تفسير سورة المطفّفين

معاني القرآن للفراء
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

جائز لو قرىء بِهِ «١». زعم الكِسَائِيّ: أن العرب تُؤْثر الرفعَ إِذَا أضافوا اليوم إلى يفعل، وتفعلُ، وأفعلُ، ونفعلُ فيقولون: هَذَا يومُ نفعلُ ذاك، وأفعل ذاك، ونفعلُ ذاك. فإذا قَالُوا: هَذَا يومَ فعلتَ، فأضافوا يوم إلى فعلتُ أَوْ إلى إذْ «٢» آثروا النصب، وأنشدونا:
عَلَى حينِ عاتبتُ المشيبَ عَلَى الصِّبا وقلتُ أَلَمَّا تَصْحُ والشَّيبُ وازِعُ؟ «٣»
وتجوز «٤» فِي اليَاءِ والتاء ما يجوز فِي فعلت، والأكثر ما فسّر الكِسَائِيّ.
ومن سورة المطففين
قوله عز وجل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١).
نزلت أَوَّل قدوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ إلى المدينة، فكان أهلها إِذَا ابْتاعوا كَيْلًا أَوْ وزنًا استوفَوْا وأفرطوا. وإذا باعوا كيلًا أو وزنا نقصوا فنزلت «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» فانتهَوْا، فهم أَوْ فِي النَّاس «٥» كيْلًا إلى يومهم هَذَا.
[قَالَ] «٦» قَالَ الفراء: ذُكرَ أن «وَيْلٌ» وادٍ فِي جهنم، والويل الَّذِي نعرف «٧».
وقوله عز وجل: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ [١٣١/ ا] وَزَنُوهُمْ «٨» (٣) الهاء فِي موضع نصب، تَقُولُ: قَدْ كِلتك طعامًا كثيرًا، وكِلتني مثله. تريد: كِلْتَ لي،
(١) قرأ بالنصب زيد بن على والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقى السبعة (البحر المحيط ٨/ ٤٣٧) بإضمار يدانون (تفسير الزمخشري ٤/ ١٩٣) وقرأ بالرفع ابن أبى إسحق، وعيسى، وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو (البحر المحيط ٨/ ٤٣٧)، وأجاز الزمخشري فيه أن يكون بدلا مما قبله أو على: هو يوم لا تملك (تفسير الزمخشري ٤/ ١٩٣).
(٢) فى ش: وإلى إذ. [.....]
(٣) فى ش: وأنشدوا، والبيت للنابغة، ورواية الديوان: ألمّا أصح مكان ألمّا تصح وازع: زاجر.
(الكتاب: ١: ٣٦٩).
(٤) فى ش: ويجوز.
(٥) عبارة القرطبي التي نقلها عن الفراء: فهم من أوفى الناس (تفسير القرطبي ١٩/ ٢٥٠).
(٦) سقط فى ش.
(٧) أي: العذاب والهلاك.
(٨) فى جميع النسخ ورد الكلام عن الآية ٣ قبل الآية ٢.
وكِلْتُ لَكَ، وسمعت أعرابية تَقُولُ: إِذَا صَدَرَ النَّاس أتينا التاجر، فيكيلنا الْمُدَّ والمُدَّين إلى الموسم المقبل، فهذا شاهد، وهو من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم من قيس.
وقوله عز وجل: اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ (٢).
يريد: اكتالوا من الناس، وهما تعتقبان: على ومِن- في هذا الموضع لأنه حقّ عليه فإذا قال: اكتلتُ عليك، فكأنه قال: أخذتُ ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فهو كقولك:
استوفيت منك.
وقوله عز وجل: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ (٦).
هو تفسير اليوم المخفوض لمّا ألقي اللام من الثاني ردّه إلى «مَبْعُوثُونَ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» فلو خفضت يومَ بالرَّد على اليوم الأوَّلِ كان صوابًا.
وقد تكونُ في موضع خفض «١» إلَّا أنها أضيفت إلى يفعلُ، فنصبت إذ أضيفت إلى غير محضٍ «٢»، ولو رفع على ذلك «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» كما قَالَ الشَّاعِر:
فَكُنْتُ كذي رِجْلين: رَجُل صحيحة... وأخرى رمَى فيها الزَّمانُ فَشَلَّتِ «٣».
وقوله عز وجل: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨).
ذكروا أنها الصخرة التي تحت الأرض، ونرى أنه صفة من صفاتها لأنه لو كان لها اسما لم يجر.
وإن قلت: أجريته لأنى ذهبت بالصخرة إلى أَنَّها الحجر الَّذِي فِيهِ الكتاب كَانَ وجهًا.
وقوله عزَّ وجلَّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤).
يَقُولُ: كثرت المعاصي والذنوب منهم، فأَحاطت بقلوبهم فذلك الرَّين عليها. وجاء فِي الحديث: أن عمر «٤» بن الخطاب رحمه الله، قال للأسيفع «٥» أصبَح قدرِين بِهِ. يَقُولُ: قَدْ أحاط بماله [١٣١/ ب]، الدين وأنشدنى بعض العرب «٦» :
(١) فى الكشاف (٢: ٥٣١) : وقرىء بالجر بدلا من (يوم عظيم).
(٢) فى ش: مخفوض.
(٣) البيت لكثير عزة، والرفع على القطع، وهو وجه جائز مع الجر على البدل. (الكتاب ١: ٢١٥) وانظر (الخزانة ٢/ ٢٧٦).
(٤) هذه رواية ش، وبقية النسخ: «أن فى عن عمر» ش: أن عمر قال.
(٥) أسيفع جهينة، روى أن عمر خطب فقال: ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضى من دينه وأمانته، بأن يقال: سبق الحاج فادّان معرضا، وأصبح قدرين به (اللسان مادة: رين).
(٦) فى اللسان: أنشده ابن الأعرابى ١٣/ ١٩٣، والرواية فيه:
ضحيت حتّى أظهرت ورين بي... ورين بالسّاقى الذي كان معى
لم ترو حتَّى هجرت ورين بي
يقول: حتَّى غُلبتُ من الإعياء، كذلك غلبَةُ الدَّيْنِ، وغلبةُ الذنوبِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨).
يَقُولُ القائل: كيف جمعت (عِلِّيون) بالنون، وهذا من جمع الرجال فإن «١» العرب إِذَا جمعت جمعًا لا يذهبون فِيهِ إلى أن لَهُ بناءً من واحد واثنين، فقالوه فِي المؤنث، والمذكر بالنون، فمن ذَلِكَ هَذَا، وهو شيء فوق شىء غير معروف واحده ولا أثناه.
وسمعت بعضَ العرب يَقُولُ: أَطْعَمَنَا مرقة مَرَقَيْن «٢» يريد: اللحم إِذَا طبخت بمرق.
قَالَ، [وقَالَ الفراء مرة أخرى: طبخت بماء] «٣» واحد. قَالَ الشَّاعِر:
قَدْ رَوِيَتْ إلا الدُّهَيْدِهِينَا قُليَصِّاتٍ وأُبَيْكِرينَا «٤»
فجمع بالنون لأنَّه أراد: العدد الَّذِي لا يُحَدُّ، وكذلك قول الشَّاعِر:
فأصبحت المذَاهِبُ قَدْ أذاعت بِهَا الإعصار بعد الوابلينا «٥»
أراد: المطر بعد المطر غير محدود. ونرى أن قول العرب:
عشرون، وثلاثون إذ جعل للنساء وللرجال من العدد الَّذِي يشبه هَذَا النوع، وكذلك عليّون: ارتفاعٌ بعد ارتفاع وكأنه لا غاية لَهُ.
وقوله عزَّ وجلَّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)
(١) عبارة القرطبي فى المسألة نقلا عن الفراء هى: «والعرب إذا جمعت جمعا، ولم يكن له بناء من واحده، ولا تثنيته، قالوا فى المذكر والمؤنث بالنون» (تفسير القرطبي ١٩/ ٢٦٣).
(٢) عبارة اللسان نقلا عن الفراء: سمعت بعض العرب يقول: أطعمنا فلان مرقة مرقين يريد: اللحم إذا طبخ، ثم طبخ لحم آخر بذلك الماء. [.....]
(٣) ساقط فى ش.
(٤) الدهداء: صغار الإبل: جمع الدهداء بالواو والنون، وحذف الياء من الدهيديهينا للضرورة (اللسان نقلا عن ابن سيده). وجاء فى اللسان: البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس، والبكرة بمنزلة الإنسان، والقلوص بمنزلة الجارية، ويجمع البكر على أبكر، قال الجوهري: وقد صغره الراجز وجمعه بالياء والنون فقال: وأورد البيت- والبيت غير منسوب- فى اللسان- وروايته فى مادة (دهده) متفقة وما جاء هنا.. وجاء رواية فى مادة بكر: شربت مكان رويت (اللسان) وانظر (الخزانة ٣/ ٤٠٨).
(٥) رواه المخصص غير منسوب، وفيه: فإن شئت جعلت الوابلين: الرجال الممدوحين، وصفهم بالوبل سعة عطاياهم، وإن شئت جعلته وبلا بعد وبل، فكان جمعا لم يقصد به قصد كثرة ولا قلة (المخصص: ٩: ١١٤).
يَقُولُ. بريق النعيم ونداه، والقراء مجتمعون عَلَى (تعرف) إلا أبا جَعْفَر الْمَدَنِيّ فإنه قَرَأَ: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «١» » و «يُعْرَفُ» أيضًا يجوز لأنّ النَّضْرةَ اسمٌ مؤنثٌ مأخوذ من فعلٍ وتذكير فعله قبله [١٣٢/ ا] وتأنيثه جائزان.
مثل قوله: «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا «٢» الصَّيْحَةُ» وفى موضع آخر. «وَأَخَذَتِ «٣» ».
وقوله عزَّ وجلَّ: خَاتَمة مِسْكٌ (٢٦).
[قرأ الحسنُ وأهل الحجاز وعاصم والأعمش «خِتامُهُ مِسْكٌ «٤» ». حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ: حَدَّثَنَا «٥» مُحَمَّدٌ قال: حدثنا الفراء قال: [و] «٦» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ «٧» عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيِّ أنه قرأ «خاتمه مسك» [حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ] قال: «٨» حدثنا الفراء قال: [و] «٩» حدثنى أبو الأحوص عن أشعث بن أبى الشعناء المحاربي قال:
قرأ علقمة بن قيس «خاتَمُهُ مِسْكٌ» «١٠». وقال: أما رأيت المرأة تَقُولُ للعطّار: اجْعل لي خاتمهُ مِسْكَا تريد: آخره، والخاتم والختام متقاربان فِي المعنى، إلا أن الخاتم: الاسم، والختام: المصدر، قَالَ الفرزدق:
فَبتْنَ جنابَتيَّ مُصرَّعَاتٍ وَبِتُّ أفضّ أغلاق الختام «١١»
ومثل الخاتم، والختام قولك للرجل: هُوَ كريم الطابع، والطباع، وتفسيره: أن أحدهم إِذَا شرب وجد آخر كأسه ريح المسك.
وقوله عز وجل: وَمِزاجُهُ (٢٧)
(١) وهى أيضا قراءة يعقوب وشيبة وابن إسحاق، كما فى القرطبي: ١٩/ ٢٦٥.
(٢) سورة هود: ٦٧، ٩٤ على الترتيب.
(٣، ٤) سقط فى ش: من قرأ الحسن إلى مسك.
(٥) فى ش حدثنى.
(٦، ٨) سقط فى ش.
(٧) عطاء بن السائب: هو أبو زيد الثقفي الكوفي أحد الأعلام، أخذ القراءة عرضا عن أبى عبد الرحمن السلمى، وأدرك عليا. روى عنه شعبة بن الحجاج، وأبو بكر بن عياش، وجعفر بن سليمان، ومسح على رأسه، ودعا له بالبركة. مات سنة ست وثلاثين ومائة (طبقات الفراء: ١/ ٥١٣).
(٩) سقط فى ش.
(١٠) وهى أيضا قراءة الكسائي (الإتحاف: ٤٣٥)، وعلى وعلقمة وشقيق والضحاك وطاووس (القرطبي ١٩/ ٢٦٥).
(١١) الديوان: ٢٥٢، ونقل اللسان عبارة الفراء هنا (مادة ختم)، وأورد البيت بروايته عن الفرزدق.
Icon