سورة براءة والتوبة ولها أسماء أخر مدنية قيل إلا الآيتين لقد جاءكم رسول وآيها مائة وثلاثون قيل تسع وعشرون ولها ستة عشر ركوعا.
﴿ براءة من الله ورسوله ﴾، أي : هذه براءة واصلة من الله ورسوله ﴿ إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ أي : الله ورسوله برءا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وإن كان صادرا من رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإذن الله تعالى، يعني وجب نبذه ولا عهد بعد ذلك.
﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ : أيها المشركون، ﴿ أربعة أشهر ﴾، والأصح أنه من يوم النحر إلى عاشر ربيع الآخر، وعند بعضهم أنه إلى سلخ المحرم ؛ لأن الآية نزلت في شوال والأكثرون على أن من كان له عهد مؤقت ولم ينقض عهده فأجله إلى مدته مهما كان، ومن له عهد غير مؤقت أو دون أربعة أشهر أو أكثر لكن نقضه فيكمل له أربعة أشهر وقد صحت بهذا الروايات عن علي رضي الله عنه، وفي رواية عن ابن عباس أن من له عهد مؤقت أو غير مؤقت فأجله أربعة أشهر ومن ليس له عهد فأجله انسلاخ الأشهر المحرم خمسون ليلة ثم السيف حتى يدخلوا في الإسلام، ﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ : لا تفوتونه وإن أمهلكم، ﴿ وأن الله مخزي الكافرين ﴾ : مذلهم في الدنيا والآخرة.
﴿ وأذن ﴾ : أي إعلام، عطف على براءة ﴿ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ : يوم أفضل أيام المناسك وأكبرها جميعا وهو يوم العيد أو يوم عرفة أو أيام الحج كلها، وعن الحسن البصري رحمه الله : عام، حج فيه أبو بكر – رضي الله عنه – بالاستخلاف، وعن بعضهم : الذي حج النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ولم يجتمع قبله ولا بعده وقال بعضهم الحج الأصغر العمرة، ﴿ أن الله ﴾ أي : بأنه ﴿ بريء من المشركين ﴾ أي : من عهودهم، ﴿ ورسوله ﴾ عطف على المستكن في بريء، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي : ورسوله كذلك وعند ابن حاجب جاز في مثله أن يكون عطفا على محل اسم " أن "، ﴿ فإن تبتم ﴾ : من الكفر والغدر، ﴿ فهو ﴾، أي : الرجوع، ﴿ خير لكم وإن توليتم ﴾ : من التوبة، ﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ : غير فائتين أخذه وعقابه، ﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾، في الآخرة.
﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴾، استثناء من المشركين في قوله " بريء من المشركين " فالمستثنى من جميع المشركين من كان أجل عهده فوق أربعة أشهر ولم ينقضوا العهد، فوجب إتمام عهدهم على الأصح، أما على ما نقلنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات فمعناه : أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، أي : مدة قدرنا وهي أربعة أشهر لكن في الاستثناء يختل الفصل بأجنبي أو تقديره : فقولوا لهم : سيحوا واعلموا أن الله بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا عهدهم أتموا عهدهم وأمهلوهم بعد أربعة أشهر إلى انقضاء أجلهم، ﴿ ثم لم ينقصكم شيئا ﴾ : من شرط العهد، ﴿ ولم يظاهروا ﴾ : لم يعاونوا ﴿ عليكم أحدا ﴾ : من أعدائكم، ﴿ فأتموا لهم عهدهم إلى ﴾، تمام ﴿ مدتهم إن الله يحب المتقين ﴾، فإتمام العهد من التقوى.
﴿ فإذا انسلخ ﴾، انقضى، ﴿ الأشهر الحرم ﴾ : الأشهر التي حرمنا فيها قتلهم وأجلناهم فيها وهو أربعة أشهر لغير من كان معاهدته أكثر من أربعة أشهر ولم ينقض عهده وأكثر من أربعة أشهر لهم فإن بني ضمرة وبني كنانة بقي من مدة عهدهم تسعة أشهر وأوله يوم النحر أو يوم نزول الآية وقد نزلت في شوال كما ذكرنا، ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ : كافة ناكثا وغير ناكث، وعلى ما نقلنا عن ابن عباس رضي الله عنهما فمعناه : إذا انقضى الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة والحجة ومحرم فاقتلوا المشركين الذين لا عهد لهم أصلا، فعلى هذا أول الصفر ابتدءا من جواز المقاتلة مع من ليس له عهد، ﴿ حيث وجدتموهم ﴾ : من حل أو حرم، ﴿ وخذوهم ﴾ : ائسروهم، ﴿ واحصروهم ﴾، احبسوهم وضيقوا عليهم ﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ : كل ممر حتى لا يتوسعوا في البلاد، ﴿ فإن تابوا ﴾ : عن الشرك، ﴿ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾ : فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ : يغفر زلاتهم وينعم عليهم.
﴿ وإن أحد من المشركين ﴾ : الذين أمرتك بقتلهم ورفع " أحد " بشريطة التفسير، ﴿ استجارك ﴾ : طلب منك الأمان، ﴿ فأجره ﴾ : أمنه، ﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾، تقرأه عليه وتقيم عليه حجة الله تعالى، ﴿ ثم أبلغه مأمنه ﴾، هو مستمر الأمان إلى أن يرجع بلاده، ﴿ ذلك ﴾ : الأمر بأمنه ﴿ بأنهم قوم لا يعلمون ﴾ : جهلة فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا كلام الله لعلهم يعقلون فيطيعون.
﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾، استفهام إنكار، أي : يمكن ذلك وهم على الشرك والكفر وخبر يكون " عند الله " و " كيف " حال من العهد، ﴿ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾، يعني يوم الحديبية ومحله الجر والنصب على الاستثناء المتصل، لأنه في معنى ليس للمشركين عهد إلا الذين، أو منقطع أي : لكن تربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم، ﴿ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴾، أي : فإن استقاموا على الوفاء بالعهد فاستقيموا أنتم أيضا " فما " شرطية، ﴿ إن الله يحب المتقين ﴾، والوفاء بالعهد من التقوى، هم أهل مكة نقضوا عهدهم وقاتلوا حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعند ذلك قاتلهم وفتح مكة وقال بعضهم : هم قبائل من بني بكر قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم ينقضوا والناقض قريش وبعض قبائل بني بكر فإن بني ضمرة ممن استمر على عهده فما قاتلهم أحد حتى أسلموا بلا مقاتلة.
﴿ كيف ﴾، تكرار للاستبعاد، أي : كيف لهم عهد عندك ؟ ! ﴿ وإن يظهروا عليكم ﴾، والحال أنهم إن يظفروا بكم، ﴿ لا يرقبوا ﴾ : لا يراعوا، ﴿ فيكم إلا ﴾ : قرابة، أو حلفا قال بعضهم الإل هو الله عبراني، ﴿ ولا ذمة ﴾ : عهدا، ﴿ يرضونكم بأفواههم ﴾، استئناف، أي : يظهرون خلاف ما يضمرون، ﴿ وتأبى قلوبهم ﴾ الوفاء بما قالوا ﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ : ناقضون للعهد.
﴿ اشتروا بآيات الله ﴾ : استبدلوا بالقرآن، ﴿ ثمنا قليلا ﴾ : متاع الدنيا قيل نقضوا العهد بأكلة أطعمهم أبو سفيان، ﴿ فصدوا عن سبيل الله ﴾ : أعرضوا عن دينه، أو منعوا الناس عن الدخول في دينه، ﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾، عملهم هذا.
﴿ لا يرقبون ﴾ : لا يحافظون، ﴿ في مؤمن ﴾، فإنهم يحبون الكفر وأهله، ﴿ إلا ولا ذمة ﴾ : قرابة وعهدا، ﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾ : المتجاوزون الغاية في الشرارة.
﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم ﴾، أي : فهم إخوانكم، ﴿ في الدين ونفصل الآيات ﴾ : نكررها ونبينها، ﴿ لقوم يعلمون ﴾، وهم المؤمنون.
﴿ وإن نكثوا أيمانهم ﴾ : نقضوا مواثيقهم، ﴿ من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ : رؤساء مشركي قريش فإنهم ناقضون للعهد مستهزئون بدين الله، أي : قاتلوهم ؛ لأنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة في الكفر قال بعضهم : هم أهل فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان : لم يأت أهلها بعد، ﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ : لا عهود لهم فإن عهدهم على الحقيقة ليس بعهد ومن قرأ لا إيمان بكسر الهمزة فمعناه لا إسلام أو لا أمان لهم، ﴿ لعلهم ينتهون ﴾، أي : قاتلوهم لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد.
﴿ ألا تقاتلون ﴾، تحريض على القتال، ﴿ قوما نكثوا أيمانهم ﴾ : كفار مكة نقضوا عهد الحديبية ﴿ وهموا بإخراج الرسول ﴾ : من مكة كما مر في قوله :" وإذ يمكر بك الذين كفروا " ﴿ وهم بدءوكم ﴾ : بالقتال، ﴿ أول مرة ﴾، يعني يوم بدر فإنهم خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت استمروا على وجههم طلبا للقتال بغيا وتكبرا، أو المراد أنهم بدءوا بالقتال مع حلفائكم خزاعة، ﴿ أتخشونهم ﴾ : أتتركون قتالهم خشية منهم ﴿ فالله أحق أن تخشوه ﴾ : فلا تتركون لدينه ضعفا وتسعون في إعلاء كلمته ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾، فإن الإيمان الكامل ينفي الخشية عن غير الله.
﴿ قاتلوهم ﴾، أمر بالقتال بعد التوبيخ على تركه، ﴿ يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ﴾ : يذلهم، ﴿ وينصركم عليهم ﴾، وعد من الله بنصر المؤمنين وقتل الكافرين وإذلالهم، :﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ أي : بني خزاعة أعانت قريش بني بكر عليهم.
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ أي : كربه بمعونة قريش بني بكر، ﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ : من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ﴿ والله عليم ﴾ : بما كان وما لم يكن ﴿ حكيم ﴾ : لا يأمر إلا بما هو المصلحة.
﴿ أم حسبتم ﴾ : أيها المؤمنون، وأم منقطعة بمعنى الهمزة فيها توبيخ على الحسبان وقيل خطاب للمنافقين، ﴿ أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾، أي : نترككم مهملين ولا نختبركم بأمور يظهر الخلص من غيرهم، نفى العلم، وأراد نفي المعلوم للمبالغة نفيا للملزوم بنفي اللازم، ﴿ ولم يتخذوا ﴾، عطف على جاهدوا ﴿ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ : بطانة وأولياء يفشون أسرارهم، ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ : يعلم أغراضكم من أفعالكم.
﴿ ما كان ﴾ : ما صح، ﴿ للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾، أي مسجد كان، أو المراد مسجد الحرام، وجمعه لأنه قبلة المساجد، ويدل عليه قراءة من قرأ مسجد الله وعمارته مرمته عند الخراب، أو الصلاة والقعود فيه أو أعلم، قيل نزلت في عباس حين أسر في البدر فأغلظ علي- رضي الله عنه - له القول في التعيير فأجاب : تعدون مساوئنا : ولا تذكرون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، ﴿ شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾، حال من فاعل يعمروا، أي ما استقام الجمع بين عمارة بيت الله وعبادة غيره، ﴿ أولئك حبطت أعمالهم ﴾، لأن الكفر يذهب ثوابها، ﴿ وفي النار هم خالدون ﴾.
﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ﴾، في باب الدين وأمره يعني من كان بهذه الصفات فهو اللائق بعمارة المساجد قال صلى الله عيه وسلم " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "، قال الله تعالى :" إنما يعمر مساجد الله من لآمن بالله واليوم الآخر " ( التوبة : ١٨ )، وقد ورد " عمار المساجد هم أهل الله " ﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾، قيل الإتيان بلفظ عسى إشارة إلى ردع الكفار وتوبيخهم بالقطع في زعمهم أنهم مهتدون فإن هؤلاء مع هذه الكمالات اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل فما ظنك بمن هو أضل من البهائم ! وإشارة أيضا إلى منع المؤمنين من الاغترار والاتكال على الأعمال.
﴿ أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام ﴾، أي : أهل السقاية والعمارة، قيل المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي : الساقي والعامر، ﴿ كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ﴾، وفي مسلم قال رجل من : الصحابة ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال الآخر : الجهاد خير مما قلتم فقال عمر : استفتيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى :" أجعلتم سقاية الحاج " الآية، وعن كثير من السلف : أنها نزلت في مفاخرة عباس وطلحة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال طلحة أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء أبيت فيه، وقال العباس بعد إسلامه : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي : ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، وأنزلت حين قال المشركون : عمارة البيت والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد، ﴿ لا يستوون عند الله ﴾ ؛ بل المجاهد أفضل لكن للمرجوح درجة ثم بين بقوله ﴿ و الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾، أن من ليس له فضل، ولا هداية ولا درجة هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادة كالأوثان مكان عبادة الله، وإن كان سبب النزول مفاخرة المشركين فقوله :" و الله لا يهدي القوم الظالمين " لبيان عدم التساوي.
﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ﴾ : ممن يستجمع هذه الصفات، ﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾ : بالنجاة الكلية عن النار والصر المطلق بالأمنية.
﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ﴾ : دائم.
﴿ خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ﴾ : يستحقر دونه نعيم الدنيا بأسرها.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ﴾ : أصدقاء، ﴿ إن استحبوا ﴾ : اختاروا، ﴿ الكفر على الإيمان ﴾، نزلت حين أمروا بالهجرة من مكة فإن بعض المؤمنين قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا، أو نزلت نهيا عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، ﴿ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ﴾ : بوضع الموالاة مكان المعاداة.
﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ﴾ : أقرباؤكم، ﴿ وأموال اقترفتموها ﴾ : اكتسبتموها، ﴿ و تجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ﴾ : تستطيبونها، ﴿ أحب إليكم من الله ورسوله وجها د في سبيله فتربصوا ﴾، جواب الشرط، أي انتظروا، ﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ : عقوبته العاجلة والآجلة، ﴿ و الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ : لا يرشد الخارجين عن الطاعة وفي الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : والله لأنت رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن أحدكم حتى أكون إليه أحب من نفسه فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : الآن يا عمر، قيل المراد كالحب الاختياري دون الطبيعي الذي لا يدخل تحت التكليف.
﴿ لقد نصركم الله في مواطن ﴾ : أماكن، ﴿ كثيرة ويوم حنين ﴾، أي : وموطن يوم حنين واد بين مكة وطائف وقع فيه المقاتلة بعد فتح مكة، ﴿ إذ أعجبكم ﴾، بدل من يوم حنين، ﴿ كثرتكم ﴾، المؤمنون اثنا عشر ألفا والكفار أربعة آلاف، :﴿ فلم تغن ﴾، أي : لم تدفع الكثرة، ﴿ عنكم شيئا ﴾ : من أمر العدو، ﴿ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ﴾، أي : برحبها وسعتها فلم تجدوا موضعا للقرار تطمئن به نفوسكم، ﴿ ثم وليتم ﴾ : فررتم، ﴿ مدبرين ﴾ : منهزمين حتى بلغ فلكم مكة وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مركزه معه العباس وأبو سفيان.
﴿ ثم أنزل الله سكينته ﴾ : ما سكن واطمئن به الفؤاد من رحمته، ﴿ على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ : فنادى العباس بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وكان صيتا : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة. فكروا عنقا واحدا قائلين لبيك لبيك، ﴿ وأنزل جنودا ﴾ : من الملائكة، ﴿ لم تروها ﴾، لكن قالوا : سمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد، ﴿ وعذب الذين كفروا ﴾ : بالقتل والسبي ستة آلاف أسير من صبي وامرأة، ﴿ وذلك ﴾، إشارة إلى ما فعل بهم، ﴿ جزاء الكافرين ﴾ : في الدنيا.
﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾، فإن كثيرا ممن بقي من هؤلاء المقاتلين بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مسلمين فرد عليهم سبيهم كلها برضى المؤمنين وقسم أموالهم بين الغانمين، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ : لمن آمن يتجاوز عنه ويتفضل عليه.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ﴾ : باطنهم ودينهم قال قتادة لأنهم لا يتطهرون من جنابة ولا من حدث، ﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾، منعوا من دخول الحرم، وقيل : منعوا عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا، ﴿ بعد عامهم هذا ﴾، وكان سنة تسع أرسل عليا ونادى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، ﴿ وإن خفتم عيلة ﴾ : فقرا بسبب الكفار من الحرم لانقطاع المتاجر، ﴿ فسوف يغنيكم الله من فضله ﴾، من عطائه بوجه آخر، ﴿ إن شاء ﴾، قيده بالمشيئة ليقطع الآمال إلى الله عوضهم الجزية وأمول البلدان، ﴿ إن الله عليم ﴾ : بأحوالكم، ﴿ حكيم ﴾ : في المنع والإعطاء.
﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾، أمر بقتال أهل الكتاب، فهم لا يؤمنون إيمانا كما ينبغي فإيمانهم كلا إيمان، ﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ : كالخمر والربا، ﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ : لا يعتقدون دين الثابت الناسخ لسائر الأديان، ﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾، بيان للذين لا يؤمنون، ﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾ : ما تقرر عليهم أن يعطوه، ﴿ عن يد ﴾ : عن قهر وذل يقال لكل شيء أعطي كرها : أعطاه عن يد أي : عاجزين فهو حال أو يعطونها بأيديهم ولا يرسلون على يد غيرهم، أي : المسلمين بأيديهم قيل : عن غنى ولذلك قيل لا يؤخذ من الفقير، ﴿ وهم صاغرون ﴾، ذليلون، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يؤخذ منه وتوجأ عنقه.
﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾، وذلك لأن العزير كتب التوراة بعدما فات منهم وضاع، ثم لما وجدوا نسخة من نسخ التوراة قابلوها به فوجدوها صحيحا فقال بعض جهلتهم، إنما جاء بها لأنه ابن الله، ﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾، وسبب ضلالهم في المسيح ظاهر، ﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾، : لا مستند لهم كالمهمل يتفوهون به ليس له مفهم عيني، ﴿ يضاهئون ﴾، أي : يضاهي قولهم فحذف القول وأقيم المضاف إليه مقامه، ﴿ قول الذين كفروا من قبل ﴾، من قبلهم، أي : قدماؤهم فالكفر فيه قديم، أو المشركين الذين يقولون الملائكة بنات الله، ﴿ قاتلهم الله ﴾، قال ابن عباس : أي لعنهم الله، ﴿ أنى يؤفكون ﴾، كيف يضلون عن الحق.
﴿ اتخذوا أحبارهم ﴾، علماؤهم، ﴿ ورهبانهم ﴾، زهادهم والأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، ﴿ أربابا من دون الله ﴾، حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فأطاعوهم وتركوا كتاب الله تعالى، ﴿ والمسيح ابن مريم ﴾، بأن جعلوه ابنا له، ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾، هو الله ﴿ لا إله إلا هو ﴾، صفة ثانية أو استئناف، ﴿ سبحانه عما يشركون ﴾، هو المنزه عن شريك وولد.
﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله ﴾، الذي أرسل به رسوله من الهدي ودين الحق، ﴿ بأفواههم ﴾، بتكذيبهم، ﴿ ويأبى الله ﴾، لا يرضى، ﴿ إلا أن يتم نوره ﴾، بإعلاء كلمته، والاستثناء مفرغ لأن الفعل الموجب في معنى النفي وهذا تمثيل لحالهم في طلب إبطال الدين بالتكذيب، بحال من يطلب إطفاء نور منبث في الآفاق بنفخة، ﴿ ولو كره الكافرون ﴾، إتمامه، ويدل على جواب لو ما قبله.
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ﴾، القرآن والمعجزة، ﴿ ودين الحق ليظهره على الدين كله ﴾، ليعليه على سائر الأديان فينسخها فالضمير إما لدين الحق، أو للرسول، أو على أهل الكتاب فيخذلهم، ﴿ ولو كره المشركون ﴾، غلبته وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ﴾، يأخذ علماء أهل الكتاب الرشى ويبطلون دين الله وحكمه والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال، ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾، يصرفون الناس عن إتباع الحق، ﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ﴾، الضمير للدنانير والدراهم الكثيرة الدالة عليها يكتنزون الذهب والفضة، أو للكنوز أو الفضة، لأنها أقرب وتدل على أن حكم الذهب بطريق الأولى، ﴿ في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾، عن كثير من السلف كعمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن الكثير من المال لم يؤد منه الزكاة وما أدي زكاته فليس بكنز وقد صح عن علي رضي الله عنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة فما أكثر ذلك فهو كنز، ومثل هذا مذهب كثير من السلف، والأخبار في مدح التقلل وذم التكثر أكثر من أن يخفى.
﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم ﴾، أصل معناه يوم تحمى النار، أي : توقد ذات حمي وحر شديد على الكنوز ثم طوي ذكر النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور للمبالغة في شدة حر الكنوز، ﴿ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ﴾، لا يوضع دينار على دينار لكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم في موضع على حدة قال بعضهم صاحب الكنز إذا وأرى الفقير قبض جبهته وولى طهره وأعرض عنه كشحه ولهذا خص الجباه والجنوب والظهور، ﴿ هذا ما كنزتم ﴾، أي : يقال لهم ذلك، ﴿ لأنفسكم ﴾، فصار النفع ضرا، ﴿ فذوقوا ﴾ : وبال، ﴿ ما كنتم تكنزون ﴾، ما مصدرية أو موصولة وأكثر السلف على أن الآية عامة في المسلمين وأهل الكتاب وبه بالغ وحلف أبو ذر.
﴿ إن عدة الشهور ﴾، مبلغ عددها، ﴿ عند الله ﴾، متعلق بعدة فإنها مصدر، ﴿ اثنا عشر شهرا ﴾، لا أزيد ذلك كما يفعله المشركون وسنذكره في قوله :" إنما النسيء زيادة "، الآية ( التوبة : ٣٧ )، ﴿ في كتاب الله ﴾ : في اللوح المحفوظ أو في حكمه، ﴿ يوم خلق السماوات ولأرض ﴾، أي : ثابت في كتاب الله يوم خلق الأجسام فيكون " قي كتاب الله " صفة لاثني عشر و " يوم خلق " متعلق بمتعلقه، ﴿ منها أربعة حرم ﴾، رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ﴿ ذلك الدين القيم ﴾، أي : تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين الأنبياء، ﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾، بهتك جرمتها فإن الظلم فيها أعظم وزرا فيما سواه، والطاعة فيها أعظم أجرا قال بعضهم : ضمير فيهن راجع إلى اثني عشر، أي : لا تظلموا في الشهور كلها قال الأكثرون : حرمة المقاتلة في أشهر الحرم منسوخة فأولوا نهي الظلم بترك المعاصي، وقال بعضهم : محكمة وجازت المقاتلة إذا كانت البدأة منهم وأجابوا عن محاربة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف بأن ابتداءه في الشهر الحلال، ﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ : جميعا، ﴿ كما يقاتلونكم كافة ﴾ : هو تهييج وتحضيض للمسلمين بالاتفاق في محاربة أهل الشرك والنفاق، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ : وبشرهم بالنصرة بعدما أمرهم بالمقاتلة.
﴿ إنما النسيء ﴾ : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر وذلك لأنه إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرا من أشهر الحل، حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد، ﴿ زيادة في الكفر ﴾ : فإن تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم، ﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ : ضلالا زائدا، ﴿ يحلونه ﴾ أي : النسيء من الأشهر الحرم، ﴿ عاما ويحرمونه عاما ﴾ : إذا قاتلواِّ فيه أحلوه وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه، ﴿ ليواطئوا ﴾ : متعلق بما دل عليه الكلام، أي : حرموا مكانه شهرا آخر ليوافقوا، ﴿ عدة ما حرم الله ﴾ : لا يزيد ولا ينقص الأشهر الحرم من الأربعة، ﴿ فيحلوا ما حرم الله ﴾ : فإنه لم يحرموا الشهر الحرام بل وافقوا في العدد وحده، قيل : وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو عشر ليسع لهم الوقت فلذلك قال تعالى :" إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر " الآية، ﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ : فإن الشيطان يغويهم، ﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾، أي : لا يهدي من هو في علم الله كافر مؤبد الكفر أو معناه، لا يهديهم في حال كفرهم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا ﴾ : اخرجوا، ﴿ في سبيل الله اثاقلتم ﴾، تباطأتم :﴿ إلى الأرض ﴾، متعلق باثاقلتم لتضمنه معنى الميل والخلود نزلت في شان غزوة تبوك أمروا بها حين رجعوا من فتح مكة والطائف في وقت عسرة وشدة حر فشق عليهم، ﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾، أي بدلها : يعني الجنة، ﴿ فما متاع الحياة الدنيا ﴾، التمتع بها، ﴿ في الآخرة ﴾، أي : في جنبها ﴿ إلا قليل ﴾، فإنها لا تتناهى وأين نعيم الدنيا من نعيمها.
﴿ إلا تنفروا ﴾، شرطية، ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾، في الدنيا والآخرة، ﴿ ويستبدل قوما غيركم ﴾، يأت بقوم آخرين مطيعين بعد هلاككم، ﴿ ولا تضروه شيئا ﴾، بالتثاقل فإنه هو الناصر لدينه، أو الضمير لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أي : سينصره إن قعدتم عن الحرب، ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾، فيقدر على تبديلكم ونصرته بلا مددكم.
﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله ﴾، بمنزلة العلة له، ﴿ إذ أخرجه الذين كفروا ﴾، حاصله أنه ينصره كما نصره جواب الشرط محذوف وهو فسينصره، وقوله :" فقد نصره الله " حين إن وقع الكفار سببا لخروجه، ﴿ ثاني اثنين ﴾، أي : حال كونه أحد اثنين هو وأبو بكر رضي الله عنه، ﴿ إذ هما في الغار ﴾، في جبل ثور وهو بدل البعض من " إذ أخرجه "، لأن المراد منه زمان متسع، ﴿ إذ يقول ﴾، بدل آخر أو ظرف لثاني، ﴿ لصاحبه ﴾، أبي بكر حين طلع الكفار فوق الغار يطلبونهما، ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾، بالنصرة والعصمة، ﴿ فأنزل الله سكينته ﴾، أمنته، ﴿ عليه ﴾ أي : تجدد أمنته على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما - أن الضمير لأبي بكر رضي الله عنه ويؤيد الأول قوله، ﴿ وأيده ﴾، أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، ﴿ بجنود لم يروها ﴾، أي : الملائكة ليحرسوه، قال بعضهم : بقوله :" وأيده بجنود لم يروها " التأييد يوم بدر فعلى هذا عطف على أخرجه الذين كفروا، ﴿ وجعل كلمة الذين كفروا ﴾، كلمة الشرك، ﴿ السفلى ﴾، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فلم يروه أو حين قتلوا وأسروا يوم بدر، ﴿ وكلمة الله هي العليا ﴾، كلمة التوحيد عالية ظاهرة حين هاجر المدينة أو حين غلبوا ونصروا يوم بدر، ﴿ والله عزيز حكيم ﴾، في أمره وتدبيره.
﴿ انفروا ﴾، إلى جهاد تبوك، ﴿ خفافا وثقالا ﴾، شبانا وشيوخا أو نشاطا وغيره أو ركبانا ومشاة أو فقيرا وغنيا أو قليل العيال وغيره أو خفافا من السلاح وثقالا منه أو أصحاء ومرضى أو مسرعين، وبعد الاستعداد، ﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم ﴾، من التثاقل إلى الأرض، ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾، فإن من لم يكن من أهل العلم لا يصدق بخيرية النفور ويختار هوى النفس، قال ابن عباس رضي الله عنه : نسخت هذه الآية بقوله :" وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، قال بعضهم : لما نزلت اشتد شأنها على الناس فنسها الله بقوله :" ليس على الضعفاء ولا على المرضى " الآية ( التوبة : ٩١ ).
﴿ لو كان عرضا قريبا ﴾، لو كان ما دعوا إليه نفعا وغنيمة دنيوية قريبة، ﴿ وسفرا قاصدا ﴾، متوسطا، ﴿ لاتبعوك ﴾، وافقوك، ﴿ ولكن بعدت عليهم الشقة ﴾، المسافة التي تقطع بمشقة فإنه عليه الصلاة والسلام خرج بنية الروم، ﴿ وسيحلفون بالله ﴾، إذا رجعت من تبوك عذرا للتخلف يقولون ﴿ لو استطعنا ﴾، استطاعة بدن ومال، ﴿ لخرجنا معكم ﴾، هذا ساد مسد جوابي القسم والشرط، ﴿ يهلكون أنفسهم ﴾، بإيقاعها في العذاب للحلف الكاذب حال من فاعل سيحلفون، ﴿ والله يعلم أنهم لكاذبون ﴾، فإنهم مستطيعون.
﴿ عفا الله عنك ﴾، خطأك في إذنهم للتخلف، بدأ بالعفو قبل التعبير بالذنب لنهاية العناية في شأنه عليه الصلاة والسلام، ﴿ لم أذنت لهم ﴾ : في القعود وهلا توقفت، ﴿ حتى يتبين لك الذين صدقوا ﴾ : في الاعتذار فتأذن لهم، ﴿ وتعلم الكاذبين ﴾ : فلا ترخصهم في التخلف.
﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾، في التخلف كراهة، ﴿ أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾، لأنهم يرون الجهاد قربة أو لا يستأذنون في أن يجاهدوا بل يسرعون إلى الجهاد من غير طلب إذن، ﴿ والله عليم بالمتقين ﴾، فيجازيهم على حسب تقواهم.
﴿ إنما يستأذنك ﴾، في التخلف، ﴿ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾، يتحيرون.
﴿ ولو أرادوا الخروج ﴾، معك إلى القتال، ﴿ لأعدوا له ﴾، للخروج، ﴿ عدة ﴾، أهبة من الزاد والركوب، أي : هم أهل ثروة واستطاعة، ﴿ ولكن كره الله انبعاثهم ﴾، يعني ما خرجوا ولكن تثبطوا ؛ لأن الله أبغض خروجهم معك، ﴿ فثبطهم ﴾، حبسهم ومنعهم عن الخروج، ﴿ قيل اقعدوا ﴾، في بيوتكم تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، أو قال بعضهم لبعض، ﴿ مع القاعدين ﴾، الذين لهم عذر، أو مع الصبيان والنسوان وعلى هذا صلاحكم في تخلفهم، وعتاب الله تعالى عليه لمبادرة الإذن في التخلف.
﴿ لو خرجوا ﴾، يبين وجه كراهته تعالى، ﴿ فيكم ما زادوكم ﴾، بخروجهم شيئا، ﴿ إلا خبالا ﴾، فسادا ولا يلزم من هذا أن يكون للمؤمنين فساد وهم زادوه، ﴿ ولأوضعوا ﴾، لأسرعوا ركائبهم، ﴿ خلالكم ﴾، في وسطكم بإيقاع العداوة للنميمة، ﴿ يبغونكم الفتنة ﴾، يريدون أن يفتنونكم بإيقاع الخلاف فيكم، ﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾، مطيعون مستجيبون لحديثهم أو سماعون لهم الأخبار لينقلوها عليهم، ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾، فيجازيهم.
﴿ لقد ابتغوا الفتنة ﴾، تفريق أصحابك وتشتيت أمرك، ﴿ من قبل ﴾، في أوائل ما جئت المدينة رمته العرب واليهود ومنافقوها عن قوس واحد، ﴿ قلبوا لك الأمور ﴾، دبروا لك الحيل، ﴿ حتى جاء الحق ﴾، التأكيد الإلهي، ﴿ وظهر أمر الله ﴾، وعلا كلمته يوم بدر ويوم فتح مكة، ﴿ وهم كارهون ﴾، كما قال ابن سلول الملعون حين سمع قصة بدر : هذا أمر قد توجه.
﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ﴾، في القعود، ﴿ ولا تفتني ﴾، لا توقعني في الفتنة ببنات الأصفر نزلت في جد بن قيس من أشراف بني سلمة حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له هل لك في جهاد بني الأصفر يعني الروم فقال لنفاقه، : ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر فوالله إني أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمالي، ﴿ ألا في الفتنة ﴾، بسبب تخلفهم عنك، ﴿ سقطوا ﴾، لا بسبب بنات الأصفر وما دعوتهم إليه، ﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾، جامعة لهم لا مهرب ولا محيص.
﴿ إن تصبك حسنة ﴾، ظفر وغنيمة، ﴿ تسؤهم وإن تصبك مصيبة ﴾، كما أصاب يوم أحد، ﴿ يقولون قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾، عملنا بالحزم كما قال ابن سلول وأصحابه حين تخلفوا عنك يوم أحد، ﴿ ويتولوا ﴾، عن مقام التحدث أو أعرضوا عن الرسول، ﴿ وهم فرحون ﴾، بما نالكم من المصيبة.
﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾، في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، ﴿ هو مولانا ﴾، ملجؤنا وناصرنا، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾، لا على كثرة العدد.
﴿ قل هل تربصون ﴾، تنظرون، ﴿ بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾، النصرة والشهادة وكل منهما حسنى، ﴿ ونحن نتربص بكم ﴾، إحدى السوءين، ﴿ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ﴾، بقارعة وبلاء من السماء، ﴿ أو بأيدينا ﴾، أو بعذاب بأيدينا كالقتل، ﴿ فتربصوا ﴾، انتظروا ما هو عاقبتنا، ﴿ إنا معكم متربصون ﴾، ما هو عاقبتكم.
﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها ﴾، طائعين أو مكرهين، ﴿ لن يتقبل منكم ﴾، أمر في معنى الخبر، أي : لن يتقبل الله تعالى منكم نفقاتكم إن أنفقتم طوعا أو كرها كما قال جد بن قيس أعنيك بمالي، ﴿ إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾، تعليل لعدم القبول على سبيل الاستئناف.
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا ﴾، أي : إلا كفرهم فاعل منع، ﴿ بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ﴾، متثاقلين ليس لهم قصد صحيح، ﴿ ولا ينفقون إلا و هم كارهون ﴾، لأنهم لا يرجون بها ثوابا ؛ بل غرضهم إظهار الإسلام.
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾، فإنها لهم استدراج ووبال، ﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾، بزكاتها والنفقة في سبيل الله على كره والتعب في جمعها والوجل في حفظها والشدائد والمصائب فيها فهي لهم عذاب وللمؤمنين أجر، قال بعضهم : في الحياة الدنيا متعلق بلا تعجبك، ﴿ وتزهق ﴾، تخرج ﴿ أنفسهم وهم كافرون ﴾، أي : يموتوا كافرين مشتغلين بصعوبة فراق مستلذات الدنيوية غافلين عن النظر في العاقبة.
﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ﴾، من جملة المسلمين، ﴿ وما هم منكم ﴾، فإنهم منافقون، ﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾، يخافون فيحلفون تقية.
﴿ لو يجدون ملجئا ﴾، حصنا يلجئون إليه، ﴿ أو مغارات ﴾، غيرانا في الجبال، ﴿ أو مدخلا ﴾، نفقا ينحجرون فيه كنفق اليربوع، ﴿ لولوا إليه ﴾، لأقبلوا نحوه، ﴿ وهم يجمحون ﴾، يسرعون إسراعا لا يردهم شيء وحاصله أنهم لو وجدوا مهربا منكم أي مهرب لفروا منكم ليقهم في أيديكم.
﴿ ومنهم من يلمزك ﴾، يعيبك، ﴿ في الصدقات ﴾، أي : قسمتها، ﴿ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾، أي : ينكرون ويعيبون لحظ أنفسهم، وإذا للمفاجأة نائب منا فاء الجزاء نزلت في ذوي الخويصرة أصل الخوارج وآبائهم حين قال : اعدل في القسمة فقال صلى الله عليه وسلم : قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فمن يعدل ؟، أو نزلت في أبي الجواظ من المنافقين حين قال : لم تقسم بالسوية.
﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم ﴾، أعطاهم، ﴿ الله ورسوله ﴾، من الغنيمة والصدقة، وفعل الرسول بأمر الله، فلذلك أتى بلفظ الله، ﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾، محسبنا وكافينا، ﴿ سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾، في أن يوسع علينا من فضله وجواب لو محذوف، أي : لكان خيرا لهم وأقوم.
﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾، أي : الزكاة لهؤلاء لا لغيرهم والفقير المستضعف الذي لا يسأل، وعند الشافعي رضي الله عنه : من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته أو المحتاج المريض أو فقراء المهاجرين، ﴿ والمساكين ﴾، المستضعف الذي يطوف ويسأل وعند الشافعي رضي الله عنه من له مال أو كسب لكن لا يكفيه أو المحتاج الصحيح والفقراء من أهل الكتاب، ﴿ والعاملين عاليها ﴾، الساعين في تحصيل الصدقات غنيا أو فقيرا، ﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾، وهم أقسام منهم من يعطي ليحسن إسلامه ويثبت قلبه، ومنهم من يعطى رجاء إسلامه، ومنهم من يعطي لإسلام نظرائهم وأمثالهم، ومنهم من يعطي ليأخذ الزكاة ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، قال كثير من العلماء : سهمهم الآن بعد أن أعز الله تعالى الإسلام ساقط، وقال قوم : باق إلى الأبد، ﴿ وفي الرقاب ﴾، أي : للصرف في فك الرقاب بإعانة المكاتب أو باشتراء الرقاب للعتق، والعدول عن اللام إشارة إلى أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب، ﴿ والغارمين ﴾، المديونيين إن صرفه في غير معصية وحينئذ لو صرفه في مصالحه فيعطى إذا لم يكن له ما يفيء بالدين ولو صرفه في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطى وإن كان غنيا، ﴿ وفي سبيل الله ﴾، هم الغزاة الذين لا لهم في الديوان وإن كانوا أغنياء قال بعضهم : والحجاج أيضا، ﴿ وابن السبيل ﴾، المسافر المنقطع عن ماله وإن كان له مال في بلده، ﴿ فريضة من الله ﴾، أي : فرض لهم الزكاة فريضة، ﴿ والله عليم حكيم ﴾، يضع الأمور في مواضعها ثم اعلم أن أكثر السلف على أنه لا يجب استيعاب الأصناف الثمانية بل يجوز الدفع إلى واحد منها وقال بعضهم يجب.
﴿ ومنهم ﴾، أي : من المنافقين، ﴿ الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ﴾، الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع كانوا يقولون في شأنه ما لا ينبغي فيقول تعضهم : لا تقولوا ربما يبلغه قولكم فقالوا لا بأس إنه أذن لو ننكر ما قلنا وحلفنا ليصدقنا، ﴿ قل أذن خير لكم ﴾، كأنه قال : نعم أذن، لكن هو أذن خير يسمع الخير ويقبله لا أذن شر فلا طعن ولا ذم بفطنته إلا شرف وشهامته وهو من أهل سلامة القلوب عليه أشرف الصلوات وأكمل التسليمات ثم فسر ذلك بقوله، ﴿ يؤمن بالله ﴾، يصدق به ﴿ ويؤمن للمؤمنين ﴾، يسلم لهم أقوالهم لكونهم صادقين، و﴿ رحمة ﴾ أي : هو رحمة، وقراءة جرها لعطفها على " خير "، ﴿ للذين آمنوا منكم ﴾، وحجة على الكافرين قيل المراد من الذين آمنوا : من أظهر الإيمان حيث لا يكشف سره، ففيه إشارة إلى أن قبول قولكم رفق وترحم منه لا لجهله بلاهته، ﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾.
﴿ يحلفون بالله لكم ﴾، على مدعاهم، ﴿ ليرضوكم ﴾ بيمينهم، نزلت في قوم من المنافقين، قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، فلما بلغت مقالتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألهم حلفوا بالله إن المبلغ كذاب، أو في رهط تخلفوا عن غزوة تبوك وحلفوا في معاذيرهم، ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾، بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين فكأنهما واحد، ﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾، صدقا.
﴿ ألم يعلموا أنه ﴾، الضمير للشأن، ﴿ من يحادد الله ورسوله ﴾، يشاقق الله ويخالفه، ﴿ فأن له نار جهنم ﴾، تقديره فحق أن له نار جهنم على حذف الخبر، ﴿ خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ﴾، الذل والفضيحة العظيمة.
﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم ﴾، على المؤمنين، ﴿ سورة تنبئهم ﴾، تخبرهم، ﴿ بما في قلوبهم ﴾، من الكفر والحسد وتهتك عليهم أستارهم يعني يقولون القول ويستهزئون، ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا، ﴿ قل استهزءوا إن الله مخرج ﴾، مطهر مبرز، ﴿ ما تحذرون ﴾، ظهوره.
﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾، نزلت في ركب من المنافقين قالوا في غزوة تبوك انظروا إلى هذا الرجل يريد فتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فلما نزل الوحي دعاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال قلتم كذا وكذا فحلفوا أن لسنا في شيء من أمرك لكنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر وليقطع الطريق بالحديث واللعب، ﴿ قل أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ﴾، توبيخا لهم فإنهم كاذبون في عذرهم.
﴿ لا تعتذروا ﴾، فإني أعلم كذبه، ﴿ قد كفرتم ﴾، أظهرتم الكفر بما قلتم، ﴿ بعد إيمانكم ﴾، بعدما أظهرتم الإيمان، ﴿ إن نعف عن طائفة منكم ﴾، لتوبتهم، ﴿ تعذب طائفة ﴾، منكم ﴿ بأنهم كانوا مجرمين ﴾، مصرين على النفاق والاستهزاء، قيل كانوا ثلاثة فعفى الله عن واحد كان يضحك ولا يخوض.
﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾، أي : وهم على دين وطرق واحد وبعضهم مشابه ومقارب من بعض كأبعاض الشيء الواحد، ﴿ يأمرون بالمنكر ﴾، بالكفر والمعاصي، ﴿ وينهون عن المعروف ﴾، الإيمان والطاعة، ﴿ ويقبضون أيديهم ﴾، عن الإنفاق في سبيل الله، ﴿ نسوا الله ﴾، تركوا ذكره وطاعته، ﴿ فنسيهم ﴾، تركهم من لطفه وإنعامه، ﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾، الكاملون في التمرد.
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ﴾، مقدرين للخلود، ﴿ هي ﴾، أي : النار، ﴿ حسبهم ﴾، كافيهم جزاء على نفاقهم، ﴿ ولعنهم الله ﴾، أبعدهم من رحمته، ﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾، لا تصير النار قط عليهم بردا.
﴿ كالذين ﴾، أي : أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل الذين، ﴿ من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ﴾، بدينهم أو بنصيبهم من ملاذ الدنيا، ﴿ فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾، فحالكم وفعلكم كفعلهم القبيح الشنيع، بين أولا بقوله " فاستمتعوا " قباحة طرائقهم ثم شبههم بهم حذو النعل بالنعل، ﴿ وخضتم ﴾، في الكذب والباطل، ﴿ كالذي خاضوا ﴾، أي : كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، ﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾، لم يستحقوا عليها في الدارين جزاء، ﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾، دينهم ودنياهم، يعني : كما حبطت أعمال من قبلكم حبطت أعمالكم.
﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح ﴾، أهلكوا بالطوفان، ﴿ وعاد ﴾، بالريح، ﴿ وثمود ﴾، بالصيحة، ﴿ وقوم إبراهيم ﴾، بسلب النعمة وهلاك ملكهم نمرود ببعوض، ﴿ وأصحاب مدين ﴾، قوم شعب بالنار يوم الظلة، ﴿ والمؤتفكات ﴾، قريات قوم لوط ائتفكت بهم انقلبت فصارت عاليها سافلها، ﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾، المعجزات الظاهرات فكذبوهم فأخذوا بتعجيل النقمة، ﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾، بأن عاقبهم لا جرم، ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾، بتكذيب رسلهم فاستحقوا العذاب فنزل عليهم.
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾، أي : يتناصرون ويتعاضدون في مقابلة قول :" المنافقون والمنافقات " الآية، ﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾، في جميع ما أمر ونهي، ﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾، لا محالة والسين مؤكدة للوقوع، ﴿ إن الله عزيز ﴾، غالب، ﴿ حكيم ﴾، يضع الأشياء في مواضعها.
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، تحت أشجارها وغرفها، ﴿ خالدين فيها ومساكن طيبة ﴾، من أنواع الجواهر، ﴿ في جنات عدن ﴾، وقد ورد : العدن دار الله التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر، أو نهر في الجنة جناته على حافتيه، أو أعلى درجة في الجنة، ﴿ ورضوان من الله ﴾، أي : شيء من رضاه، ﴿ أكبر ﴾، من جميع ذلك أو مما يوصف، فإن رضى الله هو المبدأ لكل سعادة وهو المؤدي إلى الوصال واللقاء، ﴿ ذلك ﴾، أي : الرضوان أو جميع ما تقدم، ﴿ هو الفوز العظيم ﴾.
﴿ يا يأيها النبي جاهد الكفار ﴾، بالسيف، ﴿ والمنافقين ﴾، بتغليظ الكلام وترك الرفق، أو بإقامة الحدود عليهم أو بالسيف أظهروا النفاق، ﴿ واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾، مصيرهم.
﴿ يحلفون بالله ما قالوا ﴾، نزلت حين كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالسا في ظل شجرة إذ طلع رجل أزرق فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق وجاء بأصحابه وحلفوا بلله أنهم ما قالوه، أو نزلت في جلاس ابن سويد حين قال : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير ومعه ابن امرأته فأوعده بأن يذكر قوله هذا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذكره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل أقلت كذا وكذا ؟ فحلف، أو نزلت في ابن أبي حين قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر وحلف، ﴿ ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾، سبه أو تكذيبه، ﴿ وكفروا بعد إسلامهم ﴾، أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان، ﴿ وهمواّ ﴾، قصدوا، ﴿ بما لم ينالوا ﴾، ما قدروا عليه من قتل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العقبة التي بطريق تبوك، أو من قتل ابن امرأة الجلاس حين أوعد السعاية، أو أرادوا أن يعقدوا على ابن سلول تاجا يباهي به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما سئلوا عن هذه الإرادة حلفوا أنا ما أردنا، ﴿ وما نقموا ﴾، ما أنكروا وما عابوا، ﴿ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ وحاصله أنهم جعلوا الشكاية والعيب موضع الشكر والمدح فإنه ما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته بعدما كانوا في ضنك وضيق، ﴿ فإن يتوبوا يك ﴾، أي : التوب، ﴿ خيرا بهم ﴾، فتاب الجلاس وحسنت توبته، ﴿ وإن يتولوا ﴾، بالإصرار على النفاق ﴿ يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾، ينجهم من عذابه.
﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾، نزلت في ثعلبة بن حاطب التمس الدعاء من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لتكثير ماله وعهد أن لو رزق ليعطي كل ذي حق حقه فلما رزق غنما تضيق بها المدينة أرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في طلب الزكاة منه فأبى وقال : ما هذه إلا أخت الجزية. فلما نزلت الآية جاء بالزكاة فقال : إن الله تعالى منعني أن أقبل منك. فجعل التراب يحثو على رأسه، فقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما قبل منه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه.
﴿ فلما آتاهم ﴾ : الله ﴿ من فضله بخلوا به وتولوا ﴾، عن طاعة الله، ﴿ وهم معرضون ﴾، قوم عادتهم الإعراض.
﴿ فأعقبهم ﴾، أورثهم الله وجعل عاقبة فعلهم ﴿ نفاقا ﴾، متمكنا ﴿ في قلوبهم إلى يوم يلقونه ﴾، يلقون الله بالموت، ﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه ﴾، من التصدق والصلاح، ﴿ وبما كانوا يكذبون ﴾، وبسبب كذبهم فإن خلف الوعد مستقبح من وجهين الإخلاف والكذب.
﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ﴾، من إضمار النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، ﴿ ونجواهم ﴾، ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية، ﴿ وأن الله علام الغيوب ﴾، فلا يخفى عليه شيء.
﴿ الذين يلمزون ﴾، يعيبون مرفوع أو منصوب بالذم، أو بدل ضمير سرهم، ﴿ المطوعين ﴾، المتطوعين، ﴿ من المؤمنين في الصدقات ﴾، نزلت لما حث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على الصدقة جاء بعضهم بكثير مال وبعضهم الفقراء بالقليل، فقال المنافقون : من أكثر فهو مراء، ومن أقل أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات ﴿ والذين ﴾، عطف على المطوعين، ﴿ لا يجدون إلا جهدهم ﴾، طاقتهم وهم الفقراء، ﴿ فسيخرون منهم ﴾، يستهزءون بهم، ﴿ سخر الله منهم ﴾، جازاهم على سخريتهم، أي : أذلهم، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾.
﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾، أي : ساوى استغفارك وعدمه في عدم الإفادة لهم، ﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾، المراد منه التكثير لا العدد المخصوص، ﴿ فلن يغفر الله لهم ﴾، وقد نقل أنه لما نزلت قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :" إن الله قد رخص لي فأزيدن على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم " حرصا على مغفرتهم فأنزل الله تعالى :﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ﴾. وهو من باب حمل اللفظ على ما يحتمل مع العلم بأنه غير مراده، كقول بعضهم : مثل الأمير يحمل على الأدهم. والأشهب في جواب قول الحجاج : لأحملنك على الأدهم. أي : السلسلة إلى، ﴿ ذلك ﴾، أي : عدم قبول استغفارك، ﴿ بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾، المتمردين في الكفر، فإن من طبع على الكفر لا ينقطع أبدا ولا يهتدي، فعدم قبول دعائك لا لبخل منا ولا لقصور فيك، بل لعدم قابليتهم.
﴿ فرح المخلفون بمقعدهم ﴾، بقعودهم عن الغزو، ﴿ خلاف رسول الله ﴾، أي : خلفه كما في : أقام خلاف الحي. أي : بعده أو من المخالفة، أي : لمخالفته أو مخالفين له، ﴿ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا ﴾، بعضهم لبعض أو للمؤمنين، ﴿ لا تنفروا ﴾، لغزة تبوك، ﴿ في الحر قل نار جهنم أشد حرا ﴾، وقد اخترتموها بهذه المخالفة، ﴿ لو كانوا يفقهون ﴾، أنها كيف هيأ، أو أن مصيرهم إليها، أو لو أنهم يفهمون و يفقهون لنفروا ليتقوا به من حر جهنم.
﴿ فليضحكوا قليلا ﴾، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره : الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا ﴿ وليبكوا كثيرا ﴾، فإنهم في النار لا يزالون باكين أبد الآباد، ﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾، من النفاق.
﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ﴾، أي : من المخلفين. وليس كل من تخلف عن تبوك منافقا، يعني : إن وصلت إلى المدينة وفيها طائفة منهم، ﴿ فاستأذنوك للخروج ﴾، إلى غزوة أخرى بعد تبوك، ﴿ فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ﴾، إخبار في معنى النهي، ﴿ إنكم رضيتم بالقعود ﴾، استئناف تعليل له، ﴿ أول مرة ﴾، هي الخرجة إلى تبوك، ﴿ فاقعدوا ﴾، حينئذ، ﴿ مع الخالفين ﴾، أي : الرجال الذين تخلفوا بغير عذر، أو مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى قيل : مع المخالفين.
﴿ ولاتصل ﴾، صلاة الجنازة، وقيل : لا تدع ولا تستغفر، ﴿ على أحد منهم مات أبدا ﴾، الموت على الكفر موت أبدي، فإن إحياءه للتعذيب أسوء وأسوء من الموت فكأنه لم يحي، ﴿ ولا تقم على قبره ﴾، لا تقف تستغفر، أو تدع له أو لا تتول دفنه، ﴿ إنهم كفروا بالله رسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾، تعليل للنهي، نزلت بعد أن مات ابن أبي سلول وهو – صلى الله عليه وسلم - أرسل قميصه الأشراف لكفنه بالتماسه، في مرض موته، وقام ليصلي عليه، وعمر – رضي الله عنه – قام بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم - والقبلة ؛ لئلا يصلي عليه، فقال الأكثرون : نزلت بعد أن صلى عليه. و قال بعضهم : نزلت حين قام عمر فلم يصل عليه. ولما رأوا أنه ترك بقميصه أسلم من المنافقين يومئذ ألف، وقال بعضهم : إنما ألبسه مكافأة ؛ لأن سلول ألبسه ثوبه يوم بدر العباس، فإنه بين الأسارى ليس له ثوب.
﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ﴾، بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله منها على كره والشدائد والمصائب بلا طعم ثواب، ﴿ وتزهق ﴾، تخرج ﴿ أنفسهم وهم كافرون ﴾، فإن الأبصار طامحة على الأموال الأولاد سيما عند المفارقة فيبغضون حكم الله وملائكته.
﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا ﴾، أي : بأن آمنوا، ﴿ بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول ﴾، أصحاب الغنى، ﴿ منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾، الذين قعوا لعذر.
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾، أي : النساء، جمع خالفه : أي : بحيث لا يتحرزون عن هذا العار ﴿ وطبع على قلوبهم ﴾، أحدث فيها هيئة تمرنهم على استحباب الكفر واستقباح الإيمان بحيث لا ينفذ فيها الحق كأنه مطبوع مختوم، ﴿ فهم لا يفقهون ﴾، ما فيه صلاحهم ولا ما فيه مضرتهم.
﴿ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي : إن لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم ، ﴿ وأولئك لهم الخيرات ﴾ نقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن الخيرات لا يعلم معناها إلا الله، ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون.
﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ﴾ فإن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
﴿ وجاء المعذرون ﴾ من عذر إذا قصر أو من اعتذر إذا مهد العذر، ﴿ من الأعراب ليؤذن لهم ﴾ في القعود عن ابن عباس ومجاهد – رضي الله عنهم - هم أهل العذر وقال الحسن وقتادة : اعتذروا فلم يعذرهم الله، ﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ في ادعاء الإيمان، أي : يقعد آخرون من الأعراب المنافقين عن المجيء للاعتذار، وعن الحسن وقتادة الذين كذبوا عبارة عن المعذرون وأتى بالظاهر بدل المضمر إشارة إلى أن كذبهم بعثهم على القعود يعني وقعد عن الحرب من كذب في المعذرة، ﴿ سيصيب الذين كفروا منهم ﴾ فإن منهم من قعد للكسل لا للكفر، ﴿ عذاب أليم ﴾.
﴿ ليس على الضعفاء ﴾ كالزمنى والمشايخ، ﴿ ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ﴾ الفقراء، ﴿ حرج ﴾، إثم في التأخر، ﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ أخلصوا الإيمان والأعمال من الغش، ﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ إلى عقوبتهم، وضع المحسنين موضع الضمير إشارة إلى أنهم المحسنون، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ للمسيء فكيف للمحسن.
﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ هم سبعة نفر من الفقراء التمسوا مراكب للمرافقة في الغزو، ﴿ قلت ﴾ يا محمد حال من مفعول أتوك بإضمار قد :﴿ لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ من الركب، ﴿ تولوا ﴾ جواب إذا وقلت جواب وتولوا استئناف كأنه قيل : كيف صنعوا إذا قيل لهم ذلك ؟ ﴿ وأعينهم تفيض من الدمع ﴾ من للبيان والجار والمجرور في محل نصب على التمييز وهي أبلغ من تفيض دمعها، ﴿ حزنا ﴾ مفعول له أو حال، ﴿ ألا يجدوا ﴾ أي : لئلا متعلق بتفيض أو حزنا، ﴿ ما ينفقون ﴾.
﴿ إنما السبيل ﴾ بالمعاتبة والعقوبة، ﴿ على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ النساء وقبلوا تلك الدناءة، ﴿ وطبع الله على قلوبهم ﴾ حتى لم يذكروا مواعظ الله، ﴿ فهم لا يعلمون ﴾ كّأنهم مجانين.
﴿ يعتذرون إليكم ﴾ في التخلف، ﴿ إذا رجعتم ﴾ من هذه الغزوة، ﴿ إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ لن نصدقكم لأنه، ﴿ قد نبأنا الله ﴾ بالوحي، ﴿ من أخباركم ﴾ بعض ما في صدوركم، ﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ في المستأنف أتتوبون أم تستمرون على نفاقكم ؟ وجاز أن يكون معناه يمهلكم حتى تكتسبوا جرائم أخرى، ﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ الذي لايفوت عن علمه شيء، ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ في سركم.
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ﴾ بأن لهم في التخلف أعذارا، ﴿ لتعرضوا عنهم ﴾ فلا تعاتبوهم، ﴿ فأعرضوا عنهم ﴾ دعوهم ونفاقهم، ﴿ إنهم رجس ﴾ نجس بواطنهم لا يقبل التطهير من النفاق، ﴿ ومأواهم جهنم جزاء ﴾، مفعول له، أو مصدر، ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ من الآثام.
﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم ﴾ بحلفهم، ﴿ فإن ترضوا عنهم ﴾ بأن تصدقوهم في العذر، ﴿ فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾ فإنه لا يمكن التلبيس على الله تعلى بوجه والمقصود النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ثمانين من المنافقين أمرنا حين قدمنا المدينة بأن لا نكلمهم ولا نجالسهم.
﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا ﴾ أي : أهل البدو وكفرهم ونفاقهم أعظم من أهل الحضر لقساوتهم وبعدهم عن العلماء ﴿ وأجدر ﴾، أولى، ﴿ ألا ﴾ بأن لا، ﴿ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ﴾ من الشرائع، ﴿ والله عليم ﴾ بقلوب أهل الوبر والمدر، ﴿ حكيم ﴾ فيما قسم بين عباده وفي الحديث ( من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن ).
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ﴾ يعد، ﴿ ما ينفق ﴾ في سبيل الله، ﴿ مغرما ﴾ غرامة وخسارة لا يرجون ثوابا، ﴿ ويتربص ﴾ ينتظر، ﴿ بكم الدوائر ﴾ دائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم، ﴿ عليهم دارة السوء ﴾ الأمر منعكس والسوء دائر عليهم فلا يرون فيكم إلا ما يسوءهم، ﴿ والله سميع ﴾ لمقالهم، ﴿ عليم ﴾ بضمائرهم.
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ﴾ يعد ﴿ ما ينفق ﴾ في سبيل الله تعالى ويتصدق به، ﴿ قربات عند الله ﴾ أي : سبب قربات، ﴿ وصلوات الرسول ﴾ أي : سبب صلاته فإنه يستغفر ويدعوا للمتصدقين، ﴿ ألا إنها ﴾ أي : نفقتهم، ﴿ قربة لهم ﴾ أي : ما يرجون الحاصل البتة ﴿ سيدخلهم الله في رحمته ﴾ السين للتأكيد، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ فيغفر زلاتهم ويدخلهم الجنة برحمته.
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين ﴾، هم الذين صلوا القبلتين، أو من أدرك بيعة الرضوان بالحديبية، أو من شهد البدر، ﴿ والأنصار ﴾ هم الذين آمنوا قبل قدوم رسول الله – صلى الله عليه وسلم، ﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ بإيمان وطاعة إلى يوم القيامة كسائر الصالحين من أهل السنة وقال بعضهم : المراد بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين، ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، أي : تحت أشجارها، ﴿ خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾ الجملة خبر لقوله والسابقون.
﴿ وممن حولكم من الأعراب ﴾ أعراب حوالي المدينة، ﴿ منافقون ومن أهل المدينة ﴾ عطف على ممن حولكم وقوله :﴿ مردوا على النفاق ﴾، صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو عطف الجملة على الجملة تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا، تمردوا أو تمهروا، ﴿ لا تعلمهم ﴾ يا محمد بأعيانهم، ﴿ نحن نعلمهم ﴾ فإنه لا يخفى علينا شيء، ﴿ سنعذبهم مرتين ﴾ فضيحتهم في الدنيا وعذاب القبر ومصائب في أموالهم وأولادهم فهذه لهم عذاب وللمؤمنين أجر وعذاب القبر أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ثم عذاب القبر، ﴿ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾ وهو الخلود في جهنم.
﴿ وآخرون ﴾ من أهل المدينة لا من المنافقين، ﴿ اعترفوا بذنوبهم ﴾ في التخلف عن الغزو، ﴿ خلطوا عملا صالحا ﴾ كصلاتهم وإنابتهم وغيرهما، ﴿ وآخر سيئا ﴾ كتقاعدهم عن تلك الغزوة كسلا، قيل : الواو بمعنى الباء كما في بعت الشاة شاة ودرهما أي بدرهم، والأولى أن الواو على أصله دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر كما تقول : خلطت الماء واللبن، أي : خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ يقبل توبتهم، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلقوا عن تبوك ثم إذا رجعت الغزاة عن غزوتهم ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت حلهم وعفا عنهم.
﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾، نزلت لما أطلق هؤلاء الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا تصدق بها وطهرنا فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :" ما أمرت بأخذ شيء من أموالكم "، ﴿ تطهرهم ﴾عن الذنوب، ﴿ وتزكيهم بها ﴾ ترفعهم بهذه الصدقة إلى منازل المخلصين، ﴿ وصل عليهم ﴾ ادع لهم، ﴿ إن صلاتك سكن ﴾ طمأنينة ورحمة ووقار، ﴿ لهم والله سميع ﴾ بدعائك، ﴿ عليم ﴾ بما هو أهل له أو سميع باعترافهم عليهم بندامتهم.
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ﴾ تعديته بعن لتضمنه معنى التجاوز، ﴿ ويأخذ الصدقات ﴾ يقبلها وهذا تهييج إلى التوبة والصدقة عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الصدقة تقع في الله قبل أن تقع في يد كالسائل، ﴿ وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ يقبل توبة تائبين ويتفضل عليهم.
﴿ وقل اعملوا ﴾ يا معشر المخالفين، ﴿ فسيرى الله عملكم ﴾ لا يخفى عليه شيء، ﴿ ورسوله والمؤمنون ﴾ فإن الله يطلعهم على أعمالكم لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة يوم تبلى السرائر، ﴿ وستردن إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ بالموت ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ بالمجازاة عليه فعلى هذه الآية وعيد أو معناه يا معشر المحسن والمسيء اعملوا فلا يخفى على الله خير وشر والله يطلع الرسول والمؤمنين على ما في قلوبكم فيحبون المحسن ويبغضون المسيء ثم يوم القيامة يجازيكم فعلى هذه الآية وعد ووعيد.
﴿ وآخرون ﴾ من المتخلفين، ﴿ مرجون ﴾ مؤخرون يعني : موقوف أمرهم، ﴿ لأمر الله ﴾ في شأنهم، ﴿ إما يعذبهم ﴾ لم يقبل توبتهم، ﴿ إما يتوب عليهم ﴾ يقبل توبتهم، ﴿ والله عليم ﴾ بمن يستحق العقوبة، ﴿ حكيم ﴾ فيما يفعل والمراد منهم الثلاثة الذين خلفوا من جملة من قعد كسلا لا نفاقا ولم يربطوا أنفسهم بالسراري ولم يبالغوا في التوبة كما فعل أبو لبابة وأصحابه فنزلت توبتهم بعد خمسين ليلة بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي : وفيمن وصفنا من المنافقين الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص، ﴿ ضرارا ﴾ مفعول له أو مصدر محذوف الفعل، أي مضارة للمؤمنين، ﴿ وكفرا ﴾ أي : تقوية للكفر، ﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾ فإنهم يجتمعون في مسجد قباء فأرادوا افتراقهم، ﴿ وإرصادا ﴾ ترقبا، ﴿ لمن حارب الله ورسوله ﴾ أبي عامر الراهب، ﴿ من قبل ﴾، متعلق بحارب، ﴿ وليحلفن إن أردنا ﴾، أي : ما أردنا ببنائه، ﴿ إلا الحسنى ﴾، أي : إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة فيه والتوسعة على المسلمين، ﴿ ولله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ في حلفهم كان بالمدينة أبو عامر الراهب تنصر في الجاهلية وما آمن بمحمد عليه السلام وبعد البدر التحق بقريش وحثهم على المحاربة وكان معهم في أحد ثم ذهب إلى عظيم الروم وكتب إلى أعوانه من المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش لمحاربة الإسلام وأمرهم ببناء مسجد له فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء إرصادا لرجوعه من القيصر فلما أتموا بناءه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك وقالوا : أتممنا مسجدا للضعفاء وأهل العلة والليلة المطيرة نلتمس أن تصلي فيه وتدعوا بالبركة فنزلت في تكذيبهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدموه وأحرقوه.
﴿ لا تقم فيه ﴾ في ذاك المسجد، ﴿ أبدا ﴾ للصلاة، ﴿ لمسجد أسس ﴾ بني أصله، ﴿ على التقوى ﴾ على طاعة الله ورسوله، ﴿ من أول يوم ﴾ من أيام وجوده، ﴿ أحق أن تقوم فيه ﴾ للصلاة جماعة من السلف على أنه مسجد قباء منهم ابن عباس رضي الله عنهما وبعض منهم على أنه المسجد الذي في جوف المدينة وعليه حديث صحيح وقال بعضهم لا منافاة ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى فمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأخرى ولي في هذا التوفيق خدشة والله تعالى أعلم، ﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾ من الأحداث والنجاسات هم أهل قباء كان من عادتهم أنهم يستعملون الماء في الاستنجاء عقيب الحجر قيل : ولا ينامون على الجنابة وقيل : يتطهرون بالتوبة عن الشرك والمعاصي، ﴿ والله يحب المطهرين ﴾ يرضى عمن طهر ظاهره وباطنه.
﴿ أفمن أسس بنيانه ﴾ أي : بنيان مبنية، مصدر كالغفران، ﴿ على تقوى من الله ﴾ أي : على قاعدة محكمة قوية هي التقوى من مخالفته، ﴿ ورضوان ﴾ وطلب مرضاته، ﴿ خير أم من أسس بنيانه ﴾ أي : بيان مبنيه، ﴿ على شفا جرف هار ﴾ جانب واد من أودية جهنم تكاد تسقط على جهنم والشفا الحرف وجرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا والهار المنصدع الذي أشفى على السقوط قيل حاصله أنه على قاعدة ضعيفة رخوة تكاد تسقط، ﴿ فانهار به ﴾ طاح ببانيه وأسقطه، ﴿ في نار جهنم ﴾ قد صح عن بعض الصحابة أنه رأى الدخان يخرج من هذه الأرض حين حفر وهو اليوم مزبلة، ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ إلى ما فيه صلاحهم.
﴿ لا يزال بينانهم ﴾ أي : مبنيهم مصدر أريد به المفعول، ﴿ الذي بنوا ﴾ صفة لبنيانهم وجاز أن يكون بنيانهم على معناه المصدري والذي بنوا مفعوله، ﴿ ريبة في قلوبهم ﴾ سبب شك ونفاق فإنهم بنوا للكفر والتفريق فلما خربوه ازدادوا غيظا وحسدا وعضا، ﴿ إلا أن تقطع قلوبهم ﴾ بالموت والاستثناء من أعم الأزمنة، أي : يسألون عنه حينئذ، ﴿ والله عليم ﴾ بأعمال الخلائق، ﴿ حكيم ﴾ في مجازاتهم من خير وشر.
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ﴾، التي هو خلقها ﴿ وأموالهم ﴾ التي هو رزقها، ﴿ بأن لهم الجنة ﴾ تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيل الله الجنة، ﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾ استئناف ببيان ما لأجله الشرى، ﴿ وعدا عليه حقا ﴾ مصدران مؤكدان فإن الاشتراء بالجنة يستلزم الوعد بها، ﴿ في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾، أي : هذا الوعد الذي وعده للمجتهدين ثابت فيهما كما هو ثابت في القرآن، قال بعضهم : الأمر بالجهاد في جميع الشرائع، وقال بعض : كتب فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن، ﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾، يعني لا أحد أو في بما وعد " ومن أصدق من الله قيلا " ( النساء : ١٢٢ )، ﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي، ﴿ وذلك هو الفوز العظيم ﴾ نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال :" لربي أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم "، قالوا : فما لنا ؟ قال :" الجنة "، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
﴿ التائبون ﴾ أي : هم التائبون مدحهم الله تعالى به، ﴿ العابدون ﴾ بالإخلاص، ﴿ الحامدون ﴾ لله تعالى على كل حال، ﴿ السائحون ﴾ الصائمون كما ورد " سياحة أمتي الصوم " يعني في رمضان، وقيل : من يديم الصوم، أو المجاهدون أو طلبة العلم، ﴿ الراكعون الساجدون ﴾ المصلون، ﴿ الآمرون بالمعروف ﴾ بالإيمان والطاعة، ﴿ والناهون عن المنكر ﴾ عن الشرك والمعاصي وجاء بحرف العطف إشارة إلى أن ما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، ﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ القائمون بطاعته وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل، قال بعض العلماء : هذه الثلاثة في حكم خصلة واحدة، يعني : يرشدون الخلائق إلى الطاعة بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله تعالى في تحليله وتحريمه وعلى هذا وجه للعطف أظهر، ﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي : الموصوفين بتلك الفضائل وذكر لفظ المؤمنين دون الضمير للإشعار بأن الإيمان داع إلى ذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه شيء لا يمكن بيانه.
﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ بأن ماتوا على الكفر نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب أو لأبيه وأمه حين استأذن المسلمون أن يستغفروا لأبويهم.
﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها ﴾ إبراهيم، ﴿ إياه ﴾ بقوله : لأستغفره لك، أي : أطلب المغفرة من الله، أو وعدها أبوه إياه أي : إبراهيم وهي عدته بالإيمان والأول أصح عن علي رضي الله عنه أني سمعت رجلا يستغفر لأبويه المشركين فنهيته، فقال : ألم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه فذكرت ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم – فنزل " ما كان للنبي " إلى قوله :" إن إبراهيم لأواه حليم " ولما استأذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لأمه فلم يأذن رحم عليها وبكى فجاء جبريل عليه السلام لقوله :" وما كان استغفار إبراهيم " الآية وقال : تبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، ﴿ فلما تبين له ﴾ بالوحي أو بموته على الكفر، ﴿ أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ ما دعا له بعد، ﴿ إن إبراهيم لأواه ﴾ متضرع كثير الدعاء أو الرحيم أو الموقن بلسان الحبشة أو المؤمن التواب أيضا بلسانهم أو المسبح أو كثير الذكر والتسبيح أو فقيه أو يتأوه من الذنوب كثيرا نقل أنه عليه السلام يتنفس تنفس الصعداء كثيرا ويقول آه من النار قبل أن كثيرا لا ينفع آه، ﴿ حليم ﴾ صبور على الأذى صفوح.
﴿ وما كان الله ليضل قوما ﴾، ليحكم عليهم بالضلالة ويؤاخذهم، ﴿ بعد إذ هداهم ﴾ للإسلام، ﴿ حتى يبين لهم ما يتقون ﴾ أي : ما يجب اتقاؤه والغافل غير مكلف فلا نؤاخذكم باستغفاركم أبويكم المشركين قبل أن تعلموا أنه خطر حرام لكن لما بينت حرمته إن عدتم إليه ليتحقق الضلال قال بعضهم : نزلت في قوم عملوا بالمنسوخ قبل أن يعلموا نسخه، ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾.
﴿ إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ فتبرءوا عن المشركين وتوجهوا إلى الله تعالى بالكلية.
﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ﴾، أي : في وقت العسرة، يعني غزوة تبوك، فإنها في وقت شدة وحر وقلة زاد وماء ومركوب، ﴿ من بعد ما كاد ﴾ اسم ما كاد ضمير الشأن، ﴿ يزيغ قلوب فريق منهم ﴾، تميل عن الحق، فإن كثيرا منهم هموا بالتخلف ثم عصمهم الله تعالى فلحقوا أو لما نالوا شدائدها من الجوع وغاية العطش والحر كادوا يشكون في دين الإسلام وأما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى :" لقد تاب الله على النبي " معهم فلأنه أذن للمنافقين في التخلف قبل إذن الله تعالى وقال بعض افتتح به الكلام لأنه كان صلى الله عليه وسلم سبب توبتهم فذكره معهم، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾، تكرير للتأكيد، فإنه لما ذكر ذنبهم أعاد ذكر توبتهم، ﴿ إنه بهم رءوف رحيم ﴾.
﴿ وعلى الثلاثة ﴾ عطف على النبي، ﴿ الذين خلفوا ﴾ أي : خلف الله تعالى أمرهم عمن ربط نفسه بالسواري وعمن اعتذر بالأكاذيب قيل : خلفوا عن الغزو، ﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾، أي : برحبها ووسعتها وهو مثل لشدة الحيرة فإنهم مهجورون بالكلية في المعاملة والمجالسة والمكالمة، ﴿ وضاقت عليهم أنفسهم ﴾ قلوبهم من كثرة الهم، ﴿ وظنوا ﴾ علموا، ﴿ أن لا ملجأ من الله ﴾ من سخطه، ﴿ إلا إليه ﴾ بالتضرع والاستغفار، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾ وفقهم للتوبة أو رجع عليهم بالرحمة، ﴿ ليتوبوا ﴾ أو قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل إن صدر عنهم خطيئة أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم، ﴿ إن الله هو التواب الرحيم ﴾ يقبل توبة العباد بمحض رحمته وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلاب بن أمية الواقفي.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾ في نياتهم وأعمالهم أو في الاعتراف بالذنب لا كمن اعتذر بالأكاذيب والخطاب لأهل الكتاب، أي : كونوا مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ نهي بصيغة النفي للمبالغة، ﴿ ولا يرغبوا ﴾، أي : ولا أن يرغبوا، ﴿ بأنفسهم عن نفسه ﴾ لا أن يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه الأشرف عنه، ﴿ ذلك ﴾ أي : النهي عن التخلف ووجوب الموافقة، ﴿ بأنهم ﴾ بسبب أنهم، ﴿ لا يصيبهم ظمأ ﴾ عطش، ﴿ ولا نصب ﴾ تعب، ﴿ ولا مخمصة ﴾ مجاعة، ﴿ في سبيل الله و لا يطئون ﴾ لا يدوسون، ﴿ موطئا ﴾ مكانا، ﴿ يغيظ ﴾ وطؤه، ﴿ الكفار ﴾ يضيق صدورهم ويغضبهم، ﴿ ولا ينالون من عدو نيلا ﴾ قتلا وأسرا أو غنيمة وغلبة، ﴿ إلا كتب لهم به ﴾ بكل واحد من الظمأ وغيره، ﴿ عمل صالح ﴾، إلا استوجبوا الثواب والاستثناء المفرغ في موقع الصفة للنكرة قبله أو الحال، ﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ على إحسانهم وهو كالعلة لكتب.
﴿ ولا ينفقون نفقة ﴾ في سبيل الله، ﴿ صغيرة ولا كبيرة ﴾ قليلا ولا كثيرا، ﴿ ولا يقطعون ﴾ في سفرهم، ﴿ واديا ﴾ ألرضا، ﴿ إلا كتب لهم ﴾ أثبت لهم كل من الإنفاق والقطع، ﴿ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ﴾ أي : يجزيهم جزاء أحسن من أعمالهم.
﴿ وما كان المؤمنون ﴾ ما استقام لهم، ﴿ لينفروا كافة ﴾ أي : جميعا لغزو نزلت حين بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – السرايا بعد تبوك ينفر المؤمنون جميعا إلى الغزو حذرا مما أنزل الله تعالى في تخلف المنافقين عن تبوك فيتركون رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ﴿ فلولا ﴾ أي : هلا، ﴿ نفر من كل فرقة منهم ﴾ جماعة كثيرة، ﴿ طائفة ﴾ جماعة قليلة، ﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾ أي : ليحصل القاعدون الفقه والقرآن وأحكامه، ﴿ ولينذروا قومهم ﴾ : ليعلموا النافرين وخوفوهم لما نزل من الوحي، ﴿ إذا رجعوا ﴾ من الغزو، ﴿ إليهم لعلهم يحذرون ﴾ عما ينذروا عنه أو ليتفقه النافر أي : ليتبصروا بالغلبة على المشركين وينظروا صنائع الله تعالى ثم إذا رجعوا ينذروا قومهم من الكفار ويخبرهم بنصرة الدين لعلهم يحذرون، أو نزلت حين نزلت أحياء العرب المدينة فغلت أسعارهم وفسدت طرقهم بالعذرات وحينئذ معنى الآية ظاهر، أو نزلت حين خرج بعض الصحابة في البوادي فأصابوا منهم معروفا ودعوا الناس إلى الهدى فقال أهل البوادي فأصابوا : ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم فرجعوا كلهم إلى المدينة فقال تعالى هلا رجع طائفة منهم يستمعوا ما أنزل الله تعالى بعدهم من الوحي ولينذروا ويخبروا قومهم أي : أهل البوادي بالفقه الذي تعلموه إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد ذكر في وجه النزول غير ما ذكرنا أيضا.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب ولهذا لما فرغوا عن جزيرة العرب شرعوا في الشام، ﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ شدة في القتال وصبرا، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾، بالإعانة والحفظ.
﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم ﴾ المنافقين، ﴿ من يقول ﴾ أي : يقول بعضهم لبعض استهزاء وتثبيتا على النفاق، ﴿ أيكم زادته هذه ﴾ السورة، ﴿ إيمانا فأما الذين آمنا فزادتهم إيمانا ﴾ بزيادة المؤمن به أو لزيادة عمله الحاصل منها، ﴿ وهم يستبشرون ﴾ بنزولها.
﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض ﴾ كفر ونفاق، ﴿ فزادتهم رجسا ﴾ كفرا، ﴿ إلى رجسهم ﴾ الذي كانوا عليه، ﴿ وماتوا وهم كافرون ﴾.
﴿ أولا يرون ﴾ أي : المنافقون، ﴿ أنهم يفتنون ﴾ يختبرون بالسنة والقحط أو الغزو والمصائب، ﴿ في كل عام مرة أو مرتين ﴾ لأن يتنبهوا، ﴿ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ﴾ لا يعتبرون.
﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ فيها عيب المنافقين، ﴿ نظر بعضهم إلى بعض ﴾ إنكارا لها وسخرية أو تدبيرا للفرار قائلين، ﴿ هل يراكم من أحد ﴾ يعني من المسلمين إن قمتم من الخطبة والمسجد فإن لم يرهم أحد قاموا وإلا أقاموا، ﴿ ثم انصرفوا ﴾ عن حضرته، ﴿ صرف الله قلوبهم ﴾ عن الإيمان دعاء أو إخبار، ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ قوم لا يفقهون ﴾ عن الله دينه.
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ تعرفون حسبه ونسبه، ﴿ عزيز ﴾ شديد شاق، ﴿ عليه ما عنتم ﴾ أي : عنتكم ومضارتكم، ﴿ حريص عليكم ﴾ على صلاحكم وإيمانكم، ﴿ بالمؤمنين رءوف ﴾ له شدة الرحمة على المطبعين، ﴿ رحيم ﴾ على المذنبين لكن غليظ شديد على الكافرين.
﴿ فإن تولوا ﴾ عن الإيمان وقاتلوك، ﴿ فقل حسبي الله ﴾ في الحماية والنصرة، ﴿ لا إله إلا هو عليه توكلت ﴾ فلا أرجو ولا أخاف غيره، ﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلق تحته وعن بعض السلف أن آخر ما نزل هاتان الآيتان.