَةِ
واللام، أجود من أَنْ تَجْعَلَها لَيْكة، وأنت لا تقدِّرُ الألفَ واللامَ وَتَفتَحُها
لأنها لا تَنْصِرُفُ، لأن لَيْكة لا تعرفُ وَإنما هي أيكةُ للواحِد وأيك
للجمع، فأجود القراءة فيها الكسر، وإسقاط الفمزة لموافقة
المصحف، وأهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أن اسم
المدينة التي كانت للذين أرسل إليهم شُعَيبٌ عليه السلام (لَيْكَةُ).
وكان أبو عُبَيدْ القاسم بن سلام يختار قِراءةَ أَهْلِ المدينة والفَتْحَ، لأن
لَيْكَة لا تنصرف، وذَكر أنه اختار ذلك لِمُوَافَقَتِها الكتاب مع مَا جَاءَ في
التفسير، كأنَّها تسمى المدينة الأيكة، وتسمَّى الغيضَةُ التي تَضَمُّ هذا
الشجَرَ الأيكة.
والكسر جَيِّدٌ على ما وصفنا، ولا أعلَمُه إلَّا قد قرئ
* * *
وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)
الظُّلَّة: سحابة أَظَلَّتْهُم، فاجتمعوا تحتَها مستجيرين بها مما
نالهم من حَرِّ ذلك اليوم ثُمَّ أَطْبقَتْ عَلَيْهِمْ فَكان من أعظم يوم في
الدنيا عَذَاباً.
(إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
98
ولو كان في غير القرآن لجاز عَظيماً، والجر أَجْوَدُ كَمَا جَاءَ به
القرآنُ.
* * *
وقوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ).
وقرأ ابن مَسْعُودٍ " مَا أَصْلَحَ لَكُمْ رَبكُمْ من أزواجكم "
يعنى به الْفُرُوجُ، وعلى ذلك التفسير.
وذلك أَنَّ قومَ لُوطٍ كانوا يَعْدِلونَ في النساء عن الفروج إلى الأدْبَارِ، فأَعلم اللَّهُ عزَّ وجلًَّ أَنَّهُمْ بفعلِهم هذا عَادُونَ.
وعادون ظالمونَ غاية الظلْمِ.
ويروى أن ابنَ عُمَرَ سئل عن التحمِيضِ، فقال: أَوَ يفْعَل ذلكَ
المُسْلِمُون والتحميض فعل قوم لوط بالنّساء والرجال.
ومن أجاز هذا في النساء فمخطئ خطأ عَظِيماً.
* * *
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١)
وقوله: (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨)
والقالي: التارك للشيء الكاره له غاية الكراهة.
وقوله: (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١)
جاء في التفسير في الباقين في العذاب، والغابر في اللغة الباقي
وأنشدوا للعجاج.
فَمَا وَنى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ... له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ
99
وأنشدوا للعجاجِ:
لا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بأَغْبارِها... إَنَّكَ لا تَدْرِي مَنِ الناتِجُ
أغبارها ما بقي من اللبن في أخلاف الناقَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)
ويقرأ (نَزَّلَ بِهِ الرُّوحَ الْأَمِينَ)، المعنى نزل اللَّه به الروحَ الأمينَ.
والروح الأمين. جبريل عليه السلام.
وقوله: (عَلَى قَلْبِكَ).
مَعْنَاه نَزَل عَلَيِك فوعاه قَلْبُكَ وَثَبَتَ فلا تنساهُ أَبداً ولا شيئاً منه.
كما قال عزَّ وجلَّ: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى).
* * *
وقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
تأويله واللَّه أعلم أن ذِكرَ مُحمدٍ عليه السلام وذكر القرآن في زبُر
الأولين، والزُّبُر الكُتب، زَبور وَزبُر مثل قولك رَسول وَرُسل كما قال
الله عزَّ وجلَّ: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
(وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ).
عطف على الكاف والميم المعنَى اتَقُوا الَّذِي خَلَقَكُم وخلق
الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ.
ويقرأ والجُبُلَّةَ بضم الجيم والباء، ويجوز: والجِبْلَة
الأولين والجُبلة الأولين.
فأمَّا الأوْلَيَانِ فالقراءة بهِمَا، وهاتان جائزتان.
* * *
قوله: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ)
- وكِسْفاً - يُقْرأ بهما جميعاً.
فمن قرأ كِسْفاً - بإسْكانِ السينِ - فمعناه جانباً، وَمَنْ قَرأ كِسَفاً
فتأويله قِطَعاً من السماء جمع كِسْفَة وكِسَف، مثل كِسْرة وكِسَر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(١٩٧)
إذا قلت (يَكُنْ) فالاختيار نصب (آيَةً).
ويكونُ (أَنْ يَعْلَمَهُ) اسم كان ويكون (آيَةً) خبر كان، المعنى أو لم يكن عِلْم علماء بني إسرائيل أن النبي عليه السلام حق وأنَّ نبوتَه حق آيةً؛ أي علامة موضِّحةً، لأن العُلمَاءَ الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبي عليه السلام مكتوباً عِنْدَهُمْ في التوراة والإِنجيل، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ.
ومن قرأ (أَوَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ) - بالتاء - جعل " آية " هي الاسم.
و" أن يَعْلَمَه " خبر (يكن).
ويجوز أيضاً " أولم تَكُنْ لهم آيَةً " بالتاء ونصب آية
كما قال عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا).
ومثله قول لبيد:
فَمَضَى وقَدَّمَها وكانت عادةً... مِنه إِذا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدامُها
فنصب (عادةً) وقد أنث (كَانَت) وهي للإقدام، لأن الاسم والخبر في
كان لشيء وَاحِد وقد جَاوَرَ الفعلَ لفظ التأنيث.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨)
(الأعجمين) جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم الذي لا
يفصح، وكذلك الأعجمي، فأمَّا العَجَميُّ فالذي من جنس العَجَم.
أَفْصَحَ أو لم يفصح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠)
أي سلكنا تَكذيبَهُم به في قُلُوبهم، جعل اللَّه - عزَّ وَجَل -
مُجازَاتَهُمْ أَنْ طَبَعَ على قلوبهم وَسَلك فِيها الشركَ.
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
أخبرِ عزَّ وجلَّ أنه لما سلك في قلوبهم الشرك منعهم من الإيمان
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
معنى (بَغْتَةً) فجاءة.
* * *
وقوله: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩)
(ذِكْرَى) يكون نَصْباً ويكون رَفْعاً إلا أن الإعراب لا يظهر فيها لأن
آخرها ألف مَقْصُورَة، فمن نَصَبَ فعلى المصدَرِ ودَلّ عَلَيْه الِإنذارُ لأن
قوله: (إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) معناه ألا لها مُذَكِرونَ ذكرى.
ويجوز أن تكون
في موضع رفع على معنى إنْذَارُنَا ذِكْرَى، على خَبَرِ الابْتِداء، ويجوز
ذِكراً وما كنا ظالمين، مُنَوَّن ولا أعلم أَحَداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ بها إلا أنْ
تثْبتَ بها رِواية صَحِيحَة، يقال: ذَكرْتُه ذِكرَى بألف التأنيث وذكرته ذِكْراً
وَتَذْكيراً وَتَذْكِرَةً وذَكْراً، وهو مِنِّي عَلَى ذُكْرٍ لاَ غَيْرُ.
* * *
وقوله: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠)
وقرأ الحسن الشَيَاطُونَ، وهو غَلَط عِنْدَ النحويين، ومخَالَفَة عند
القراء للمصحف.
فليس يجوز في قراءة ولا عند النحويين، ولو كان يجوز في النحْو، والمصحفُ على خلافهْ لم تَجُزْ عندي القراءةُ به.
* * *
وقوله: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
لمَّا رُمُوا بالنجوم مُنِعُوا من السَّمْعِ.
* * *
وقوله عزَّ جل: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
يُرْوَى في التفسير أنَّه لما نزلت هذه الآية نادى النبي - ﷺ -: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف يا عباسُ عَمَّ النبي يا
صَفيَّةُ عَمَّةَ رسول اللَّه، إني لا أملك لكم من اللَّه شيئاً، سَلُونِي من
مَالِي ما شِئْتُم.
ويروى أَيْضاً أنه لما نزلت هذه الآية صَعَدَ الصفَا، وَنَادَى الأقربَ قالأقْرِبَ فخذاً فَخذاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)
تأويله: ألِنْ جَنَاحَكَ، أُمِرَ النبي - ﷺ - بإلانَةِ الجانب مَعَ مَا وَصَفَهُ اللَّه به من لين الخلق وتعظيم خُلُقِه فِي اللِّينِ وجميل الأخلاقِ.
فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤).
وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
أي المصلين.
* * *
وقوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١)
ثم أنبأ فقال: (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)
لأنه عزَّ وجلَّ قال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢).
ثم قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).. و (ما تنزلت به الشيَاطِينُ) كالمتصِلِ بهذا، ثم أعلم أن الشياطين تَنَزَّلُ على كل أَفَاكٍ أثيم، أي على كل كَذَاب، لأنها كانت تأتي مُسَيْلِمَةَ الكذابَ وَغَيرَهُ من الكهَنَةِ فيلقونَ إليْهِم وَيَزيدُونَ أولئكَ
كَذِباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤)
ويجوز يَتْبَعُهُم - بالتشديد والتخفيف -.
والغاوونَ الشَيَاطِين في التفسير، وقيل أيضاً الغاوون من الناس، فإذا هجا الشاعِرُ بما لا يجوز، هَوِيَ ذلك قَوْم وأحبُّوه، وَهُمْ الغاوونَ، وكذلك إن مَدَح مَمْدوحاً بما ليس فيه أَحَبَّ ذَلِك قَوم وتابَعُوه فهم الغاوون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
ليس يعنَى بِهِ أَوْدِية الأرْض، إنما هو مثل لقولهم وشعرهم، كما
تقول في الكلام: أنا لك في وادٍ وَأَنْتَ لي في وادٍ، وليس يُريدُ أنك في
وادٍ من الأرْضِ، إنما يريد أنا لَكَ في وادٍ مِنَ النفع كبيرٍ وأنت لي في
صِنْفٍ. والمعنى أنهم يَغْلُونَ في الذم والمَدْح، وَيُكَذِبُونَ. ويمدَحُ
الشَاعِرُ الرجلَ بِمَا لَيْسَ فيه، وكذلك الذمُّ فيَسبُّونَ، فذلك قوله:
(فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
وهذا دليل على تكذيبهم في قَوْلِهِمْ.
ثم استثنى - عزَّ وجلَّ - الشعراء الذين مَدَحُوا رسول اللَّه - ﷺ - وَرَدُّوا هجاءَ مَنْ هجاه وهجا المسلمين فقال:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
أي لَمْ يَشْغلْهم الشِّعْرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَز وَجَلً ولم يجعلوه هِمَّتَهُمْ.
إنَّمَا ناضَلُوا عن النبي - ﷺ - بِأيْديهم وَأَلْسِنَتِهِمْ، فَهَجَوْا من يستحق الهجاءَ وأحق الخلقِ بالهجاء من كذَّب رسول الله - ﷺ - وهجاه، فقال:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا).
وجاء في التفسير أن الذين عُنُوا بـ (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
عبدُ اللَّه بنُ رواحة الأنْصَارِي وكعبُ بن مَالِك وحسَّانُ بن ثابت
الأنْصَارِي.
* * *
وقوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
يعني أنهم ينقلبون إلى نار جهنم يُخلَّدون فيها.
و" أَيَّ " منصوبة بقوله (يَنْقَلِبُونَ) لا بقوله (وَسَيَعْلَمُ) لأن " أيًّا " وَسَائِرَ الاستفهام لا يعمل فيها مَا قَبلها.
Icon