تفسير سورة المطفّفين

التفسير المنير
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وينظرون إليهم وهم يعذبون في النار وما يلقونه من النكال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ.. [الآيات ٢٩- ٣٦].
وعيد المطففين
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
الإعراب:
كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ الهاء والميم: إما ضمير منصوب بالفعل، وتقديره: كالوا لهم ووزنوا لهم، فحذفت اللام، فاتصل الفعل به، وإما ضمير مرفوع مؤكد لواو الجماعة في الفعل. قال ابن كثير: والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعديا، ويكون (هم) في محل نصب. وقال أبو حيان: كال ووزن مما يتعدى بحرف الجر، فتقول: كلت لك ووزنت لك، ويجوز حذف اللام كقولك: نصحت لك ونصحتك وشكرت لك وشكرتك.
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ يَوْمَ الثاني: إما منصوب بفعل مقدر، دل عليه مَبْعُوثُونَ اي مبعوثون يوم يقوم الناس، وإما بدل من موضع الجار والمجرور في قوله تعالى:
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ.
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أَلا هنا: ليست أداة استفتاح، وإنما الهمزة للإنكار والتعجب، ولا للنفي.
البلاغة:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ تنكير وَيْلٌ للتهويل والتفخيم.
يَسْتَوْفُونَ ويُخْسِرُونَ بينهما طباق.
111
المفردات اللغوية:
وَيْلٌ كلمة عذاب، أي شدة عذاب، في الآخرة. لِلْمُطَفِّفِينَ المنقصين، جمع مطفّف: وهو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن، والمراد بالتطفيف هنا: إما الازدياد إن اقتضوا من الناس، وإما النقصان إن قضوهم. وسمي بذلك لأن ما يبخس شيء حقير طفيف. اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أخذوا منهم حقوقهم. يَسْتَوْفُونَ يأخذون الكيل وافيا كاملا. كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ كالوا لهم أو وزنوا لهم. يُخْسِرُونَ ينقصون الكيل أو الوزن.
أَلا يَظُنُّ يتيقن، وهو استفهام توبيخ وإنكار وتعجب من حالهم، وعبر بالظن لأن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح، فكيف بمن تيقنه. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي يوم القيامة، عظمه لعظم ما يكون فيه. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم. لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي رب الخلائق، والمراد: يوم يقف الناس أمام ربهم لأجل أمره وحكمه وحسابه وجزائه. قال البيضاوي:
وفي هذا الإنكار والتعجب، وذكر الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله، والتعبير برب العالمين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل الله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقال السّدّي: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وهي آخر سورة نزلت بمكة، فهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ويقال:
إنها أول سورة نزلت بالمدينة، فهي مدنية في قول الحسن وعكرمة.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل «١».
وهذا على أن السورة مدنية، أو قرأها عليهم بعد قدومه إن كانت مكية.
(١) رواه النّسائي عن ابن عباس.
112
التفسير والبيان:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أي عذاب شديد للمنقصين في الكيل أو الوزن، والتطفيف: الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا، أي نزرا حقيرا أو يسيرا، والمطفف: هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال ابن كثير رحمه الله: البخس في المكيال والميزان: إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم، ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى:
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أي هم الذين إذا اكتالوا من الناس وقبضوا لهم، يأخذون حقهم وافيا زائدا، وإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم من الناس أو أقبضوهم، ينقصون الكيل أو الوزن.
وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان، فقال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء ١٧/ ٣٥] وقال سبحانه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[الأنعام ٦/ ١٥٢] وقال عز وجل: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن ٥٥/ ٩]. وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال، بعد أن كرر النصح لهم، فقال تعالى: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود ١١/ ٨٥].
ثم توعد الله تعالى المطففين بقوله:
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي ألا يخطر ببال أولئك المطففين أنهم مبعوثون، فمسئولون عما
113
يفعلون؟ وأما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي ربهم في يوم عظيم الهول كثير الفزع، جليل الخطب، من خسر فيه أدخل نارا حامية؟ وهو يوم القيامة.
إنه يوم يقوم الناس فيه حفاة عراة، في موقف صعب حرج، منتظرين لأمر رب العالمين وجزائه وحسابه. وفي هذا دلالة على عظم ذنب التطفيف، ومزيد إثمه، وشدة عقابه، لما فيه من خيانة الأمانة وأكل حق الغير. وفي الإشارة إليهم بأولئك، وقد ذكرهم عما قريب، تبعيد لهم عن رتبة الاعتبار، بل عن درجة الإنسانية. وفي هذا الإنكار والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لرب العالمين، بيان بليغ لعظم هذا الذنب. ويلاحظ أن المطففين إن كانوا من أهل الإسلام، فالظن بمعنى اليقين أو العلم، وإن كانوا كفارا منكري البعث، فالظن بمعناه الأصلي، والمراد: هب أنهم لا يقطعون بالبعث، أفلا يظنونه أيضا، كقوله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية ٤٥/ ٣٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- التطفيف: وهو إنقاص حق الآخر في الكيل أو الوزن ونحوهما من المقاييس حرام شرعا، موجب للإثم الشديد والعذاب الأليم في الآخرة، وهو أيضا رذيلة اجتماعية ونقيصة وعيب يطعن في الخلق، ويؤدي إلى ابتعاد الناس عن فاعله.
روي أن أهل المدينة كانوا تجارا يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، يعني بيع الغرر، كالطير في الهواء، فنزلت- على أن السورة مدنية في رأي جماعة- فخرج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فقرأها عليهم، فقال:
114
«خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا المكيال إلا منعوا النّبات، وأخذوا بالسّنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» «١».
٢- المراد بالتطفيف هنا: الزيادة في الكيل أو الوزن ونحوهما عند استيفاء الحق، ونقص الكيل أو الوزن ونحوهما عند إيفاء الحق.
٣- قوله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ توبيخ للمطففين، وإنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة، فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا كما تقدم بمعنى اليقين، أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وهذا دليل على أن التطفيف من الكبائر.
وهذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك، ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضا من الكبائر «٢».
وأكثر العلماء على أن قليل التطفيف وكثيره يوجب الوعيد، وبالغ بعضهم كما تقدم، حتى عدّ العزم عليه من الكبائر.
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب وإخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ومن لم يرض لأخيه المسلّم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه، فهو من هذه الجملة، ومن طلب حق
(١) أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وهو حديث صحيح. وأخرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر.
(٢) وهذا رأي الرازي، تفسير الرازي: ٣١/ ٨٩
115
نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم، كما يطلب لنفسه، فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس، ولا يطلب من أحد لنفسه حقا «١».
ويحكى أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك، وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن؟! ٤- قوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي للعرض والحساب، فيه غاية التخويف لأن جلال الله وعظمته يملآن النفس رهبة وهيبة، والقيام له شيء حقير أمام عظمته وحقه.
أما قيام الناس بعضهم لبعض، ففيه خلاف، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه،
وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصار، حين طلع عليه سعد بن معاذ فيما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري: «قوموا إلى سيّدكم». وقال أيضا: «من سرّه أن يتمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار» «٢».
قال القرطبي: وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة، فإنه جائز، وبخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه «٣».
والخلاصة كما ذكر الرازي: جمع الله سبحانه في هذه الآية أنواعا من التهديد، فقال أولا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء، وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء، ثم قال ثانيا: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، ثم قال ثالثا:
(١) غرائب القرآن: ٣٠/ ٤٩
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٥٦
(٣) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٥٦ [.....]
116
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة، ثم قال رابعا: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفيه نوعان من التهديد:
أحدهما- كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذل والانكسار.
والثاني- أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين «١».
ديوان الشر وقصة الفجار
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ الى ١٧]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
الإعراب:
... لَفِي سِجِّينٍ سِجِّينٍ: من السجن، وهو الحبس والتضييق، وقيل: النون فيه بدلا من اللام.
كِتابَ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو كتاب مرقوم، أي هو في موضع كتاب مرقوم، وكذا التقدير في قوله بعدئذ: عِلِّيُّونَ [١٩] كِتابٌ مَرْقُومٌ [٢٠] فحذف المبتدأ والمضاف جميعا، وإنما وجب هذا التقدير، لقيام الدليل على أن عِلِّيِّينَ مكان،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم لترون أهل عليين، كما يرى الكوكب الذي في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم».
وعليين: جمع لا واحد له، كعشرين، سمي به.
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ بدل أو عطف بيان للمكذبين.
ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ هذَا: في موضع رفع مبتدأ، وخبره الَّذِي. والجملة في موضع رفع نائب فاعل.
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ٩٠- ٩١
117
البلاغة:
كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ... وكَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ...
بينهما مقابلة، حيث قابل بين حال الفُجَّارِ وحال الْأَبْرارِ، وبين سِجِّينٍ وعِلِّيِّينَ.
المفردات اللغوية:
كَلَّا للردع والزجر عما هم فيه من التطفيف والتكذيب بالنسبة للكافر أو الغفلة عن البعث والحساب بالنسبة للمؤمن. كِتابَ الفُجَّارِ كتاب أعمال الكفار، وهو ما يكتب فيه من أعمالهم. سِجِّينٍ كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين: الشياطين والفسقة والكفرة، فهو ديوان الشر، بدليل قوله تعالى بعدئذ: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. وقيل: هو مكان في أسفل السافلين، وكِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسيرا للسجين، بل التقدير: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وإن كتاب الفجار مرقوم وموقع. لكن قال الزمخشري: سجين كتاب جامع هو ديوان الشر، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبّت في ذلك الديوان، وسمي سجينا فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، فهو اسم علم لا صفة، منقول من وصف كخاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف».
وقال أبو حيان: والظاهر أن سجينا هو كتاب، ولذلك أبدل منه كِتابٌ مَرْقُومٌ «٢».
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ ما كتاب سجين؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ كتاب مسطور بيّن الكتابة، أو معلم، يعلم من رآه أنه لا خير فيه، كما تقدم، يقال: رقم الكتاب: إذا جعل له علامة، وتسمى العلامة رقما. لِلْمُكَذِّبِينَ بالحق. مُعْتَدٍ متجاوز حدود الشرع والنظر والعقل. أَثِيمٍ كثير الآثام (أي المعاصي) منهمك في الشهوات المعيبة، صيغة مبالغة.
آياتُنا القرآن. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حكايات وأخبار القدماء، جمع أسطورة، أو اسطارة. كَلَّا ردع وزجر لهم عن هذا القول. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ غطّاها وغلب عليها، أي اسودت من الذنوب، وهو رد لما قالوه وبيان سبب قولهم: وهو حب المعاصي بالانهماك فيها،
(١) الكشاف: ٣/ ٣٢٢
(٢) البحر المحيط: ٨/ ٤٤٠
118
حتى صار ذلك صدا على قلوبهم، فعمّى عليهم معرفة الحق والباطل. والرين: الصدأ. ما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي، فهو كالصدأ.
كَلَّا ردع عن الكسب الزائن. يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. لَمَحْجُوبُونَ فلا يرونه، بخلاف المؤمنين، ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلا لإهانتهم بإهانة حجاب الملوك الذين يمنعون عن الدخول عليهم. لَصالُوا الْجَحِيمِ لداخلو النار المحرقة وملازموها. ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يقول لهم الزبانية: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به.
المناسبة:
بعد بيان عظم ذنب التطفيف، وبيان سببه وهو إنكار البعث والحساب أو الغفلة عنهما، ردعهم الله تعالى عن الأمرين معا، ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر، فإنه مكتوب مسطر عند الله، وأوعد منكري البعث المكذبين به، والقائلين بأن القرآن أساطير الأولين، وليس وحيا من عند الله، ثم زجرهم عن هذه المقولة الباطلة، وأوضح سببها وهو انغماسهم في المعاصي التي حجبت قلوبهم عن رؤية الحق والباطل، فصاروا لا يميزون بين الخير والشر، وأعقب ذلك بيان جزائهم وهو طردهم من رحمة الله ودخولهم نار جهنم وملازمتهم لها.
وقدّم ديوان الشر عن ديوان الخير لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور، فناسب إيراد حال الأشرار أولا.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أي ارتدعوا وانزجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، فإن الفجار ومنهم المطففون أعمالهم مكتوبة في ديوان الشر وسجل أهل النار وهو السجين، أو في حبس وضيق شديد، فكلمة سِجِّينٍ من السجن: وهو الضيق والحبس.
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي وما أعلمك أنت ولا قومك
119
ما هو السجين؟ إنه الكتاب الذي رصدت فيه أسماؤهم، فهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة. وهذا السجل المسمى بالسجين هو السجل الكبير أو العظيم، الذي فيه لكل فاجر صحيفة.
وهذا هو الظاهر في معنى كلمة سِجِّينٍ. وقد عرفنا سابقا أن بعضهم يرى أن السجين هو مكان وهو جهنم وهي أسفل السافلين، لذا قال محمد بن كعب القرظي: قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسيرا لقوله: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد، ولا ينقص منه أحد «١». وهو رأي النحويين كما تقدم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي عذاب شديد يوم القيامة لمن كذب بالبعث والجزاء وبما جاء به الرسل، فهؤلاء المكذبون هم الذين لا يصدقون بوقوع الجزاء، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره. وهذا وعيد للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله، سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى صفات من يكذب بيوم الدين وهي ثلاث، فقال:
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ، أَثِيمٍ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي لا يكذب بيوم الدين إلا من كان متصفا بهذه الصفات الثلاث:
وهي أولا- كونه معتديا، أي فاجرا جائرا متجاوزا منهج الحق، ثانيا- أنه أثيم: وهو المنهمك في الإثم في أفعاله، من تعاطي الحرام وتجاوز المباح، وفي أقواله: إن حدّث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر، وثالثا- أنه إذا
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٨٥
120
تلي عليه القرآن قال: أساطير الأولين، أي أخبار الأولين المتقدمين وأكاذيبهم وأباطيلهم التي زخرفوها، تلقاها محمد صلّى الله عليه وسلّم من غيره من السابقين، وهذا يعني في زعمهم أن القرآن ليس وحيا من عند الله تعالى.
وهذه الصفة الثالثة تشبه قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل ١٦/ ٢٤] وقال سبحانه: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٥] قيل: نزل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما.
ثم بيّن الله تعالى أسباب افترائهم على القرآن، فقال:
كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ارتدعوا وانزجروا عن هذه الأقوال، فليس الأمر كما زعمتم أيها المعتدون الآثمون، ولا كما قلتم: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما السبب هو كثرة الذنوب والخطايا التي حجبت قلوبكم عن الإيمان بالقرآن، والتي كوّنت عليها الرّين الذي منع نفاذ الحق والخير والنور إليها، فأعماها عن رؤية الحقيقة. والرين: يعتري قلوب الكافرين، فقوله: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي غطى عليها.
أخرج ابن جرير وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن».
قال الحسن البصري عن الران: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، ويسودّ من الذنوب.
والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين.
ثم أبان الله تعالى أنهم مطرودون من أي رحمة أو تكريم، فقال:
كَلَّا، إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي ليس
121
الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة منزلة حسنى، بل إن هؤلاء الكفار محجوبون عن ربهم يوم القيامة، لا ينظرون إليه كما ينظر المؤمنون، فكما حجبهم في الدنيا عن توحيده بسبب سوء أعمالهم، حجبهم في الآخرة عن رؤيته وكرامته.
قال الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ «١». وهذا استدلال بمفهوم الآية، يدل عليه منطوق قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣].
ثم إنهم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن هم من أهل النيران، فهم داخلو النار، وملازموها غير خارجين منها، ومقاسو حرها، وصليّ الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة.
ويقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ:
ثُمَّ يُقالُ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم وزبانيتها تبكيتا لهم وتوبيخا: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، فانظروه وذو قوه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن أعمال الفجار العصاة الكفرة مرصودة في كتاب مسطور بيّن الكتاب، معلم بعلامة، ومصيرهم السجن والضيق في جهنم والعذاب المهين.
٢- هناك شدة وعذاب أليم يوم القيامة للذين يكذبون بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٨٥
122
٣- لا يصدر التكذيب بالبعث والآخرة إلا من الفاجر المتجاوز حدود الحق، المعتدي على الخلق في معاملته إياهم، وعلى نفسه، وهو الأثيم العاصي في ترك أمر الله، وهو القائل عن القرآن إذا تلي عليه: إنه أساطير الأولين، أي أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها.
٤- ليس القرآن أساطير الأولين كما زعموا، وإنما هو كلام اللَّه الحق المنزل على قلب نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وسبب زعمهم كثرة القبائح والمعاصي التي غطت قلوبهم بالران وهو الحجاب الكثيف الذي يحدث بسبب تراكم الذنوب، فمنعتها من رؤية الحق والباطل، والتمييز بين الخير والشر.
٥- حقا، إن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث المكذبين بالقرآن محجوبون عن رؤية ربهم يوم القيامة، فلا ينظر إليهم نظرة رحمة، ولا يرونه، ثم إنهم يلازمون الجحيم (النار المحرقة) فلا يخرجون منها، كلما نضجت جلودهم بدلهم اللَّه جلودا غيرها، وكلما خبت نارها زادهم اللَّه سعيرا، ويقال لهم من خزنة جهنم: هذا هو العذاب الذي كنتم تكذبون به رسل اللَّه في الدنيا.
٦- قال الزجاج في آية: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ: في هذه الآية دليل على أن اللَّه عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون.
وقال جل ثناؤه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣] فأعلم اللَّه جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه.
وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه، فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه.
123
وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا.
ثم قال: أما واللَّه، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد، لما عبده في الدنيا.
ديوان الخير وقصة الأبرار
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
الإعراب:
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَيْناً: تمييز، أو حال من تَسْنِيمٍ لأنها بمعنى جارية، على أن (تسنيما) اسم للماء الجاري من علو الجنة، فهو معرفة، تقديره: ومزاجه من الماء جاريا من علو، أو منصوب ب تَسْنِيمٍ وهو مصدر، مثل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أي ومزاجه من ماء تسنيم عينا، أو منصوب بتقدير (أعني عينا) أو منصوب على المدح ويَشْرَبُ: جملة فعلية في موضع نصب على الموضع لقوله: عَيْناً. وباء بِهَا إما زائدة، أي يشربها بمعنى: يشرب منها، أو بمعنى فيها.
البلاغة:
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تفخيم وتعظيم لمراتب الأبرار.
فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ جناس اشتقاق.
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ إطناب بذكر أوصاف المتقين ومقر نعيمهم.
124
خِتامُهُ مِسْكٌ تشبيه بليغ، أي كالمسك في الطيب والبهجة، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه.
المفردات اللغوية:
كَلَّا حقا، أو ردع وزجر عن الباطل. كِتابَ الْأَبْرارِ ما يكتب من أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم. لَفِي عِلِّيِّينَ لمثبت في ديوان الخير، فهو إما أنه الكتاب الجامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين، بدليل تفسيره بعدئذ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ وإما أنه مكان عال في الجنة. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ ما أعلمك ما كتاب عليين. كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة أو معلم بعلامة. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضرونه فيحفظونه، وهم الملائكة. لَفِي نَعِيمٍ جنة.
عَلَى الْأَرائِكِ السرر أو الأسرّة في الحجال، والحجال: جمع حجلة وهي كالقبة، ولا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة وهي الكلّة. يَنْظُرُونَ ما أعطوا من نعيم يسرّهم. نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وحسنه وبريقه. رَحِيقٍ شراب خالص لا غش فيه، وهو أجود الخمر غير المسكرة. مَخْتُومٍ ختم إناؤه بالمسك، لا يفكه إلا الأبرار تكريما لهم.
خِتامُهُ مِسْكٌ ختام إنائه المسك، مكان الطين أو غيره. فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليتسارع أو فليستبق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالركب المتقدم من العالمين المخلصين. وأصل التنافس: التنازع في الشيء بغية أن ينفرد به أحد المتنازعين دون غيره، أي يضن به.
وَمِزاجُهُ ما يمزج به أو يخلط، فالمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج:
خلط أحد الشيئين بالآخر. تَسْنِيمٍ عين من ماء تجري من الأعلى إلى الأسفل، وهو أشرف شراب في الجنة. يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ يشرب منها، أو ضمن يشرب معنى يلتذ، والْمُقَرَّبُونَ هم الأبرار السابق ذكرهم.
المناسبة:
بعد بيان حال المطففين وحال الفجار المكذبين بيوم الدين، وتبيين درجتهم يوم القيامة، أتبعه ببيان حال الأبرار الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالحا في الدنيا، والتعريف بمنزلتهم عند اللَّه، وأن اللَّه رصد أعمالهم في كتاب مرقوم هو عِلِّيُّونَ وأن لهم الجزاء الحسن على إحسانهم في الدنيا، حتى
125
يتبين أن كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانيه، فيقبل العاقل على مقوّمات الأولين، ويبتعد عن محاكاة الآخرين.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أي حقا، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون المطيعون مرصود في كتاب بيّن مسطور، أو في أعالي الجنة، ومصيرهم إلى الجنة، وهم بخلاف الفجار، وهو بخلاف سجين.
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي وما أعلمك يا محمد أي شيء هو عليون؟ ويراد بذلك تفخيم أمره وتعظيم شأنه، إنه كتاب مسطور، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم، وهو السجل الكبير، الذي تحضره الملائكة وتحفظه ويرونه كما يحفظ اللوح المحفوظ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة.
ثم أبان اللَّه تعالى حالهم فقال:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم يوم القيامة، وفي جنات الخلود، على الأسرّة التي في الحجال (ذات القبب الساترة) ينظرون إلى ما أعده اللَّه لهم من أنواع النعيم في الجنة، وإلى ما لهم من الكرامات المادية والمعنوية، أما الماديات فهي مختلف أنواع الأطعمة الشهية والأشربة الهنية والحور العين والمراكب الفارهة والمساكن الفخمة، وأما المعنويات فأنساهم باللَّه ورؤيتهم له ورضاه عنهم وشعورهم بالأمن والطمأنينة والسعادة الأبدية.
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي إذا رأيتهم عرفت آثار النعمة والترف والسرور والدعة في وجوههم، التي تتلألأ بالنور والحسن والبياض،
126
والبهجة والرونق لأن اللَّه تعالى زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس ٨٠/ ٣٨- ٣٩].
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي يسقون من الخمر التي لا غش فيها ولا يشوبها شيء يفسدها، وقد ختم إناؤها بالمسك فلا يفكه إلا الأبرار، ويكون آخر طعمه ريح المسك، وفي ذلك فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة اللَّه باتباع أوامره، واجتناب نواهيه. وهذا يعني أن التسابق أو التنافس يكون فيما يؤدي إلى النعيم، لا إلى الجحيم، كما قال تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات ٣٧/ ٦١].
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ، سقاه اللَّه تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع، أطعمه اللَّه من ثمار الجنة، وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري، كساه اللَّه من خضر الجنة».
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي ومزاج ذلك الرحيق وهو ما يخلط به من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب الجنة. ويسقون الرحيق أو التسنيم من عين جارية من الأعلى إلى الأسفل يمزجون بها كؤوسهم، وهي التي يشرب منها الأبرار المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا.
سئل ابن عباس عن قوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فقال: هذا مما قال اللَّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة ٣٢/ ١٧].
127
فقه الحياة أو الأحكام:
يتبين من الآيات ما يأتي:
١- إن صحف أعمال الأبرار مدونة في السجل الكبير وهو الكتاب المسطر البيّن الكتابة، الذي يتميز بعلامته الخاصة، ويشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وهذه أضداد كتاب الفجار.
وبالمقارنة بينهما يتبين أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة. والمقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع: إذلال الفجار وتحقير شأنهم.
والمقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك:
إجلالهم وتعظيم شأنهم «١».
٢- بعد أن عظم اللَّه تعالى كتاب الأبرار عظم منزلتهم، فأبان أنهم في نعيم الجنة. ووصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة:
أولها- على الأرائك ينظرون، أي على الأسرة في الحجال ينظرون إلى ما أنعم اللَّه به عليهم، من الكرامات ومن أنواع النعم في الجنة من الحور العين والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يلحظ المؤمن، فيحيط بكل ما آتاه اللَّه، وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا».
ثانيها- تعرف في وجوههم نضرة النعيم، أي بهجته وغضارته ونوره، والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية اللَّه عز وجل، على ما قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣].
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ٩٧
128
ثالثها- يسقون من رحيق مختوم، أي يسقون من شراب لا غشّ فيه، والرحيق: صفوة الخمر، وخمر الجنة غير مسكرة، كما قال تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات ٣٧/ ٤٧]. وقال عز وجل: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة ٥٦/ ١٩].
وهذا النوع من الخمر يختلف عن النوع الآخر الذي يجري في الأنهار، المشار إليه في قوله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد ٤٧/ ١٥] لكن هذا المختوم أشرف وأفضل من الجاري.
وللرحيق صفات أربع هي:
الأولى- أنه شراب مختوم قد ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان.
الثانية- ختامه مسك، أي عاقبته المسك، بمعنى أن يختم له آخره بريح المسك. قال الفراء: الختام آخر كل شيء.
الثالثة- أنه محل التنافس والتنازع لرفعته وطيبه، والمراد: فليرغب الراغبون به إلى المبادرة إلى طاعة اللَّه عز وجل.
الرابعة- ومزاجه من تسنيم، أي مزاج ذلك الرحيق الذي يخلط به من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور.
قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: تسنيم: عين في الجنة يشرب بها المقرّبون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين، فتطيب.
وقال ابن عباس كما تقدم في قوله عز وجل: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ: هذا
129
مما قال اللَّه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
لذا قال تعالى بعدئذ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة، صرفا وهي لغيرهم مزاج.
ويلاحظ أنه تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام:
المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون، علمنا أن المذكورين هنا هم أصحاب اليمين. وهذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة، فتسنيم أفضل أنهار الجنة، والمقربون أفضل أهل الجنة «١».
سوء معاملة الكفار للمؤمنين في الدنيا ومقابلتهم بالمثل في الآخرة
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
الإعراب:
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ في موضع نصب ب يَنْظُرُونَ. وقيل: لا موضع لها من الإعراب لأنها مستأنفة. وقرئ: «هل ثوّب» : بإدغام اللام في هَلْ في الثاء، وبإظهارها، من أدغم، فلما بينهما من المناسبة لأنهما من حروف اللسان والثنايا العليا.
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ١٠٠
130
البلاغة:
يَكْسِبُونَ يَضْحَكُونَ يَتَغامَزُونَ
يَنْظُرُونَ يَفْعَلُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا هم رؤساء قريش ومشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي يضحكون استهزاء من عمّار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
مروا بالمؤمنين. يَتَغامَزُونَ
يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم بالجفن والحاجب استهزاء. والغمز: إرخاء الجفن والحاجب استهزاء وسخرية، أو لغرض آخر يعبر به عن شيء بين الناس، إما خير أو شر، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث.
انْقَلَبُوا رجعوا. فَكِهِينَ معجّبين بذكرهم المؤمنين أي ينسبونهم إلى الضلال، وقرئ: فاكهين، أي ملتذين بالسخرية منهم، والمعنى في القرائتين واحد. وَإِذا رَأَوْهُمْ أي رأوا المؤمنين. لَضالُّونَ ينسبونهم إلى الضلال، لإيمانهم بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ وما أرسل الكفار على المؤمنين. حافِظِينَ لهم أو لأعمالهم، أي رقباء يهيمنون على أعمالهم، شاهدين عليها، يشهدون برشدهم وضلالهم.
فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة. الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ يهزؤون بهم حين يرونهم أذلّاء مغلولين في النار، عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرة في الحجال في الجنة. يَنْظُرُونَ من منازلهم إلى الكفار، وهم يعذبون، فيضحكون منهم، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. هَلْ ثُوِّبَ جوزي، من التثويب والإثابة: المجازاة، أي هل أثيبوا؟ ما كانُوا يَفْعَلُونَ نعم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٩) :
ذكر العلماء في سبب النزول وجهين:
الأول- أن المراد من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل السّهمي، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.
131
الثاني- جاء علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم، فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «١».
المناسبة:
بعد بيان قصة الفجار وقصة الأبرار وما أعد لكل فئة في الآخرة، حكى اللَّه تعالى بعض قبائح أفعال الكافرين في الدنيا بالاستهزاء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالمثل في الآخرة، جزاء ما فعلوا في الدنيا. والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم.
التفسير والبيان:
حكى اللَّه تعالى عن رؤساء الشرك وأمثالهم أربعة أشياء من المعلومات القبيحة، فقال:
١- إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي إن كفار قريش ومن وافقهم على الكفر كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم. وهكذا شأن الأقوياء والأغنياء في كل عصر يسخرون من المؤمنين المصلّين أو الفقراء المتأدبين بآداب الإسلام والقرآن، ويهزؤون من المتدينين ومن دينهم، اعتمادا منهم على قوتهم، أو سلطتهم ونفوذهم، أو ثروتهم وغناهم. قال ابن عباس في تفسير إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا... : هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث. وأولئك الذين آمنوا من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم مثل عمار، وخبّاب، وصهيب، وبلال.
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ١٠١
132
٢- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
أي وإذا مر الكفار بالمؤمنين يتغامزون عليهم محتقرين لهم، يعيرونهم بالإسلام، ويعيبونهم به. والتغامز: صيغة تفاعل تقتضي المشاركة، من الغمز: وهو الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء، ويكون الغمز أيضا بمعنى العيب، يقال: غمزة: إذا عابه، وما في فلان غميزة، أي ما يعاب به، والمعنى: أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم، ويحرمونها لذاتها، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه.
٣- وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي وإذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق، رجعوا معجبين بما هم فيه، متلذذين به، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين، وبما قاموا به من استهزاء وطعن فيهم، واستهزاء بهم، ووصفهم بالسخف والطيش وضعف الرأي وقلة العقل.
٤- وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي وإذا رأى المشركون المؤمنين، ووصفوهم بالضلال لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة، ولاتباعهم محمّدا، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى: هل له وجود أم لا.
فرد اللَّه تعالى عليهم ما قالوه بقوله:
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أي وما بعث هؤلاء المجرمون من قبل اللَّه رقباء على المؤمنين، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم، ولا كلّفوا بهم؟
وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم.
ثم قرر اللَّه تعالى مبدأ المعاملة بالمثل في الآخرة، تسلية للمؤمنين وتقوية قلوبهم، فقال:
133
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أي ففي اليوم الآخر يوم القيامة، يضحك المؤمنون ويهزؤون من الكفار حين يرونهم أذلّاء مغلوبين، قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، معاملة بالمثل، وتبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام، خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وكلمة فَالْيَوْمَ دليل على أن التكلم واقع في يوم القيامة.
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ينظر المؤمنون إلى أعداء اللَّه، وهم يعذبون في النار، والمؤمنون متنعمون على الأرائك. وهذا دائم خالد لا يعادل بشيء من المؤقت الفاني.
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي هل أثيب وجوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والطعن والتنقيص، أم لا؟ نعم، قد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم. والثواب: من ثاب يثوب: إذا رجع، فالثواب: ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. والاستفهام بمعنى التقرير للمؤمنين، أي هل جوزوا بها؟.
فقه الحياة أو الأحكام:
استدل العلماء بالآيات على ما يأتي:
١- الكفار دائما في عداوة وحقد وتغاير مع المؤمنين، فلا يلتقي الإيمان مع الكفر، ولا الدين الصحيح مع الضلال، ولا الأخلاق العالية مع الأخلاق المرذولة. فقد كان يصدر من المشركين ألوان متعددة من أذى المؤمنين، منها ما ذكرته هذه الآيات: وهو الاستهزاء والسخرية من المؤمنين، وتعييبهم والطعن بهم وتعييرهم بالإسلام، والتفكه بذكر المسلمين بالسوء أمام أهاليهم،
134
والعجب بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا، وقولهم بأن المؤمنين في ضلال لتركهم دين الآباء والأجداد واتباعهم محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب غير مؤكد الحصول.
٢- قوبل الكفار في الآخرة بمثل فعلهم وقولهم، تسلية للمؤمنين، وتثبيتا لهم على الإسلام، وتصبرا على متاعب التكاليف، وأذية الأعداء، في أيام معدودة، لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية، ففي الآخرة يهزأ المؤمنون من الكفار ويضحكون منهم، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، بسبب الضر والبؤس، فضحك المؤمنون منهم بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.
قال قتادة في قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ:
ذكر لنا أن كعبا كان يقول: إن بين الجنة والنار كوىّ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ كان له في الدنيا، اطلع من بعض الكوى قال اللَّه تعالى في آية أخرى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات ٣٧/ ٥٥] قال: ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي.
ويدخل المؤمنون الجنة، وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار، كيف يعذبون في النار، وكيف يصطرخون فيها، ويدعون بالويل والثبور، ويلعن بعضهم بعضا.
ويقال على سبيل التهكم: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩] والمعنى: كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة؟ فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم.
135

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الانشقاق
مكيّة، وهي خمس وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الانشقاق لقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تشققت وتصدعت مؤذنة بخراب العالم، ومنذرة بهول يوم القيامة.
مناسبتها لما قبلها:
السور الأربعة: الانشقاق وما قبلها وهي سور المطففين والانفطار والتكوير كلها في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه، فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة، وأغلب ما ذكر في المطففين في أحوال الأشقياء الفجار والمتقين الأبرار في الآخرة، وعنيت سورة الانشقاق بالجمع بين ما يحدث من مقدمات ومشاهد الآخرة الرهيبة وبين ما يعقب ذلك من الحساب اليسير لأهل اليمين والحساب العسير لأهل الشمال.
وفي السورة المتقدمة ذكر مقر كتب الحفظة، وفي هذه ذكر كيفية عرضها يوم القيامة.
ما اشتملت عليه السورة:
محور السورة كالسور المكية الأخرى: شؤون العقيدة، وتصوير أهوال
136
القيامة. وقد بدئت ببيان بعض التبدلات الكونية الخطيرة عند قيام الساعة:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.. [الآيات: ١- ٥].
وأردفت ذلك حال الإنسان في موقف العرض والحساب يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين: أهل اليمين وأهل الشمال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ... [الآيات: ٦- ١٥].
ثم أقسم اللَّه بالشفق والليل والقمر على ملاقاة المشركين في القيامة أهوالا شديدة، وأحوالا عصيبة: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ... [الآيات: ١٦- ١٩].
وختمت السورة بتوبيخ المشركين والكفار والملاحدة والوجوديين وأمثالهم على عدم إيمانهم باللَّه تعالى، وبإنذارهم بالعذاب الأليم، والتنبيه على نجاة المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ومنحهم الثواب الدائم المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ... [الآيات: ٢٠- ٢٥].
والخلاصة: أن السورة اشتملت على مقصدين: بيان ما يلاقيه الإنسان من نتائج أعماله يوم القيامة، وانحصار المصير إما في جنات النعيم وإما في نيران الجحيم.
فضلها:
أخرج مسلم والنسائي: أن أبا هريرة قرأ بهم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سجد فيها.
وأخرج البخاري ومسلّم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة (العشاء) فقرأ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد، فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلا أزال أسجد بها، حتى ألقاه.
137
Icon