تفسير سورة الإسراء

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا... ﴾ ( ١ ) [ الإسراء : ١ ].
قال " بعبده " دون نبيّه أو حبيبه، لئلا تضلّ به أمّته، كما ضلّت أمة المسيح، حيث دعته إلها.
أو لأن وصفه بالعبودية، المضافة إلى الله تعالى أشرف المقامات، وقال " ليلا " مُنكَّرا، ليدلّ على قصر زمن الإسراء، مع أن بين مكة وبيت المقدس، مسيرة أربعين ليلة، لأن التنكير يدلّ على البعضيّة.
والحكمة في إسرائه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، دون مكة، لأنه محشر الخلائق، فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة، وقوفهم ببركة أثر قدمه.
أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء، فأراد الله أن يشرّفهم بزيارته صلى الله عليه وسلم.
أو أُسري به منه، ليشاهد من أحواله وصفاته، ما يُخبر به كفار مكة( ٢ )، صبيحة تلك الليلة، فيكون إخباره بذلك مطابقا لما رأوا، وشاهدا ودليلا على صدقه في الإسراء.
قوله تعالى :﴿ الذي باركنا حوله... ﴾ [ الإسراء : ١ ].
هو أعمّ من أن يقال : باركنا عليه، أو فيه، لإفادته شمول البركة، لما أحاط بالمسجد من أرض الشام بالمنطوق، وللمسجد بمفهوم الأولى.
١ - لم يقل تعالى بمحمد، وإنما قال "بعبده" تشريفا وتعظيما له صلوات الله عليه، فإنّ إضافته إليه إضافة تشريف وتكريم، فافهم سرّ التعبير رعاك الله..
٢ - روى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لمّا كذّبتني قريش في مَسْراي، كُرِبْتُ كُرْبَةً لم أُكرب قبلها قطّ، فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)..
قوله تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها... ﴾ الآية [ الإسراء : ٧ ].
" فلها " اللام للاختصاص، أو بمعنى " على "، كما في قوله تعالى :﴿ يخرّون للأذقان سجّدا ﴾ [ الإسراء : ١٠٧ ].
قوله تعالى :﴿ ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
قال ذلك هنا بلفظ " كبيراً "، وقاله في الكهف بلفظ " حسنا "، موافقة للفواصل قبلهما وبعدهما.
قوله تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل... ﴾ [ الإسراء : ١٢ ].
إن قلتَ : لم ثنّى الآية هنا، وأفردها في قوله :﴿ وجعلناها وابنها آية ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ] ؟
قلت : لتباين الليل والنهار من كل وجه، ولتكررهما، فناسبهما التثنية، بخلاف " عيسى " مع أمّه، فإنه جزء منها، ولا تكرر فيهما، فناسبهما الإفراد.
قوله تعالى :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة... ﴾ [ الإسراء : ١٢ ].
أي مضيئة لأن النهار لا يبصر( ١ ).
١ - هذا يسمى في علم البلاغة "المجاز العقلي" لأنه يدرك بالعقل..
قوله تعالى :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾ [ الإسراء : ١٤ ].
لا ينافي قوله تعالى :﴿ وكفى بنا حاسبين ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] لأن في يوم القيامة مواقف مختلفة، ففي موقف يكل الله حسابهم إلى أنفسهم، وعلمُه محيط بهم، وفي موقف يحاسبهم هو تعالى.
وقيل : هو الذي يحاسبهم لا غير، وقوله :﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾ [ الإسراء : ١٤ ] أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها، فهو توبيخ وتقريع، لا تفويض حساب العبد إلى نفسه( ١ ).
وقيل : من يريد مناقشته( ٢ ) في الحساب، يحاسبه بنفسه، ومن يريد مسامحته يكل حسابه إليه.
١ - هذا هو الصحيح أن الآية وردت مورد التقريع والتوبيخ أي كفى بنفسك شاهدا عليها بما اقترفت من جرائم وآثام..
٢ - في مخطوطة الجامعة "مناقشة" وما أثبتناه من المصوّرة وهو الصحيح..
قوله تعالى :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها... ﴾ الآية [ الإسراء : ١٦ ].
﴿ أمرنا مترفيها ﴾ أي أردنا منهم الفسق، أو أمرناهم بالطاعة( ١ )، أو كثّرناهم ففسقوا، يقال : أمرته، وآمرته، بالقصر والمدّ، بمعنى كثّرته. وقيّد بالمترفين وإن كان الأمر لا يختصّ بهم، لأن صلاحهم أو فسادهم، مستلزم لصلاح غيرهم أو فساده.
١ - هذا هو الصحيح في معنى الآية أي أمرناهم بطاعتنا ففسقوا وعصوا وخالفوا، ففي الآية حذف، لأن الله لا يأمر بالفحشاء، كما قال سبحانه: ﴿قل إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾..
قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد... ﴾ الآية [ الإسراء : ١٨ ].
إن قلتَ : قضيّته أن من لم يترك الدنيا يكون من أهل النار، وليس كذلك ؟   !
قلتُ : المراد من لم يرد بإسلامه وعبادته إلا الدنيا، وهذا لا يكون إلا كافرا، أو منافقا.
قوله تعالى :﴿ وما كان عطاء ربّك محظورا ﴾ [ الإسراء : ٢٠ ] أي ممنوعا.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنا نشاهد الواحد، لا يقدر على دانق، وآخر معه الألوف ؟   !
قلتُ : المراد بالعطاء هنا الرزق، والله سوّى في ضمانه بين المطيع والعاصي( ١ ) من العباد، فلا تفاوت بينهم في أصل الرزق، وإنما التفاوت بينهم في مقادير الأملاك، وإنما لم يمنع الكفار الرزق، كما منعهم الهداية، لأن في منعه له هلاكهم، وقيام الحجة لهم، بأن يقولوا : لو أمهلتنا ورزقتنا، لبقينا أحياء فآمنا.
ولأنه لو منعهم الرزق لكان قد عاجلهم بالعقوبة، ولكان ذلك من صفات البخلاء، والله منزّه عن ذلك، لأنه حليم كريم.
ولأن إعطاء الرزق لجميع العباد عدل، وعدل الله عامّ، وهبة الهداية فضل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
١ - ضمن لهم الرزق في قوله ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ والدابة كل ما يدبّ ويمشي على وجه الأرض من إنسان وحيوان..
قوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ]. قال ذلك هنا، ثم قال :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] ثم قال :﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتُلقى في جهنم ملوما مدحورا ﴾ [ الإسراء : ٣٩ ].
ولا تكرار فيها، لأن الأولى في الدنيا، والثالثة في الآخرة، والخطاب فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم على الراجح والمراد به غيره، كما في آية ﴿ إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ].
وأما الثانية فخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا، وهو المراد به، وذلك أن امرأة بعثت صبيّا إليه مرّة بعد أخرى، سألته قميصا، ولم يكن عليه، ولا له قميص غيره، فنزعه ودفعه إليه، فدخل وقت الصلاة فلم يخرج في الحين، فدخل عليه أصحابه فرأوه على تلك الصّفة، فلاموه على ذلك، فأنزل الله ﴿ فتقعد ملوما ﴾ أي يلومك الناس ﴿ محسورا ﴾ أي مكشوفا، وقيل : مقطوعا عن الخروج إلى الجماعة( ١ ).
١ - هذه القصة غريبة، وليس لها سند صحيح، والمعنى كما يذكر المفسرون: لا تكن بخيلا ممتنعا عن الإنفاق، كمن رُبطت يده مع عنقه، فلا يستطيع أن يخرج من جيبه شيئا، ولا تكن مسرفا مبذّرا، كمن أنفق كل ما في جيبه، فتصبح فقيرا عديم المال، يلومك الناس ويذمّونك، وهذه الآية أرست قواعد الاقتصاد المالي، فلا بخل ولا إسراف، هذا هو الصحيح في معنى الآية الكريمة..
قوله تعالى :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾ الآية [ الإسراء : ٢٣ ].
فائدة : ذكر " عندك " أنهما يكبران في بيته وكنفه، ويكونان كلاّ عليه، لا كافل لهما غيره، وربّما ناله منهما من المشاقّ، ما كان ينالهما منه في حال الصّغر.
قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، هو أعمّ من أن يقال : " ولا تزنوا " ليفيد النهي عن مقدّمات الزّنا، كاللمس والقبلة بالمنطوق، وعن الزنا بمفهوم الأولى.
قوله تعالى :﴿ ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ﴾ [ الإسراء : ٤١ ].
قال ذلك هنا بحذف " للناس " اكتفاء بذكره قبل، بلفظ ﴿ وكل إنس ألزمناه طائره في عنقه ﴾ [ الإسراء : ١٣ ].
وقاله بعدُ بذكره( ١ )، ليتميّز عن الجن، لجريان ذكرهما معا قبل.
وقُدِّم على ﴿ في هذا القرآن ﴾ هنا في الآية الثانية، اهتماما بالتمييز المذكور، وبالناس لأنهم الأصل في التكليف، ولهذا اقتصر عليهم في غالب الآيات كقوله ﴿ يا أيها الناس ﴾ [ البقرة : ٢١ ] وقوله ﴿ من بعد ما بيّناه للناس ﴾ [ البقرة : ١٥٩ ] وقوله ﴿ الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ].
وعكس( ٢ ) في الكهف لمناسبة قوله قبلُ ﴿ مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ﴾ ؟ [ الكهف : ٤٩ ].
١ - في قوله تعالى: ﴿لقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا﴾ آية (٨٩) فقد سبقها قوله تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن﴾ الآية..
٢ - سورة الكهف آية (٤٩) ﴿ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل﴾..
قوله تعالى :﴿ تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهن ﴾ الآية [ الإسراء : ٤٥ ]. ضمير " فيهن " عائد إلى السموات والأرض، والتسبيح –وهو التنزيه- شامل للتسبيح بلسان المقال، كما في المؤمنين، وبلسان الحال( ١ ) كما في سائر الموجودات، إذ كلّ موجود يدلّ على قدرته تعالى، وفي ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز عند الشافعي رضي الله عنه.
فإن قلتَ : يمنع من شموله للثاني قوله ﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] لأنه مفقوه لنا ؟
قلتُ : الخطاب فيه للكفّار، وهم لم يفقهوا تسبيح الموجودات، لأنهم أثبتوا لله شركا، وزوجا، وولدا، بل هم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد، والنبوّة والمعاد.
١ - المراد بلسان الحال: أن وجود هذه المخلوقات من شمس، وقمر، ونجوم، وبحار، وأنهار، كلها شاهدة على وحدانية الله وقدرته، وأن لهذأ الكون إلها يسيّره ويدبّره، كما قال القائل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.

قوله تعالى :﴿ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾ [ الإسراء : ٤٩ ].
أعادها بعينها آخر السورة، وليس تكرارا، لأن الأولى من كلامهم في الدنيا، حين أنكروا البعث، والثانية من كلام الله تعالى، حين جازاهم على كفرهم وإنكارهم البعث فقال :﴿ مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾ الآية [ الإسراء : ٩٧ ].
وقال هنا :﴿ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا ﴾ [ الإسراء : ٩٨ ] وفي الكهف ﴿ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا ﴾ [ الكهف : ١٠٦ ] بزيادة " جهنم " اكتفى هنا بالإشارة، ولتقدم ذكر جهنم وهي –وإن تقدّمت في الكهف- لم يكتف بالإشارة، بل جمع بينها وبين العبارة، لاقتران الوعيد بالوعد بالجنات، في قوله ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ﴾ [ الكهف : ١٠٧ ] ليكون الوعد والوعيد( ١ ) ظاهرين للمستمعين.
١ - المراد بالوعد والوعيد "الترغيب والترهيب" الذي وردت في هذه الآيات الكريمة..
قوله تعالى :﴿ ولقد فضّلنا بعض النبيئين على بعض وآتينا داود زبورا ﴾ [ الإسراء : ٥٥ ].
إن قلتَ : لم خصّ " داود " بالذكر ؟
قلتُ : لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء، وهو الرسالة، والكتابة، والخطابة، والخلافة، والملك، والقضاء، في زمن واحد، قال تعالى :﴿ وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ﴾ [ ص : ٢٠ ] وقال ﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق... ﴾ [ ص : ٢٦ ].
فإن قلتَ : لم نكّر الزّبور هنا، وعرّفه في قوله :﴿ ولقد كتبنا في الزبور ﴾ ؟ [ الأنبياء : ١٠٥ ].
قلتُ : يجوز أن يكون الزبور من الأعلام التي يستعمل ب " أل " وبدونها، كالعباس، والفضل.
أو نكّره هنا بمعنى آتيناه بعض الزّبور وهي الكتب، أو أراد به ما فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسمى بعض الزّبور زبورا، كما سمى بعض القرآن قرآنا في قوله تعالى :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ].
قوله تعالى :﴿ قل ادعو الذي زعمتم من دونه ﴾ [ الإسراء : ٥٦ ].
قاله هنا بالضمير لقرب مرجعه، وهو الرب في قوله ﴿ وربك أعلم ﴾ [ يونس : ٤٠ ].
وقال في سبأ ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ﴾ بالاسم الظاهر، لبعد مرجع الضمير لو أُتي به، والمراد فيهما : قل ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله أي غيره لينفعوكم بزعمكم.
فإن قلتَ : كيف قال " من دونه " مع أن المشركين ما زعموا غير الله إلها دون الله، بل مع الله على وجه الشركة ؟
قلتُ : في الكلام تقديم وتأخير، تقديره : قل ادعوا الذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء.
قوله تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون... ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ]، أي وما منعنا أن نرسل رسولا، بالآيات التي اقترحها أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم، كجعل الصفا ذهبا، وإزالة جبال مكة( ١ ) ليزرعوا، إلا تكذيب الأولين بها أي بآيات اقترحوها على رسلهم لما أرسلناها فأهلكناهم، ولو أرسلناها إلا هؤلاء فكذبوا بها واستحقوا الإهلاك، وقد حكمنا بإمهالهم ليتم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنّا لا نعجّل بالعقوبة.
فإن قلتَ : كيف قال ﴿ وما منعنا ﴾ الخ، مع أنه تعالى لا يمنعه عن إرادته مانع ؟
قلتُ : المنع هنا مجاز عن الترك، كأنه قال : وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات، إلا تكذيب الأولين.
قوله تعالى :﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة... ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] أي دالة كما يقال : الدليل مرشد وهاد.
فإن قلتَ : ما وجه ارتباط هذا بما قبله ؟
قلتُ : لمّا أخبر( ٢ ) بأن الأولين كذّبوا بالآيات المقترحة، عيّن منها " ناقة صالح " لأن آثار ديارهم الهالكة، باقية في بلاد العرب، قريبة من حدودهم، يبصرها صادرُهم وواردُهم.
قوله تعالى :﴿ فظلموا بها... ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] آي بالناقة.
الباء ليست للتعدية، لأن الظلم يتعدّى بنفسه، فالمعنى : فظلموا أنفسهم بقتلها أي بسببه.
قوله تعالى :﴿ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ].
إن قلتَ : هذا يدل على الإرسال بالآيات، وقوله قبلُ :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] يدلّ على عدمه ؟   !
قلتُ : المراد بالآيات هنا : العِبَر، والدّلالات، وفيما قبلُ : الآيات المقترحة.
١ - في المصوّرة: إزالة مكة وقد سقط منها لفظة "جبال" وما أثبتناه في مخطوطة الجامعة..
٢ - في الأصل: لما أخبرنا الأولين، وما أثبتناه من المصوّرة وهو الصواب..
قوله تعالى :﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ].
إن قلتَ : ليس في القرآن لعن شجرة ؟
قلتُ : فيه إضمار تقديره : والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن.
أو معناه : الملعون آكلوها وهم الكفرة، أو الملعونة بمعنى المذمومة، وهي مذمومة في القرآن بقوله تعالى :﴿ إن شجرة الزّقوم طعام الأثيم ﴾ [ الدخان : ٤٣، ٤٤ ] وبقوله تعالى :﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٥ ].
أو الملعونة بمعنى المبعدة، لأن اللعن لغة : الطّرد والإبعاد، وهذه الشجرة مبعدة عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة، لأنها في قعر جهنم، وهذا الإبعاد مذكور في القرآن بقوله تعالى :﴿ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ﴾ [ الصافات : ٦٤ ].
قوله تعالى :﴿ قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ... ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ].
قاله هنا بتكرير الخطاب، كنظيره في " أرأيتكم " ( ١ ) في الأنعام، لدلالته على أن المخاطب به أمر عظيم، وهو هنا كذلك، لأن الشيطان –لعنه الله- ضمن بقوله ﴿ لأحتنكن ذرّيته إلا قليلا ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ] إغواء أكثرهم.
١ - في قوله تعالى: ﴿قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة﴾ آية (٤٠)..
قوله تعالى :﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ﴾ [ الإسراء : ٧١ ].
إن قلتَ : لم خصّهم بذلك، مع أن أصحاب الشمال كذلك ؟
قلتُ : لأن أصحاب الشمال، إذا نظروا إلى ما في كتابهم من الفضائح والقبائح( ١ )، أخذهم من الحياء والخجل والخوف، ما يوجب انقباض أنفسهم عن إقامة الحروف، فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأمرُ أصحاب اليمين على العكس.
وأما قوله تعالى :﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾ [ النساء : ٤٩ ] فعائد إلى كل الناس، لا إلى أصحاب اليمين خاصة، وإنما خصّهم بذلك لأنهم يعلمون أنهم لا يظلمون، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال، فإنهم يعتقدون أو يظنون أنهم يُظلمون.
١ - في المخطوطة (الفتايح) وهو خطأ ظاهر..
قوله تعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ﴾ الآية [ الإسراء : ٩٤ ].
قال ذلك هنا، وقاله في الكهف( ١ ) بزيادة ﴿ ويستغفروا ربّهم ﴾ [ الكهف : ٥٥ ]. لأن المعنى هنا : ما منعهم عن الإيمان بمحمد، إلا قولهم :﴿ أبعث الله بشرى رسولا ﴾ ؟ [ الإسراء : ٩٤ ] هلا بعث ملكا  ! ! وجهلوا أن التجانس يورث التّوانس، والتغاير يورث التنافر.
والمعنى في الكهف : ما منعهم عن الإيمان والاستغفار، إلا إتيان سنّة الأولين، فزاد فيها ﴿ ويستغفروا ربهم ﴾ لاتصاله بقوله :﴿ سنة الأولين ﴾ [ الكهف : ٥٥ ] وهم قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب، حيث أُمروا بالاستغفار.
فنوح قال :﴿ استغفروا ربّكم إنه كان غفّارا ﴾ [ نوح : ١٠ ]. وهود قال :﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ﴾. وشعيب قالك ﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ﴾ [ هود : ٩٠ ].
١ - في الكهف: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا﴾ آية (٥٥)..
قوله تعالى :﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾ [ الإسراء : ٩٦ ].
قال ذلك هنا بتقديم " شهيدا " على ﴿ بيني وبينكم ﴾ [ الإسراء : ٩٦ ] وقاله في العنكبوت( ١ ) بالعكس... لأن ما هنا جاء على الأصل من تقديم المفعول، وما في العنكبوت جاء على خلاف الأصل، ليتّصل وصف الشهيد به، وهو قوله تعالى :﴿ يعلم ما في السموات والأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ].
١ - في العنكبوت ﴿قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا﴾ آية (٥٢)..
قوله تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم... ﴾ [ الإسراء : ٩٩ ].
قال ذلك هنا بلفظ " قادر " وفي الأحقاف( ١ ) بلفظ " بقادر " وفي يس ﴿ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر... ﴾ [ يس : ٨١ ] لأن ما هنا خبر " إن "، وما في يس خبر " ليس " وخبرها تدخله الباء، وما في الأحقاف خبر " إنّ " وكان القياس عدم دخول الباء فيه، لكنها دخلته تشبيها ل " لمْ " في النفي.
١ - في الأحقاف: ﴿أو لم يروا أن الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير﴾ آية (٣٣)..
قوله تعالى :﴿ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا ربّ السموات والأرض بصائرَ... ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ].
إن قلتَ : كيف قال موسى عليه السلام لفرعون ذلك، مع أن فرعون لم يعلم ذلك، لأنه لو علم ذلك، لم يقل لموسى عليه السلام " مسحورا " بل كان يؤمن به ؟   !
قلتُ : معناه لقد علمتَ لو نظرت نظرا صحيحا، ولكنك معاند مكابر، تخشى فوات دعوى الألوهية لو صدّقتني  !.
قوله تعالى :﴿ وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ].
أي هالكا، أو ملعونان أو خاسرا.
فإن قلتَ : كيف قال له " لأظنك " مع أنه يعلم أنه مثبور ؟   !
قلتُ : الظن هنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ [ البقرة : ٤٦ ].
وإنما عبّر بالظن، ليقابل( ١ ) قول فرعون له : " لأظنك مسحورا " كأنه قال : إذا ظننتني مسحورا، فأنا أظنك مثبورا.
١ - فرعون قال لموسى: ﴿إني لأظنك يا موسى مسحورا﴾ فكان جواب موسى مقابلا لجوابه حين قال له: ﴿وإني لأظنك يا فرعون مثبورا﴾ وهذا من لطيف علم البديع..
قوله تعالى :﴿ يخرّون للأذقان سجّدا... ﴾ الآية [ الإسراء : ١٠٩ ].
كرّره( ٢ ) لأن الأول واقع في حال السجود، والثاني في حال البكاء، أو الأول واقع في قراءة القرآن، أو سماعه، والثاني في غير ذلك.
Icon