تفسير سورة مريم

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة مريم من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله :﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ ﴾ أي هذا ذكر رحمة الله عبده زكريا، وزكريا يمد ويقصر، قراءتان مشهورتان، وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي « صحيح البخاري »، أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة، وقوله ﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾ قال بعض المفسرين : إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره، حكاه المارودي، وقال الآخرون : إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله، كما قال قتادة في هذه الآية ﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾ : إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفيّ، وقال بعض السلف : قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه، فجعل يهتف بربه يقول خفية : يا رب يا يا رب، فقال الله له : لبيك لبيك لبيك ﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي ﴾ أي ضعفت وخارت القوى ﴿ واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ أي اضطرم المشيب في السواد. والمراد من هذا الإخبارُ عن الضعف والكبر، ودلائله الظاهرة والباطنة، وقوله :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ أي ولم أعهد منك إلاّ الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيه سألتك، وقوله :﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي ﴾، قال مجاهد وقتادة والسدي : أراد بالموالي العصبة، ووجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه، فاجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه. ( الثاني ) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا. ( الثالث ) أنه ثبت في « الصحيحين » من غير وجه، أن رسول الله ﷺ قال :« لا نورث، ما تركناه صدقة » وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح :« نحن معشر الأنبياء لا نورث » وعلى هذا فتعين حمل قوله :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي ﴾ على ميراث النبوة، ولهذا قال :﴿ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ كقوله :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [ النمل : ١٦ ] أي في النبوة. إذ لو كان في المال خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر به، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث :« نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة »، قال مجاهد : كان وراثته علماً وقال الحسن : يرث نبوته وعلمه، وقال السدي : يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب، وعن أبي صالح في قوله ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ قال : يرث مالي ويرث ممن آل يعقوب النبوة، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره. وقوله :﴿ واجعله رَبِّ رَضِيّاً ﴾ أي مرضياً عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
هذا الكلام يتضمن محذوفاً، وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له :﴿ يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى ﴾، كما قال تعالى :﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء * فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾ [ آل عمران : ٣٨-٣٩ ]، وقوله :﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ﴾. قال قتادة : أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم، وقال مجاهد :﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ أي شبيهاً، أخذه من معنى قوله :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٥ ] ؟ أي شبيهاً، وقال ابن عباس : أي لم تلد العواقر قبله مثله، وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقراً من أول عمرها، بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما، ولهذا قال :﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [ الحجر : ٥٤ ] مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة.
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل، وبشر بالولد ففرح فرحاً شديداً وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها، ومع أنه قد كبر وعتا، أي عسا عظمه، ونحل، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، والعرب تقول إذا يبس : عتا، وقال مجاهد :﴿ عِتِيّاً ﴾ يعني قحول العظم، وقال ابن عباس وغيره، عتياً يعني الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر، ﴿ قَالَ ﴾ أي الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه ﴿ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها، ﴿ هَيِّنٌ ﴾ أي يسير سهل على الله، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال :﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾، كما قال تعالى :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ [ الإنسان : ١ ].
يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه ﴿ قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً ﴾ أي علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني، كما قال إبراهيم عليه السلام ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ]، ، ﴿ قَالَ آيَتُكَ ﴾ أي علامتك ﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ أي أن يُحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي، من غير مرض ولا علة، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة. قال زيد بن أسلم : كان يقرأ ويسبّح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلاّ إشارة، وقال العوفي، عن ابن عباس :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ أي متتابعات. وقال مالك، عن زيد بن أسلم :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾ من غير خرس، وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها ﴿ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ [ آل عمران : ٤١ ] أي إشارة، ولهذا قال في هذه الآية الكريمة ﴿ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب ﴾ أي الذي بشر فيه بالولد ﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ ﴾ أي أشار، إشارة خفية سريعة ﴿ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، شكراً لله على ما أولاه. قال مجاهد ﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ ﴾ أي أشار. وقال مجاهد : أي كتب لهم في الأرض.
وهذا أيضاً محذوفاً، تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب وهو ( التوراة ) التي كانوا يتدارسونها بينهم، وقد كان سنة إذ ذاك صغيراً، فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال ﴿ يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ ﴾ أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد ﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً ﴾ أي الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير والإكبال عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك، قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب، فقال : ما للعب خلقنا. وقوله :﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ﴾ قال ابن عباس : يقول ورحمة من عندنا. وزاد قتادة : رحم الله بها زكريا، وقال مجاهد :﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ﴾ وتعطفاً من ربه عليه، وقال عكرمة : محبة عليه، وقال عطاء بن أبي رباح : تعظيماً من لدنا، والظاهر من السياق أن قوله ﴿ وَحَنَاناً ﴾ معطوف على قوله ﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً ﴾ أي وآتيناه الحكم وحناناً، وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب : حنت الناقة على ولدها، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، وفي « المسند » للإمام أحمد، عن أنَس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة يا حنان يا منان » وقد يثنى كما قال طرفة :
أبا منذر أفنيتَ فاستبق بعضَنا حنانيك بعضُ الشر أهون من بعض
وقوله تعالى :﴿ وَزَكَاةً ﴾ معطوف على ﴿ وَحَنَاناً ﴾ فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب، وقال قتادة : الزكاة : العمل الصالح، وقال الضحّاك : العمل الصالح الزكي، وقال ابن عباس ﴿ وَزَكَاةً ﴾ قال : بركة ﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ طاهراً فلم يذنب، وقوله ﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ﴾ لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة، وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً، أمراً ونهياً، ولهذا قال :﴿ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ﴾، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك ﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾ أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال :« ما من أحد من ولد آدم إلاّ وقد أخطأ أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »، وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا، فقال له عيسى استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر : أنت خير مني، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمتُ على نفسي وسلّم الله عليك، فعرف الله فضلهما.
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً، مباركاً، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة، لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال :﴿ واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ ﴾ وهي مريم بنت عمران، من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران، وأنها نذرتها محررة، أي تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات، المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرائيل إذ اك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ]، فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران، فلما أراد الله تعالى - وله الحكمة والحجة البالغة - أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام ﴿ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ أي اعتزلتهم، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس؛ عن ابن عباس، قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت الحج إليه، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك ﴿ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ قال : خرجت مريم مكاناً شرقياً فصلوا قبل مطلع الشمس. وعنه قال : إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة، لقول الله تعالى :﴿ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ واتخذوا ميلاد عيسى قبلة، وقال قتادة :﴿ مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ شاسعاً متنحياً، وقوله ﴿ فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً ﴾ أي استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام ﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾ أي على صورة إنسان تام كامل.
قال مجاهد والضحّاك ﴿ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا ﴾ : يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣-١٩٤ ]، ﴿ قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾ أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت ﴿ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾ أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله، قال أبو وائل : قد علمت أن التقي ذو نهية، حين قالت :﴿ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها، لست مما تظنين، ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ﴿ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ﴾، ﴿ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ أي فتعجبت مريم من هذا، وقالت كيف يكون لي غلام، أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور.
1552
ولهذا قالت :﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾ والبغي هي الزانية، ﴿ قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت، إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً، وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، ولهذا قال :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم ﴿ وَرَحْمَةً مِّنَّا ﴾ أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله، نبياً من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى ﴿ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ] أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته. قال ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال، قالت مريم عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس، سبّح في بطني وكبّر، وقوله :﴿ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾ يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد ﷺ وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى :﴿ وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وقال :﴿ والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ]، قال محمد بن إسحاق ﴿ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾ : أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد، واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره، والله أعلم.
1553
يقول تعالى مخبراً عن مريم، أنها لما قال لها جبريل ما قال، استسلمت لقضاء الله تعالى، فذكر غير واحد من علماء السلف، أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد، بإذن الله تعالى، فلما حملت به ضاقت ذرعاً، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا، وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم، فقامت إليها فاعتنقتها وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أني حبلى، وذكرت لها شأنها، وما كان من خبرها، وكانوا بيت إيمان وتصديق، قال مالك رحمه الله : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة، وكان حملهما جميعاً معاً، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك، قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام، لأن الله جعله يحيى الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص. ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر، وقال عكرمة : ثمانية أشهر، وقال ابن جريج، عن ابن عباس، وسئل عن حمل مريم، قال : لم يكن إلاّ أن حملت فوضعت.
والمشهور الظاهر، والله على كل شيء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرَّض لها في القول، فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليَّ، قالت : وما هو؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت : نعم، وفهمت ما أشار إليه، أما قولك هل يكون من غير حب وزرع من غير بذر، فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر، وهل يكون ولد من غير أب، فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم، فصدقها، وسلم لها حالها، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكاناً قصياً، أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
1554
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم، وتغير اللون، حتى فطر لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا : إنما صاحبها يوسف، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابا، فلا يراها أحد ولا تراه.
وقوله تعالى :﴿ فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة ﴾ أي فاضطرها وألجأها إلى جذع النخلة، في المكان الذي تنحت إليه. وقد اختلفوا فيه، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس، وقال وهب بن منبه : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس، في قرية يقال لها بيت لحم، وهذا هو المشهور، الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقوله تعالى إخباراً عنها :﴿ قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ﴾ فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت ﴿ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا ﴾ أي قبل هذا الحمل ﴿ وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ﴾ أي لم أخلق ولم أك شيئاً قاله ابن عباس، وقال قتادة ﴿ وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ﴾ : أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري الناس من أنا. وقال ابن زيد : لم أكن شيئاً قط، وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلاّ عند الفتنة عند قوله :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ [ يوسف : ١٠١ ].
1555
اختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال ابن عباس :﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾ جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، أي ناداها من أسفل الوادي، وقال مجاهد ﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾ قال : عيسى ابن مريم، وقال الحسن : هو ابنها. قال : أو لم تسمع الله يقول ﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ ﴾، وقوله ﴿ أَلاَّ تَحْزَنِي ﴾ أي ناداها قائلاً لا تحزني ﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ﴾، عن البراء ابن عازب، وعن ابن عباس : السري النهر، وقال الضحّاك : هو النهر الصغير بالسريانية، وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز، وقال السدي : هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير، وقال آخرون : المراد بالسري عيسى عليه السلام. والقول الأول أظهر، ولهذا قال بعده :﴿ وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة ﴾ أي وخذي إليك بجذع النخلة، قيل : كانت يابسة قاله ابن عباس، وقيل : مثمرة، والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه : ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً فقال :﴿ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ أي طيبي نفساً، ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى :﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً ﴾ أي مهما رأيت من أحد، ﴿ فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً ﴾، المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي، لئلا ينافي ﴿ فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً ﴾، قال أنَس بن مالك في قوله ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً ﴾ قال : صمتاً، وكذا قال ابن عباس والضحّاك، وفي رواية عن أنَس : صوماً وصمتاً، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام. روى ابن إسحاق، عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الأخر فقال : ما شأنك؟ قال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم. فقال عبد الله بن مسعود : كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها، أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريم عليها السلام، ليكون عذراً لها إذا سئلت. وقال عبد الرحامن بن زيد : لما قال عيسى لمريم ﴿ لاَّ تَحْزَنِي ﴾ قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس؟ ﴿ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٣ ].
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله. فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً، وقالوا ﴿ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ﴾ أي أمراً عظيماً، ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ أي يا شبيهة هارون في العبادة، ﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ﴾ أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي : قيل لها ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ أي أخي موسى وكانت من نسله، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم، وللمضري : يا أخا مضر، وقيل : نسيت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم. كما قال الإمام أحمد، عن المغيرة بن شعبة قال :« بعثني رسول الله ﷺ إلى نجران، فقالوا : أرأيت ما تقرأون ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال :» ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم « ».
وقال ابن جرير، عن قتادة قوله ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ الآية قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر، قال وذكر لنا أنه شيع جنازه يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل. وقوله :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها ظانين أنه تزدري بهم وتعلب بهم ﴿ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ ؟ قال السدي : لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها ﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾ أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه، وقوله :﴿ آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾ تبرئة لأمّه مما نسبت إليه من الفاحشة، قال نوف البكالي : لما قالوا لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديه، فنزع الثدي من ثمه، واتكأ على جنبه الأيسر وقال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً... ﴾ إلى قوله ﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾.
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام ﴿ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ ﴾ أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به، ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة، فقال :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ﴾ أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً ﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، أي إذا أراد شيئاً فإنما يأمر به. فيصير كما يشاء كما قال :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم، وأمرهم بعبادته فقال ﴿ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم أي قويم من اتبعه رشد وهدي ومن خالفه ضل وغوى، وقوله :﴿ فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ ﴾ أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله، وأنه عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود عليهم لعائن الله، على أنه ولد زنية، وقالوا : كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم الله، وقال آخرون : بل هو وابن الله، وقال آخرون : ثالث ثلاثة، وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله، وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين، وقد روي نحو هذا عن ابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن ( قسطنطين ) جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين مائة وسبعين أسقفاً، فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً، فقالت كل شرذمة فيه قولاً، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك، وكان فيلسوفاً، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعاً كثيرة، وحرفوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذٍ الكنائس الكبار في مملكته كلها، بلاد الشام والجزيرة والروم، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة، وقوله :﴿ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى، وزعم أن له ولداً، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة، وأجّلهم فإنه الذي لا يعجّل على من عصاه، كما جاء في « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :
1558
« لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » وقد قال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير ﴾ [ الحج : ٤٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، ولهذا قال هاهنا ﴿ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ أي يوم القيامة. وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« من شهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ».
1559
يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ أي ما أسمعهم وأبصرهم ﴿ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ يعني يوم القيامة، ﴿ لكن الظالمون اليوم ﴾ أي في الدنيا ﴿ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي : لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك، ثم قال تعالى :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة ﴾ أي أنذر الخلائق يوم الحسرة ﴿ إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾ : أي فصل بين اهل الجنة وأهل النار، وصار كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه، ﴿ وَهُمْ ﴾ أي اليوم ﴿ فِي غَفْلَةٍ ﴾ عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي : لا يصدقون به. عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا دخل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت، قال : فيقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت، قال : فيؤمر فيه فيذبح، قال، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت » ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، وأشار بيده ثم قال :« أهل الدنيا في غفلة الدنيا ».
وقال السُّدي، عن ابن مسعود في قوله ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾ قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في أهل عليين، ولا في أسفل درجة في الجنة إلاّ نظر إليه، ثم ينادي مناد : يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درج من جهنم إلاّ نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى : يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار هو الخلود أبد الأبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا، فذلك قوله تعالى :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر ﴾ : يقول إذا ذبح الموت. وقال ابن عباس :﴿ يَوْمَ الحسرة ﴾ من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله وحذره عباده، وقال عبد الرحمن بن زيد، في قوله ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة ﴾ قال يوم القيامة، وقرأ :﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله ﴾ [ الزمر : ٥٦ ]، وقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس، ولا أحد يدعي ملكاً ولا تصرفاً، بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم، الحاكم فيهم، فلا تظلم نفس شيئاً ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.
يقول تعالى لنبيّه محمد ﷺ :﴿ واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، خبر إبراهيم خليل الرحمن، وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال :﴿ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً، ﴿ ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ ﴾ يقول : وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك، لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت، ولا اطلعت عليه ولا جاءك ﴿ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، ﴿ ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان ﴾ أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ يس : ٦٠ ]، وقوله ﴿ إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ﴾ أي مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه، فطرده وأبعده، فلا تتبعه ﴿ ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن ﴾ : أي على شركك وعصيانك لما آمرك به ﴿ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ﴾ يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلاّ إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى :﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ النحل : ٦٣ ].
يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه إنه قال :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم ﴾ ؟ يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك، وهو قوله :﴿ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾، قاله ابن عباس، وقوله :﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾ قال مجاهد : يعني دهراً، وقال الحسن البصري : زماناً طويلاً، وقال السدي ﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾ قال : أبداً. وقال ابن عباس ﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾ قال : سوياً سالماً، قبل أن تصيبك مني عقوبة، فعندها قال إبراهيم لأبيه ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ ﴾، كما قال تعالى في صفة المؤمنين :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، وقال تعالى :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، ومعنى قول إبراهيم لأبيه ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ ﴾ يعني : أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي ﴾، ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ قال ابن عباس وغيره : لطيفاً، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ قالا : عودة الإجابة، وقال السدي : الحفي الذي يهتم به بأمره، وقد استغفر إبراهيم ﷺ لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله :﴿ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب ﴾ [ إبراهيم : ٤١ ]، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، حتى أنزل الله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله... ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] إلى قوله :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] الآية، يعني إلاّ في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بيَّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، وقوله :﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي ﴾ أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ﴿ وَأَدْعُو رَبِّي ﴾ أي وأعبد ربي وحده لا شريك له، ﴿ عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً ﴾ وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ.
يقول تعالى : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾ [ الأنبياء : ٧٢ ]، وقال :﴿ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ]، ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب وهو نص القرآن في سورة البقرة :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوبن، أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته، ولهذا قال :﴿ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ﴾ فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبئ في حياة إبراهيم، لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف. فإنه نبي أيضاً. وقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾، قال ابن عباس : يعني الثناء الحسن، وقال ابن جرير : إنما قال ﴿ عَلِيّاً ﴾ لأن جميع الملل والأديان يثنون علهيم ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم فقال :﴿ واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً ﴾ بكسر اللام من الإخلاص في العبادة، وقرأ الآخرون بفتحها، بمعنى أنه كان مصطفى، كما قال تعالى :﴿ إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس ﴾ [ الأعراف : ١٤٤ ]، ﴿ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ﴾ جمع الله له بين الوصفين، فإنه كن المرسلين الكبار، أولي العزم الخمسة، وهم ( نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ) صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين، وقوله :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور ﴾ أي الجانب ﴿ الأيمن ﴾ من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه، غربية عند شاطئ الوادي، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير، عن ابن عباس ﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ قال : أدني حتى سمع صريف القلم. وقال السدي ﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ قال : أدخل في السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه، وروى ابن أبي حاتم، عن عمرو بن معد يكرب قال : لما قرب الله موسى نجياً بطور سيناء قال : يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئاً، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً، وقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ﴾ أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبياً، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ [ القصص : ٣٤ ]، وقال :﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى ﴾ [ طه : ٣٦ ]، ولهذا قال بعض السلف : ما شفع أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً، قال الله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ﴾، قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد وهب نبوته له.
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج لم يعد ربه عدة إلاّ أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلاّ قام بها، ووفاها حقها. وقال ابن جرير، عن سهل بن عقيل، إن ( إسماعيل ) النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه، فجاء ونسي الرجل فظل به إسماعيل، وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال : ما برحت من هاهنا؟ قال : لا، قال : إني نسيت، قال : لم أكن لأبرح حتى تأتيني، فلذلك ﴿ كَانَ صَادِقَ الوعد ﴾، وقد روى أبو داود في « سننه »، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال :« بايعت رسول الله ﷺ قبل أن يبعث فبقيت له عليَّ بقية، فوعدته أن آتية بها في مكانه ذلك، قال : فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي :» يا فتى لقد شققت عليّ أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك «، وقال بعضهم : إنما قيل له ﴿ صَادِقَ الوعد ﴾ لأنه قال لأبيه ﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين ﴾ [ الصافات : ١٠٢ ] فصدق في ذلك، فصدقُ الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خلفه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [ الصف : ٢ ]، وقال رسول الله ﷺ :» آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان «، ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله ﷺ صادق الوعد أيضاً، لا يعد أحداً شيئاً إلاّ وفي له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال :» حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي «.
وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ﴾ في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، وقد ثبت في »
صحيح مسلم « أن رسول الله ﷺ قال :» إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل « وذكر تمام الحديث، فدل على صحة ما قلناه، وقوله :﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾، وهذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة، حيث كان صابراً على طاعة ربه عزّ وجلّ، آمراً بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا ﴾ [ طه : ١٣٢ ] الآية. وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :» رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء « وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال :» إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات «.
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه، بأنه كان صديقاً نبياً، وأن الله رفعه مكاناً علياً. وقد تقدم في « الصحيح » أن رسول الله ﷺ مرَّ به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة. وعن ابن عباس : أن إدريس كان خياطاً فكان لا يغرز إبرة إلاّ قال سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل حملاً منه، وقال مجاهد في قوله ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ قال : إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى. وقال سفيان، عن مجاهد ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ قال : السماء الرابعة، وقال الحسن وغيره في قوله ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ قال : الجنة.
يقول تعالى : هؤلاء النبيون، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس، ﴿ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ ﴾ الآية. قال السدي وابن جرير رحمه الله : فالذي عنى به من ذرية آدم ( إدريس )، والذي عني به من ذرية من حملنا مع نوح ( إبراهيم )، والذي عني به من ذرية إبراهيم ( إسحاق ويعقوب وإسماعيل )، والذي عني به من ذرية إسرائيل ( موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم )، قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس، فإنه جد نوح، ( قلت ) : هذا هو الأظهر، أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام، وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل، أخذاً من حديث الإسراء، حيث قال في سلامه على النبي ﷺ : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ولم يقل والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام، وفي « صحيح البخاري » عن مجاهد :« أنه سأل ابن عباس أفي ﴿ ص ﴾ سجدة؟ فقال : نعم، ثم تلا هذه الآية :﴿ أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال وهو منهم يعني داود. وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾ أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة حمداً وكشراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي جمع باك فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم. قال سفيان الثوري قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد » وقال هذا السجود، فأين البكي؟ يريد البكاء «.
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ أي قرون أخر، ﴿ أَضَاعُواْ الصلاة ﴾، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سليقون غياً، أي خساراً يوم القيامة، وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا، فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية. قاله محمد بن كعب القرظي والسدي واختاره ابن جرير، ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو مشهور عن الإمام أحمد، إلى تكفير تارك الصلاة للحديث :« بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة »، والحديث الآخر :« العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر »، وليس هذا محل بسط هذه المسألة. وقال الأوزاعي : إنما أضاعوا المواقيت ولو كان تركاً كان كفراً. وقيل : لابن مسعود : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن ﴿ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [ الماعون : ٥ ]، و ﴿ الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾ [ المعارج : ٢٣ ]، و ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٢ ]، فقال ابن مسعود : على مواقيتها، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلاّ على الترك، قال : ذلك الكفر، وقال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإبراطهن إضاعتهن، عن وقتهن، وقال الأوزاعي : قرأ عمر بن عبد العزيز :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة ﴾، ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت، وقال مجاهد : ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد ﷺ ينزو بعضهم على بعض في الأزقة. وقال ابن جرير، عن مجاهد ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات ﴾ قال : هم في هذه الأمة، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون من الناس في الأرض. وقال كعب الأحبار : والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عزَّ وجلَّ : شرَّابين للقهوات، ترَّاكين للصلوات، لعَّابين بالكعبات، رقَّادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، قال : ثم تلا هذه الآية :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾، وقال الحسن البصري : عطَّلوا المساجد ولزموا الضيعات. وقال أبو الأشهب : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي، وقوله :﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾، قال ابن عباس : أي خسراناً، وقال قتادة شراً، وقال عبد الله بن مسعود ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾ قال : وادٍ في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم.
1568
وقال الأعمش، عن زياد، عن أبي عياض في قوله ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾ قال : واد في جهنم من قيح ودم. وقوله ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي إلاّ من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولهذا قال :﴿ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ ذلك لأنَّ التوبة تجبُّ ما قبلها، وفي الحديث الآخر التائب من الذنب كمن لا ذنب له « ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً، وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم، وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان :﴿ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق... ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ] إلى قوله ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ].
1569
يقول تعالى : الجنات التي يدخلها التائبون هي ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ أي إقامة ﴿ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ ﴾ بظهر الغيب، أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله ﴿ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ﴾ [ المزمل : ١٨ ] أي كائناً لا محالة، وقوله هاهنا ﴿ مَأْتِيّاً ﴾ أي العباد صائرون إليه وسيأتونه، ومنهم من قال ﴿ مَأْتِيّاً ﴾ بمعنى آتياً، لأن كل ما أتاك فقد أتيته، كما تقول العرب : أتت عليَّ خمسون سنة وأتيت على خمسين سنة كلاهما بمعنى واحد، وقوله :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ﴾، أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له، كما قد يوجد في الدنيا، وقوله ﴿ إِلاَّ سَلاَماً ﴾ استثناء منقطع، كقوله :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥-٢٦ ]، وقوله :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ أي في مثل وقت البكرات ووقت العسيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار، كما قال رسول الله ﷺ :« أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها، ولا يتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبّحون الله بكرة وعشياً » وعن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً » وقال الضحّاك عن ابن عباس ﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ قال : مقادير الليل والنهار. وقال ابن جرير، عن الوليد بن أسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ قال : ليس في الجنة ليل، هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار، برفع الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة : فيها ساعتان بكرة وعشي، ليس ثم ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشي، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله :﴿ تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله عزَّ وجلَّ في السراء والضراء، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، وكما قال تعالى في سورة المؤمنين :﴿ أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ الآيات : ١٠-١١ ].
عن ابن عباس قال، قال رسول الله لجبرائيل :« » ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ « قال، فنزلت :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ » وقال العوفي عن ابن عباس : احتبس جبرائيل عن رسول الله ﷺ، فوجد رسول الله ﷺ من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وقال : يا محمد ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ الآية. وقوله :﴿ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ﴾، قيل : المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا، وما خلفنا أمر الآخرة ﴿ وَمَا بَيْنَ ذلك ﴾ ما بين النفختين، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي، وقيل ﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ﴾ : ما يستقبل من أمر الآخرة، ﴿ وَمَا خَلْفَنَا ﴾ أي ما مضى من الدنيا، ﴿ وَمَا بَيْنَ ذلك ﴾ أي ما بين الدنيا والآخرة واختاره ابن جرير، والله أعلم. وقوله :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾، قال مجاهد والسدي : معناه ما نسيك ربك، وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله :﴿ والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾ [ الضحى : ١-٣ ]، وعن أبي الدرداء يرفعه قال :« ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرمه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً »، ثم تلا هذه الآية :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾. وقوله :﴿ رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي خالق ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، ﴿ فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ قال ابن عباس : هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً. وقال عكرمة، عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحامن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.
يخبر تعالى عن الإنسان، أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى :﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ الرعد : ٥ ]، وقال :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧-٧٨ ]، وقال هاهنا :﴿ وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾، يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً، أفلا يعيده؟ وقد صار شيئاً، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، وفي « الصحيح » :« يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي فقوله : إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد » وقوله :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ﴾ أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة، أنه لا بدّ أن يحشرهم جميعاً، وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله، ﴿ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ﴾، قال ابن عباس : يعني قعوداً كقوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ [ الجاثية : ٢٨ ] وقال السدي في قوله ﴿ جِثِيّاً ﴾ يعني قياماً، وروي عن ابن مسعود مثله. وقوله :﴿ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ ﴾ يعني من كل أمة قاله مجاهد، ﴿ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ﴾ قال الثوري عن ابن مسعود قال : يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، وهو قوله :﴿ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ﴾، وقال قتادة : ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف، وهذا كقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً ﴾، المراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ].
روى الإمام أحمد، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود، فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم يدخلونها جميعاً، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود، فقال : يردونها جميعاً، وأهوى بأصبعه إلى أذنيه، وقال : صُمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله ﷺ يقول :« لا يبقى بر ولا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً » وعن قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى، فبكت امرأته، قال : ما يبكيك؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت قول الله عزَّ وجلَّ ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ فلا أدري أنجو منها أم لا، وكان مريضاً. وقال ابن جرير عن أبي إسحاق : كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : ما ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له : ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها. وعن الحسن البصري قال، قال رجل لأخيه : هل أتاك أنك وارد النار؟ قال : نعم، قال : فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال : لا، قال : ففيم الضحك، قال : فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله. وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نافع بن الأزرق. فقال ابن عباس : الورود الدخول، فقال نافع : لا، فقرأ ابن عباس ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] وردوا أم لا؟ وقال :﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود ﴾ [ هود : ٩٨ ] أوردهم أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل تخرج منها أم لا؟ وما أرى مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع. وقال : عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق. فقال له : يا ابن عباس، أرأيت قول الله :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ﴾، قال : أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا؟
وعن عبد الله بن مسعود ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ قال رسول الله ﷺ :« يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم » وقد رواه أسباط عن السدي، عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال : يراد الناس جميعاً الصراط، ورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل.
1573
ومنهم من يمر كعدو الرجُل حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط، والصرط دحض مزلة. عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختفطون بها الناس، وقال ابن جرير، عن عبد الله قوله ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون اللهم سلم سلم، ولهذا شواهد في « الصحيحين » وغيرهما. عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة، قالت كان رسول الله ﷺ في بيت حفصة فقال :« لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية »، قالت حفصة : أليس الله يقول :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ ؟ فقال رسول الله ﷺ :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا ﴾ الآية، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم » يعني الورود. وقال قتادة قوله :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ هو الممر عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها، والزالون والزالات يومئذٍ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذٍ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا الله سلم سلم « وقال السدي، عن ابن مسعود في قوله ﴿ كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ﴾ قال : قسماً واجباً، وقال مجاهد : حتماً، قال قضاء، وقوله ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا ﴾ أي إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار، والعصاة، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلاّ دارات وجوههم، وهي مواضع السجود، ولا يبقى في النار إلاّ من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً ﴾.
1574
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان، أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك، ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم ﴿ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾ أي أحسن منازل، وأرفع دوراً، وأحسن ندياً، وهو مجتمع الرجال للحديث، أي ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً، يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل؟ كما قال تعالى مخبراً عنهم ﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ]، وقال قوم نوح، ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] وقال تعالى :﴿ وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] ؟ ولهذا قال تعالى، راداً عليهم شبهتهم :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ ﴾ : أي وكم من أمة وقرن من المكذبين، قد أهلكناهم بكفرهم ﴿ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً. قال ابن عباس ﴿ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾ المقام : المنزل، والندي : المجلس، والأثاث : المتاع، والرئي : المنظر، وهو كما قال الله تعالى ﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ [ الدخان : ٢٥-٢٦ ] فالمقام المسكن والنعيم، والندي : المجلس، والمجمع، الذي كانوا يجتمعون فيه وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ] والعرب تسمي المجلس النادي، وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد ﷺ في عيشهم خشونة وفيهم قشافة، فعرض أهل الشرك ما تسمعون ﴿ أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾، ومنهم من قال في الأثاث هو المال، ومنهم من قال الثياب، ومنهم من قال المتاع، والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصري يعني الصوّر، وكذا قال مالك ﴿ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ أكثر أموالاً وأحسن صوراً، والكل متقارب صحيح.
يقول تعالى ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل ﴿ مَن كَانَ فِي الضلالة ﴾ أي منا ومنكم ﴿ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً ﴾ أي فليمهله الرحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، ﴿ إِمَّا العذاب ﴾ يصيبه، ﴿ وَإِمَّا الساعة ﴾ بغتة تأتيه، ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ ﴾ حينئذٍ ﴿ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ﴾ في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي، قال مجاهد في قوله :﴿ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً ﴾ فليدعه الله في طغيانه، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله.
لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه، وزيادته على ما هو عليه، أخبر بزيادة المهتدين هدى، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً ﴾ [ التوبة : ١٢٤ ] الآيتين. وقوله :﴿ والباقيات الصالحات ﴾ قد تقدم تفسيرها في سورة الكهف ﴿ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً ﴾ أي جزاء ﴿ وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ﴾ أي عاقبة ومرداً على صاحبها. عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال : جلس رسول الله ﷺ ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال :« إن قول لا إله إلاّ الله والله أكبر وسبحان الله والحمدلله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة » قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال لأهللن الله ولأكبرن الله ولأسبحن الله، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون.
روى الإمام أحمد، عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلاً قيناً، وكان لي على ( العاص بن وائل ) دين فأتيته أتقاضاه منه، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد ﷺ، حتى تموت ثم تبعث، قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثمّ مال وولد فأعطيتك، فأنزل الله ﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ إلى قوله ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾، وفي لفظ البخاري : كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فذكر الحديث وقال ﴿ أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً ﴾ قال : موثقاً.
وروى عبد الرزاق، عن مسروق قال، قال خباب بن الأرت : كنت قيناً بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل، فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئت لأتقاضاها، فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد، قال : فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فأنزل الله :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ﴾ الآيات. وقال ابن عباس : إن رجالاً من أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يطلبون ( العاص بن وائل ) بدين، فأتوه يتقاقضونه، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا : بلى، قال فإن موعدكم الآخرة فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فضرب الله مثله في القرآن فقال :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ﴾ إلى قوله ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾، وقوله :﴿ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾، قرأ بعضهم بفتح الواو من ﴿ وَلَداً ﴾ وقرأ آخرون بضمها وهو بمعناه، وقيل : إن الولد بالضم جمع، والولد بالفتح مفرد، وهي لغة قيس، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أَطَّلَعَ الغيب ﴾ إنكار على هذا القائل ﴿ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ يعني يوم القيامة، أي أعلم ماله في الآخرة، حتى تألى وحلف على ذلك ﴿ أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً ﴾ أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق، وقال ابن عباس :﴿ أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً ﴾ قال : لا إله إلا الله فيرجوا بها، وقال القرظي : شهادة أن لا إله إلاّ الله، ثم قرأ :﴿ إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً ﴾ [ مريم : ٨٧ ]، وقوله ﴿ كَلاَّ ﴾ هي حرف ردع لما قبلها، وتأكيد لما بعدها ﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ﴾ أي من طلبه ذلك، وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم، ﴿ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً ﴾ أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا، ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ أي من مال وولد، نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً، زيادة على الذي له في الدنيا، بل في الآخرة يسلب من الذي كان له في الدنيا، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ أي من المال والولد، قال مجاهد ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ : ماله وولده، وقال قتادة ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ قال : ما عنده، وهو قوله :﴿ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ لا مال له ولا ولد، وقال عبد الرحمن بن زيد ﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ﴾ قال : ما جمع من الدنيا وما عمل فيها، ﴿ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ قال : فرداً من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير.
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم، أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون لهم تلك الآلهة ﴿ عِزّاً ﴾ يعتزون بها ويستنصرونها، ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا، فقال ﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ﴾ : أي يوم القيامة ﴿ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ أي بخلاف ما ظنوا فيهم، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]، وقال السدي ﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ﴾ : أي بعبادة الأوثان، وقوله :﴿ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ أي بخلاف ما رجوا منهم. وقال ابن عباس ﴿ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ قال : أعواناً، قال مجاهد : عوناً عليهم تخاصمهم وتكذبهم، وقال قتادة : قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض، وقال الضحاك ﴿ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ قال : أعداء. وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾ قال ابن عباس : تغويهم إغواء، وقال العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه، وقال مجاهد : تشليهم إشلاء، وقال قتادة : تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله، وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالاً وقال السدي : تطغيهم طغياناً، وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ]، وقوله :﴿ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم، ﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ أي إنما نؤخرهم لأجل معدود ومضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، كما قال تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ]، ﴿ ليزدادوا إِثْمَاً ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ]، ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ] ﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ] وقال السدي ﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ السنين والشهور والأيام والساعات، وقال ابن عباس :﴿ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ﴾ قال : نعد أنفاسهم في الدنيا.
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة، وفداً إليه، والوفد هم القادمون ركباناً ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفاً إلى النار ﴿ وِرْداً ﴾ عطاشاً، وقال ابن أبي حاتم، عن ابن مرزوق ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾ قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول : من أنت؟ فيقول : أما تعرفني؟ فيقول لا، إلاّ أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك. فيقول : أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله :﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾. قال ابن عباس : ركباناً. وقال أبو هريرة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾ قال : على الإبل. وقال الثوري : على الإبل النوق، وقال قتادة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾ قال : إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قال : كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾ قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق يلم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون علها حتى يضربوا أبواب الجنة.
وقوله تعالى :﴿ وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً ﴾ أي عطاشاً، ﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة ﴾ أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٠-١٠١ ]، وقوله :﴿ إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً ﴾ هذا استثناء منقطع، بمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إلاّ الله، والقيام بحقها. قال ابن عباس : العهد ( شهادة أن لا إله إلا الله )، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عزَّ وجلَّ. وقال ابن أبي حاتم، عن الأسود بن يزيد، قال : قرأ عبد الله بن مسعود هذه الآية ﴿ إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً ﴾ ثم قال : اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة : من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا : يا أبا عبد الرحمن فعلمنا، قال قولوا : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، فإني أعهد إيك في هذه الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلاّ برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. قال المسعودي : وكان يلحق بهن : خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك.
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً فقال :﴿ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ ﴾ أي في قولكم، هذا ﴿ شَيْئاً إِدّاً ﴾، قال ابن عباس : أي عظيماً، وقوله :﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً ﴾ أي يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجَرَة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً، لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده وأنه لا إله إلاّ هو، قال ابن جرير، عن ابن عباس في قوله ﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً ﴾ قال : إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وقال رسول الله ﷺ :« لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلاّ الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة »، فقالوا : يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال :« تلك أوجب وأوجب »، ثم قال :« والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلاّ الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن »، وقال الضحاك ﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ﴾ أي يتشققن فرقاً من عظمة الله. وقال عبد الرحمن بن زيد ﴿ وَتَنشَقُّ الأرض ﴾ أي غضباً له عزّ وجلّ، ﴿ وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً ﴾ قال ابن عباس : هدماً، وقال سعيد بن جبير : هدأ ينكسر بعضها على بعض متتابعات، عن هون بن عبد الله : قال إن الجبل لينادي الجبل باسمه : يا فلان هل مر بك اليوم ذكر الله عزَّ وجلَّ؟ فيقول : نعم ويستبشر، قال عون : لهي للخير أسمع، أفيسمعن الزور والباطل، إذا قيل ولا يسمعن غيره؟ ثم قرأ ﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ﴾ الآية وعن أبي موسى رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله أن يشرك به ويُجعل له ولد، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم »، أخرجاه في « الصحيحين ». وفي لفظ :« إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » وقوله :﴿ وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته، لأنه لا كفء له من خلقه، لأن جميع الخلائق عبيد له، ولهذا قال :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ﴾ أي قد علم عددهم، منذ خلقهم إلى يوم القيامة، ذكرهم وأنثاهم وصغيرهم وكبيرهم، ﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً ﴾ أي لا ناصر ولا مجير إلاّ الله وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، هو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم أحداً.
يخبر تعالى : أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ من غير وجه فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال :« إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال : يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه - قال - فيحبه جبريل، قال : ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال : يا جبريل إني أبغض فلاناً فابغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء، إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال : فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض » وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« إن العبد ليلتمس مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فلا يزال كذلك، فيقول الله عزَّ وجلَّ لجبريل إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل : رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض » وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال :« إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني قد أحببت فلاناً فأحبه فينادي في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض »، فذلك قول الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾. وقال ابن عباس :﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾ قال : حباً، وقال مجاهد عنه ﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾ قال : محبة في الناس في الدنيا، وقال سعيد بن جبير : يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين، وقال العوفي، عن ابن عباس : الود من المسلمين في الدنيا، والزرق الحسن واللسان الصادق، وقال قتادة ﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾ أي والله في قلوب أهل الإيمان، وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلاّ أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم، وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : ما من عند يعمل خيراً أو شراً إلاّ كساه الله عزَّ وجلَّ رداء عمله.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ ﴾ يعني القرآن ﴿ بِلِسَانِكَ ﴾ : أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل، ﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين ﴾ أي المستجيبين لله المصدقين لرسوله، ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ أي عوجاً عن الحق مائلين إلى الباطل، وقال مجاهد ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ لا يستقيمون، وقال الثوري، عن أبي صالح ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ : عوجاً عن الحق.
1582
وقال الضحّاك : الألد الخصم، وقال القرظي : الألد الكذّاب، وقال الحسن البصري ﴿ قَوْماً لُّدّاً ﴾ صماً، وقال غيره : صم آذان القلوب، وقال ابن عباس ﴿ قَوْماً لُّدّاً ﴾ : فجازاً، وكذا روي عن مجاهد، وقال ابن زيد : الألد الظلوم، وقرأ قوله تعالى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام ﴾ [ البقرة : ٢٠٤ ]، وقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ ﴾ : أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ : أي هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً. قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة : يعني صوتاً، وقال الحسن وقتادة : هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً، والركز في أصل اللغة : هو الصوت الخفي، قال الشاعر :
1583
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها