تفسير سورة النحل

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم ﴾ إلى آخر السورة وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية وقال آخرون : من أوّلها إلى قوله :﴿ كن فيكون ﴾ مدني وما سواه مكي. وعن قتادة بالعكس، وتسمى سورة النعم والمقصود من هذه السورة الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحل، لما ذكر من شأنها في دقة الفهم في ترتيب بيوتها ورحبها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة وغير ذلك من الأمور ووسمها بالنعم واضح وهي مائة وثمانية وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.
﴿ بسم الله ﴾ أي : المحيط بدائرة الكمال فما شاء فعل ﴿ الرحمن ﴾ أي : الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره. ﴿ الرحيم ﴾ أي : الذي خص من شاء بنعمته النجاة مما يسخطه بما يراه.

وقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ فيه وجهان أحدهما أنه ماض لفظاً مستقبل معنى إذ المراد به يوم القيامة وإنما أبرزه في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به. والثاني : أنه على بابه والمراد مقدّماته وأوائله وهو نصر رسوله صلى الله عليه وسلم أي : جاء أمر الله ودنا وقرب فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع. يقال لمن طلب الإعانة وقرب حصولها : جاءك الغوث، أي : أتى أمر الله وعداً ﴿ فلا تستعجلوه ﴾ وقوعاً قبل مجيئه فإنه واقع لا محالة روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى ». قال ابن عباس : كان مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة. ولما مرّ جبريل بأهل السماوات مبعوثاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : الله أكبر قامت الساعة. وروي أنه لما نزلت ﴿ اقتربت الساعة ﴾ قال [ القمر، ١ ] قال الكفار بعضهم لبعض : إنّ هذا، أي : محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنّ القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تقولون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً فنزل ﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ [ الأنبياء، ١ ] فاشفقوا وانتظروا فلما امتدّت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوّفنا به فنزل ﴿ أتى أمر الله ﴾ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل ﴿ فلا تستعجلوه ﴾ فاطمأنوا فكأن الكفار قالوا : سلمنا لك يا محمد إلا أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله تعالى فتخلصنا من هذا العذاب المحكوم به فأجابهم الله تعالى بقوله تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهاً له ﴿ وتعالى عما يشركون ﴾ أي : تبرأ سبحانه وتعالى بالأوصاف الحميدة عن أن يكون له شريك في ملكه. وقرأ حمزة والكسائي أتى بالإمالة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح. وقرأ حمزة والكسائي عما يشركون في الموضعين بالتاء على وفق قوله فلا تستعجلوه والباقون بالياء على الغيبة على تلوين الخطاب أو على أنّ الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم.
ولما أجاب سبحانه وتعالى الكفار عن شبهتهم بقوله تنزيهاً لنفسه عما يشركون وكان الكفار قالوا : هب أنّ الله تعالى قضى على بعض عبيده بالشرّ وعلى آخرين بالخير ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله تعالى ؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله تعالى وأحكامه في ملكه وملكوته فأجابهم الله تعالى بقوله :﴿ ينزل الملائكة ﴾ قال ابن عباس : يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي : يسمى الواحد بالجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي والباقون بتشديدها والمراد ﴿ بالروح ﴾ الوحي أو القرآن فإنّ القلوب تحيا به من موت الجهالات وقوله تعالى :﴿ من أمره ﴾ أي : بإرادته حال من الروح ﴿ على من يشاء من عباده ﴾ وهم الأنبياء ﴿ أن أنذروا ﴾ أي : خوّفوا الكافرين بالعذاب وأعلموهم ﴿ أنه ﴾ أي : الشأن ﴿ لا إله إلا أنا ﴾ أي : لا إله غيري وقوله تعالى :﴿ فاتقون ﴾ أي : خافوني رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود.
تنبيه : في قوله تعالى :﴿ أن أنذروا ﴾ ثلاثة أوجه أحدها : أنها المفسرة لأنّ الوحي فيه ضرب من القول والإنزال بالروح عبارة عن الوحي قال تعالى :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ﴾ [ الشورى، ٥٢ ]. الثاني : أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ووصلت بالأمر كقولهم : كتبت إليه بأن قم والآية تدل على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة وأنّ النبوّة عطاءة.
ولما وحد سبحانه وتعالى نفسه ذكر الآيات الدالة على وحدانيته من حيث أنها تدلّ على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة بقوله تعالى :﴿ خلق السماوات ﴾ أي : التي هي السقف المظل ﴿ والأرض ﴾ أي : التي هي البساط المقل. ﴿ بالحق ﴾ أي : أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته ﴿ تعالى ﴾ أي : تعالياً فات الوصف ﴿ عما يشركون ﴾ به من الأصنام.
ولما كان خلق السماوات والأرض غيباً لتقدّمه وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة فتكون أقوى في الدلالة على وحدانيته تعالى قال تعالى :﴿ خلق الإنسان ﴾ أي : هذا النوع ﴿ من نطفة ﴾ أي : آدم عليه السلام من مطلق الماء ومن تفرع منه بعد زوجه حوّاء من ماء مقيد بالدفق إلى أن صيره قوياً شديداً ﴿ فإذا هو خصيم ﴾ أي : شديد الخصومة ﴿ مبين ﴾ أي : بينها. روي أنّ أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال : تزعم يا محمد أنّ الله يحيي هذا العظم بعدما قد رمّ فنزلت هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى :﴿ قال من يحيي العظام وهي رميم ﴾ [ يس، ٧٨ ]. قال الخازن في تفسيره : والصحيح أنّ الآية عامة في كل ما يقع فيه الخصومة في الدنيا ويوم القيامة وحملها على العموم أولى.
ولما كان أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات وأشرفها الأنعام ذكرها بقوله تعالى :﴿ والأنعام ﴾ أي : الأزواج الثمانية الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، ونصبه بفعل يفسره ﴿ خلقها ﴾. قال الواحدي : تم الكلام عند قوله :﴿ والأنعام خلقها ﴾ ثم ابتدأ فقال :﴿ لكم فيها دفء ﴾ أي : ما يدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار. قال : ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله :﴿ والأنعام خلقها لكم ﴾ ثم ابتدأ فقال تعالى :﴿ فيها دفء ﴾. قال الرازي : قال صاحب النظم : وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله تعالى :﴿ خلقها ﴾ والدليل عليه أنه عطف عليه ﴿ ولكم فيها جمال ﴾ والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما ذكر تعالى الأنعام ذكر لها أنواعاً من المنافع الأوّل : قوله تعالى :﴿ لكم فيها دفء ﴾. والنوع الثاني : قوله تعالى :﴿ ومنافع ﴾ أي : ولكم فيها منافع من نسلها ودرها وركوبها والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وإنما عير تعالى عن ذلك بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم لأنّ الدر والنسل قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات، فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل. النوع الثالث : قوله تعالى :﴿ ومنها تأكلون ﴾ فإن قيل : تقديم الظرف يفيد الحصر لأنّ تقديم الظرف موذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. أجيب : بأنّ الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأمّا الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البرّ والبحر فليس بمعتد به في الأغلب، وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الغالب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم قدّمت منفعة اللباس عليه ؟ أجيب : بأنّ منفعة اللباس أكثر من منفعة الأكل فلهذا قدّمت على منفعة الأكل.
﴿ ولكم فيها جمال ﴾ أي : زينة ﴿ حين تريحون ﴾ أي : تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ ﴿ وحين تسرحون ﴾ أي : تخرجونها بالغداة إلى المرعى، فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين وتجل أهلها في أعين الناظرين إليها. فإن قيل : لم قدّمت الإراحة على التسريح ؟ أجيب : بأنّ الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع ثم تأخذ في التفرق والانتشار للمرعى في البرية فليس في التسريح تجمل كما في الإراحة.
النوع الرابع : قوله تعالى :﴿ وتحمل أثقالكم ﴾ جمع ثقل وهو متاع المسافر. ﴿ إلى بلد ﴾ أي : غير بلدكم أردتم السفر إليه ﴿ لم تكونوا بالغيه ﴾ أي : غير واصلين إليه على غير الإبل ﴿ إلا بشق الأنفس ﴾ أي : إلا بكلفة ومشقة والشق بكسر الشين نصف الشي، أي : لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوّة النفس وذهاب نصفها. وقال ابن عباس : يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشأم وإلى مصر قال الواحدي : والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم. وخص ابن عباس هذه البلاد لأنّ متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد. فإن قيل : المراد من قوله تعالى :﴿ والأنعام خلقها لكم ﴾ الإبل فقط بدليل أنه وصفها إلى آخر الآية بقوله :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد ﴾ وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل ؟ أجيب : بأنّ المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصل في الكل وبعضها مختص بالبعض والدليل عليه أن قوله :﴿ ولكم فيها جمال ﴾ حاصل في البقر والغنم، مثل حصوله في الإبل.
تنبيه : احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فإنها تدل على أنّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الإبل ومثبتوا الكرامات يقولون : إنّ الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة، وكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً وإذا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور إذ لا قائل بالفرق، وأجاب المثبتون بأنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات ﴿ إنّ ربكم ﴾ أي : الموجد لكم والمحسن إليكم ﴿ لرؤوف ﴾ أي : بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ. ﴿ رحيم ﴾ أي : بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب.
وقوله تعالى :﴿ والخيل ﴾ أي : الصاهلة وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط. ﴿ والبغال ﴾ أي : المتولدة بينها وبين الحمير ﴿ والحمير ﴾ الناهقة عطف على الأنعام، أي : وخلق هذه الحيوانات ﴿ لتركبوها ﴾ أي : لأجل أن تركبوها وفي نصب قوله تعالى :﴿ وزينة ﴾ أوجه أحدها : أنه مفعول من أجله وإنما وصل الفعل إلى الأوّل باللام في قوله تعالى :﴿ لتركبوها ﴾ وإلى هذا بنفسه لاختلاف شرطه في الأوّل وهو عدم اتحاد الفاعل فإنّ الخالق هو الله تعالى والراكب المخاطبون بخلاف الثاني. الثاني : أنها منصوبة على الحال وصاحب الحال إمّا مفعول خلقها وإمّا مفعول لتركبوها فهو مصدر أقيم مقام الحال. الثالث : أن ينتصب بتقدير فعل قدّره الزمخشري بقوله وخلقها زينة وقدّره ابن عطية وغيره بقولهم : وجعلها زينة. الرابع : أنها مصدر لفعل محذوف، أي : وتتزينون بها زينة.
وتنبيه : احتج القائلون وهم ابن عباس والحاكم وأبو حنيفة ومالك بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر وحيث لم يذكره تعالى علمنا أنه يحرم أكله لأنّ الله تعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال تعالى :﴿ ومنها تأكلون ﴾ [ النحل، ٥ ]
وخص هذه بالركوب فقال :﴿ لتركبوها ﴾ فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل واحتج القائلون بإباحة أكل اللحم من الخيل وهم سعيد بن جبير وعطاء وشريح والحسن والشافعي بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما قالت :«نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة ». وبما روي عن جابر رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل ». وفي رواية :«أكلنا في زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي » هذه رواية البخاري ومسلم. وفي رواية أبي داود قال :«ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابنا مخمصة فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل ».
وأجابوا عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أنّ منفعتها مختصة بذلك وإنما خص هاتين المنفعتين بالذكر لأنهما معظم المقصود ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام :﴿ وتحمل أثقالكم ﴾ ولم يلزم من ذلك تحريم الأثقال على الخيل. وقال الواحدي : لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذا الحيوان لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أنّ هذه السورة مكية ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامّة المفسرين والمحدّثين أنّ لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر، أي : وذلك في المدينة باطلاً لأنّ التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يكن لتخصيص هذا التحريم بهذه السنة فائدة، قال الرازي : وهذا جواب حسن متين. وقال ابن الخازن : والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أنّ السنة مبينة للكتاب. ولما كان نص الآية يقتضي أنّ الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة وكان الأكل مسكوتاً عنه ودار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، أخذنا به جمعاً بين النصين. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأنواع من الحيوان ذكر باقيها على سبيل الإجمال بقوله تعالى :﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾ وذلك لأنّ أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبه المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية. وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إنّ عن يمين العرش نهراً من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل كل يوم ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نفضة تقع من ريشه تقع كذا وكذا ألف ملك يدخل كل يوم منهم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة سبحان من له هذا الملك العظيم، قال تعالى :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾ [ المدثر، ٣١ ]. وفسر قتادة الآية بالسوس في النبات والدود في الفواكه وفسرها بعضهم بما أعدّ الله تعالى لأهل الجنة في الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولما شرح الله تعالى دلائل التوحيد قال تعالى :﴿ وعلى الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿ قصد السبيل ﴾ أي : بيان الطريق المستقيم إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها القصد. وقال :﴿ ومنها ﴾ أي : السبيل ﴿ جائر ﴾ أي : حائد عن الاستقامة. فإن قيل : هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجب عليه الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار كما قال به المعتزلة لأنه تعالى قال :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾. وكلمة على للوجوب. قال تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ [ آل عمران، ٩٧ ] أجيب : بأنّ المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح. فإن قيل : لم غير أسلوب الكلام حيث قال في الأوّل :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾. وفي الثاني :﴿ ومنها جائر ﴾ دون وعليه جائر ؟ أجيب : بأنّ المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. ثم قال تعالى :﴿ ولو شاء ﴾ هدايتكم ﴿ لهداكم ﴾ إلى قصد السبيل ﴿ أجمعين ﴾ فتهتدون إليه باختيار منكم. قال الرازي : وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأنّ كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره.
ولما ذكر تعالى نعمه على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة عقبه بذكر إنزال المطر لأنه من أعظم النعم على عباده فقال :﴿ هو ﴾ أي : لا غيره مما تدعى فيه الإلهية ﴿ الذي أنزل ﴾ أي : بقدرته الباهرة ﴿ من السماء ﴾ إمّا من نفسها أو من غيرها أو من جهتها أو من السحاب كما هو مشاهد ﴿ ماء ﴾ أي : واحداً تحسونه بالذوق والبصر ﴿ لكم منه ﴾ أي : من ذلك الماء ﴿ شراب ﴾ أي : تشربونه وقد بيّن تعالى في آية أخرى أنّ هذه النعمة جليلة فقال :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حيّ ﴾ [ الأنبياء، ٣٠ ]. فإن قيل : ظاهر هذا أنّ شرابنا ليس إلا من المطر ؟ أجيب : بأنه تعالى لم ينف أن يشرب من غيره وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر سكن هناك بدليل قوله في سورة المؤمنون :﴿ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ﴾ [ المؤمنون، ١٨ ]. ﴿ ومنه ﴾ أي : من الماء ﴿ شجر ﴾ أي : ينبت بسببه والشجر هنا كل نبات من الأرض حتى الكلأ وفي الحديث :«لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت » يعني الكلأ. فإن قيل : قال المفسرون : في قوله تعالى :﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ [ الرحمن، ٦ ] المراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق ؟ أجيب : بأن عطف الجنس على النوع وبالضدّ مشهور وأيضاً فلفظ الشجر يشعر بالاختلاط يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرياح إذا اختلطت وقال تعالى :﴿ حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ [ النساء، ٦٥ ] ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ. فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه ويصح أن يكون المراد بالشجر هنا ما له ساق لأنّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وحينئذٍ فإطلاق الشجر على الكلأ مجاز. ﴿ فيه ﴾ أي : الشجر ﴿ تسيمون ﴾ أي : ترعون مواشيكم يقال : أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت. قال الزجاج : أخذ ذلك من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره : لأنها تعلم الإرسال في المرعى.
ولما ذكر تعالى الحيوانات تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً بقوله تعالى :﴿ ينبت ﴾ أي : الله ﴿ لكم به ﴾ أي : بذلك الماء ﴿ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ﴾ فبدأ بذكر الزرع وهو الحبّ الذي يقتات به كالحنطة والشعير والأرز لأن به قوام البدن بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن وبارك فيه وثلث بذكر النخيل لأنّ ثمرها غذاء وفاكهة وختم بذكر الأعناب لأنه شبيه النخيل في المنفعة من التفكه والتغذية ثم ذكر تعالى سائر الثمار إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته وجزيل نعمته على عباده لأنّ الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضى عليها مقدار معين من الوقت نفذ في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنفتح الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم تخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إنّ تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإنّ قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ إنّ في ذلك لآية ﴾ بينة على أنّ فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده وإنما تحصل معرفة ذلك ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته فيؤمنون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى :﴿ وسخر لكم ﴾ أي : أيها الناس لإصلاح أحوالكم ﴿ الليل ﴾ للسكنى ﴿ والنهار ﴾ للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال :﴿ والشمس ﴾ أي : لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال :﴿ والقمر ﴾ لأمور علقها به ﴿ والنجوم ﴾ أي : الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى :﴿ مسخرات ﴾ أي : بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها ﴿ بأمره ﴾ أي : بإرادته سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب. وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الاثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفاً على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله :﴿ إنّ في ذلك ﴾ أي : التسخير العظيم ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي : يتدبرون فيعلمون أنّ جميع الخلق تحت قدره وقدرته وتسخيره لما أراده منهم.
وقوله تعالى :﴿ وما ذرأ ﴾ أي : خلق ﴿ لكم في الأرض ﴾ عطف على الليل، أي : وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. وقيل : إنه في موضع نصب بفعل محذوف، أي : وخلق هكذا قدّره أبو البقاء وكأنه استبعد تسلط سخر على ذلك فقدّر فعلاً لائقاً. وقوله تعالى :﴿ مختلفاً ﴾ حل منه. وقوله تعالى :﴿ ألوانه ﴾ أي : في الخلقة والهيئة والكيفية فاعل به ﴿ إنّ في ذلك لآية لقوم يذّكّرون ﴾ أي : يتعظون.
تنبيه : ختم تعالى الآية الأولى بالتفكر لأنّ ما فيها يحتاج إلى تأمّل ونظر، وختم الثانية بالعقل لأنّ مدار ما تقدّم عليه وختم الثالثة بالتذكر لأنه نتيجة ما تقدّم وجمع الآيات في الثانية دون الأولى والثالثة لأن ما نيط بها أكثر ولذلك ذكر معها العقل.
ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإله أولاً بأجرام السماوات والأرض وثانياً ببدن الإنسان وثالثاً بعجائب خلقة الحيوان ورابعاً بعجائب النبات ذكر خامساً عجائب العناصر وبدأ بالاستدلال بعنصر الماء بقوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : لا غيره. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها ﴿ الذي سخر البحر ﴾ أي : ذلله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكوّن الجواهر وغير ذلك قال علماء الهيئة : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء فذاك هو البحر المحيط وجعل في هذا الربع المسكون سبعة أبحر قال تعالى :﴿ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ﴾ [ لقمان، ٢٧ ] والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار فمن تسخيرها للخلق ما مر ومنه جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها بالركوب وبالغوص وبغير ذلك فمنافع البحار كثيرة وذكر سبحانه وتعالى منها هنا ثلاثة منافع الأولى قوله تعالى :﴿ لتأكلوا منه ﴾ أي : بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك. ﴿ لحماً طرياً ﴾ لا تجد أنعم منه ولا ألين وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً ففي ذلك دلالة على كمال قدرته تعالى وذلك أن السمك لو كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح اللحم الطري في غاية العذوبة علم أنه يخلق الله وقدرته لا بحسب الطبع وعلم بذلك أنّ الله تعالى قادر على إخراج الضدّ من الضدّ. المنفعة الثانية : قوله تعالى :﴿ وتستخرجوا منه ﴾ أي : بجهدكم في الغوص وما يتبعه ﴿ حلية ﴾ أي : اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ [ الرحمن، ٢٢ ]. ﴿ تلبسونها ﴾ أي : نساؤكم وهنّ بعضكم فكأن اللابس أنتم ولأنّ زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة : قوله تعالى :﴿ وترى الفلك ﴾ أي : السفن ﴿ مواخر ﴾ أي : تمخر الماء، أي : تشقه بجريها ﴿ فيه ﴾ أي : مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر بريح واحدة. وقال مجاهد : تمخر الريح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت. وقال الحسن : مواخر يعني مملوءة متاعاً. وقوله تعالى :﴿ ولتبتغوا ﴾ أي : لتطلبوا عطف على تأكلوا وما بينهما اعتراض. وقيل : عطف على محذوف تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ﴿ من فضله ﴾ أي : من سعة رزقه بركوبها للتجارة وللوصول إلى البلدان الشاسعة ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ الله على هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره.
ثم إنه تعالى ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض بقوله تعالى :﴿ وألقى في الأرض رواسي ﴾ أي : جبالاً ثوابت ﴿ أن تميد ﴾ أي : كراهة أن تميل وتضطرب ﴿ بكم ﴾ وقيل : لئلا تميل بكم والأوّل قدره البصريون والثاني قدّره الكوفيون، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله تعالى :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ [ النساء، ١٧٦ ]. روي أن الله تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى :﴿ وأنهاراً ﴾ عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها ﴾ [ فصلت، ١٠ ]. وقال تعالى :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ [ طه، ٣٩ ]. وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. ﴿ و ﴾ جعل لكم فيها ﴿ سبلاً ﴾ أي : طرقاً مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي : بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون.
﴿ و ﴾ جعل لكم فيها ﴿ علامات ﴾ أي : من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم. ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى :﴿ وبالنجم ﴾ أي : الجنس ﴿ هم ﴾ أي : أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. ﴿ يهتدون ﴾ وقدّم الجارّ تنبيهاً على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل : المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. وقيل : الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء.
﴿ أفمن يخلق ﴾ أي : هذه الأشياء الموجودة وغيرها ﴿ كمن لا يخلق ﴾ شيئاً من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى. فإن قيل : ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق ؟ أجيب : بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فأنكر عليهم ذلك بقوله تعالى :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾. فإن قيل : من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحاً لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضاً بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم ؟ أجيب : بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره :﴿ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ﴾ [ النحل، ٢٠ ] وإلى قول الشاعر :
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي فقلت ومثلي بالبكاء جدير
أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير
وكل قطاة لا تعير جناحها تعيش بذل والجناح قصير
فأوقع من على سرب لما عامله معاملة العقلاء، وقيل : للمشاكلة بينه وبين من يخلق، وقيل : المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده كقوله تعالى :﴿ ألهم أرجل يمشون بها ﴾ [ الأعراف، ١٩٥ ] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف تصح لهم العبادة إلا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا. ولما كان هذا القدر ظاهراً غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى تدقيق الفكر والنظر بل مجرّد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل. ختم تعالى ذلك بقوله تعالى :﴿ أفلا تذكرون ﴾ بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه فتؤمنون. تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه لأنه تعالى ميز نفسه عن الأشياء التي يعبدونها بصفة الخالقية لأنّ الغرض من قوله تعالى :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾ بيان تميزه عن هذه الأشياء بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والعبودية لكونه تعالى خالقاً وهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقاً لشيء لوجب كونه إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد.
ولما كانت المقدورات لا تحصى وأكثرها نعم على العباد مذكرة لهم بخالقهم قال ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم :﴿ وإن تعدّوا ﴾ كلكم ﴿ نعمت الله ﴾ أي : إنعام الملك الأعظم الذي لا رب غيره عليكم من صحة البدن وعافية الجسم وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم وبطش اليدين ومشى الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليكم وما خلق لكم مما تحتاجون إليه من أمر الدنيا حتى لو رام أحدكم معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عنها وعن معرفتها وحصرها فإن نتبعها يفوت الحصر. ﴿ لا تحصوها ﴾ أي : لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كثرتها وإعراضكم جملة عن شكرها والعبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات وبالغ في شكر نعم الله تعالى فإنه يكون مقصراً لأنّ نعم الله كثيرة وأقسامها عظيمة وعقل الخلق قاصر عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غاياتها لكن الطريق إلى ذلك أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها. ﴿ إنّ الله لغفور ﴾ أي : لتقصيركم في القيام بشكرها يعني النعمة كما يجب عليكم ﴿ رحيم ﴾ بكم فوسع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير والمعاصي.
وقوله تعالى :﴿ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ﴾ فيه وجهان : الأوّل : أنّ الكفار مع كفرهم كانوا ليسرون أشياء وهو ما كانوا يمكرون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلنون، أي : وما يظهرون من أذاه صلى الله عليه وسلم فأخبر الله تعالى بأنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا يخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت. والوجه الثاني : أنه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدّمة ذكر في هذه الآية أنّ الإله الذي يستحق العبادة يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وجهرها وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة.
ثم وصف تعالى هذه الأصنام بصفات الأولى مذكورة في قوله تعالى :﴿ والذين تدعون ﴾ أي : تعبدون ﴿ من دون الله ﴾ أي : الأصنام وتعتقدون أنها آلهة وقرأ عاصم بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ﴿ لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ﴾ أي : يصوّرون من الحجارة وغيرها. فإن قيل : قوله تعالى في الآية المتقدّمة ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾ يدلّ على أنّ هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا هو المعنى المذكور في تلك الآية المذكورة فما فائدة هذا التكرار ؟ أجيب : بأنّ فائدته أنّ المعنى المذكور في الآية المتقدّمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون كغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار فكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً، ثم بيّن ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة كغيرها.
الصفة الثانية قوله تعالى :﴿ أموات ﴾ أي : جمادات لا روح لها ﴿ غير أحياء ﴾ إذ الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت. فإن قيل : علم من قوله : أموات أنها غير أحياء فما الفائدة في ذكره ؟ أجيب : بأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً وأجساد الحيوانات التي تبعث بعد موتها وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة وذلك أعرق في موتها. وقيل : ذكر للتأكيد لأنّ الكلام مع الكفار الذي يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغبي فقد يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه الإعلام بكون المخاطب في غاية الغباوة في أنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿ وما يشعرون ﴾ أي : الأصنام ﴿ أيان ﴾ أي : وقت ﴿ يبعثون ﴾ أي : وما تعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكماً بحالها لأنّ شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حيّ إلا الحيّ القيوم سبحانه وتعالى. وقيل : الضمير راجع للأصنام. قال ابن عباس : إنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وقيل : المراد بقوله تعالى :﴿ والذين تدعون من دون الله ﴾ الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله تعالى : إنهم أموات، أي : لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي : باقية حياتهم وما يشعرون، أي : لا علم لهم بوقت بعثهم.
ولما زيف سبحانه وتعالى طريقة عبدة الأصنام وبيّن فساد مذهبهم قال تعالى :﴿ إلهكم ﴾ أي : أيها الخلق جميعاً المعبود بحق ﴿ إله ﴾ أي : متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أوان وكل زمان وكل مكان ﴿ واحد ﴾ لا يقبل التعدّد الذي هو مثال النقص بوجه من الوجوه لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية. ﴿ فالذين ﴾ أي : فتسبب عن هذا أنّ الذين ﴿ لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي : دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة ﴿ قلوبهم منكرة ﴾ أي : جاحدة للوحدانية ﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم بسبب إنكار ذلك ﴿ مستكبرون ﴾ أي : متكبرون عن الإيمان بها.
﴿ لا جرم ﴾ أي : حقاً ﴿ أن الله يعلم ﴾ علماً غيبياً وشاهدياً ﴿ ما يسرون ﴾ أي : ما يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس ﴿ وما يعلنون ﴾ أي : يظهرون فيجاز يهم ذلك. ولما كان في ذلك معنى التهديد علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : العالم بالسر والعلن ﴿ لا يحب المستكبرين ﴾ أي : على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى عدم محبتهم أنه يعاقبهم.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل : يا رسول الله، إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ؟ قال : إنّ الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس » ومعنى بطر الحق أنه يستكبر عند سماع الحق فلا يقبله ومعنى غمص الناس استنقاصهم وازدراؤهم.
ولما بالغ سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام قال تعالى عاطفاً على قلوبهم منكرة :﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي : لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وقوله تعالى :﴿ ما ﴾ استفهامية و﴿ ذا ﴾ موصولة، أي : ما الذي ﴿ أنزل ربكم ﴾ على محمد صلى الله عليه وسلم واختلف في قائل هذا القول فقيل : كلام بعضهم لبعض، وقيل : قول المسلمين لهم، وقيل : قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ قالوا ﴾ مكابرين في إنزال القرآن هو ﴿ أساطير ﴾ أي : أكاذيب ﴿ الأوّلين ﴾ مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضتهم أقصر سورة منه مع علمهم بأنهم أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدّم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه. فإن قيل : هذا كلام متناقض لأنه لا يكون منزلاً من ربهم وأساطير ؟ أجيب : بأنهم قالوه على سبيل السخرية كقوله :﴿ إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ﴾ [ الشعراء، ٢٧ ].
واللام في قوله تعالى :﴿ ليحملوا ﴾ لام العاقبة كما في قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً ﴾ [ القصص، ٨ ] وذلك لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأوّلين كان عاقبتهم بذلك أن يحملوا ﴿ أوزارهم ﴾ أي : ذنوب أنفسهم وإنما قال تعالى :﴿ كاملة ﴾ لئلا يتوهم أنه يكفر عنهم شيء بسبب البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البرّ التي عملوها في الدنيا بل يعاقبون بكل أوزارهم ﴿ يوم القيامة ﴾ الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه. قال الرازي : وهذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة ﴿ و ﴾ ليحملوا أيضاً ﴿ من ﴾ جنس ﴿ أوزار ﴾ الجهلة الضعفاء ﴿ الذين يضلونهم ﴾ وقوله تعالى :﴿ بغير علم ﴾ حال من مفعول يضلونهم، أي : يضلون من يعلم أنهم ضلال أو من الفاعل وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل وإنما حصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدّوهم عن الإيمان مثل أوزار الأتباع لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتبعوهم فاشتركوا في الإثم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » أخرجه مسلم. ومعنى الآية والحديث أنّ الرئيس والكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سيئة قبيحة فتبعه عليها جماعة فعملوا بها فإن الله تعالى يعطيهم ثوابه وعقابه حتى يكون ذلك الثواب والعقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع الذين عملوا بالسنة الحسنة أو القبيحة، وليس المراد بأن الله يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام، ١٦٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ [ النجم، ٣٩ ].
تنبيه : قال الواحدي : لفظة من في قوله تعالى :﴿ ومن أوزار ﴾ ليست للتبعيض لأنها لو كانت كذلك لنقص عن الأتباع بعض الأوزار وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » لكنها للجنس كما قدّرت ذلك في الآية الكريمة، أي : ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقيل : إنها للتبعيض وجرى عليه البيضاوي تبعاً للزمخشري.
﴿ ألا ساء ﴾ أي : بئس ﴿ ما يزرون ﴾ أي : يحملون حملهم هذا وفي هذا وعيد وتهديد لهم. فإن قيل : إنّ الله تعالى حكى هذه الشبهة عن القوم ولم يجب عنها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب في ذلك ؟ أجيب : بأنّ السبب فيه أنه تعالى بيّن كون القرآن معجزاً بطريقين : الأوّل : أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم أولاً بكل القرآن وثانياً بعشر سور وثالثاً بسورة فعجزوا عن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزاً الثاني : أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ﴾ [ الفرقان، ٥٠ ] وأبطلها بقوله تعالى :﴿ قل أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض ﴾ [ الفرقان، ٦ ]. ومعناه أنّ القرآن يشتمل على الإخبار بالغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السماوات والأرض.
ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين وتكرّر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرّد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة ثم إنه سبحانه وتعالى بالغ في وصف وعيد هؤلاء الكفار بقوله تعالى :﴿ قد مكر الذين من قبلهم ﴾ أي : ممن رأوا آثارهم في ديارهم ﴿ فأتى الله ﴾ أي : أمره ﴿ بنيانهم من القواعد ﴾ أي : من جهة العمد التي بنوا عليها مكرهم ﴿ فخرّ ﴾ أي : سقط ﴿ عليهم السقف من فوقهم ﴾ وصار سبب هلاكهم وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم. والباقون بكسر الهاء وضم الميم. وأمّا الوقف فحمزة بضم الهاء على أصله والباقون بالكسر. ﴿ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ أي : من جهة لا تخطر ببالهم وهذا على سبيل التمثيل، أي : التشبيه والتخييل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرسل فجعل الله هلاكهم فيما أبرموه كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا نحوه من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، وقيل : هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء قال ابن عباس : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب : كان طوله فرسخين فأهب الله تعالى الريح فألقت رأسه في البحر وخرّ عليهم الباقي وهم تحته قال البغوي : ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾ أي : أتى أمره فخرب بنيانهم من أصلها فخرّ عليه وعلى قومه السقف، أي : أعلى البيوت من فوقهم فهلكوا.
تنبيه : قال ابن الخازن في قول البغوي : وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية نظر لأنّ صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذين نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان ببابل من العرب طائفة قديمة قبل إبراهيم عليه السلام انتهى. وقد يقال : إنه كان لسان أكثر الناس بالسريانية فلا ينافي ذلك. فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿ فخرّ عليهم السقف من فوقهم ﴾ والسقف من فوقهم ؟ أجيب : بأنهم قد لا يكونون تحته فلما قال تعالى :﴿ فخرّ عليهم السقف من فوقهم ﴾ دل على أنهم كانوا تحته وحينئذٍ يفيد هذا الكلام بأنّ الأبنية قد تهدّمت وهم ماتوا تحتها.
ولما ذكر الله تعالى حال أصحاب المكر في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة بقوله عز وجلّ :﴿ ثم يوم القيامة يخزيهم ﴾ أي : يذلهم ويهينهم بعذاب النار ﴿ ويقول ﴾ لهم الله تعالى على لسان الملائكة توبيخاً :﴿ أين شركائي ﴾ أي : في زعمكم واعتقادكم ﴿ الذين كنتم تشاقون ﴾ أي : تخالفون المؤمنين ﴿ فيهم ﴾ أي : في شأنهم وقرأ نافع بكسر النون والباقون بفتحها ﴿ قال ﴾ أي : يقول ﴿ الذين أوتوا العلم ﴾ أي : من الأنبياء والمؤمنين وقال ابن عباس : يريد الملائكة ﴿ إنّ الخزي ﴾ أي : البلاء المذل ﴿ اليوم ﴾ أي : يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة ﴿ والسوء ﴾ أي : كل ما يسوء ﴿ على الكافرين ﴾ أي : الغريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، وفائدة قولهم إظهار الشماتة، وزيادة الإهانة، وحكايته لتكون لطفاً لمن سمعه.
تنبيه : في الآية دلالة على أن ماهية الخزي وماهية السوء في يوم القيامة مختصة بالكافرين وهذا ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم ويؤكد هذا قول موسى عليه السلام :﴿ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ﴾ [ طه، ٤٨ ].
ثم إنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكافرين من وجه آخر فقال سبحانه وتعالى :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ﴾ أي : يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه عليهم السلام. وقرأ حمزة في هذه الآية وفي الآية الآتية بالياء في الموضعين على التذكير لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء على التأنيث لأن لفظ الجمع مؤنث. ﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ أي : بأن عرضوها للعذاب المخلد بكفرهم ﴿ فالقوا السلم ﴾ أي : استسلموا وانقادوا حين عاينوا الموت قائلين :﴿ ما كنا نعمل من سوء ﴾ أي : شرك وعدوان فتقول لهم الملائكة :﴿ بلى ﴾ أي : بل كنتم تعملون أعظم السوء ثم علل تكذيبهم بقوله تعالى :﴿ إنّ الله عليم بما كنتم تعملون ﴾ أي : فلا فائدة لكم في إنكاركم فيجازيكم به.
ولمّا كان هذا الفعل مع العلم سبباً لدخول جهنم قال تعالى :﴿ فادخلوا ﴾ أي : أيها الكفرة ﴿ أبواب جهنم ﴾ أي : أبواب طبقاتها ودركاتها ﴿ خالدين ﴾ أي : مقدّرين الخلود ﴿ فيها ﴾ أي : جهنم لا يخرجون منها وإنما قال تعالى ذلك لهم ليكون أعظم في الخزي والغم وفي ذلك دليل على أنّ الكفار بعضهم أشدّ عذاباً من بعض ثم قال تعالى :﴿ فلبئس مثوى ﴾ أي : مأوى ﴿ المتكبرين ﴾عن قبول التوحيد وسائر ما آتت به الرسل.
ولمّا بيّن تعالى أحوال المكذبين ذكر أحوال الصدّيقين بقوله تعالى :﴿ وقيل للذين اتقوا ﴾ أي : خافوا عقاب الله ﴿ ماذا ﴾ أي : أيّ شيء ﴿ أنزل ربكم قالوا خيراً ﴾ أي : أنزل خيراً وذلك أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه فيقولون : ساحر شاعر كذاب مجنون ولو لم تلقه خير لك فيقول السائل : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وألقاه فيدخل مكة فيرى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث من الله تعالى فذلك قوله تعالى :﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم ﴾ الآية فإن قيل : لم رفع الأول وهو قولهم أساطير الأوّلين ونصب الثاني وهو قولهم خيراً أجيب : بأنه ذكر ذلك للفصل بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، وذلك أنهم لمّا سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً. ولمّا سألوا المؤمنين عن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وطابقوا الجواب عن السؤال بيناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال، فقالوا :﴿ خيراً ﴾ أي : أنزل خيراً، وتمّ الكلام عند قوله ﴿ خيراً ﴾ فهو وقف تامّ، ثم ابتدأ بقوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ﴾ أي : حياة طيّبة أو أنّ للذين أتوا بالأعمال الصالحات الحسنة لهم ثوابها حسنة مضاعفة من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، أو أنه تعالى بيّن أنّ اعترافهم بذلك الإحسان في هذه الدنيا حسنة أي : جزاء لهم على إحسانهم ﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ [ الرحمن، ٦٠ ] ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال أخبر عن حالهم في الآخرة فقال :﴿ ولدار الآخرة ﴾ أي : الجنة ﴿ خير ﴾ أي : ما أعدّ الله لهم في الجنة خير مما حصل لهم في الدنيا، ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى :﴿ ولنعم دار المتقين ﴾ أي : دار الآخرة، فحذف لتقدّم ذكرها وقال الحسن : هي الدنيا لأنّ أهل التقوى يتزوّدون فيها للآخرة.
وقوله تعالى :﴿ جنات ﴾ أي : بساتين ﴿ عدن ﴾ أي : إقامة خبر مبتدأ محذوف ويصح أن يكون المخصوص بالمدح ﴿ يدخلونها ﴾ أي : تلك الجنات حالة كونها ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تحت غرفها ﴿ الأنهار ﴾ ثم كأنّ سائلاً سأل عما فيها من الثمار وغيرها. فأجيب بأنّ ﴿ لهم فيها ما يشاؤون ﴾ أي : ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مع زيادات غير ذلك، فهذه الآية تدل على حصول كل الخيرات والسعادات فهي أبلغ من قوله تعالى :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴾ [ الزخرف، ٧١ ] لأن هذين القسمين داخلان في قوله تعالى :﴿ لهم فيها ما يشاؤون ﴾ مع أقسام أخرى وعلى أنّ الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا، لأنّ قوله :﴿ لهم فيها ما يشاؤون ﴾ يفيد الحصر ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الجزاء العظيم ﴿ يجزي الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ المتقين ﴾ أي : الراسخين في صفة التقوى.
ثم حث تعالى على ملازمة التقوى بالتنبيه على أنّ العبرة بحال الموت فقال :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ﴾ أي : تقبض أرواحهم وقوله تعالى :﴿ طيبين ﴾ كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة، مبّرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرّئين عن العلائق الجسمانية، متوجهين إلى حضرة القدس، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح، وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها، ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أنّ هذا التوفي هو قبض الأرواح كما مرّ، وإن كان الحسن يقول : إنه وفاة الحشر. واستدل بقوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة ﴾ لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا، ادخلوا الجنة. وأجاب الأكثرون بما سيأتي وأدغم أبو عمرو التاء في الطاء بخلاف عنه. ثم بيّن تعالى أنّ الملائكة ﴿ يقولون ﴾ لهم عند الموت ﴿ سلام عليكم ﴾ فتسلم عليهم أوتبلغهم السلام من الله تعالى، كما روي أنّ العبد المؤمن إذا أشرف على الموت جاءه ملك فقال : السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة، ويقال لهم في الآخرة هذا جواب الأكثرين ﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ أو إنهم لمّا بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم : ادخلوا الجنة، أي : هي خاصة لكم كأنكم فيها.
ولما طعن الكفار في القرآن بقولهم :﴿ أساطير الأوّلين ﴾ وذكر أنواع التهديد والوعيد ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم وأقوالهم الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة، وأتاهم أمر ربك فقال تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ﴾ لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك ﴿ أو يأتي أمر ربك ﴾ أي : يوم القيامة وقيل : العذاب. وقيل : إنهم طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى :﴿ هل ينظرون ﴾ في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك. وعلى كلا التقديرين، فقد قال تعالى :﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ما ﴿ فعل ﴾ هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل ﴿ الذين من قبلهم ﴾ من الأمم السالفة، كذبوا رسلهم فأهلكوا ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ بإهلاكهم بغير ذنب. ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم.
﴿ فأصابهم ﴾ أي : فتسب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم ﴿ سيئات ﴾ أي : عقوبات أو جزاء سيئات ﴿ ما عملوا وحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ تكبراً عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه، والحيق لا يستعمل إلا في الشر. وقرأ حاق حمزة بالإمالة والباقون بالفتح.
﴿ وقال الذين أشركوا ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاء ومنعاً للبعثة والتكليف ﴿ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ﴾ لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهو اعتقاد باطل، فلذلك استحقوا عليه الذم والوعيد ثم قالوا لهم :﴿ ولا حرّمنا من دونه من شيء ﴾ أي : من السوائب والبحائر والحامي فهو راض به وبمشيئته وحينئذ فلا فائدة في مجيئك وفي إرسالك وهذا عين ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ﴾ [ الأنعام، ١٤٨ ] الآية. قال الله تعالى :﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾ أي : من تقدّم هؤلاء من الكفار من الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا في قوله تعالى :﴿ فهل على الرسل إلا البلاغ ﴾ أي : الإبلاغ. ﴿ المبين ﴾ أي : البين فليس عليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه.
ثم بين تعالى أنّ البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضرّ المزاج المنحرف ويفنيه بقوله تعالى :﴿ ولقد ﴾ أي : والله لقد ﴿ بعثنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة التي من اعترض عليها قصم. ﴿ في كل أمّة ﴾ من الأمم الذين من قبلكم ﴿ رسولاً ﴾ أي : كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً. ﴿ أن اعبدوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى وحده. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون في الوصل والباقون بالضم. ﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ أي : الأوثان أن تعبدوها ﴿ فمنهم من هدى الله ﴾ أي : وفقهم للإيمان بإرشاده ﴿ ومنهم من حقت ﴾ أي : وجبت ﴿ عليه الضلالة ﴾ أي : في علم الله تعالى فلم ينفعهم ولم يرد هداهم.
تنبيه : في هذه الآية أبين دليل على أنّ الهادي والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه فيما حكم به لسابق علمه.
ثم التفت سبحانه وتعالى إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال تعالى :﴿ فسيروا ﴾ أي : فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من أخبار الرسل فسيروا ﴿ في الأرض ﴾ أي : جنسها ﴿ فانظروا ﴾ أي : إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، ثم أشار تعالى بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال :﴿ كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ المكذبين ﴾ أي : من عاد ومن بعدهم من الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم لعلكم تعتبرون.
ولما كان من المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فقال مسلياً له :﴿ إن تحرص على هداهم ﴾ فتطلبه بغاية جدّك واجتهادك وقد أضلهم الله تعالى لا تقدر على ذلك ثم قال تعالى :﴿ فإنّ الله لا يهدي من يضلّ ﴾ أي : من يرد ضلاله وهو معين لمن حقت عليه الضلالة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء المفعول. قال البيضاوي : وهو أبلغ. ثم قال تعالى :﴿ وما لهم ﴾ أي : هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله ﴿ من ناصرين ﴾ أي : وليس لهم أحد ينصرهم في الدنيا والآخرة عند مجازاتهم على الضلالة لينقذوهم مما يلحقهم عليه من الوبال كما فعل بالمكذبين ممن قبلهم.
ثم حكى الله عن هؤلاء القوم أنهم ينكرون الحشر والنشر بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ أي : غاية اجتهادهم فيها ﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾ وذلك أنهم قالوا : إنّ الإنسان ليس هو إلا هذه البنية المخصوصة فإذا مات وتفرّقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه ؛ لأنّ الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فكذبهم الله تعالى في قولهم بقوله تعالى :﴿ بلى ﴾ أي : يبعثهم بعد الموت فإنّ لفظة بلى إثبات لما بعد النفي والجواب عن شبهتهم أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم، ولم يكن شيئاً فالذي أوجده ولم يكن شيئاً قادر على إيجاده بعد إعدامه لأنّ النشأة الثانية أهون من الأولى، وقوله تعالى :﴿ وعداً عليه حقاً ﴾ مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدّر، أي : وعد ذلك وعداً وحقه حقاً. ﴿ ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ﴾ ذلك، أي : لا علم لهم يوصلهم لذلك لأنه من عالم الغيب، لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله تعالى ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم الله بروح منه لتقيدهم بما يوصل إلى عقولهم أنها قاصرة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير واسطة منه سبحانه وتعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استبعاداً وهو خصيم مبين.
وقوله تعالى :﴿ ليبين لهم الذي يختلفون فيه ﴾ يتعلق بما دل عليه بلى، أي : يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو عامّ للمؤمنين والكافرين والذي اختلفوا فيه هو الحق. ﴿ وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾ في قولهم :﴿ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ﴾ وقولهم :﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾ وقيل : يجوز أن يتعلق بقوله :﴿ ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً ﴾ أي : بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب.
ثم بين سبحانه وتعالى تيسر الإعادة بقوله تعالى :﴿ إنما قولنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ لشيء ﴾ إبداء وإعادة ﴿ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ أي : يتسبب عن ذلك القول أنه يكون.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ قولنا ﴾ مبتدأ و﴿ أن نقول ﴾ خبره. فيكون وكن من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي : إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له : أحدث فيحدث عقب ذلك من غير توقف. فإن قيل : قوله تعالى :﴿ كن ﴾ إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً مع الموجود فكان أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال ؟ أجيب : بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السماوات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى : يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول : إنّ لي ولداً. وأمّا تكذيبه فيقول : ليس يعيدني كما بدأني ». حديث وفي رواية :«كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٍ ». وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفاً على يقول أو جواباً للأمر والباقون بالرفع.
ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم، وحينئذٍ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة، وما لهؤلاء المهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى :﴿ والذين هاجروا في الله ﴾ أي : في حقه ولوجهه لإقامة دينه ﴿ من بعد ما ظلموا ﴾ وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فجمع لله تعالى بين الهجرتين، ومنهم من هاجر إلى المدينة، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل أخذهم المشركون بمكة يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر، فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول : أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه واشترى معه ستة نفر أخر وأما صهيب فقال : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم وهاجر فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب، وقال عمر له : نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصمه وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله نارا لأطاعه. ﴿ لنبوئنهم ﴾ أي : لننزلنهم ﴿ في الدنيا ﴾ دارا ﴿ حسنة ﴾ وهي المدينة وقيل : لنحسنن إليهم في الدنيا بأن نفتح لهم مكة ونمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها، وقيل : أراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية إلى الدين ﴿ ولأجر الآخرة ﴾ وهي الجنة والنظر إلى وجهه الكريم ﴿ أكبر ﴾ أي : أعظم ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي : الكفار والمتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم. وقيل : إنه راجع إلى المهاجرين، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبروا. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله به في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل. ثم يقرأ هذه الآية.
وقوله تعالى :﴿ الذين صبروا ﴾ أي : على الشدائد وعلى مفارقة الوطن الذين هو حرم الله وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله محله رفع على تقديرهم أو نصب على المدح، ويجوز أن يكون تابعا للموصول قبله نعتا أو بدلا أو بيانا فمحله محله ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ أي : منقطعين إليه مفوضين الأمر كله إليه.
تنبيه : ذكر الله تعالى في هذه الآية الصبر والتوكل وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، وأما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات واحتمال الأذى من الخلق. وأما التوكل فهو الانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق كما مرت الإشارة إليه فالأول هو مبدأ السلوك والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه.
ونزل لما أنكر مشركو مكة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون ورسوله بشرا فهلا بعث ملكا إلينا :﴿ وما أرسلنا من قبلك ﴾ يا محمد إلى الأمم من طوائف البشر ﴿ إلا رجالا ﴾ لا ملائكة بل آدميين هم في غاية الاقتدار على الصبر والتوكل الذي هو محط الرحال. ﴿ نوحي إليهم ﴾ بواسطة الملائكة فعادة الله جارية مستمرة من أول مبتدأ الخلق إلى الآن لم يبعث رسولا إلا من البشر. ﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ أي : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وإنما أمرهم الله تعالى بسؤالهم لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم وقد أرسل إليهم رسلا مثل موسى وعيسى عليهما السلام من البشر وكانوا بشرا مثلهم فإذا سألوهم فلابد أن يخبروهم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا فإذا أخبروهم بذلك فربما زالت هذه الشبهة وقال ابن عباس : يريد أهل التوراة والدليل عليه قوله تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ﴾ [ الأنبياء، ١٠٥ ] يعني التوراة، والذكر هو التوراة. وقال الزجاج : معناه اسألوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. ولما كان عندهم أحسن من ذلك سماع أخبار الأمم قبلهم أشار إليه بقوله تعالى :﴿ إن كنتم ﴾ أي : جبلة وطبعا ﴿ لا تعلمون ﴾ ذلك فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقه أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ بالبينات ﴾ متعلق بمحذوف، أي : أرسلناهم بالحجج الواضحة وقيل : التقدير إن كنتم لا تعلمون بالبينات ﴿ والزبر ﴾ أي : الكتب فاسألوا أهل الذكر. وقيل : إنه متعلق بمحذوف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : بم أرسلوا ؟ فقيل : أرسلوا بالبينات والزبر.
وقوله تعالى :﴿ وأنزلنا إليك الذكر ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والذكر هو القرآن وإنما سمي ذكرا لأنه موعظة وتذكير ﴿ لتبين للناس ﴾ كافة، أي : أعطاك الله تعالى من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها، وقد أوصلك الله تعالى فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد ﴿ ما نزل ﴾ أي : ما وقع تنزيله ﴿ إليهم ﴾ من هذا الشرع المؤدي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل وشرح ما أشكل من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد ومن البعث وغيره فإنه القرآن فيه محكم وفيه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبينا والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من السنة.
﴿ ولعلهم يتفكرون ﴾ فيما أنزل إليهم إذا نظروا أساليبه الفائقة ومعانيه العالية الرائقة فيعتبرون. فإن قيل : إن هذه الآية تدل على أن المبين لكل التكاليف والأحكام هو النبي صلى الله عليه وسلم فالقياس ليس بحجة ؟ أجيب : بأنه صلى الله عليه وسلم لما بين أن القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس كان ذلك في الحقيقة رجوعا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات ﴾ فيه إضمار تقديره المكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبالقرآن في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أربعة أمور الأوّل قوله تعالى :﴿ أن يخسف الله بهم الأرض ﴾ كما خسف بقارون وأصحابه فإذا هم في بطنها لا يقدرون على نوع تقلب بمتابعة ولا غيرها. الثاني قوله تعالى :﴿ أو يأتيهم العذاب ﴾ على غير تلك الحال ﴿ من حيث لا يشعرون ﴾ به فيأتيهم بغتة فيهلكهم كما فعل بقوم لوط عليه السلام.
الثالث : قوله تعالى :﴿ أو يأخذهم ﴾ أي : الله بعذابه ﴿ في ﴾ حالة ﴿ تقلبهم ﴾ ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة وفي تفسير هذا التقلب وجوه أوّلها : أنه تعالى يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر. ﴿ فما هم بمعجزين ﴾ أي : بفائتين العذاب بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله تعالى حيث كانوا. ثانيها : أنه تعالى يأخذهم بالليل والنهار وفي حال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم. وثالثها : أنّ الله تعالى يأخذهم في حال ما يتقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى :﴿ وقلبوا لك الأمور ﴾ [ التوبة، ٤٨ ]
فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
الأمر الرابع : قوله تعالى :﴿ أو يأخذهم على تخوّف ﴾ وفي تفسير التخوّف قولان ؛ الأوّل : التخوّف تفعل من الخوف يقال : خفت الشيء وتخوّفته، والمعنى : أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أوّلاً بل يخيفهم أوّلاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك قرية فتخاف التي تليها فيأتيهم العذاب. والثاني : التخوّف بمعنى التنقص، أي : أنه تعالى ينقص شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوّفه إذا تنقصه. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر : ما تقولون في هذه الآية ؟ فسكتوا. فقال شيخ من هذيل : هذه لغتنا التخوّف التنقص. فقال عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم، قال شاعرنا أبو كبير :
تخوّف، أي : تنقص الرحل، أي : رحل ناقته منها تامكاً، أي : سناماً قردا، أي : متراكماً أو مرتفعاً وهو بسكون الراء كما تخوّف عود النبعة السفن.
والنبعة بالضم واحدة النبع وهو شجر يتخذ منه السفن والسفن بفتح السين والفاء ما ينحت به الشيء وهو فاعل تخوّف ومفعوله عود. فقال عمر : عليكم بديوانكم. قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ومعنى البيت أنّ رحل ناقته ينقص سنامها المتراكم أو المرتفع كما ينقص السفن عود النبعة.
﴿ فإنّ ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد وقوله تعالى :﴿ لرؤوف ﴾ قرأه أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ ومعناه بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة وكذا من قاطعه أتم مقاطعة وإليه أشار بقوله تعالى :﴿ رحيم ﴾ أي : حيث لم يعاجلهم بالعذاب.
ولما خوّف سبحانه وتعالى المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أنه مع كمال هذه القدرة الباهرة والقوّة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأجسام الأربعة بقوله تعالى :﴿ أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء ﴾ أي : من الأجرام التي لها ظل كشجر وجبل ﴿ تتفيؤا ﴾ أي : تتميل ﴿ ظلاله عن اليمين والشمائل ﴾ جمع شمال، أي : عن جانبي كل واحد منهما وشقيه. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب على نسق ما قبله والباقون بالياء على الغيبة إلى ما خلق استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له. وقال قتادة والضحاك : أمّا اليمين فأوّل النهار وأمّا الشمائل فآخره لأنّ الشمس وقت طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي والظلال في أوّل النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض. فإن قيل : ما السبب في ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع ؟ أجيب : بأشياء الأوّل : أنه وحّد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى :﴿ ويولون الدبر ﴾ [ القمر، ٤٥ ] الثاني : قال الفرّاء : كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأنّ قوله :﴿ إلى ما خلق الله من شيء ﴾ لفظه واحد ومعناه الجمع على ما مرّ فيحتمل كلا الأمرين. الثالث : أنّ العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى :﴿ الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام، ١ ]. وقوله تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ﴾ [ البقرة، ٧ ].
تنبيه : الهمزة للاستفهام وهو استفهام إنكار، أي : قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بمعنى الذي ومن شيء بيان لها. فإن قيل : كيف بين الموصول وهو مبهم بشيء وهو مبهم بل أبهم مما قبله ؟ أجيب : بأن شيئاً قد اتضح وظهر بوصفه بالجملة بعده وهو تتفيؤا ظلاله وقيل : الجملة بيان لما. وقوله تعالى :﴿ سجداً لله ﴾ حال من الظلال جمع ساجد كشاهد وشهد، وراكع وركع. واختلف في المراد من السجود على قولين أحدهما : أنّ المراد منه الاستسلام والانقياد يقال : سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال : اسجد للقرد في زمانه، أي : اخضع له وقال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ***
أي متواضعة. والثاني : أنّ هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد فلما كانت الظلال يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله تعالى عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول : أما ظلك فيسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد لربك بئسما صنعت. وعن مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي. وقيل : ظل كل شيء يسجد لله سواء أكان ذلك الشيء ساجداً أم لا. قال الرازي : والأوّل أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة. وقوله تعالى :﴿ وهم داخرون ﴾ أي : صاغرون حال أيضاً من الظلال فينتصب عنه حالان وقيل : حال من الضمير المستتر في سجداً فهي حال متداخلة. فإن قيل : الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون ؟ أجيب : أنه تعالى لما وصفها بالطاعة والدخور أشبهت العقلاء أو أن في جملة ذلك من يعقل فغلب.
ولما حكم على الظلال بما يعم أصحابها من جماد وحيوان وكان الحيوان أشرف من الجماد رقي الحكم إليه بخصوصه، فقال :﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ﴾ وقوله تعالى :﴿ من دابة ﴾ يجوز أن يكون بياناً لما في السماوات وما في الأرض جميعاً على أنّ في السماوات خلقاً لله يدبون فيها كما تدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السماوات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بياناً لما في الأرض ويراد بما في السماوات الملائكة وكرّر ذكرهم بقوله تعالى :﴿ والملائكة ﴾ خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم ويجوز أن يراد بما في السماوات ملائكتهنّ وبقوله تعالى :﴿ والملائكة ﴾ ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم. فإن قيل : سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد ؟ أجيب : بأنّ المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى وأنه غير ممتنع عليه وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قيل : هلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم ؟ أجيب : بأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولاً للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة للعموم. ﴿ وهم ﴾ أي : الملائكة ﴿ لا يستكبرون ﴾ عن عبادته
ثم علل تخصيصهم بقوله تعالى دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء :﴿ يخافون ربهم ﴾ أي : الموجد لهم المدبر لأمورهم المحسن إليهم خوفاً مبتدأ ﴿ من فوقهم ﴾ إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى :﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ [ الأنعام، ١٨ ]. وقوله تعالى :﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ [ الأعراف، ١٢٧ ] والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون، أو بيان له أو تقرير لأنّ من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ أي : من الطاعة والتدبير وفي ذلك دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين وأنهم بين الخوف والرجاء، كما مرّت الإشارة إليه وأنهم معصومون من الذنوب لأنّ قوله تعالى :﴿ وهم لا يستكبرون ﴾ يدل على أنهم منقادون لخالقهم وأنهم ما خالفوا في أمر من الأمور كما قال تعالى :﴿ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ﴾ [ الأنبياء، ٢٧ ].
ولما بيّن تعالى أنّ كل ما سوى الله تعالى سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجساد فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه أتبعه بالنهي عن الشرك وبالأمر بأنّ كل ما سواه فهو ملكه وأنه غني عن الكل بقوله تعالى :﴿ وقال الله ﴾ فعبّر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص ﴿ لا تتخذوا ﴾ أي : لا تكلفوا فطرتكم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أنّ الإله واحد أن تأخذ في اعتقادها ﴿ إلهين اثنين ﴾. فإن قيل : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا : عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة لأنّ المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. فأمّا رجل ورجلان وفرس وفرسان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى :﴿ إلهين اثنين ﴾ ؟ أجيب : بأجوبة أوّلها : قال الرازي : وهو الأقرب عندي أنّ الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح والقول بوجود إلهين مستقبح في العقول فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال، فالمقصود من تكرار اثنين تأكيد التنفير عنه وتوقيف العقل على ما فيه من القبح. الثاني : أنّ قوله تعالى :﴿ إلهين ﴾ لفظ واحد يدل على أمرين ثبوت الإله وثبوت التعدّد فإذا قيل : لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإلهين أو عن إثبات التعدّد أو عن مجموعهما فلما قال : لا تتخذوا إلهين اثنين ظهر أنّ قوله لا تتخذوا نهي عن إثبات التعدّد فقط. الثالث : في الآية تقديم وتأخير، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين. الرابع : أنّ الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنيّ به منهما والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، ثم علل تعالى ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال جل ذكره :﴿ إنما هو ﴾ أي : الإله المفهوم من لفظ إلهين الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على من وجوده من ذاته. ﴿ إله ﴾ أي : مستحق هذا الوصف على الإطلاق ﴿ واحد ﴾ لا يمكن أن يثنى بوجه ولا أن يجزأ بغاية وغير غاية لغناه المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه. ولما دلت الدلائل على أنه لا بدّ للعالم من إله وثبت أنّ القول بوجود إلهين محال، وثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، قال تعالى بعده :﴿ فإياي فارهبون ﴾ أي : خافون دون غيري والرهبة مخافة مع حزن واضطراب، وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى خطاب الحضور، وهو من طريقة الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله فإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.
ولما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أنّ إله العالم لا شريك له في الإلهية وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيده وفي ملكه وتصرفه وتحت قهره وذلك قوله تعالى :﴿ وله ﴾ أي : الله، وأعاد الضمير في قوله تعالى له على الله الاسم الأعظم، العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى. ﴿ ما في السماوات والأرض ﴾ أي : ما تعبدونه وغيره، فكيف يتصوّر أن يكون شيء من ذلك إلهاً، وهو ملكه مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما. ﴿ وله الدين ﴾ أي : الطاعة وقوله تعالى :﴿ واصباً ﴾ أي : دائماً حال من الدين والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع، إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه وتعالى فطاعته واجبة أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً. وقوله تعالى :﴿ أفغير الله ﴾ أي : الذي له العظمة كلها ﴿ تتقون ﴾ استفهام إنكار والمعنى : أنكم بعدما عرفتم أنّ إله العالم واحد، وعرفتم أنّ كل ما سواه محتاج إليه في وقت دوامه وبقائه، فبعد العلم بذلك، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى ! أو رهبة من غير الله تعالى !
ولما بيّن تعالى أنّ الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله، بيّن أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى بقوله تعالى :﴿ وما بكم من نعمة ﴾ أي : من نعمة الإسلام وصحة الأبدان وسعة في الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد أو جاه ﴿ فمن الله ﴾، هو المتفضل على عباده، فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه ؛ لأنّ الشكر إنما يجب على النعمة، فثبت بهذا أنّ العاقل يجب عليه أن لا يخاف، وأن لا يشكر إلا الله تعالى.
تنبيه : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإيمان حصل بخلق الله فقالوا : الإيمان نعمة، وكل نعمة فمن الله، ينتج أنّ الإيمان من الله، وأيضاً النعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعاً به، وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان، فثبت أنّ الإيمان نعمة، والمسلمون مطبقون على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان. والنعم إمّا دينية وإمّا دنيوية. أمّا النعم الدينية، فهي إمّا معرفة الحق لذاته، وإمّا معرفة الخير لأجل العمل به. والنعم الدنيوية إمّا نفسانية، وإمّا بدنية، وإمّا خارجية، وكل واحد من هذه الثلاثة جنس، تحته أنواع خارجة عن الحصر. كما قال تعالى :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ [ إبراهيم، ٣٤ ] وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند ذكر هذه الآية.
ولما كان إخلاصهم له مع ادعائهم ألوهية غيره أمراً مستبعداً، عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى :﴿ ثم إذا مسكم ﴾ أي : أصابكم أدنى مس. ﴿ الضّرّ ﴾ بزوال نعمة مما أنعم به عليكم. وقال ابن عباس : يريد الأسقام والأمراض والحاجة. ﴿ فإليه ﴾ أي : لا إلى غيره ﴿ تجأرون ﴾ أي : ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، لما ركز في فطرتكم الأوّلية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
﴿ ثم إذا كشف ﴾ سبحانه وتعالى. ﴿ الضّرّ ﴾ أي : الذي مسكم. ﴿ عنكم ﴾ ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران، فقال :﴿ إذا فريق ﴾ أي : جماعة، هم أهل فرقة وضلال. ﴿ منكم ﴾ أي : أيها العباد. ﴿ بربهم ﴾ الذي تفرّد بالإنعام عليهم. ﴿ يشركون ﴾ أي : يوقعون الإشراك بعبادة غيره.
﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ أي : من النعم. تنبيه : في هذه اللام وجهان : الأوّل : أنها لام كي، فيكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر. الثاني : أنها لام العاقبة، كما في قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً ﴾ [ القصص، ٨ ] والمعنى : عاقبة أمرهم هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء، وكشفنا عنهم الضر والبلاء.
ثم إنه تعالى توعدهم بعد ذلك بقوله تعالى :﴿ فتمتعوا ﴾ أي : باجتماعكم على عبادة الأصنام، وهذا لفظه أمر، والمراد منه التهديد، كقوله تعالى :﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ﴾ [ الإسراء، ١٠٧ ]. وقوله تعالى :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ الكهف، ٢٩ ]. ﴿ فسوف تعلمون ﴾ عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من العذاب.
ولما بين تعالى بالدلائل القاهرة، فساد قول أهل الشرك والتشبيه، شرح تفاصيل أقوالهم، وبين فسادها بأنواع الأوّل قوله تعالى :﴿ ويجعلون ﴾، أي : المشركون. ﴿ لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم ﴾، من الحرث والأنعام، بقولهم :" هذا لله وهذا لشركائنا ".
تنبيه : الضمير في قوله تعالى :﴿ لما لا يعلمون ﴾، عائد على الأصنام، أي : أنّ الأصنام لا تعي شيئاً البتة ؛ لأنها جماد والجماد لا علم له. وقيل : عائد إلى المشركين، ومعنى لا يعلمونها، أنهم يسمونها آلهة، فيعتقدون فيها جهالات، مثل : أنها تنفعهم وتشفع لهم، وليس الأمر كذلك.
ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، بقوله تعالى :﴿ تالله لتسألنّ ﴾، سؤال توبيخ، وفيه التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه. ﴿ عما كنتم تفترون ﴾، على الله من أنه أمركم بذلك. تنبيه : في وقت السؤال احتمالان، الأوّل : أنه يقع عند القرب من الموت، الثاني : أنه يقع في الآخرة. قال الرازي : وهذا أولى.
النوع الثاني : قوله تعالى :﴿ ويجعلون لله البنات ﴾، ونظيره قوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ﴾، كانت خزاعة وكنانة يقولون، الملائكة بنات الله. قال الرازي : أظنّ أنّ العرب إنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة ؛ لاستتارهم عن العيون، فأشبهوا النساء في الاستتار، فأطلقوا عليهم البنات. قال ابن عادل : وهذا الذي ظنه ليس بشيء ؛ فإنّ الجنّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليهم لفظ البنات.
ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول، قال تعالى :﴿ سبحانه ﴾، وفيه وجهان : الأوّل : أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه. الثاني : تعجيب الخلق من هذا الأمر، والجهل الصريح ؛ وهو وصف الملائكة بالأنوثة، ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى، قيل في التفسير : معناه : معاذ الله، وذلك مقارب للوجه الأوّل. ولما ذكر الله تعالى إلى ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف، بقوله تعالى :﴿ ولهم ما يشتهون ﴾، من البنين، وقد يكونون أعداء أعدائهم.
ثم إنه تعالى ذكر، أنّ الواحد من هؤلاء المشركين، لا يرضى بالولد البنت لنفسه، فكيف يثبته لله تعالى ؟ فقال :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ﴾، أي : أخبر بولادتها. ﴿ ظل وجهه ﴾، أي : صار، أو دام النهار كله. ﴿ مسودًّا ﴾، من الكآبة والحياء من الناس، واسوداد الوجه، كناية عن الاغتمام والتخجيل، كما أنّ بياض الوجه وإشراقه، كناية عن الفرح والسرور. ﴿ وهو كظيم ﴾، أي : مملوء غيظاً على المرأة، ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة : الخبر الذي يغير البشرة، من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا يكون إلا بالخبر الأوّل ؛ فالمراد بالبشارة هنا : الإخبار كما مرّ. وقول الرازي : إنّ إطلاقه على الخير والشر، داخل في التحقيق، خلاف المشهور.
﴿ يتوارى ﴾، أي : يستحي، ﴿ من القوم ﴾، أي : من الرجال الذين هو فيهم، ﴿ من سوء ما بشر به ﴾، خوفاً من التعيير ؛ وذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية إذا قرب ولادة زوجة أحدهم، توارى عن القوم إلى أن يعلم ما ولد له، فإن ولد له ذكر، ابتهج وسرّ بذلك وظهر، وإن كانت أنثى، حزن ولم يظهر أياماً متردّداً ماذا يفعل بذلك الولد، ﴿ أيمسكه ﴾، أي : يتركه بغير قتل، ﴿ على هون ﴾، هوان وذل، ﴿ أم يدسه في التراب ﴾، وذكر الضمير في " يمسكه ويدسه " نظراً للفظ الولد، أو لكون الأنثى ولداً كما علم مما مرّ. قال ابن ميلق : قال المفسرون : كانت المرأة إذا أدركها المخاض، احتفرت حفرة وجلست على شفيرها، فإن وضعت ذكراً أظهرته، وظهر السرور على أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها، فإن شاء أمسكها على هون، وإن شاء أمرها بإلقائها في الحفرة، وردّت التراب عليها وهي حية لتموت، انتهى. وعن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله، إني واريت ثمان بنات في الجاهلية. فقال له صلى الله عليه وسلم :«أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. فقال : يا نبيّ الله إني ذو إبل. قال : اهد عن كل واحدة منهن هدياً ». وروي أنّ رجلاً قال : يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام مذ قد أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة، فأمرت امرأتي أن تزينها، فأخرجتها فلما انتهيت إلى واد فيه بئر بعيدة القعر ألقيتها فيها، فقالت : يا أبت قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلى الله عليه وسلم «ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار »، وكانوا في الجاهلية مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يحفر الحفرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية خوفاً من أن يطمع فيهنّ غير الأكفاء، وتارة خوفاً من الفقر وكثرة العيال ولزوم النفقة. وكان الذي منهم يريد أن يحيي ابنته، تركها حتى تكبر، ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر، ويجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية. قال الله تعالى :﴿ ألا ساء ﴾، أي : بئس، ﴿ ما يحكمون ﴾، حكمهم هذا وذلك، لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأوّلها : أنه يسود وجهه، وثانيها : أنه يختفي من القوم من شدّة نفرته عن البنت. وثالثها : أنّ الولد محبوب بحسب الطبيعة، ثم إنه بسبب نفرته عنها يقدم على قتلها، وذلك يدل على أنّ النفرة عن البنت والاستنكاف عنها، قد بلغ مبلغاً لا يزاد عليه، فكيف يليق بالعاقل أن يثبت ذلك لإله عالم مقدس عال عن مشابهة جميع المخلوقات، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ٢١ تلك إذاً قسمة ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١، ٢٢ ].
ثم قال تعالى :﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ وهم الكفار، ﴿ مثل السوء ﴾، أي : الصفة السوء، بمعنى : القبيحة، وهي قتلهم البنات، مع احتياجهم إليهنّ للنكاح. ﴿ ولله المثل الأعلى ﴾، أي : الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال، من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس : مثل السوء النار، والمثل الأعلى، شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قيل : كيف جاء لله المثل الأعلى مع قوله تعالى :﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾ [ النحل، ٧٤ ]، أجيب : بأنّ المثل الذي يضربه الله تعالى حق وصدق، والذي يذكره غيره باطل. ﴿ وهو العزيز ﴾، الذي لا يمتنع عليه شيء، فلا نظير له. ﴿ الحكيم ﴾ الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله.
ولما حكى الله تعالى عن القوم عظيم كفرهم، وقبيح قولهم، بين أنه تعالى يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة، إظهاراً للفضل والرحمة والكرم بقوله تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ﴾، أي : بسبب كفرهم ومعاصيهم، ﴿ ما ترك عليها ﴾، أي : على الأرض، وإنما أضمر ذكرها من غير ذكر ؛ لدلالة الناس والدابة عليها. ﴿ من دابة ﴾، أي : أنّ الله تعالى لو آخذ الناس بظلمهم، لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. فإن قيل : اسم الناس جنس يشمل الكل ؛ فيدخل في ذلك الأنبياء ؛ فيدل على عدم عصمتهم ؟ أجيب : بأنّ ذلك عام مخصوص بقوله تعالى :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ﴾ [ فاطر، ٣٢ ]، فالمذكور في هذه الآية، إما كل العصاة المستحقين العقاب، أو الذين تقدّم ذكرهم من المشركين، ومن الذين أثبتوا لله البنات، أو جميع الكفار بدليل قوله تعالى :﴿ إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا ﴾ [ الأنفال، ٥٥ ]. وقال قتادة : قد فعل الله تعالى ذلك في زمن نوح عليه السلام، فأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض، إلا من كان في السفينة مع نوح عليه السلام. روي أنّ أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سمع رجلاً يقول : إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال : بئسما قلت، إنّ الحبارى تموت هزالاً من ظلم الظالم. وقال ابن مسعود : إنّ الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم، والجعل بضم الجيم وفتح العين، دويبة، قاله الجوهريّ. وقيل في معنى الآية : ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم، لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء ولم يبق في الأرض أحد. ﴿ ولكن يؤخرهم ﴾، أي : يمهلهم، بفضله، وكرمه، وحلمه، ﴿ إلى أجل مسمى ﴾، أي : إلى انتهاء آجالهم، وانقضاء أعمارهم، ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ﴾، عنه، ﴿ ولا يستقدمون ﴾، أي : لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله تعالى لهم، ولا ينتقصون منه.
تنبيه : هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين، فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو : بإسقاط إحدى الهمزتين مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل : بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ. والباقون : بتحقيق الهمزتين.
والنوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار، وحكاها الله تعالى عنهم، قوله :﴿ ويجعلون لله ما يكرهون ﴾، لأنفسهم من البنات، وأراذل الأحوال، والشركاء في الرياسة. ثم وصف الله تعالى جراءتهم مع ذلك، بقوله تعالى :﴿ وتصف ﴾، أي : وتقول، ﴿ ألسنتهم الكذب ﴾، أي : مع ذلك، مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل، ثم بيّنه بقوله تعالى :﴿ أنّ لهم الحسنى ﴾، أي : عنده، أي : الجنة، كقوله تعالى :﴿ ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى ﴾، ولا جهل أعظم، ولا أحكم سوءاً، من أن تقطع بأنّ من تجعل له ما تكره أن يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل : ما لهم عنده ؟ فقيل :﴿ لا جرم ﴾، أي : لا ظن ولا تردّد، في ﴿ أن لهم النار ﴾، أي : هي جزاء الظالمين، وقيل :﴿ لا جرم ﴾، بمعنى : حقاً. ﴿ وأنهم مفرطون ﴾، أي : متركون فيها، أو مقدّمون إليها، وقرأ نافع بكسر الراء، أي : متجاوزون الحد، والباقون بالفتح. فإن قيل : إنهم لم يقرّوا بالبعث، فكيف يقولون إن لنا الحسنى عند الله ؟ أجيب : بأنهم قالوا : إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة، وقيل إنه كان في العرب جمع يقرّون بالبعث والقيامة، وأنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت، ويتركونه إلى أن يموت، ويقولون : إنّ ذلك الميت إذا حشر، فإنه يحشر معه مركوبه.
ثم بين تعالى أنّ مثل هذا الصنيع الذي يصدر من مشركي قريش، قد صدر من سائر الأمم السابقين، في حق الأنبياء المتقدّمين، بقوله تعالى :﴿ تالله ﴾، أي : الملك الأعلى. ﴿ لقد أرسلنا ﴾، أي : بما لنا من القدرة رسلاً من الماضين، ﴿ إلى أمم من قبلك ﴾، كما أرسلنا إلى هؤلاء، ﴿ فزين لهم الشيطان ﴾، أي : المحترق بالغضب المطرود باللعنة، ﴿ أعمالهم ﴾، الخبيثة من الكفر والتكذيب، كما زين لهؤلاء، فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم، وهذا يجري مجرى التسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بالإلقاء للوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة على أن يضلّ أحداً أو يهدي أحداً، وإنما له الوسوسة فقط. فمن أراد الله تعالى شقاوته، سلطه الله عليه حتى يقبل وسوسته. ﴿ فهو وليهم اليوم ﴾، أي : في الدنيا، وإنما عبر باليوم عن زمانها، أي : فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة، على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، أي : لا ولي لهم غيره، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصرهم ؟ وقيل : الضمير لقريش، أي : زين الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم، وهو وليّ هؤلاء القوم يغرّهم ويغريهم، وقيل : يجوز أن يقدّر مضاف، أي : فهو ولي أمثالهم، والوليّ القرين والناصر، فيكون نعتاً للناصر لهم، على أبلغ الوجوه. ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾، أي : مؤلم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد، قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى :﴿ وما أنزلنا ﴾، أي : بما لنا من العظمة من جهة العلوّ. ﴿ عليك ﴾ يا أشرف المرسلين ﴿ الكتاب ﴾، أي : القرآن. ﴿ إلا لتبين لهم ﴾، أي : للناس. ﴿ الذي اختلفوا فيه ﴾، من أمر الدين، مثل التوحيد والشرك، وإثبات المعاد ونفيه ؛ فإنه كان فيهم من ينكر البعث، ومنهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة، وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة. فإن قيل : اللام في " لتبين لهم " تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض، كقوله تعالى :﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس ﴾ [ إبراهيم، ١ ]. وقوله :﴿ وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون ﴾ [ الذاريات، ٥٦ ]، أجيب : بأنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل، وجب صرفه إلى التأويل. وقوله تعالى :﴿ وهدى ورحمة ﴾، أي : وإكراماً بمحبة، معطوفان على محل " لتبين "، إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما ؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام على " لتبين " ؛ لأنه فعل المخاطب، لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل، ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم، نفاه بقوله تعالى :﴿ لقوم يؤمنون ﴾، ونظيره قوله تعالى في أوّل البقرة :﴿ هدى للمتقين ﴾ [ البقرة، ٢ ]. وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به، كما في قوله تعالى :﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ [ النازعات، ٤٥ ] ؛ لأنه إنما انتفع بإنذراه هذا القوم فقط. ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب في الإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة : الإلهيات، والنبوّات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار، وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات، شرع في ذكر الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث، على وجه غير المتقدّم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلى من ضياء النهار، فعطف على قوله :﴿ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ﴾ [ النحل، ١٩ ]. قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي.
﴿ والله ﴾، أي : الذي له الأمر كله. ﴿ أنزل من السماء ﴾، في الوقت الذي يريده. ﴿ ماء ﴾، بالمطر والثلج والبرد. ﴿ فأحيا به ﴾، أي : بذلك الماء، ﴿ الأرض ﴾، بأنواع النبات. ﴿ بعد موتها ﴾، أي : يبسها. ﴿ إنّ في ذلك ﴾ المذكور، ﴿ لآية ﴾، أي : دلالة واضحة على كمال قدرته تعالى. ﴿ لقوم يسمعون ﴾، أي : سماع تدبر وإنصاف ونظر ؛ لأنّ سماع القلوب هو النافع لسماع الآذان، فمن سمع آيات القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه فكأنه أصم، لم يسمع فلم ينتفع بالآيات.
ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية، الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات، وهو قوله :﴿ وإنّ لكم في الأنعام لعبرة ﴾، أي : اعتباراً إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا. وقوله تعالى :﴿ نسقيكم مما في بطونه ﴾، استئناف بيان للعبرة، وإنما ذكر لفظ الضمير ؛ لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، كالرهط والقوم، ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى ؛ لكونها سورة النعم، وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى ؛ فإنّ الأنعام اسم جمع، ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم : ثوب أكياش، بياء تحتية وشين معجمة : ضرب من الثياب يغزل مرتين. ومن قال : إنه جمع نعم، جعل الضمير للبعض ؛ فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها. وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون، تقول : سقيته حتى روي. قال تعالى :﴿ وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ﴾ [ الإنسان، ٢١ ]. والباقون بضمها من قولك : أسقاه : إذا جعل له شراباً، كقوله تعالى :﴿ وأسقيناكم ماءً فراتاً ﴾ [ المرسلات، ٢٧ ]. ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره، قدم قوله تعالى :﴿ من بين فرث ﴾، وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً. ﴿ ودمٍ لبناً خالصاً ﴾، أي : صافياً، خلقه الله وسطاً بين الفرث والدم، يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله، لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً، والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة، تقتسمها فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش، فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم. ﴿ سائغاً للشاربين ﴾، أي : سهل المرور في الحلق. وقيل : لم يغص أحد باللبن قط.
تنبيه : قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك ؛ لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبر تدبيراً آخر بقلب ذلك الدم لبناً، ثم دبر تدبيراً آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن، فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة إلى حالة، فإذا كان كذلك، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل، كما كانت قبل ذلك، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع، وفي حدوث اللبن في الثدي، واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الطفل، مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر، وبيانه من وجوه :
الأوّل : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شراباً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد، ويبقى الثفل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ، وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح، فحصول الانطباق تارة، والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم.
الثاني : عند تولد اللبن في الضرع، يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقباً صغيرة ومسامّ ضيقة، وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا، كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة. وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل، فالحكمة في إحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة، فكل ما كان لطيفاً خرج، وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج، فبهذا الطريق يصير اللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل، سائغاً للشاربين.
الثالث : أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص، فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل، فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
وقوله تعالى :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب ﴾، متعلق بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي : من عصيرهما، وحذف لدلالة نسقيكم عليه، وقوله تعالى :﴿ تتخذون منه سكراً ﴾، بيان وكشف عن كنه الإسقاء. قال الواحدي : الأعناب عطف على الثمرات، لا على النخيل ؛ لأنه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة، وليس له ثمرة أخرى. ﴿ ورزقاً حسناً ﴾، كالتمر والزبيب والدبس والخل.
تنبيه : في تفسير السكر وجوه : الأوّل : هو الخمر، سميت بالمصدر، من سكر سكراً وسكراً، نحو : رشد رشداً ورشداً. فإن قيل : الخمر محرمة، فكيف ذكرها الله تعالى في معرض الأنعام ؟ أجيب عن ذلك بوجهين : أحدهما : أنّ هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكأنّ نزول هذه الآية كان في الوقت الذي كانت الخمرة فيه غير محرمة، وممن قال بنسخها النخعي والشعبي. الثاني : أنّ الآية جامعة بين العتاب والمنة، فالعتاب بالنسبة إلى السكر، والمنة بالنسبة إلى " رزقاً حسناً ".
الوجه الثاني : أنّ السكر هو النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر، فإذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد، فهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى حد السكر، ويحتج بهذه الآية، وبقوله صلى الله عليه وسلم :«الخمر حرام لعينها » ؛ وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر. وكل من أثبت هذه المغايرة قال : إنه النبيذ المطبوخ.
الوجه الثالث : أنّ السكر هو الطعام، قاله أبو عبيدة، واحتج عليه بقول الشاعر :
جعلت إعراض الكرام سكراً ***
أي : تنقلب بإعراضهم، بأن جعلتها نقلاً وتناولتها، والنقل : ما ينتقل به على الشراب. قال البغوي : وأولى الأقاويل أن قوله تعالى :﴿ تتخذون منه سكراً ﴾، منسوخ انتهى. ويدل له قول الحسن : ذكر الله نعمته عليهم في الخمر قبل أن يحرّمها عليهم. وروي عن ابن عباس قال : السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما أحل من ثمرها. وروي عنه أيضاً : السكر الحرام منه، والرزق زبيبه وعنبه ومنافعه. ثم قال تعالى :﴿ إنّ في ذلك ﴾، المذكور، ﴿ لآية ﴾، أي : دلالة على قدرته تعالى. ﴿ لقوم يعقلون ﴾، أي : يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات، فيعلمون أنّ هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى، فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم.
ولما بيّن أنّ إخراج الألبان وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً. ذكر أنّ إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة، وهي النحل، دليل قاطع، وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود بقوله تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾، وحي إلهام. قال الضحاك : ألهمها ولم يرسل إليها رسولاً، والمراد من الإلهام : أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه : الأوّل : ما ذكر الله بقول تعالى :﴿ أن اتخذي ﴾، أي : بأن اتخذي، ويجوز أن تكون مفسرة ؛ لأنّ في الإيحاء معنى القول. ﴿ من الجبال بيوتاً ﴾ تأوين إليها، وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببيت الإنسان، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرّد طبعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم، مثل تلك البيوت إلا بآلات وأنظار دقيقة. الثاني : أنه ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدّسات، كأن كانت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال، فإنه تبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة، فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب. الثالث : أنّ النحل يحصل بينها واحد كالرئيس للبقية، وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه، وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع : أنها إذا انفردت عن وكرها، ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، فبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالة عجيبة، فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة، كان ليس إلا على سبيل الإلهام : وهو حالة شبيهة بالوحي، والوحي قد ورد في حق الأنبياء، كقوله تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ﴾ [ الشورى ٥١ ]. وفي حق الأولياء قال تعالى :﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين ﴾ [ المائدة، ١١١ ]. وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى :﴿ وأوحينا إلى أمّ موسى ﴾. [ القصص، ٧ ] وفي حق سائر الحيوانات خاص. قال الزجاج : يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً ؛ لأنّ الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها. وقال غيره : النحل يذكر ويؤنث، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى ؛ وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. ﴿ و ﴾ اتخذي ﴿ من الشجر ﴾، أي : الصالحة بيوتاً، ﴿ و ﴾ اتخذي ﴿ مما يعرشون ﴾، أي : الناس، فيبنون تلك الأماكن، وذلك أنّ النحل منه وحشي، وهو الذي يسكن الجبال والشجر والكهوف، ومنه أهليّ، وهو الذي يأوي إلى البيوت وتربيه الناس عندهم، وقد جرت العادة أنّ الناس يبنون للنحل الأماكن حتى يأوي إليها، وذكر ذلك بحرف التبعيض ؛ لأنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من الكرم، أو سقف، ولا في كل مكان منها. وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء، والباقون بكسرها.
تنبيه : ظاهر قوله تعالى :﴿ اتخذي ﴾، أمر، وقد اختلفوا فيه، فمن الناس من يقول : لا بُعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول، ولا بدع أن يتوجه عليها من الله أمر ونهي. وقال آخرون : بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ﴾. [ النمل، ١٨ ].
ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال :﴿ ثم كلي من كل الثمرات ﴾ أي : من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي ؛ إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها.
تنبيه : لفظ " من " هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية. ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة، في معاناة السير إليه، نبه على خرقه العادة في تيسيره لها، بقوله تعالى :﴿ فاسلكي سبل ربك ﴾، أي : الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها، وتدخلي فيها ؛ لأجل طلب الثمار، وقوله تعالى :﴿ ذللاً ﴾، جمع ذلول، حال من السبل، أي : مسخرة لك، فلا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضلي عن العود وإن بعدت. وقيل : من الضمير في اسلكي، أي : منقادة لأربابها، حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر، حيث شاؤوا وأرادوا، لا تستعصي عليهم. وقوله تعالى :﴿ يخرج من بطونها ﴾، فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ؛ لأنه محل الإنعام عليهم، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم، ﴿ شراب ﴾، أي : عسل، ﴿ مختلف ألوانه ﴾، ما بين أبيض، وأحمر، وأصفر، وغير ذلك من ألوان العسل، وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. وقال الرازي : إنه رأى في بعض كتب الطب : أنّ العسل طل من السماء، ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر، فتجمعه النحل، فتأكل بعضه، وتدّخر بعضه في بيوتها ؛ لأنفسها لتتغذى به، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل، وقال : هذا القول أقرب إلى العقل ؛ لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل، وأيضاً : إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب، عن قوله تعالى :﴿ يخرج من بطونها شراب ﴾، إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى : بطنا، ًفقوله :﴿ يخرج من بطونها ﴾، أي : من أفواهها. انتهى.
والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر ؛ لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل، وكذا توجد لذتها، وريحها، وطعمها فيه أيضاً، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم له :«أكلت مغافير ؟ قال : لا، قالت : ما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل. قالت : جرست نحله العرفط ». والعرفط : شجر الطلع له صبغ يقال له : المغافير كريه الرائحة، فمعنى :" جرست نحله العرفط "، أكلت ورعت من العرفط، الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه، طعم ما يأكله النحل، ولونه، وريحه، لا ما قاله الأطباء من أنه طل ؛ لأنه لو كان طلاً لكان على لون واحد. وقوله : كل تجويف في داخل البدن يسمى : بطناً، خلاف الظاهر ؛ لأنّ لفظ البطن إذا أطلق، لم يرد به إلا العضو المعروف : بطن الإنسان وغيره. ﴿ فيه ﴾، أي : الشراب الذي يخرج من بطون النحل، ﴿ شفاء للناس ﴾، من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود، إمّا لبعضها : كما دلّ عليه تنكير شفاء، وإمّا لكلها : بضميمته إلى غيره ؛ إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، أو بدونه بنيته، وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة، ويضرّ بالشباب المحرورين ويعطش. قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل. وروى نافع، أنّ ابن عمر ما كانت قرحة ولا شيء، إلا لطخ الموضع بالعسل. ويقرأ :﴿ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ﴾.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :«جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ أخي يشتكي بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم :" اسقه العسل " فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع ؟ فقال :" اذهب فاسقه العسل، فقد صدق الله، وكذب بطن أخيك "، فسقاه، فشفاه الله، فبرأ، فكأنما نشط من عقال » فقوله صلى الله عليه وسلم :«صدق الله، وكذب بطن أخيك » يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي الإلهي، أنّ العسل الذي أمره بشربه، سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال قال : صدق الله، يعني : فيما وعده من أنّ فيه شفاء للناس، وكذب بطن أخيك، يعني : باستعجالكم للشفاء في أوّل مرّة. وقال مجاهد : الضمير في :﴿ فيه شفاء للناس ﴾، راجع للقرآن ؛ لأنّ فيه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة. وهو : هدى ورحمة للناس، وعلى هذا تمت قصة تولد العسل من النحل عند قوله تعالى :﴿ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ﴾، ثم ابتدأ وقال :﴿ فيه شفاء للناس ﴾، أي : في هذا القرآن. قال الرازي : وهذا قول ضعيف، ويدل عليه وجهان : الأوّل : أنّ الضمير في قوله تعالى :﴿ فيه شفاء للناس ﴾، يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله تعالى :﴿ شراب مختلف ألوانه ﴾. وأمّا الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن، مع أنه غير مذكور فيما سبق، فهو غير مناسب. والثاني : حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى :﴿ إنّ في ذلك ﴾، أي : المذكور، ﴿ لآية لقوم يتفكرون ﴾، أي : في اختصاص النحل بتلك الطعوم الرقيقة، واللطائف الخفية مثل : بناء البيوت المسدسة، وغير ذلك، فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا، على وحدانيتنا وقدرتنا، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد، وتارة بالجمع، ونوّعها تارة بالعقل، وتارة بالفكر، وتارة بالذكر، وتارة بغيرها.
ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم، ونبههم على عظيم غفلتهم، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك، فقال :﴿ والله ﴾، أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، ﴿ خلقكم ﴾، أي : أوجدكم من العدم، وأخرجكم إلى الوجود، ولم تكونوا شيئاً. ﴿ ثم يتوفاكم ﴾، أي : عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان، فلا يقدر الصغير أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدّم، فمنكم من يموت على حال قوّته. ﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾، أي : أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء : عمر الإنسان له أربع مراتب : سنّ الطفولية والنمو، وهو : أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو : غاية سنّ الشباب، وبلوغ الأشدّ، ثم المرتبة الثانية : سنّ الوقوف، وهو : من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة، وهو : غاية القوّة، وكمال العقل. والمرتبة الثالثة : سنّ الكهولة، وهو : من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص، لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر، ثم المرتبة الرابعة : سنّ الشيخوخة والانحطاط : من الستين إلى آخر العمر، خمسة وستون سنة يتبين النقص، ويكون الهرم والخرف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أرذل العمر : خمسة وسبعون سنة، وقيل ثمانون سنة. وقال قتادة : تسعون سنة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«اللهمّ إني أعوذ بك من العجز، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات ». وفي رواية عنه كان يقول :«اللهمّ إني أعوذ بك من البخل، والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات ». ﴿ لكيلا يعلم بعد علم شيئاً ﴾، أي : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة، والعقل وسوء الفهم.
تنبيه : هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه عامّ، والقول الثاني : أنه مختص، إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يقال في حقه : إنه ردّ إلى أرذل العمر. قال الرازي : والدليل عليه قوله تعالى :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ٥ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ التين : ٥، ٦ ] فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين. وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة. وقال في قوله تعالى :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ : هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس : قوله :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾، يريد الكافرين، ثم استثنى المؤمنين فقال :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾، وهذا يؤيد ما مرّ. ﴿ إن الله عليم ﴾ بمقادير أعمارهم، ﴿ قدير ﴾ يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون، لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.
ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار، المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار، للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال :﴿ والله ﴾، أي : الذي له الأمر كله، ﴿ فضل بعضكم ﴾، أيها الناس، ﴿ على بعض في الرزق ﴾، فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم، فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً، يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً، تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة. ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله، لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً، وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً، علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ﴾ [ الزخرف، ٣٢ ]، فاتقوا الله، وأجملوا في طلب الرزق، وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار، وأنشد سفيان بن عيينة يقول :
كم من قويّ قويّ في تقلبه مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط كأنه من خليج البحر يغترف
وحكي أنّ سليمان المهلبي أرسل إلى الخليل بن أحمد بمئة ألف درهم فردّها الخليل وكتب إليه هذه الأبيات :
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحي بنفسي أني لا أرى أحداً يموت جوعاً ولا يبقى على حال
فالعجز عن قدرها العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وقال الشافعي رحمه الله تعالى :
ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
تنبيه : هذا التفاوت ليس مختصاً بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق، والصحة والسقم، والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له. قال الرازي : وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، فكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه الكثيرة العطرة عنده، وما كان يمكنه أن يتناول شيئاً منها، وكان من الفقراء من هو صحيح المزاج وقوي البنية كامل القوّة، وما كان يجد ملء بطنه طعاماً، فذلك الملك وإن كان يفضل هذا الفقير في المال إلا أنّ هذا الفقير كان يفضل ذلك الملك في الصحة والقوّة، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه فيه، فنسأل الله تعالى أن يغنينا من فضله، وأن يرضينا بما قسم لنا إنه كريم جواد.
ثم ضرب الله تعالى مثلاً للذين جعلوا لله شركاء بقوله تعالى :﴿ فما الذين فضلوا ﴾، أي : في الرزق، وهم الموالي، ﴿ برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ﴾، أي : بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها، بينهم وبين مماليكهم، ﴿ فهم ﴾، أي : المماليك والموالي، ﴿ فيه سواء ﴾، أي : شركاء، يقول الله تعالى : هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء، فكيف يجعلون بعض عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني، وقيل : معنى الآية : أنّ الموالي والمماليك، الله رازقهم جميعاً، فهم في رزقه سواء، فلا تحسبن الموالي يردّون أرزاقهم على مماليكهم من عند أنفسهم، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك. والمقصود منه : بيان أنّ الرازق هو الله تعالى لجميع خلقه، وأنّ الموالي والمماليك في ذلك الرزق سواء، وأنّ المالك لا يرزق المملوك، وإنما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم، فالرازق للمالك والمملوك هو الله تعالى.
ولما قرّر سبحانه وتعالى هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق، فعند هذا قال :﴿ أفبنعمة الله ﴾، في تقرير هذه البيانات، وإيضاح هذه البينات، ﴿ يجحدون ﴾، أي : يكفرون، وفي ذلك إنكار على المشركين، حيث جحدوا نعمته، وعبدوا غيره، وجعلوا له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوّون بينهم وبينه في ذلك. وقرأ شعبة بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
ثم إنه تعالى ذكر نوعاً آخر من أحوال الناس ؛ ليستدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم، وتنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم بقوله تعالى :﴿ والله ﴾، أي : الذي له تمام القدرة وكمال العلم، ﴿ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ﴾، أي : من جنسكم ؛ لتستأنسوا بها ؛ ولتكون أولادكم منكم، فخلق حوّاء من ضلع آدم، وسائر الناس من نطف الرجال والنساء، فهو خطاب عام، فتخصيصه بآدم وحوّاء فقط خلاف الدليل، والمعنى : أنه تعالى خلق النساء لتتزوّج بهنّ الذكور، ومعنى من أنفسكم : كقوله تعالى :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾ [ البقرة، ٥٤ ]، ﴿ فسلموا على أنفسكم ﴾ [ النور، ٦١ ]، أي : بعضكم بعضاً، ونظيره قوله تعالى :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ﴾ [ الروم، ٢١ ]. ﴿ وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ﴾، والحفدة جمع حافد : وهو المسرع بالخدمة، المسارع إلى الطاعة، ومنه قول القانت : وإليك نسعى ونحفد، أي : نسرع إلى طاعتك، هذا أصله في اللغة.
واختلف فيه أقوال المفسرين، فقال ابن مسعود والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته. وعن ابن مسعود أنهم أصهاره، فهو بمعنى الأوّل، وعلى هذا يكون معنى الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوّجونهنّ، فيحصل لكم بسببهنّ الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك : هم الخدم. وقال مجاهد : هم الأعوان، وكل من أعانك فهو حفيدك. وقال عطاء : هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه. وقال الكلبي ومقاتل : البنون : هم الصغار، والحفدة : كبار الأولاد الذين يعينون الرجل الذين ليسوا منه، أي : أولاد المرأة من الزوج الأوّل. قال الرازي : والأولى دخول الكل فيه ؛ لأنّ اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم، كأنه قيل : جعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون، أي : جامعون بين الأمرين انتهى. ومع هذا، فالمشهور أنّ الحافد ولد الولد من الذكور والإناث.
فائدة : قال الأطباء وأهل الطبيعة : المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر، ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم، كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة، وإذا انصب من الخصية اليسرى، ثم انصب إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة، وإذا انصب إلى الخصية اليمنى، وانصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإذا انصب إلى الخصية اليسرى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور. وحاصل كلامهم أنّ الذكور الغالب عليهم الحرارة واليبوسة، والغالب على الإناث البرودة والرطوبة، وهذه العلة ضعيفة ؛ فإنّ في النساء من مزاجها في غاية السخونة، وفي الرجال من مزاجه في غاية البرودة. فخالق الذكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم.
ولما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح، وما بينه فيه من المنافع والمصالح، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة فقال :﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾، سواء كانت من النبات : وهي الثمار والحبوب والأشربة، أو كانت من الحيوان، والمراد بالطيب : المستلذ، أو الحلال، و " من " في " من الطيبات " للتبعيض ؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها. واختلف في تفسير قوله تعالى :﴿ أفبالباطل يؤمنون ﴾، فقال ابن عباس : يعني بالأصنام. وقال مقاتل : يعني بالشيطان، وقال عطاء : يصدّقون أنّ لي شريكاً وصاحبة وولداً. ﴿ وبنعمت الله هم يكفرون ﴾، أي : بأن يضيفوها إلى غير الله تعالى، ويتركون إضافتها إلى الله تعالى. وقيل : الباطل : ما سوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما، ونعمة الله : ما أحل لهم من هذه الطيبات وتحريم الخبائث.
فائدة : رسمت " نعمت " هنا بالتاء، ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، والكسائي يقرأ بالإمالة.
ولما شرح الله تعالى الدلائل على صحة التوحيد، وأتبعها بذكر أقسام النعم العظيمة، أتبعها بالرد على عبدة الأصنام فقال :﴿ ويعبدون من دون الله ﴾، أي : غيره. ﴿ ما لا يملك لهم رزقاً ﴾، أي : تاركين عبادة من بيده جميع الأرزاق، وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات ويعبدون غيره، ثم بين تعالى جهة الرزق بقوله تعالى :﴿ من السماوات والأرض ﴾، أمّا الرزق الذي يأتي من جانب السماء فالمطر، وأمّا الذي من جانب الأرض فالنبات والثمار التي تخرج منها، وقوله تعالى :﴿ شيئاً ﴾، فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب على المصدر، أي : لا يملك لهم ملكاً، أي : شيئاً من الملك. والثاني : أنه بدل من رزقاً، أي : لا يملك لهم شيئاً. قال ابن عادل : وهذا غير مفيد ؛ إذ من المعلوم أنّ الرزق شيء من الأشياء، ويؤيد ذلك أنّ البدل لا يأتي إلا لأحد معنيين : البيان أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيان ؛ لأنه أعمّ ولا تأكيد. الثالث : أنه منصوب على أنه اسم مصدر، واسم المصدر يعمل عمل المصدر على خلاف في ذلك.
ولما كان من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق، نفى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى :﴿ ولا يستطيعون ﴾، أي : وليس لهم نوع استطاعة أصلاً. فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك ﴾، فعبر عن الأصنام بصيغة " ما " : وهي لغير العاقل، ثم جمع بالواو والنون. وقال :﴿ ولا يستطيعون ﴾، وهو مختص بمن يعقل ؟ أجيب : بأنه عبر عنها ثانياً، اعتباراً باعتقادهم أنها آلهة.
وفي تفسير قوله تعالى :﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾ وجهان : الأوّل : قال أكثر المفسرين : ولا تشبهوا الله بخلقه ؛ فإنه واحد لا مثل له ولا شبيه ولا شريك من خلقه ؛ لأنّ الخلق كلهم عبيده وفي ملكه، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، والرازق بالمرزوق، والقادر بالعاجز. الثاني : أنّ عبدة الأوثان كانوا يقولون أنّ إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا، بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هؤلاء الأصنام، ثم إنّ الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حفدة الملك، وأولئك الأكابر كانوا يخدمون الملك فكذا هاهنا. ﴿ إنّ الله ﴾، أي : الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره، ﴿ يعلم ﴾، أي : خطأ ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له. ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾، ذلك، وقيل معناه : وأنتم لا تعلمون ما عليكم من العقاب العظيم بسبب عبادة هذه الأصنام، ولو علمتموه لتركتم عبادتها.
ولما ختم تعالى إبطال مذهب عبدة الأصنام، بسبب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، أكد ذلك بضرب مثل، بقوله تعالى :﴿ ضرب الله ﴾، أي : الذي له كمال العلم وتمام القدرة. ﴿ مثلاً ﴾ بالأحرار والعبيد، ثم أبدل من مثلاً، ﴿ عبداً ﴾، وقيده بقوله تعالى :﴿ مملوكاً ﴾، ليخرج الحرّ ؛ لأنّ العبد يطلق على الحرّ بالنسبة إلى الله تعالى، وقيده بقوله تعالى :﴿ لا يقدر على شيء ﴾، ليخرج المكاتب، ومن فيه شائبة حرّية، وهذا مثل شركائهم، ثم عطف على عبداً قوله :﴿ ومن ﴾، أي : وحرًّا فهي نكرة موصوفة ؛ ليطابق عبداً. ﴿ رزقناه منا رزقاً حسناً ﴾، أي : واسعاً طيباً، ﴿ فهو ينفق منه ﴾، دائماً، وهو معنى قوله تعالى :﴿ سراً وجهراً ﴾، أي : يتصرف فيه كيف يشاء، وهذا مثل الإله، وله المثل الأعلى. ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى :﴿ هل يستوون ﴾، أي : هذان الفريقان الممثل بهما ؛ لأن المراد الجنس، فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوّى بين مخلوقين أحدهما حرّ مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوّى بين حجر من صوّان أو غيره وبين الله تعالى الذي له القدرة التامّة على كل شيء ؟ ! وقيل : ذلك تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق.
تنبيه : جواب هل يستوون، هو : لا يستوون. وقوله تعالى :﴿ الحمد لله ﴾، قال ابن عباس : الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد، وقيل المعنى : أن كل الحمد لله، وليس شيء من الحمد للأصنام ؛ لأنه لا نعمة لها على أحد ؛ لأنها جماد عاجز، أي : إنما الحمد لله لا لغيره، فيجب على جميع العباد حمد الله ؛ لأنه تعالى أهل المحامد والثناء الحسن، فكأنهم قالوا : نحن نعلم ذلك فقيل :﴿ بل أكثرهم ﴾، أي : الكفار، ﴿ لا يعلمون ﴾ ؛ لكونهم يسوّونه غيره، ومن نفى عنه أصل العلم الذي هو أعلى صفات الكمال. كان في عداد الأنعام، فهم لذلك يشبهون به ما ذكر، ويضربون له الأمثال الباطلة، ويضيفون نعمه إلى غيره.
ثم إنه تعالى ضرب لعبدة الأوثان مثلاً آخر بقوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلاً ﴾، ثم أبدل منه :﴿ رجلين ﴾، ثم استأنف البيان لما أجمل فقال :﴿ أحدهما أبكم ﴾، وهو الذي ولد أخرس، فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم الذي لا يسمع و لا يبصر، وصف الله تعالى هذا الرجل بصفة ثانية بقوله تعالى :﴿ لا يقدر على شيء ﴾ ؛ لأنه لا يفهم و لاَ يُفهم، وفي ذلك إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، ثم وصفه الله تعالى بصفة ثالثة بقوله تعالى :﴿ وهو ﴾، أي : ذلك الأبكم العاجز، ﴿ كلّ على مولاه ﴾، أي : ثقيل على من ولي أمره ويعوله، قال أهل المعاني : أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال : كلّ السكين : إذا غلظت شفرته فلم تقطع، وكلَّ اللسان : إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكل فلان عن الأمر : إذا ثقل عليه فلم ينهض فيه، ثم وصفه تعالى بصفة رابعة بقوله :﴿ أينما يوجهه ﴾، أي : يرسله ويصرفه ذلك المولى، ﴿ لا يأت بخير ﴾ ؛ لأنه عاجز لا يحسن و لا يفهم، قيل : هذا مثل شركائهم، الذين هم عيال ووبال على عبدتهم، ووبخهم الله تعالى بقوله :﴿ هل يستوي هو ﴾ أي : هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع، ﴿ ومن ﴾، أي : ورجل آخر على ضد صفته، فهو : ناطق قادر عالم فطن قوي خبير مبارك ميمون، ﴿ يأمر ﴾، أي : ورجل آخر بماله من العلم والقدرة، ﴿ بالعدل ﴾، أي : يبذل النصيحة لغيره، ﴿ وهو ﴾، في نفسه ظاهراً وباطناً، ﴿ على صراط ﴾، أي : طريق واضح ﴿ مستقيم ﴾، أي : عامل فيه بما يأمر به، قيل : هذا مثال المعبود بالحق الذي يكفي عابديه جميع المؤن، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته، وقيل : المراد من هذا الأبكم : عبد لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير، ومولاه : وهو عثمان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقيل : المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة، وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا القول كما قال الرازي أولى من الأول ؛ لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك بالبكم وبالكلّ، وبالتوجه في جهات المنافع، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله تعالى. و أيضاً المقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور، وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى، وأمّا القول الثاني فضعيف أيضاً ؛ لأنّ المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة، وذلك غير مختص بشخص معين، بل إذا حصل التفاوت في الصفات المذكورة فإنه يحصل المقصود.
ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بكمال العلم بقوله تعالى :﴿ ولله ﴾، أي : لا لغيره، ﴿ غيب السماوات والأرض ﴾، وهو : ما غاب فيهما عن العباد بأن لم يكن محسوساً و لم يدل عليه محسوس، وقيل : الغيب هنا : هو قيام الساعة فإن علمه غائب عن أهل السماوات و الأرض، ثم وصف سبحانه وتعالى كمال قدرته بقوله تعالى :﴿ وما أمر الساعة ﴾، وهو الوقت الذي يكون فيه البعث، ﴿ إلا كلمح البصر ﴾، أي : إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، والمعنى : وما أمر قيام الساعة في السرعة والسهولة إلا كطرف العين، والمراد منه : تقدير كمال القدرة، ومعنى قوله تعالى :﴿ أو هو أقرب ﴾، إنّ لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، و لا شك أنّ الحدقة مؤلفة من أجزاء، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف الحدقة، و لاشك أن تلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات، فلذلك قال :﴿ أو هو أقرب ﴾، إلا أنه لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا، هو : لمح البصر، لا جرم ذكره، ثم قال :﴿ أو هو أقرب ﴾، تنبيهاً على ما مرّ، و لا شبهة في أنه ليس المراد : طريقة الشك، فالمراد إذاً : بل هو أقرب، وقال الزجاج : المراد به الإبهام على المخاطبين، لا أنه تعالى يأتي بالساعة إمّا بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع، وقيل معناه : إنّ قيام الساعة و إن تراخى، فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة، كقوله تعالى :﴿ وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الرحمن، ٤٧ ]. ﴿ إنّ الله ﴾، أي : الملك الأعظم، ﴿ على كل شيء قدير ﴾، فيقدر على أن يحي الخلائق دفعة واحدة كما قدر على إحيائهم، فإنه تعالى مهما أراده كان في أسرع ما يكون.
ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فعطف على قوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ﴾، قوله عز وجل :﴿ والله ﴾، أي : الذي له العظمة كلها، ﴿ أخرجكم ﴾ بقدرته وعلمه، ﴿ من بطون أمّهاتكم ﴾ حال كونكم عند الإخراج، ﴿ لا تعلمون شيئاً ﴾ من الأشياء قلّ أو جلّ، فالذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطون الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى. وقرأ حمزة والكسائي : بكسر الهمزة، والباقون بضمها، وقرأ حمزة : بكسر الميم، والباقون : بفتحها، ثم عطف على أخرجكم قوله تعالى :﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴾، آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه، وفتق مواضعها وسوّاها وعدلها، وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يد، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة، فالذي قدر على ذلك في البطن إبداعاً، قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى. قال البقاعيّ : ولعله تعالى جمعهما، أي : الأبصار والأفئدة دون السمع ؛ لأنّ التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله، والأفئدة، هي : القلوب التي هيأها الله تعالى للفهم وإصلاح البدن، بما أودعها من الحرارة اللطيفة للمعاني الدقيقة، ﴿ لعلكم تشكرون ﴾، لتصيروا بمعارف القلوب التي وهبكموها، إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات، في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة، فإنه إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم.
فإن قيل : عطف :﴿ وجعل لكم السمع ﴾، على :﴿ أخرجكم ﴾، يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرين عن الإخراج من البطون، مع أنّ الأمر ليس كذلك ؟ أجيب : بأنّ حرف الواو لا يوجب الترتيب، وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع، والأبصار على الرؤية، زال السؤال.
ثم إنه تعالى ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته وحكمته، بقوله تعالى :﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات ﴾، أي : مذللات للطيران، ﴿ في جوّ السماء ﴾، أي : في الهواء بين الخافقين، مما لا يقدرون عليه بوجه من الوجوه، مع مشاركتكم لها في السمع والبصر، وزيادتكم عليها بالعقول، فعلم قطعاً أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران فيها، وإلا لما أمكن ذلك ؛ لأنه تعالى أعطى الطير جناحاً، يبسطه مرة ويكسره مرّة أخرى، مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجوّ خلقة لطيفة رقيقة يسهل خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً، ومع ذلك :﴿ ما يمسكهنّ ﴾ في الجوّ عن الوقوع، ﴿ إلا الله ﴾، أي : الملك الأعظم، فإنّ جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوّ، هو : الله تعالى. وقرأ ابن عامر وحمزة : بالتاء على أنه خطاب العامّة. والباقون : بالياء على الغيبة، ﴿ إنّ في ذلك ﴾، المذكور، ﴿ لآيات ﴾، أي : دلالات، ﴿ لقوم يؤمنون ﴾، وخصهم بذلك ؛ لأنهم هم المنتفعون بها، وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء.
ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من دلائل التوحيد بقوله تعالى :﴿ والله ﴾، أي : الذي له الحكمة البالغة. ﴿ جعل لكم من بيوتكم ﴾، وأصل البيت المأوى ليلاً، ثم اتسع فيه، ﴿ سكناً ﴾، أي : موضعاً لتسكنوا فيه.
تنبيه : البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين : أحدهما : البيوت المتخذة من الخشب والطين، والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً ﴾، وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقلها، بل الإنسان ينتقل إليها. والقسم الثاني : القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله تعالى :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً ﴾، المتخذة من الأدم، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر، فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها، ﴿ تستخفونها ﴾، أي : تتخذونها خفيفة، يخف عليكم حملها ونقلها. ﴿ يوم ظعنكم ﴾، أي : وقت ترحالكم، وعبر باليوم لأنّ الترحال في النهار. ﴿ ويوم إقامتكم ﴾، أي : وقت الحضر، أو وقت النزول، وهذا القسم من البيوت يمكن نقلها وتحويلها من مكان إلى مكان. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : بفتح العين، والباقون : بالسكون، وأضاف قوله تعالى :﴿ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ﴾، إلى ضمير الأنعام ؛ لأنها من جملتها. قال المفسرون وأهل اللغة : الأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز. ﴿ أثاثاً ﴾، أي : ما يلبس ويفرش. ﴿ ومتاعاً ﴾، أي : ما يتجر به، وقيل : الأثاث : ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء، والمتاع : ما يفرش في المنازل ويتزين به. واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ إلى حين ﴾، فقيل : إلى حين تبلى، وقيل : إلى حين الموت، وقيل : إلى حين بعد حين، وقيل : إلى يوم القيامة.
تنبيه : في نصب أثاثاً وجهان : أحدهما : أنه منصوب عطفاً على بيوتاً، أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً. والثاني : أنه منصوب على الحال، واعلم أنّ الإنسان إمّا أن يكون مقيماً أو مسافراً، والمسافر إمّا أن يكون غنياً يستصحب معه الخيام أولا، فالقسم الأوّل أشار إليه بقوله تعالى :﴿ جعل لكم من بيوتكم سكناً ﴾، وأشار إلى القسم الثاني بقوله تعالى :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً ﴾.
وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى :﴿ والله ﴾، أي : الذي له الجلال والإكرام، ﴿ جعل لكم ﴾، أي : من غير حاجة منه تعالى، ﴿ مما خلق ﴾، من شجر وجبال وأبنية وغيرها. وقوله تعالى :﴿ ظلالاً ﴾، جمع ظل، تتقون به شدّة الحرّ. وقوله تعالى :﴿ وجعل لكم ﴾، مع غناه المطلق، ﴿ من الجبال أكناناً ﴾، جمع كنّ : موضع تسكنون فيه من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها. ﴿ وجعل لكم ﴾ أي : امتناناً منه عليكم، ﴿ سرابيل ﴾، جمع سربال. قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال، من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، أي : وسواء كان من صوف أو كتان أو قطن أو غير ذلك. ﴿ تقيكم الحرّ ﴾، ولم يقل تعالى والبرد ؛ لتقدّمه في قوله تعالى :﴿ فيها دفء ﴾ [ النحل، ٥ ]. وقيل : إنه اكتفى بأحد المتقابلين. وقيل : كان المخاطبون بهذا الكلام العرب، وبلادهم حارّة، فكان حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد، كما قال تعالى :﴿ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ﴾، وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع ؛ لأنه كان الفهم بها أشدّ، واعتيادهم للبسها أكثر، ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً لم يكرّر لفظ جعل، فقال :﴿ وسرابيل ﴾، أي : دروعاً من حديد وغيرها. ﴿ تقيكم بأسكم ﴾، أي : حربكم، أي : في الطعن والضرب فيها. ولما عدّد الله تعالى أنواع نعمه قال :﴿ كذلك ﴾، أي : كإتمام هذه النعمة المتقدّمة، ﴿ يتمّ نعمته عليكم ﴾ في الدنيا والدين، بالبيان والهداية لطريق النجاة والمنافع، والتنبيه على دقائق ذلك، ﴿ لعلكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ تسلمون ﴾، أي : تخلصون لله الربوبية، وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه، وقيل : تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
﴿ فإن تولوا ﴾، فلم يقبلوا منك وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر، ﴿ فإنما عليك ﴾ يا أفضل الخلق ﴿ البلاغ المبين ﴾، هذا جواب الشرط، وفي الحقيقة جواب الشرط محذوف، أي : فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ؛ ليدل على المسبب ؛ وذلك لأنّ تبلغيه سبب في عذره، فأقيم السبب مقام المسبب، وهذا قبل الأمر بالقتال.
ثم إنه تعالى ذمّهم بأنهم :﴿ يعرفون نعمة الله ﴾، أي : الملك الأعظم التي تقدّم، عدّ بعضها في هذه السورة وغيرها، ﴿ ثم ينكرونها ﴾ بعبادتهم غير المنعم بها، وقال السدي : نعمة الله، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه. وقيل : نعمة الله هي الإسلام وهو من أعظم النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده، ثم إنّ كفار مكة أنكروه وجحدوه، واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾ مع أنهم كلهم كانوا كافرين على وجوه ؛ الأوّل : إنما قال تعالى :﴿ وأكثرهم ﴾ ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة، ممن لم يبلغ حدّ التكليف، أو كان ناقص العقل، فأراد بالأكثر البالغين الأصحاء. الثاني : أن يكون المراد بالكافر : الجاحد المعاند، وكان فيهم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول، وما ظهر له كونه نبياً حقاً من عند الله. الثالث : أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع ؛ لأنّ أكثر الشيء يقوم مقام الكل، فذكر الأكثر كذكر الجميع، وهذا كقوله تعالى :﴿ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الزمر، ٢٩ ].
ولما بين تعالى من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وذكر أيضاً من حالهم أن أكثرهم كافرون، أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة بقوله تعالى :﴿ ويوم ﴾ أي : وخوّفهم يوم أو واذكر لهم يوم ﴿ نبعث ﴾ بعد البعث ﴿ من كل أمّة شهيداً ﴾، هو نبيها، كما قال تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ [ النساء، ٤١ ]، يشهد نبيها لها وعليها يوم القيامة ؛ ليحكم تعالى بقوله إجراء للأمر على ما يتعارفون، وإن كان تعالى غنياً عن شهيد. وقوله تعالى :﴿ ثم لا يؤذن للذين كفروا ﴾، فيه وجوه : أحدها : لا يؤذن لهم في الاعتذار كقوله تعالى :﴿ ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ [ المرسلات، ٣٦ ]. ثانيها : لا يؤذن لهم في كثرة الكلام. ثالثها : لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف. رابعها : لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود. فإن قيل : ما معنى " ثم " هاهنا ؟ أجيب : بأنّ معناها أنهم يمتحنون، أي : يبتلون بغير شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو أطمّ منها، وأنهم يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة، ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ أي : لا تزال عتباهم، وهي ما يعتبون عليها ويلامون، يقال : استعتبت فلاناً بمعنى اعتبته، أي : أزلت عتباه.
﴿ وإذا رأى الذين ظلموا ﴾، أي : ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، ﴿ العذاب ﴾ أي : عذاب جهنم بعد الموقف وشهادة الشهداء، ﴿ فلا يخفف عنهم ﴾ ذلك العذاب، ﴿ ولا هم ينظرون ﴾، أي : لا يمهلون.
ولما بين تعالى حاصل أمرهم في البعث وما بعده، وكان من أهمّ المهمّ أمرهم في الموقف مع شركائهم، الذين كانوا يرجونهم، عطف على ذلك بقوله تعالى :﴿ وإذا رأى ﴾، أي : بالعين، يوم القيامة، ﴿ الذين أشركوا شركاءهم ﴾، أي : الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء، من الشياطين وغيرها، ﴿ قالوا ربنا ﴾، أي : يا من أحسن إلينا وربانا، ﴿ هؤلاء شركاؤنا ﴾، أضافوهم إلى أنفسهم ؛ لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجبة لضرّهم، ثم بينوا المراد بقولهم :﴿ الذين كنا ندعوا ﴾، أي : نعبدهم، ﴿ من دونك ﴾ ؛ ليقرّبونا إليك، فأكرمنا لأجلهم جرياً على مناهجهم في الدنيا في الجهل والغباوة، فخاف شركاؤهم من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب، ﴿ فألقوا ﴾، أي : الشركاء، ﴿ إليهم ﴾، أي : المشركين، ﴿ القول ﴾، أي : بادروا به، حتى كان إسراعهم إليه إسراع شيء ثقيل يلقى من علو، وأكدوا قولهم فقالوا :﴿ إنكم لكاذبون ﴾، في جعلنا شركاء، أو أنكم عبدتمونا حقيقة، وإنما عبدتم أهواءكم كقوله تعالى :﴿ كلا سيكفرون بعبادتهم ﴾ [ مريم، ٨٢ ]، ولا يبعد أن تنطق الأصنام بذلك يومئذ، في أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ [ إبراهيم، ٢٢ ].
﴿ وألقوا ﴾، أي : الشركاء، ﴿ إلى الله ﴾، أي : الملك الأعلى، ﴿ يومئذٍ ﴾، أي : يوم القيامة. ﴿ السلم ﴾، أي : الاستسلام بحكمه بعد الاستكبار في الدنيا. ﴿ وضلّ ﴾، أي : غاب ﴿ عنهم ﴾، أي : الكفار، ﴿ ما كانوا يفترون ﴾، أي : من أنّ آلهتهم تشفع لهم.
ولما ذكر تعالى وعيد الذين كفروا، أتبعه بوعيد من ضمّ إلى كفره صد الغير عن سبيل الله بقوله تعالى :
﴿ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ﴾، أي : ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله وبرسوله، ﴿ زدناهم عذاباً ﴾ ؛ لصدّهم، ﴿ فوق العذاب ﴾، المستحق بكفرهم، ﴿ بما كانوا يفسدون ﴾، أي : بكونهم مفسدين بصدّهم، وقيل : زدناهم عذاباً، بحيات وعقارب كأمثال البخت، يستغيثون بالهرب منها إلى النار، ومنهم من ذكر : أنّ لكل عقرب ستمائة نقرة، في كل نقرة ثلاثمائة قلة من سم، وقيل : عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
ثم كرّر سبحانه وتعالى التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة، وهو أنّ الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم فقال :﴿ ويوم ﴾ أي : وخوفهم، أو واذكر لهم يوم ﴿ نبعث ﴾، أي : بمالنا من القدرة، ﴿ في كل أمّة ﴾ من الأمم، والأمّة عبارة عن القرن والجماعة، ﴿ شهيداً عليهم ﴾، قال ابن عباس : يريد الأنبياء. قال المفسرون : كل نبيّ شاهد على أمّته، وهو أعدل شاهد عليها. ﴿ من أنفسهم ﴾، أي : منهم ؛ لأنّ كل نبيّ إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ؛ ليشهدوا عليهم بما فعلوا من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان. ﴿ وجئنا ﴾، بما لنا من العظمة، ﴿ بك ﴾، يا خير المرسلين، ﴿ شهيداً على هؤلاء ﴾، أي : الذين بعثناك إليهم، وهم أهل الأرض، وأكثرهم ليس من قومه صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك لم تقيد بعثته بشيء، وقال أبو بكر الأصم : المراد بذلك الشهيد : هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان، حتى أنها تشد عليه، وهو : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان، قال : والدليل عليه ما قاله في صفة الشهيد أنه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم، ورد بأنه تعالى قال :﴿ شهيدا عليهم ﴾، يجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال :﴿ من كل أمّة ﴾، فيجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمّة، وآحاد هذه الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمّة، ثم بيّن تعالى أنه أزاح علتهم فيما كلفوا به، فلا حجة لهم ولا معذرة بقوله تعالى :﴿ ونزلنا ﴾، أي : بعظمتنا، بحسب التدريج والتنجيم، ﴿ عليك ﴾، يا خير خلق الله، ﴿ الكتاب ﴾، أي : القرآن الجامع للهدى، ﴿ تبياناً ﴾، أي : بياناً بليغاً، ﴿ لكل شيء ﴾، فإن قيل : كيف كان القرآن تبياناً لكل شيء ؟ أجيب : بأن المعنى من كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصاً على بعضها، وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقد قال تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ [ النجم، ٣ ]، وحثاً على الإجماع في قوله تعالى :﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين ﴾ [ النساء، ١١٥ ]. وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم، وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّؤوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مسندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثم كان تبياناً لكل شيء، ﴿ وهدى ﴾، أي : من الضلالة، ﴿ ورحمة ﴾، لمن آمن به وصدّقه، ﴿ وبشرى ﴾، بالجنة، ﴿ للمسلمين ﴾، أي : الموحدين خاصة.
ولما استقصى سبحانه وتعالى في شرح الوعد والوعيد، والرغبة والترهيب، أتبعه بقوله :﴿ إنّ الله ﴾، أي : الملك المستجمع لصفات الكمال. ﴿ يأمر بالعدل ﴾، قال ابن عباس : في بعض الروايات : العدل : شهادة أن لا إله إلا الله. ﴿ والإحسان ﴾ : أداء الفرائض، وقال في رواية أخرى : العدل : خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، فإن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً أحببت له أن يكون أخاك في الإسلام، وقال في رواية ثالثة : العدل : هو التوحيد، والإحسان هو الإخلاص فيه. وقال آخرون : يعني بالعدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال، فلا تفعل إلا ما هو عدل، ولا تقل إلا ما هو إحسان، وأصل العدل المساواة في كل شيء من غير زيادة ولا نقصان، فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه، والشرّ بأن تعفو عنه. وعن الشعبي، قال عيسى بن مريم : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقيل : العدل : الإنصاف، والإنصاف : أعدل من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان : أن تحسن إلى من أساء إليك. وعن محمد بن كعب القرظي قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال : صف لي العدل ؟ فقلت : بخ سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس أبا، ولكبيرهم ابناً، وللمثل منهم أخاً، وللنساء كذلك. ﴿ وإيتاء ﴾، أي : ومن الإحسان إيتاء ﴿ ذي القربى ﴾، أي : القرابة القربى والبعدى، فيندب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله، فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودّد. وروى أبو سلمة عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، إنّ أهل هذا البيت ليكونون تجاراً، فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم ".
ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى :﴿ وينهى عن الفحشاء ﴾، قال ابن عباس : ، أي : الزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها. وقال غيره : الفحشاء : ما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وغيره، من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها. ﴿ والمنكر ﴾، قال ابن عباس : يعني الشرك والكفر. وقال غيره : المنكر : ما لا يعرف في شريعة أو سنة. ﴿ والبغي ﴾ : هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، قيل : إنّ أعجل المعاصي عقاباً البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر، لدك الباغي. ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتماماً به، كما بدأ بالفحشاء لذلك. وقال ابن قتيبة في هذه الآية : العدل : استواء السرّ والعلانية، والإحسان : أن تكون سريرته خيراً من علانيته، والفحشاء والمنكر والبغي : أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وقال بعض العلماء : إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر العدل : وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء : وهو ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان : وهو أن يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وذكر في مقابلته المنكر : وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به : صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم، وذكر في مقابلته البغي : وهو أن يتكبر عليهم، أو يظلمهم حقوقهم.
ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ، نبه عليه بقوله تعالى :﴿ يعظكم ﴾، أي : يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول، وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومجانبة الثلاثة الأخيرة، وهي الفحشاء والمنكر والبغي. ﴿ لعلكم تذكرون ﴾، أي : لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى. وقرأ حفص وحمزة والكسائي : بتخفيف الذال، والباقون : بالتشديد، وفيه إدغام التاء في الأصل في الذال. وروى البيهقي في «شعب الإيمان »، عن ابن مسعود أنه قال : أعظم آية في كتاب الله تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ﴾ [ البقرة، ٢٥٥ ]، وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر، الآية التي في النحل :﴿ إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾، وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ]
وأشدّ آية في كتاب الله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ [ الزمر، ٥٣ ] الآية. وقال أهل المعاني : لما قال الله تعالى في الآية الأولى :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ﴾، بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى به أو يترك، إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان من أهل الجاهلية يعملون به ويعظونه ويخشونه إلا أمر الله تعالى به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه. وعن عكرمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة :﴿ إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾ إلى آخر الآية. فقال له : يا ابن أخي أعد عليّ، فأعادها عليه ؟ فقال الوليد : والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
ولما تقرّرت هذه الجمل التي جمعت بجمعها المأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت من البلاغة مبلغاً يحصل به غاية السرور. ذكر بعض تلك الأقسام وبدأ بما هو مع جمعه أهمّ، وهو الوفاء بالعهد بقوله تعالى :﴿ وأوفوا ﴾، أي : أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره. ﴿ بعهد الله ﴾، أي : الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل، من التوحيد والبيع والإيمان، وغيرها من أصول الدين وفروعه. ﴿ إذا عاهدتم ﴾، بتقلبكم له بإذعانكم لامتثاله. ﴿ ولا تنقضوا الأيمان ﴾، واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى :﴿ بعد توكيدها ﴾، أي : تشديدها، فتحنثوا فيها، وفي ذلك دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منه. وقرأ أبو عمرو بإدغام الدال في التاء بخلاف عنه. ﴿ و ﴾ الحال أنكم ﴿ قد جعلتم الله ﴾، أي : الذي له العظمة كلها، ﴿ عليكم كفيلاً ﴾، أي : شاهداً ورقيباً. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم : بإظهار دال " قد " عند الجيم، والباقون بالإدغام. وعن جابر رضي الله عنه قال : نزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أسلم، بايع على الإسلام فقال تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾، فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. ﴿ إنّ الله ﴾، أي : الذي له الإحاطة الكاملة، ﴿ يعلم ما تفعلون ﴾، من وفاء العهد ونقضه.
ثم ضرب الله تعالى لنقض العهد مثلاً فقال :﴿ ولا تكونوا ﴾، أي : في نقض العهد، ﴿ كالتي نقضت غزلها ﴾، أي : ما غزلته فهو مصدر بمعنى المفعول، ﴿ من بعد قوّة ﴾، أي : إبرام وإحكام، وقوله تعالى :﴿ أنكاثاً ﴾، جمع نكث، وهو ما ينقض من الغزل والحبل. قال مقاتل : هذه امرأة من قريش يقال لها : رائطة، وقيل : ريط، وتلقب بجعواء، وكان خرقاء حمقاء لها وسوسة، اتخذت مغزلاً قدر ذراع، وصنارة مثل إصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن وكان هذا دأبها. وقال السدّي : كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة، تغزل فإذا برمت غزلها نقضته. وقال مجاهد : نقضت حبلها بعد إبرامها إياه. وقال قتادة : لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه، لقلتم ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. وقال في قوله تعالى :﴿ تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ﴾، خيانة وغدراً. انتهى. والدخل : ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل : الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد، ويبطن نقضه، وإنما كانوا يفعلون ذلك. ﴿ أن ﴾، أي : بسبب أن ﴿ تكون ﴾ أو مخافة أن تكون، وتكون يجوز أن تكون تامّة فتكون :﴿ أمّة ﴾، أي : جماعة فاعلها، وأن تكون ناقصة فتكون أمّة اسمها، و﴿ هي ﴾، مبتدأ، و﴿ أربى ﴾، أي : أكثر، ﴿ من أمّة ﴾، خبره، والجملة في محل نصب على الحال على الوجه الأوّل، وفي موضع الخبر على الثاني، وأربى مأخوذ من ربا الشيء يربو، إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوّة وفي الشرف. قال مجاهد : وكانوا يحالفون الحلفاء، ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف، فينقضون حلف الأوّلين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. ﴿ إنما يبلوكم الله ﴾، الذي له الملك كله، أي : يختبركم، ﴿ به ﴾ أي : يعاملكم معاملة المختبر، ليظهر للناس تمسككم بالوفاء وانخلاعكم عنه، اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم، مع قدرته سبحانه وتعالى على ما يريد، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القويّ ويقلل الكثير ويكثر القليل. ﴿ وليبينن لكم ﴾، أي : إذا تجلى لفصل القضاء. ﴿ يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ﴾، أي : إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب، فاحذروا يوم العرض على مالك السماوات والأرض، وأنّ من نوقش الحساب يهلك.
﴿ ولو شاء الله ﴾، أي : الملك الأعلى الذي لا أثر لأحد معه، أن يجعلكم أمّة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه. ﴿ لجعلكم أمّة واحدة ﴾، أي : متفقة على أمر واحد، وهو دين الإسلام، ﴿ ولكن ﴾، لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم فهو تعالى :﴿ يضلّ من يشاء ﴾، عدلاً منه تعالى ؛ لأنه تامّ الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات. ﴿ ويهدي ﴾ بفضله ﴿ من يشاء ﴾، ولو كان على أخس الحالات والأحوال، فبذلك تكونون مختلفين، لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى. ﴿ ولتسألنّ عما كنتم تعملون ﴾، في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بعدله تعالى.
ولما حذر سبحانه وتعالى عن نقض العهد والأيمان مطلقاً قال تعالى :﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً ﴾، أي : فساداً ومكراً وخديعة ﴿ بينكم ﴾، وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد : نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد نهي الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿ فتزلَّ ﴾، أي : فيكون ذلك سبباً لأن تزل ﴿ قدم ﴾ هي في غاية العظمة، ﴿ بعد ثبوتها ﴾، أي : عن مركزها التي كانت به من دين أو دنيا، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها، لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه.
تنبيه : فتزل منصوب بإضمار " أن " على جواب النهي، وزلل القدم مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية، أو سقط في ورطة بعد سلامة، أو محنة بعد نعمة. ﴿ وتذوقوا السوء ﴾، أي : العذاب في الدنيا، ﴿ بما ﴾، أي : بسبب ما ﴿ صددتم ﴾، أي : أنفسكم ومنعتم بأيمانكم التي قد أردتم بها الإفساد وخفاء الحق. ﴿ عن سبيل الله ﴾، أي : دينه، وذلك أنّ من نقض العهد سهل على غيره طرق نقض العهد فيستن به، ﴿ ولكم ﴾ مع ذلك ﴿ عذاب عظيم ﴾، أي : ثابت غير منفك إذا متم على ذلك.
ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التحذير بقوله تعالى :﴿ ولا تشتروا ﴾، أي : ولا تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر أن تأخذوا وتستبدلوا. ﴿ بعهد الله ﴾ الذي له الكمال كله، ﴿ ثمناً قليلاً ﴾، أي : من حطام الدنيا، وإن كنتم ترونه كثيراً، ثم علل قلته بقوله تعالى :﴿ إنما عند الله ﴾، أي : الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين ﴿ هو خير لكم ﴾، ولا يعدل عن الخير إلى غيره إلا لجوج ناقص العقل، ثم شرط علم خيريته لكونهم من ذوي العلم بقوله تعالى :﴿ إن كنتم تعلمون ﴾، أي : إن كنتم من أهل العلم والتمييز، فتعلمون فضل ما بين العوضين.
ثم بين ذلك بقوله تعالى :﴿ ما عندكم ﴾، أي : من متاع الدنيا ولذاتها، ﴿ ينفد ﴾، أي : يفنى، فصاحبه منغص العيش، أشدّ ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه. ﴿ وما عند الله ﴾، أي : الذي له الأمر كله من ثواب الآخرة ونعيم الجنة، ﴿ باق ﴾، أي : دائم. روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من أحب دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ». وقرأ ابن كثير :" باقي "، في الوقف بالياء، والباقون بغير ياء. وأمّا في الوصل : فالجميع بالتنوين. ﴿ وليجزينّ الذين صبروا ﴾ على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي في السرّاء والضرّاء. ﴿ أجرهم ﴾، أي : ثواب صبرهم، ﴿ بأحسن ما كانوا يعملون ﴾، أي : بجزاء أحسن من أعمالهم، أو يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأنّ المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات، ولا شكّ أنّ الواجبات والمندوبات مما يثاب على فعلها لا على فعل المباحات. وقرأ ابن كثير وعاصم : بالنون قبل الجيم، أي : ولنجزين نحن، والباقون بالياء، أي : وليجزين الله.
ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في الإيمان بكل ما كان من شرائع الإسلام بقوله تعالى :﴿ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ﴾، إذ لا اعتداد بأعمال الكفار في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. فإن قيل : من عمل صالحاً يفيد العموم فما فائدة من ذكر أو أنثى ؟ أجيب : بأنه ذكر دفعاً للتخصيص بأحد الفريقين. واختلف في قوله تعالى :﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾، فقال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال. وقال مقاتل : هي العيش في الطاعة. وقال الحسن : هي القناعة ؛ لأنّ عيش المؤمن في الدنيا وإن كان فقيراً، أطيب من عيش الكافر وإن كان غنياً ؛ لأنّ المؤمن لما علم أنّ رزقه من عند الله تعالى وذلك بتقديره وتدبيره تعالى. وعرف أنّ الله تعالى محسن كريم حكيم، يضع الأشياء في محلها، فكان المؤمن راضياً بقضاء الله وبما قدّره له ورزقه إياه، وعرف أنّ مصلحته في ذلك القدر الذي رزقه، فاستراحت نفسه من الكدر والحرص فطاب عيشه بذلك، وأمّا الكافر والجاهل بهذه الأصول فدائم الحرص على طلب الرزق، فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص في الدنيا، ولا يناله من الرزق إلا ما قدّر له، فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدّي : الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر ؛ لأنّ المؤمن يستريح بالموت من كدّ الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. فأثبت بهذا أنّ الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولا مانع من أنّ المؤمن الكامل يحصل جميع ذلك ثم إنّ الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى :﴿ ولنجزينهم أجرهم ﴾، أي : في الدنيا والآخرة. ﴿ بأحسن ما كانوا يعملون ﴾، أي : من الطاعة وقد سبق تفسيره. ولما قال تعالى :﴿ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾.
أرشد به إلى العمل الذي به تخلص أعماله من الوسواس بقوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن ﴾، أي : أردت قراءته، ﴿ فاستعذ ﴾، أي : إن شئت جهراً وإن شئت سرًّا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : والإسرار أولى في الصلاة. وفي قول : يجهر كما يفعل خارج الصلاة. ﴿ بالله ﴾، أي : سل الذي له الكمال كله أن يعيذك، ﴿ من الشيطان ﴾، أي : المحترق باللعنة، ﴿ الرجيم ﴾، أي : المطرود عن الرحمة، من أن يصدّك بوساوسه عن اتباعه، ويدخل في ذلك جميع المردة من الشياطين ؛ لأنّ لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله تعالى على ذلك. وقيل : المراد إبليس خاصة، والاستعاذة بالله تعالى هي الاعتصام به، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه غيره من أمّته، وظاهر الآية وجوب الاستعاذة، وإليه ذهب عطاء سواء كانت القراءة في الصلاة أم في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أنها سنة في الصلاة وغيرها، والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة منها القراءة بدون ذكر تعوّذ، كحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد بن العلاء رضي الله تعالى عنه، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«ما منعك أن تجيبني ؟ قال : كنت أصلي. قال ألم يقل الله :﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ﴾ [ الأنفال، ٢٤ ]، ثم قال : لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ ». وفي رواية الموطأ : أنه صلى الله عليه وسلم نادى أبيّاً، وأنه قال له :«كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال : أبيّ : فقرأت :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ حتى أتيت إلى آخرها »، وظاهر الآية يدل على أنّ الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول أبي هريرة، وإليه ذهب مالك وداود الظاهريّ. قالوا : لأنّ قارئ القرآن يستحق ثواباً عظيماً، وربما حصل الوسواس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أو لا، فإذا استعاذ بعد القراءة، اندفعت تلك الوساوس، وبقي الثواب مخلصاً، والذي ذهب إليه الأكثرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار : أنّ الاستعاذة مقدّمة على القراءة قالوا : ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، وتبعتهم على ذلك، فلهذا قدّرت ذلك في الآية الكريمة، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ [ المائدة، ٦ ]، ومثله من الكلام إذا أكلت فسمّ، أي : إذا أردت أن تأكل فقل : بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا سافرت فتأهب، أي : إذا أردت السفر فتأهب، وأيضاً الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة، فتقديم الاستعاذة على القراءة، لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها.
ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في إتيان الإنسان، أزال الله تعالى ذلك الوهم، وبيّن أنه لا قدرة له البتة إلا على الوسوسة بقوله تعالى :﴿ إنه ليس له سلطان ﴾، أي : بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه. ﴿ على الذين آمنوا ﴾، أي : بتوفيق ربهم لهم. ﴿ وعلى ربهم ﴾، وحده ﴿ يتوكلون ﴾، أي : على أوليائه المؤمنين به والمتوكلين عليه، فإنهم لا يقبلون منه، ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته.
وعن سفيان الثوريّ قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، ثم وصل تعالى بذلك ما أفهمه من أنّ له سلطاناً على غيرهم بقوله :﴿ إنما سلطانه ﴾، أي : الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله تعالى له :﴿ على الذين يتولونه ﴾، أي : يجيبونه ويطيعونه. ﴿ والذين هم به ﴾، أي : بالله تعالى، ﴿ مشركون ﴾، وقيل : الضمير راجع إلى الشيطان، والمعنى : هم بسببه مشركون بالله.
ولما كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدّة، ثم نزلت آية ناسخة لها، يقولون : إن محمداً يستهزئ بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه، نزل :﴿ وإذا بدّلنا ﴾، أي : بقدرتنا بالنسخ، ﴿ آية ﴾، سهلة : كالعدّة بأربعة شهور وعشر، وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقة : كتحريم الخمر، وإيجاب الصلوات الخمس، فجعلناها ﴿ مكان آية ﴾ شاقة، كالعدّة بحول ومصابرة عشرة من الكفار، أو سهلة، كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر، والتبديل : رفع الشيء ووضع غيره مكانه، ﴿ والله ﴾، أي : الذي له الإحاطة الشاملة، ﴿ أعلم بما ينزل ﴾ من المصالح، بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو غيره، ﴿ قالوا ﴾، أي : الكفار، ﴿ إنما أنت ﴾ يا محمد، ﴿ مفتر ﴾، أي : متقوّل على الله تعالى، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وهو جواب إذا. ﴿ والله أعلم بما ينزل ﴾، اعتراض، والمعنى : والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي : هو أعلم بجميع ذلك ومصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم إنما أنت مفتر، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزل، فما لهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ. ﴿ بل أكثرهم ﴾، وهم الذين يستمرّون على الكفر، ﴿ لا يعلمون ﴾ حكمة فائدة النسخ والتبديل، ولا يميزون الخطأ من الصواب، فإن الله تعالى أعلم بمصالح العباد، كما أنّ الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدّة ينهاه عنها، ويأمره بغيرها بضدّ تلك الشربة.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالردّ عليهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ لمن واجهك بذلك منهم :﴿ نزّله ﴾، أي : القرآن، بحسب التدريج ؛ لأجل اتباع المصالح بإحاطة علم المتكلم به. ﴿ روح القدس ﴾، أي : جبريل عليه السلام، وإضافة الروح إلى القدس : وهو الطهر، كما يقال : حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد : الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخيّر. والمقدّس : المطهر من المآثم. ﴿ من ربك بالحق ﴾، أي : متلبساً بالحكمة. ﴿ ليثبت الذين آمنوا ﴾، أي : ليثبت بالقرآن قلوب الذين آمنوا فيزدادوا إيماناً ويقيناً. ﴿ وهدى ﴾، أي : بياناً واضحاً. ﴿ وبشرى للمسلمين ﴾، أي : المنقادين لحكمك. فإن قيل : ظاهر الآية أن القرآن لا ينسخ بالسنة ؛ لقوله تعالى :﴿ وإذا بدّلنا آية مكان آية ﴾ ؛ إذ متقضاه أنّ الآية لا تنسخ إلا بأخرى ؟ أجيب : بأنّ هذه الآية دلت على أنه تعالى يبدّل آية بآية، ولا دلالة فيها على أنه لا يبدّل آية إلا بآية، وأيضاً : فجبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالآية.
ولما كان المشركون يقولون : إن محمداً إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله، وليس هو من عند الله كما يزعم نزل قوله تعالى :﴿ ولقد نعلم ﴾، أي : علماً مستمرّاً، ﴿ أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر ﴾، واختلف في البشر الذي قال المشركون إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعلم منه فقيل : هو عبد لبني عامر بن لؤيّ يقال له : يعيش كان يقرأ الكتب، وقيل : عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل : عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه خيراً، فكانت قريش تقول : عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة، وخديجة تعلّم محمداً. وقيل : كان بمكة نصراني أعجميّ اللسان اسمه بلعام، ويقال : ابن ميسرة، يتكلم بالرومية، وقيل : سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في تعداد هذه الأسماء، والحاصل أنّ القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره، ثم إنه يظهرها من نفسه، ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه، فأجاب الله تعالى عنه تكذيباً لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب بقوله تعالى :﴿ لسان الذي يلحدون ﴾، أي : يميلون إليه أو يشيرون، ﴿ إليه ﴾، أي : أنه يعلمه، ﴿ أعجميّ ﴾، أي : لا يعرف لغة العرب، وهو مع ذلك ألكن في التأدية غير مبين، ﴿ وهذا ﴾، أي : القرآن ﴿ لسان عربيّ مبين ﴾، أي : ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلمه أعجميّ ؟. وروي أنّ الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه.
﴿ إنّ الذين لا يؤمنون ﴾، أي : لا يصدقون كل تصديق معترفين ﴿ بآيات الله ﴾، أي : الذي له العظمة كلها، ﴿ لا يهديهم الله ﴾، أي : لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾، أي : مؤلم في الآخرة.
ثم أخبر الله تعالى أنّ الكفار المفترون بقوله تعالى :﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾، أي : القرآن بقولهم : هذا من قول البشر، ﴿ وأولئك ﴾، أي : البعداء البغضاء، ﴿ هم الكاذبون ﴾، أي : الكاملون في الكذب ؛ لأنّ تكذيب آيات الله أعظم من الكذب، أولئك هم الذين عادتهم الكذب، لا يبالون به في كل شيء، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين.
ولما ذكر تعالى الذين لا يؤمنون مطلقاً أتبعهم صنفاً منهم هم أشدّ كفراً بقوله تعالى :﴿ من ﴾، أي : أيّ مخلوق وقع له أنه ﴿ كفر بالله ﴾، أي : الذي له صفات الكمال بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر، ﴿ من بعد إيمانه ﴾ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿ إلا من أكره ﴾، أي : على التلفظ بالكفر فتلفظ به، ﴿ وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، فلا شيء عليه ؛ لأنّ محل الإيمان هو القلب. روي أنّ قريشاً أكرهوا عماراً وأباه ياسراً وأمّه سمية على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل ياسر، وهما أوّل قتيل في الإسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً، وهو كاره بقلبه، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كفر، فقال صلى الله عليه وسلم :«كلا إنّ عماراً امتلأ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لك ! إن عادوا لك فقل لهم مثل ما قلت ».
تنبيه : في الآية دليل على إباحة التلفظ بالكفر، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه. ولما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله. قال : فما تقول فيّ ؟ قال : أنت أيضاً، فخلاه. وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله. قال : فما تقول فيّ ؟ قال : أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ». واختلف الأئمة في وقوع الطلاق بالإكراه، فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى : لا يقع طلاق المكره. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : يقع. واستدل الشافعي بقوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة، ٢٥٦ ]، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته ؛ لأنّ ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، أي : لا أثر له ولا عبرة به. وقال عليه الصلاة والسلام :«رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ». وقال أيضاً :«لا طلاق في إغلاق »، أي : إكراه. وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى :﴿ فإن طلقها فلا تحلّ له ﴾ [ البقرة، ٢٣٠ ] وهذا قد طلقها. وأجيب بأنّ الآية مخصوصة بغير ذلك جمعاً بين الأدلة. ﴿ ولكن من شرح بالكفر صدراً ﴾، أي : فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به، ﴿ فعليهم غضب ﴾، أي : غضب لم تبين جهة عظمه لكونه ﴿ من الله ﴾، أي : الملك الأعظم، ﴿ ولهم ﴾، أي : بظواهرهم وبواطنهم ﴿ عذاب عظيم ﴾، في الآخرة ؛ لارتدادهم على أعقابهم.
﴿ ذلك ﴾، أي : الوعيد العظيم، ﴿ بأنهم ﴾، أي : بسبب أنهم، ﴿ استحبوا ﴾، أي : أحبوا حباً عظيماً، ﴿ الحياة الدنيا ﴾، الكائنة الحاضرة الفانية فآثروها، ﴿ على الآخرة ﴾، الباقية الفاخرة ؛ لأنهم رأوا ما فيه المؤمنون من الضيق، والكافرون من السعة، ﴿ وأنّ الله ﴾، أي : الذي له الغنى المطلق، ﴿ لا يهدي القوم الكافرين ﴾، أي : لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل.
﴿ أولئك ﴾، أي : البعداء البغضاء، ﴿ الذين طبع الله ﴾، أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه، ﴿ على قلوبهم ﴾، أي : ختم عليها واستوثق. ولما كان التفاوت في السمع نادراً وحده بقوله تعالى :﴿ وسمعهم ﴾، أو بمعنى : أسماعهم ليناسب قوله تعالى :﴿ وأبصارهم ﴾، فصاروا بعدم انتفاعهم بهذه المشاعر كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون. ﴿ وأولئك ﴾، أي : الأباعد من كل خير، ﴿ هم الغافلون ﴾ عما يراد بهم من العذاب في الآخرة.
﴿ لا جرم ﴾، أي : لا شك، ﴿ أنهم في الآخرة هم الخاسرون ﴾، أي : أكمل الناس خسارة ؛ لأنّ الله تعالى وصفهم بست صفات الأولى : أنهم استوجبوا غضب الله تعالى. الثانية : أنهم استوجبوا العذاب الأليم. الثالثة : أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. الرابعة : أنّ الله تعالى حرمهم من الهداية. الخامسة : أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. السادسة : أنه جعلهم من الغافلين عن العذاب الشديد يوم القيامة ؛ إذ كل واحدة من هذه الصفات من أعظم الأحوال المانعة من الفوز بالخيرات والسعادات، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان في الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب حكم تعالى عليهم بالخسران.
ولما ذكر تعالى حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن بقوله تعالى :﴿ ثم إنّ ربك ﴾، أي : المحسن إليك ﴿ للذين هاجروا ﴾ إلى المدينة الشريفة بالولاية والنصر، وقوله تعالى :﴿ من بعد ما فتنوا ﴾، قرأ ابن عامر بفتح الفاء والتاء على استناد الفعل إلى الفاعل، والباقون بضم الفاء وكسر التاء على فعل ما لم يسمّ فاعله، وجه القراءة الأولى أنه عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، وأنهم لما صبروا على عذاب المشركين فكأنهم فتنوا أنفسهم وإن عاد على المشركين فهو ظاهر، أي : فتنوا المؤمنين ؛ لأنّ أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردّة والرجوع عن الإيمان فبيّن تعالى أنهم هاجروا، ﴿ ثم جاهدوا وصبروا ﴾ على الطاعة، ﴿ إنّ ربك من بعدها ﴾، أي : الفتنة، ﴿ لغفور ﴾، أي : بليغ الإكرام، ﴿ رحيم ﴾، فهو يغفر لهم ويرحمهم.
تنبيه : حذف خبر " إنّ " الأولى ؛ لدلالة خبر الثانية عليه، أو مقدّر بما مرّ.
﴿ يوم ﴾، أي : اذكر يوم ﴿ تأتي كل نفس ﴾، أي : وإن عظم جرمها ﴿ تجادل ﴾، أي : تحاجج ﴿ عن نفسها ﴾، أي : لا يهمها غيرها، وهو يوم القيامة. فإن قيل : ما معنى النفس المضافة إلى النفس ؟ أجيب : بأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كلٌ يقول : نفسي نفسي، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم : هؤلاء الذين أضلونا وما كنا مشركين. ﴿ وتوفى كل نفس ﴾، صالحة أو غير صالحة، ﴿ ما عملت ﴾، أي : جزاءه من جنسه، ﴿ وهم لا يظلمون ﴾، أي : شيئاً.
ولما هدّد تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هدّدهم أيضاً بآفات الدنيا، وهي الوقوع في الجوع والخوف بقوله تعالى :﴿ وضرب الله ﴾، أي : المحيط بكل شيء ﴿ مثلاً ﴾، ويبدل منه، ﴿ قرية ﴾، هي مكة، والمراد أهلها، ﴿ كانت آمنة ﴾، أي : ذات أمن، ويأمن بها أهلها في زمن الخوف، قال تعالى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ﴾ [ العنكبوت، ٦٧ ]، والأمن في مكة كان كذلك ؛ لأنّ العرب كان يغير بعضهم على بعض دون أهل مكة، فإنهم كانوا أهل حرم الله، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم. ﴿ مطمئنة ﴾، أي : قارة بأهلها لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال، بسبب زيادة الأمن، بكثرة العدد وقوّة المدد، وكف الله تعالى الناس عنها، ووجود ما يحتاج إليه أهلها. فإن قيل : الاطمئنان هو الأمن فيلزم التكرار ؟ أجيب : بأنّ قوله تعالى :﴿ آمنة ﴾، إشارة إلى الأمن، وقوله تعالى :﴿ مطمئنة ﴾، أي : لا يحتاجون فيها إلى نجعة كما مرّ، وقيل : أشار تعالى بذلك إلى الصحة ؛ لأنّ هواء ذلك البلد كان ملائماً لأمزجتهم، فلذلك اطمأنوا إليه واستقرّوا. قالت العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية. ﴿ يأتيها ﴾، أي : على سبيل التجدّد والاستمرار، ﴿ رزقها رغداً ﴾، أي : واسعاً طيباً، ﴿ من كل مكان ﴾، برّ وبحر بتيسير الله تعالى. ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً نبه تعالى على ذلك بقوله تعالى :﴿ فكفرت بأنعم الله ﴾، أي : الذي له الكمال كله، وأنعم جمع نعمة. قال الزمخشري : على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع. وقال قطرب : هي جمع نعم، والنعم النعمة، يقال : هذه أيام نعم وطعم فلا تصوموا، وقيل : جمع نعماء، مثل بأساء وأبؤس. فإن قيل : الأنعم جمع قلة فكأنّ تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من نعم الله فعذبها الله تعالى، فلم لم يقل تعالى : كفروا بنعم عظيمة فاستوجبوا العذاب ؟ أجيب : بأنّ المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب، فبكفران النعم الكثيرة أولى، وبأنّ الله تعالى أنعم عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه. ﴿ فأذاقها الله ﴾، أي : المحيط بكل شيء، ﴿ لباس الجوع ﴾، بعد رغد العيش سبع سنين، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا، وأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة، وقيل : إنّ القرية غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلاً لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة. ﴿ والخوف ﴾ بسرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
تنبيه : استعير الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير عزة :
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف ؛ لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء، نظراً إلى المستعار له، ولو نظر إلى المستعار لقال : صافي الرداء، أي : سابغه ومعنى البيت : إذا ضحك المسؤول ضحكة أيقن السائل بذلك التبسم استرقاق رقاب ماله، وأنه يعطي بلا خلاف، وقد ينظر إلى المستعار له كقوله :
ينازعني ردائي عبد عمرو رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني ودونك فاعتجر منه بشطر
استعار الرداء للسيف، ثم قال : فاعتجر، نظراً إلى المستعار، ولو نظر إلى المستعار منه لقال تعالى في الآية : وكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير : صافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً، وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة، وقال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه فكانت لباسا
ومثله قوله تعالى :﴿ هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ ﴾ [ البقرة، ١٨٧ ] ومثله قول الشاعر :
وقد لبست بعد الزبير مجاشع لباس التي حاضت ولم تغسل الدما
كأنَّ العار لما باشرهم ولصق بهم كأنهم نسوة. وقوله تعالى :﴿ فأذاقها ﴾، نظير قوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ [ الدخان، ٤٩ ]، ونظير قول الشاعر :
دون ما جنيت فأحس وذق.
وقوله تعالى :﴿ بما كانوا يصنعون ﴾، يجوز أن تكون ما مصدرية، أي : بسبب صنعهم، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي : بسبب الذي كانوا يصنعونه، والواو في يصنعون عائد على أهل البلد، وقيل : قرية، نظير قوله تعالى :﴿ أو هم قائلون ﴾ [ الأعراف، ٤ ]، بعد قوله تعالى :﴿ وكم من قرية أهلكناها ﴾ [ الأعراف، ٤ ].
ولما ذكر الله تعالى المثل ذكر الممثل له فقال تعالى :﴿ ولقد جاءهم ﴾، أي : أهل هذه القرية، ﴿ رسول منهم ﴾، من نسبهم، يعرفونه بأصله ونسبه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فكذبوه فأخذهم العذاب ﴾، قال ابن عباس : يعني الجوع الذي كان بمكة، وقيل : القتل الذي كان يوم بدر، ﴿ وهم ظالمون ﴾ أي : في حال تلبسهم بالظلم كقوله تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ [ النساء، ٩٧ ]، نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم، والباقون بالإدغام.
ثم قال تعالى :﴿ فكلوا ﴾، أي : أيها المؤمنون، ﴿ مما رزقكم الله ﴾، قال ابن عباس : يريد من الغنائم. وقال الكلبي : إنّ رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا : عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، وكانت الميرة قد قطعت عنهم، فأذن في الحمل إليهم، فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى :﴿ كلوا مما رزقكم الله ﴾.
وقال الرازي : والقول ما قال ابن عباس، يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ إنما حرم عليكم الميتة ﴾، يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا مما رزقكم الله. ﴿ حلالاً طيباً ﴾، وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث، وهي الميتة والدم. ولما أمرهم تعالى بأكل الحلال أمرهم بشكر النعمة بقوله تعالى :﴿ واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون ﴾ أي : تطيعون.
تنبيه : رسمت نعمت بالتاء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالهاء والباقون بالتاء والكسائي يقف بالإمالة.
وتقدّم تفسير قوله تعالى :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم ﴾ [ البقرة، ١٧٣ ] في سورة البقرة فلا إفادة في تفسير ذلك. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة :﴿ فمن اضطر ﴾ في الوصل بكسر النون، والباقون بالضمّ.
تنبيه : حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور أيضاً في سورة الأنعام عند قوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه ﴾ [ الأنعام، ١٤٥ ] الآية. وفي سورة المائدة في قوله تعالى :﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ﴾ [ المائدة، ٤١ ]، وأجمعوا على أنّ المراد بقوله تعالى :﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾، هو قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله ﴾ [ البقرة، ١٧٣ ]
وقوله تعالى في المائدة :﴿ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ﴾ [ المائدة، ٣ ]
فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال تعالى :﴿ وما ذبح على النصب ﴾ [ المائدة، ٣ ]، وهو أحد الأشياء الداخلة تحت قوله تعالى :﴿ وما أهل به لغير الله ﴾ [ البقرة، ١٧٣ ]، فثبت أنّ هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة : سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان، فإنّ سورة البقرة مدنية، وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة إلا ما خصه الإجماع والدلائل العقلية القاطعة كان في محل أن يخشى عليه ؛ لأنّ هذه السورة دلت على أنّ حصر المحرمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أوّل زمان مكة وآخره، وأوّل زمان المدينة، وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربعة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة.
ولما حصر تعالى المحرمات في هذه الأربع، بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار، وفي الزيادة على هذه الأربعة تارة وفي النقصان عنها أخرى بقوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾، لما لم يحله الله ولم يحرمه، فإنهم كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكانوا يقولون :﴿ ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا ﴾ [ الأنعام، ١٣٩ ]، فقد زادوا في المحرمات، وزادوا أيضاً في المحللات ؛ لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، فبيّن تعالى أنّ المحرمات هي هذه الأربعة، وبين أن الأشياء التي يقولون هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله تعالى.
تنبيه : في انتصاب الكذب وجهان ؛ أحدهما : قال الكسائي : ما مصدرية، والتقدير : ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام، نظيره أن يقال : لا تقولوا لكذا وكذا كذا وكذا. فإن قيل : حمل الآية على هذا يؤدّي إلى التكرار ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿ لتفتروا على الله الكذب ﴾، عين ذلك ؟ أجيب : بأنّ قوله تعالى :﴿ لما تصف ألسنتكم الكذب ﴾، ليس فيه بيان أنه كذب على الله، فأعاده ليحصل فيه هذا البيان الزائد. ونظيره في القرآن كثير، وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ويعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني : أن تكون ما موصولة، والتقدير : ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، وحذف لفظ " فيه " لكونه معلوماً، وقيل : اللام في " لتفتروا " لام العاقبة كما في قوله تعالى :﴿ ليكون لهم عدوًّا وحزناً ﴾ [ القصص، ٨ ]. فإن قيل : ما معنى وصف ألسنتكم الكذب ؟ أجيب : بأنّ ذلك من فصيح الكلام وبليغه جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، وإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته، كقولهم : وجهها يصف الجمال، أي : هي جميلة، وعينها تصف السحر، أي : هي ساحرة، فلما أرادوا المبالغة في وصف الوجه بالجمال ووصف العين بالسحر عبروا بذلك.
ثم إنه تعالى أوعد المفترين بقوله تعالى :﴿ إنّ الذين يفترون على الله ﴾، أي : الذي له الملك كله، ﴿ الكذب ﴾، منكم ومن غيركم، ﴿ لا يفلحون ﴾، أي : لا يفوزون بخير ؛ لأن المفتري يفتري لتحصيل مطلوب، فنفى الله تعالى عنه الفلاح ؛ لأنه الفوز بالخير والنجاح.
ثم بين تعالى أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب بقوله تعالى :﴿ متاع قليل ﴾، أي : منفعة قليلة تنقطع عن قرب لفنائه، وإن امتدّ ألف عام، ﴿ ولهم ﴾ بعده ﴿ عذاب أليم ﴾، أي : مؤلم في الآخرة.
ولما بين تعالى ما يحل ويحرم لأهل الإسلام، أتبعه ببيان ما يخص اليهودية من المحرمات بقوله تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا ﴾، أي : اليهود، ﴿ حرّمنا ﴾ عليهم عقوبة لهم بعداوتهم وكذبهم على ربهم، ﴿ ما قصصنا عليك ﴾ يا أجل المرسلين، ﴿ من قبل ﴾، أي : في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ﴾ [ الأنعام، ١٤٦ ] الآية. ﴿ وما ظلمناهم ﴾، أي : بتحريم ذلك عليهم، ﴿ ولكن كانوا ﴾، أي : دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمرًّا، ﴿ أنفسهم ﴾، خاصة، ﴿ يظلمون ﴾ بالبغي والكفر، فضيقنا عليهم معاملة بالعدل، وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل، فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة.
ولما بيّن تعالى هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جدًّا استجلاباً لكل ظالم، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى :﴿ ثم إن ربك ﴾، أي : المحسن إليك، ﴿ للذين عملوا السوء ﴾، وهو يتناول كل ما لا ينبغي فعله، فيشمل الكفر وسائر المعاصي، ﴿ بجهالة ﴾، أي : بسببها أو ملتبسين بها ليعمّ الجهل بالله وبقضائه وعدم التدبر في العواقب، فكل من عمل سوءاً إنما يفعله بالجهالة، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً ؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقاً فإنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية فلأن العالم لم تصدر منه المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل، فثبت أنّ كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة. ﴿ ثم تابوا من بعد ذلك ﴾، أي : الذنب ولو كان عظيماً واقتصروا على ما أذن فيه خالقهم، ﴿ وأصلحوا ﴾ بالاستمرار على ذلك، ﴿ إن ربك ﴾، أي : المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره، ﴿ من بعدها ﴾، أي : التوبة، ﴿ لغفور ﴾، أي : بليغ الستر لما عملوا من السوء، ﴿ رحيم ﴾، أي : بليغ الرحمة، محسن بالإكرام فضلاً منه ونعمة.
ولما دعاهم الله تعالى إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها، بقبوله لمن أقبل إليه، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام رئيس الموحدين لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ووصفه بتسع صفات.
الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمّة ﴾، أي : لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرّقة في أشخاص كثيرة كقول القائل :
وليس لله، ( أي :
من الله ) بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
أي : أن يجمع صفاتهم في شخص واحد. وقال مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كانوا كفاراً، فلهذا المعنى كان وحده أمّة واحدة. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل :«يبعثه الله امّة واحدة ». وعن شهر بن حوشب : لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله تعالى بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده، وقيل : أمّة فعلة بمعنى مفعول، كالدخلة والنخبة، من أمّه إذا قصده واقتدى به، فإنّ الناس كانوا يؤمونه للاستفادة، ويقتدون بسيره كقوله تعالى :﴿ إني جاعلك للناس إماماً ﴾ [ البقرة، ١٢٤ ]. وقرأ هشام أن إبراهام وملة إبراهام بالألف بعد الهاء فيهما. وقرأ الباقون بالياء فيهما. الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ قانتاً لله ﴾، أي : مطيعاً له قائماً بأوامره. الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ حنيفاً ﴾، أي : مائلاً عن الباطل، قال ابن عباس : إنه أوّل من اختتن، وأقام مناسك الحج، وضحى وهذه السنة الحنيفية. الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ ولم يك من المشركين ﴾، أي : أنه عليه الصلاة والسلام كان من الموحدين في الصغر والكبر، وقد أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله :﴿ لا أحب الآفلين ﴾ [ الأنعام، ٧٦ ]، ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أنّ القوم ألقوه في النار، وذلك دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه، وهو قوله :﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾ [ البقرة، ٢٥٨ ]. ثم طلب من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ليحصل له زيادة الطمأنينة. قال الرازي : ومن وقف على علم القرآن علم أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان غريقاً في بحر علم التوحيد.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ شاكراً لأنعمه ﴾، فإن قيل : لفظ الأنعم جمع قلة، ونعمة الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة فلم قال :﴿ شاكراً لأنعمه ﴾ ؟ أجيب : بأنه ذكر القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر القليلة فكيف بالكثيرة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يتغدّى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيلوا له أنّ بهم جذاماً فقال لهم : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم بهذا البلاء. الصفة السادسة : قوله تعالى :﴿ اجتباه ﴾، أي : اصطفاه للنبوّة واختاره لخلقه. الصفة السابعة : قوله تعالى :﴿ وهداه إلى صراط مستقيم ﴾، أي : وهداه إلى دين الإسلام ؛ لأنه الصراط المستقيم، والدين القويم، ونظيره قوله تعالى :﴿ وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ﴾ [ الأنعام، ١٥٣ ].
الصفة الثامنة : قوله تعالى :﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾، قال قتادة : حببه للناس حتى أنّ أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه، وأمّا المسلمون واليهود والنصارى فظاهر، وأمّا كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به، وتحقيق القول أنّ الله تعالى أجاب دعاءه في قوله :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ [ الشعراء، ٨٤ ]،
وقال آخرون : هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل : أولاداً أبراراً على الكبر. الصفة التاسعة : قوله تعالى :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾، في الجنة. فإن قيل : لم لم يقل تعالى في أعلى مقامات الصالحين ؟ أجيب : بأنه تعالى حكى عنه أنه قال :﴿ رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ﴾ [ الشعراء، ٨٣ ]، فقال تعالى هنا :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾، تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه، ثم إنّ كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين، فإنّ الله تعالى بيّن ذلك في آية أخرى، وهي قوله تعالى :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ﴾ [ الأنعام، ٨٣ ].
ولما وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في أتباعه مشيراً إلى علو مرتبته بحرف التراخي بقوله تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك ﴾ يا أشرف الرسل. وقيل : أتي ب " ثم " للتراخي، أي : لتراخي أيامه عن أيام إبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام. ﴿ أن اتّبع ملة إبراهيم ﴾ في التوحيد والدعوة إليه بالرفق، وإيراد الدلائل مرّة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه، ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً. وقيل : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له وقوله تعالى :﴿ حنيفاً ﴾، حال من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويصح أن يكون حالاً من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى :﴿ وما كان من المشركين ﴾، كرّره ردًّا على من زعم من اليهود والنصارى أنهم على دينه.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ﴾، فيه قولان : الأوّل : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة، وقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل عليهم السبت وشدّد عليهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم، أي : اليهود بعد عيدنا فاتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«أن الله تعالى كتب يوم الجمعة على من كان قبلكم فاختلفوا فيه، وهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد ». فإن قيل : هل في العقل وجه يدل على أنّ الجمعة أفضل من السبت والأحد، فإن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ تعالى بالخلق والتكوين في يوم الأحد وتمم في يوم الجمعة، فكان يوم السبت يوم الفراغ فقالت اليهود : نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال فعينوا يوم السبت لهذا المعنى. وقالت النصارى : مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدنا، فهذان الوجهان معقولان لنا فما وجه جعل يوم الجمعة عيداً ؟ أجيب : بأنّ يوم الجمعة هو يوم التمام والكمال، وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه. القول الثاني : اختلافهم في السبت هو أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة. ﴿ وإن ربك ﴾، أي : المحسن إليك بطواعية أصحابك لك، ﴿ ليحكم بينهم ﴾، أي : هؤلاء المختلفين، ﴿ يوم القيامة ﴾، وهو يوم اجتماع جميع الخلائق، ﴿ فيما كانوا فيه يختلفون ﴾، فيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب.
ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه بقوله تعالى :﴿ ادع ﴾، أي : كل من تمكن دعوته ممن بعثت إليه، ﴿ إلى سبيل ربك ﴾، أي : المحسن إليك بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية، ﴿ بالحكمة ﴾، أي : المعاملة المحكمة وهو الدليل الواضح المزيل للشبهة، ﴿ والموعظة الحسنة ﴾، أي : بالدعاء إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب بالخطابات المتقنة والعبارات النافعة. والأولى لدعوى خواص الأمة الطالبين للحقائق، والثانية لدعوى عوامهم. ﴿ وجادلهم ﴾، أي : وجادل معانديهم، ﴿ بالتي ﴾، أي : بالمجادلة التي ﴿ هي أحسن ﴾، كالدعاء إلى الله تعالى بآياته، والدعاء إلى حججه بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير غلظ ولا تعسف فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم، وتبيين شبههم، وقيل : المراد بالحكمة القرآن، أي : ادعهم بالقرآن والموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وفي الأمر بالمجادلة التي هي أحسن الإعراض عن أذاهم وعدم التقصير في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق، وعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير : هذا منسوخ بآية السيف، وقيل : إنّ الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام : القسم الأوّل : العلماء الكاملون وهم أصحاب العلوم الصحيحة والبصائر الشافية الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ﴾، أي : ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية، حتى يعلموا الأشياء بحقائقها وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني : أصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية، وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حد الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوسط الأقسام وهم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ والموعظة الحسنة ﴾، أي : ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث : أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ وجادلهم بالتي أحسن ﴾، أي : حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه.
﴿ إن ربك ﴾، المحسن إليك بالتخفيف عنك، ﴿ هو أعلم ﴾، أي : من كل من يتوهم فيه علم، ﴿ بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾، أي : فهو سبحانه وتعالى أعلم بالفريقين، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب في حديد بارد فما عليك إلا البلاغ والدعوة، وأمّا حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس ذلك إليك، وهذا قبل الأمر بالقتال.
وذكر في قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾، أقوال : أحدها : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شي قط أوجع لقلبه منه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أراد وكفر عن يمينه ». وقال المسلمون أيضاً : لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به، إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم، يعني : على صنيعهم، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد.
القول الثاني : أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ﴾ [ البقرة، ١٩ ] وفي هذه الآية أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. القول الثالث : أنّ المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين. قال الرازي : وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله، وهو غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال : إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحق بإحدى الطرق الثلاثة وهي : الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن، ثم إنّ تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً. ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟ أجيب : بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية، فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.
تنبيه : أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية، ورتب ذلك على أربع مراتب المرتبة الأولى : قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾، أي : إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله تعالى ورحمته، وفي قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾، دليل على أنّ الأولى له أن لا يفعل كما أنك إذا قلت للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة، فكل التفاح، كان معناه : أنّ الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز، والتعريض أنّ الأولى تركه.
المرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله تعالى :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾، وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأنّ الرحمة أفضل من القسوة والانتفاع أفضل من الانتقام. وقرأ " لهو " قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون برفعها.
المرتبة الثالثة : هو الأمر الجازم بالترك وهو قوله تعالى :﴿ واصبر ﴾ ؛ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أنّ الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة : صرّح بالأمر بالصبر في هذا المقام. ولما كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقاً ذكر بعده ما يفيد سهولته بقوله تعالى :﴿ وما صبرك إلا بالله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم فذلك بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي. ثم ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب بقوله سبحانه وتعالى :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ أي : في شدّة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس، ﴿ ولا تك في ضيق ﴾، ولو قل كما لوّح إليه بتنوين التحقير، ﴿ مما يمكرون ﴾، أي : من استمرار مكرهم بك، ﴿ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ﴾ [ الحجر، ٩٩ ]، وكأنك به وقد أتى فاصبر فإنّ الله معزك ومظهر دينك. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بنصبها.
تنبيه : هذا من الكلام المقلوب ؛ لأنّ الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى : ولا يكن الضيق فيك إلا أنّ الفائدة في قوله تعالى :﴿ ولا تك في ضيق ﴾، هو أنّ الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب، وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى.
المرتبة الرابعة : قوله تعالى :﴿ إنّ الله ﴾، أي : الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه، ﴿ مع الذين اتقوا ﴾، أي : وجد منهم الخوف من الله تعالى واجتنبوا المعاصي، ن ﴿ والذين هم محسنون ﴾ في أعمالهم والشفقة على خلقه، وهذا يجري مجرى التهديد ؛ لأنّ في المرتبة الأولى رغبة في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله تعالى :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾. وفي المرتبة الثالثة : أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة : كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام فقال :﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾، أي : عن استيفاء الزيادة ﴿ والذين هم محسنون ﴾، أي : في ترك أصل الانتقام فكأنه تعالى قال : إن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين، وهذه المعية بالرحمة والفضل والتربية، وفي قوله تعالى :﴿ اتقوا ﴾، إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وفي قوله :﴿ والذين هم محسنون ﴾، إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى، قيل لهرم بن حبان عند قرب وفاته أوصي فقال : إنّ الوصية في المال ولا مال لي، ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النحل. تنبيه : قال بعضهم : إنّ قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم ﴾ إلى ﴿ لهو خير للصابرين ﴾ منسوخ بآية السيف. قال الرازي : وهذا في غاية البعد ؛ لأنّ المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوى إلى الله تعالى وترك التعدّي وطلب الزيادة ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف.
Icon