ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها نزهة قلوب الفقراء، كلمة سماعها بهجة أسرار الضعفاء، راحة أرواح الأحبّاء، قوة قلوب الأولياء، سلوة صدور الأصفياء، قرّة عيون أهل البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٧ الى ١]
يا أيها المتدثر بثوبه.
وهذه السورة من أول ما أنزل من القرآن. قيل: إنّ رسول الله ﷺ ذهب إلى حراء قبل النّبوة، فبدا له جبريل في الهواء، فرجع الرسول إلى بيت خديجة وهو يقول «دثّرونى دثّرونى» فدثّر بثوب فنزل عليه جبريل وقال: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ» «١».
وقيل: أيها الطالب صرف الأذى عنك بالدثار اطلبه بالإنذار.
ويقال: قم بنا، وأسقط عنك ما سوانا، وأنذر عبادنا فلقد أقمناك بأشرف المواقف، ووقفناك بأعلى المقامات.
ويقال: لمّا سكن إلى قوله: «قُمْ» وقام قطع سرّه عن السّكون إلى قيامه، ومن الطمأنينة في قيامه.
قوله جل ذكره: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ».
دثرونى. فصبوا على ماء. رواه البخاري بهذه النهاية: دثرونى وصبوا على ماء باردا فدثرونى وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ».
«وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» طهّر قلبك عن الخلائق أجمع، وعن كلّ صفة مذمومة.
وطهّر نفسك عن الزّلّات، وقلبك عن المخالفات، وسرّك عن الالتفاتات.
ويقال: أهلك طهّرهم بالوعظ قال تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ» «١»، فيعبر عنهن- أحيانا- بالثياب والّلباس.
قوله جل ذكره: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» أي: المعاصي. ويقال: الشيطان. ويقال: طهّر قلبك من الخطايا وأشغال الدنيا.
ويقال: من لا يصحّ جسمه لا يجد شهوة الطعام كذلك من لا يصحّ قلبه لا يجد حلاوة الطاعة.
«وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» لا تعط عطاء تطلب به زيادة على ما تعطيه.
ويقال: لا تستكثر الطاعة من نفسك.
ويقال: لا تمنن بعملك فتستكثر عملك، وتعجب به.
«وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» أي: أنت تؤذى في الله. فاصبر على مقاساة أذاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٨ الى ١٧]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢)
وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧)
يعنى: إذا قامت القيامة، فذلك يوم عسير على الكافرين غير هيّن.
قوله جل ذكره: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً».
إنّى خلقته وحدي لم يشاركنى في خلقى إيّاه أحد.
ويحتمل: خلقته وحده لا ناصر له.
قوله جل ذكره: «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً» حضورا معه لا يحتاجون إلى السّفر.
«وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً» أراد: تسهيل التصرّف، أي: مكّنته من التصرّف في الأمور «١».
«ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» يطمع أن أزيده في النعمة:
«كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» جحودا.
«سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» سأحمله على مشقّة من العذاب.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
أي: لعن كيف فكّر، وكيف قدّر، ويعنى به: الوليد بن المغيرة «٢» الذي قال في النبي صلى الله عليه وسلم: إنّه ليس بشاعر ولا بمجنون ولا بكذّاب، وإنه ليس إلا ساحر، وما يأتى به ليس إلا سحر يروى:
(٢) كان الوليد يدعى ريحانة قريش فلما سمعت منه واصفا القرآن: «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمن، وإن أسفله لمغدق... » قالت قريش: صبأ الوليد لتصبون قريش كلها، فلما ذهب إليه أبو جهل ليتحرى. قال له بعد أن فنّد مزاعمهم: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)«١» لا تبقى لحما، ولا تذر عظما، تحرق بشرة الوجه وتسوّدها، من لاحته الشمس ولوّحته.
«عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال المشركون: نحن جمع كثير... فما يفعل بنا تسعة عشر؟! فأنزل الله سبحانه:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣١ الى ٣٩]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩)
فيزداد المؤمنون إيمانا، ويقول هؤلاء: أي فائدة في هذا القدر؟ فقال تعالى:
«كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ».
ثم قال:
«وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ».
أي: تقاصرت علوم الخلق فلم تتعلّق إلا بمقدار دون مقدار، والذي أحاط بكل شىء علما.
هو الله- سبحانه.
وبالليل إذا أدبر... وقرىء «ودبر» أي: مضى، «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» أي: تجلّى «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ».
أي: النار لإحدى الدواهي الكبر.
ويقال في «كَلَّا وَالْقَمَرِ» إشارة إلى أقمار العلوم إذا أخذ هلالها في الزيادة بزيادة البراهين، فإنها تزداد، ثم إذا صارت إلى حدّ التمام في العلم وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، فالعلم يأخذ فى النقصان، وتطلع شمس المعرفة، فكما أنه إذا قرب القمر من الشمس يزداد نقصانه حتى إذا قرب من الشمس تماما صار محاقا- كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان لزيادة المعارف كالسراج في ضوء الشمس وضياء النهار. «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» أي إذا انكشفت ظلم البواطن، «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» وتجلّت أنوار الحقائق في السرائر... إنها لإحدى العظائم! وذلك من باب التخويف من عودة الظّلم إلى القلوب «١».
«نَذِيراً لِلْبَشَرِ» فى هذا تحذير من الشواغل التي هي قواطع عن الحقيقة، فيحذروا المساكنة والملاحظة إلى الطاعات والموافقات... فإنّها- فى الحقيقة- لا خطر لها «٢».
«لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» عن الطاعات... وهذا على جهة التهديد.
قوله جل ذكره: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي: مرتهنة بما عملت، ثم استثنى:
«إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ».
(٢) يقصد أن نظرة الإنسان إلى عمله، وإعطاء هذا العمل قيمة... من قبيل دعوى النفس... المهم في الطريق فضل الله واجتباه الله. [.....]
وقيل: أطفال للمؤمنين «١».
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٤٠ الى ٥٦]
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
هؤلاء يتساءلون عن المجرمين، ويقولون لأهل النار إذا حصل لهم إشراف عليهم:
ما سلككم في سقر؟ قالوا: ألم نك من المصلين؟ ألم نك نطعم المسكين؟.
وهذا يدل على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع.
«وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ» : نشرع في الباطل، ونكذّب بيوم الدين.
«حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» وهو معاينة القيامة.
«فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» أي: لا تنالهم شفاعة من يشفع.
«فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» «٢» والتذكرة: القرآن:
«كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ».
وقال الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى. وقال مقاتل: هم الذين كانوا على يمين آدم يوم الذر. والله أعلم.
(٢) معرضين منصوب على الحال من الهاء والميم في (لهم)، وفي اللام معنى الفعل فانتصاب الحال على معنى الفعل.
«كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» أي: كلّا لا يعطون ما يتمنّون لأنهم لا يخافون الآخرة.
«كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» إلّا أن يشاء الله- لا أن تشاءوا «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى».
أهل لأن يتّقى.
«وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ».
وأهل لأن يغفر لمن يتّقى- إن شاء.