تفسير سورة محمد

معاني القرآن
تفسير سورة سورة محمد من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قوله عز وَجل :﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾.
نصب على الأمر، وَالذي نصب به مضمر، وَكذلك كل أمر أظهرَتَ فيه الأسماء، وَتركت الأفعال فانصب فيه الأسماء، وَذكر : أنه أدبٌ من الله وتعليم للمؤمنين للقتال.
وقوله :﴿ فَإِما مَنا بَعْدُ وَإِما فِدَاء ﴾.
منصوب أيضاً على فعل مضمر، فإما أن تمنُّوا، وَإما أن تفدوا، فالمن : أن تترك الأسير بغير فداء، وَالفداء : أن يفدىَ المأسورُ نفسه.
وقوله :﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَها ﴾.
آثامها وَشركها حتى لا يبقى إِلاّ مسلم، أو مسالم. وَالهاء التي في أوزارها تكون للحرب وَأنت تعنى : أوزار أهلها، وَتكون لأهل الشرك خاصةً، كقولك : حتى تنفي الحرب أوزار المشركين.
وقوله :﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يشاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾.
بملائكة غيركم، ويقال : بغير قتال : ولكن ليبلو بعضكم ببعض، المؤمن بالكافر، والكافر بالمؤمن.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ قَاتَلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
قرأها الأعمش وعاصم وزيد بن ثابت [ حدثنا محمد ] حدثنا الفراء قال : حدثني بذلك محمد بن الفضل الخراساني عن [ عطاء عن أبي ] عبد الرحمن عن زيد بن ثابت : قاتَلوا، وقرأها الحسن : قُتِّلوا مشددة، وقد خففها بعضهم فقال : قُتِلوا مخفف، وكل ذلك صواب.
وقوله :﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ﴾.
يعرفون منازلهم إذا دخلوها، حتى يكون أحدهم أعرف بمنزله في الجنة منه بمنزله إذا رجع من الجمعة.
وقوله :﴿ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ﴾.
كأنه قال : فأتعسهم الله وأضل أعمالهم ؛ لأنّ الدعاء قد يجرى مجرى الأمر والنهي، ألا ترى أنّ أضل فعل، وأنها مردودة على التعس، وهو اسم لأن فيه معنى أتعسهم، وكذلك قوله :﴿ حتّى إِذَا أَثْخَنْتُموهمْ فَشُدُّوا ﴾ مردودة [ ١٧٧/ب ] على أمر مضمر ناصبٍ لضرب الرقاب.
وقوله :﴿ كَرِهُواْ ما أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ كرهوا القرآن وسخطوه.
وقوله :﴿ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُها ﴾
يقول : لأهل مكة أمثال ما أصاب قوم لوط وعاد وثمود وعيدٌ من الله.
وقوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾
يريد : وَلِيّ الذين آمنوا، وكذلك هي في قراءة عبدالله «ذلك بأن الله ولِيّ الذين آمنوا » وهي مثل التي في المائدة في قراءتنا :﴿ إنما وَلِيّكم اللهُ ورسولُه ﴾، ومعناهما واحد، والله أعلم.
وقوله :﴿ وَالنارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾.
ترفع النار بالمثوى، ولو نصبت المثوى، ورفعت النار باللام التي في ( لهم ) كان وجها.
وقوله :﴿ مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ﴾.
يريد : التي أخرجك أهلها إلى المدينة، ولو كان من قريتك التي أخرجوك كان وجها، كما قال :﴿ فَجاءها بَأْسُنا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قائلون ﴾، فقال :( قائلون )، وفي أول الكلمة :( فجاءها ).
وقوله :﴿ فَلاَ ناصِرَ لَهُمْ ﴾.
جاء في التفسير : فلم يكن لهم ناصر حين أهلكناهم، فهذا وجه، وقد يجوز إضمار كان، وإن كنت قد نصبت الناصر بالتبرية، وبكون : أهلكناهم فلا ناصر لهم الآن من عذاب الله.
وقوله :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ﴾ ولم يقل : واتبع هواه، وذلك أنّ من تكون في معنى واحد وجميع، فرُدّت أهواؤهم على المعنى، ومثله :﴿ وَمِنَ الشياطِينِ مَنْ يَغُوصُون له ﴾، وفي موضع آخر :﴿ ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمعُ إِلَيكَ ﴾، وفي موضع آخر :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾.
وقوله :﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾.
[ حدثنا أبو العباس قال : حدثنا محمد قال :] حدثنا الفراء قال : أخبرني حبّان بن على عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال :
مثل الجنة، أمثال الجنة، صفات الجنة. قال ابن عباس : وكذلك قرأها علي بن أبي طالب : أمثال.
وقوله :﴿ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ ﴾.
غير متغير، غير آجن.
وقوله :﴿ وَأَنْهارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾ لم يخرج من ضروع الإِبل ولا الغنم برغوته.
وقوله :﴿ وَأَنْهارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾.
اللذة مخفوضة، وهي الخمر بعينها، وإن شئت جعلتها تابعة للأَنهار، وأنهارٌ لذةٌ، وإن شئت نصبتها على يتلذذ بها لذة، كما تقول : هذا لك هبةً وشبهه، ثم قال :﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ ﴾ لم يقل : أمَن كان في هذا كَمَن هو خالد في النار ؟ ولكنه فيه ذلك المعنى فَبُني عليه.
وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾.
يعنى خطبتك في الجمعة [ ١٧٨/ا ] فلا يستمعون ولا يعون [ حتى ] إذا انصرفوا، وخرج الناس قالوا للمسلمين : ماذا قال آنفا، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء منهم.
قال الله عز وجل :﴿ أُولئك الَّذِينَ طَبعَ اللهُ على قُلوبهم ﴾.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى ﴾.
زادهم استهزاؤهم هدى، وآتاهم الله تقواهم، يقال : أثابهم ثواب تقواهم، ويقال : ألهمهم تقواهم، ويقال : آتاهم تقواهم من المنسوخ إذا نزل الناسخ.
وقوله :﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُها ﴾.
( أنْ ) مفتوحة في القراءة كلها. حدثنا الفراء قال : وَحدثني أبو جعفر الرؤاسي قال : قلت لأبى عمرو بن العلاء : ما هذه الفاء التي في قوله :﴿ فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُها ﴾ ؟ قال : جواب للجزاء. قال : قلت : إنها ﴿ أَنْ تأتيهم ﴾ مفتوحة ؟ قال : فقال : معاذ الله إنما هي ( إِنْ تَأْتِهِمْ ). قال الفراء : فظننت أنه أخذها عن أهل مكة ؛ لأنه عليهم قرأ، وهي أيضاً في بعض مصاحف الكوفيين : تأتهم بسينة واحدة، ولم يقرأ بها أحد منهم، وهو من المكرّر : هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أَن تأتيهم بغتة. والدليل على ذلك أن التي في الزخرف في قراءة عبد الله :﴿ هَلْ يَنْظُرونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتيهم الساعةُ ﴾، ومثله :﴿ وَلَوْلاَ رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساء مؤمِناتٌ ﴾ لولا أن تطْئوهم فإن في موضع رفع عند الفتح، وأن في الزخرف وههنا نصب مردودة على الساعة، والجزم جائز تجعل : هل ينظرون إلا الساعة مكتفيا، ثم تبتدئ : إِن تأتهم، وتجيئها بالفاء على الجزاء، والجزم جائز.
وقوله :﴿ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾.
«ذكراهم » في موضع رفع بلهم، والمعنى : فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة ؟ ومثله :﴿ يَوْمَئذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ أي : ليس ينفعه ذكره، ولا ندامته.
وقوله :﴿ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ ﴾.
وفي قراءة عبد الله : سُورةٌ مُحْدَثةٌ. كان المسلمون إذا نزلت الآية فيها القتال وذِكْره شق عليهم وتواقعوا أن تنسخ، فذلك قوله :«لولا نزلت سورة » أي هلاّ أنزلت سوى هذه، فإذا نزلت وقد أُمروا فيها بالقتال كرهوها، قال الله :﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ لمن كرهها، ثم وصف قولهم قبل أن تنزَّل : سمع وطاعة، قد يقولون : سمع وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوه، فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم، فالطاعة مرفوعة في كلام العرب إذا قيل لهم : افعلوا كذا وكذا، فثقل عليهم أو لم يثقل قالوا : سمع وطاعة.
[ حدثنا أبو العباس قال : حدثنا محمد قال ] : حدثنا الفراء قال : أخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال :
قال الله عزّ وجل :﴿ فَأَوْلَى ﴾ ثم قال لَهُمْ لِلَّذِين آمنوا مِنْهم طاعةٌ وَقَوْلٌ مَعْروف، فصارت : فأولى وعيدا لمن كرهها، واستأنف الطاعة بلهم، والأول عندنا كلام العرب، وقول الكلبي هذا غير مردود.
وقوله :[ ١٧٨/ب ] ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ ﴾.
قرأها العوام بنصب السين، وقرأها نافع المدني : فهل عَسِيْتُم، بكسر السين، ولو كانت كذلك لقال : عَسِيَ [ في موضع عسى ]. ولعلها لغة بادرة، وربما اجترأت العرب على تغيير بعض اللغة إذا كان الفعل لا يناله قد. قالوا : لُسْتُم يُريدون لستُم، ثم يقولون : لَيْسَ وليسُوا سواء، لأنه فعل لا يتصرف ليس له يفعل وكذلك عسى ليس له يفعل فلعله اجترى عليه كما اجترى على لستم.
وقوله :«هَلْ عَسَيْتُم »... إن توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض، وتُقطعوا أرحامكم، ويقال : ولعلكم إن انصرفتم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وتوليتم عنه أن تصيروا إلى أمركم الأول من قطيعة الرحم والكفر والفساد.
وقوله :﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾.
زين لهم وأملى لهم الله، وكذلك قرأها الأعمش وعاصم، وذُكر عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وزيد بن ثابت ( رحمهم الله ) أنهم قرءوها كذلك بفتح الألف.
وذُكر عن مجاهد أنه قرأها :( وأُمْليِ لهم ) مرسلة الياء، يخبر الله جل وعز عن نفسه، وقرأ بعض أهل المدينة : وأُمْلِيَ لهم بنصب الياء وضم الألف، يجعله فعلاً لم يسمّ فاعله، والمعنى متقارب.
وقوله :﴿ إِسْرَارَهُمْ ﴾.
قرأها الناس : أسرارهم : جمع سر، وقرأها يحيى بن وثاب وحده : إسرارهم بكسر الألف، واتبعه الأعمش وحمزة والكسائي، وهو مصدر، ومثله :﴿ وإِدْبَارَ السجود ﴾.
وقوله :﴿ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾ يقول : أنْ لن يبدي الله عدواتهم وبغضهم لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْناكَهُمْ ﴾.
يريد : لعرفناكهم، تقول للرجل : قد أريتك كذا وكذا، ومعناه عرفتكه وعلمتكه، ومثله :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾، في نحو القول، وفي معنى القول.
وقوله :﴿ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ﴾.
كلاهما مجزومتان بالنهي : لا تهنوا ولا تدعوا، وقد يكون منصوباً على الصرف يقول : لا تدعوا إلى السلم، وهو الصلح، وأنتم الأعلون، أنتم الغالبون آخر الأمر لكم.
وقوله :﴿ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ﴾.
من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا، أو أخذت له مالا فقد وترته. وجاء في الحديث :( من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله ) قال الفراء، وبعض الفقهاء يقول : أوتر، والصواب وتر.
وقوله :﴿ إِن يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ ﴾.
أي يجهدكم تبخلوا ويخرج أضغانكم، ويخرج ذلك البخل عداوتكم، ويكون يخرج الله أضغناكم أحفيت الرجل : أجهدته.
Icon