تفسير سورة الحاقة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْحَاقَّةِ
فسر الزمخشري (الْحَاقَّةُ (١).. بثلاثة تفاسير: الأولان: حقيقة، والثالث: مجاز.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤)﴾
القارعة من أسماء القيامة، ويرد في الآية [ما*] يذكره البيانيون في حسن الائتلاف، وهو أن الذي يقتضيه حسن الائتلاف، كذبت ثمود وعاد بالحاقة، والجواب من وجهين:
الأول: أتى أولا بلفظ الحاقة دليلا على ثبوتها، [وتقرير*] حقيقتها في النفوس ثم عقب ذلك بلفظ القارعة الدالة على ما اشتملت عليه من الأهوال والقوارع والزواجر.
الثاني: وصفها أولا فيما يرجع إلى حالها في نفسها، وهو كونها حقا ثابتا، وذكر ثالثا: حالها باعتبار صفتها، ولا شك أن حكم الذات متقدم [على*] حكم صفتها، فذكر أولا حكمها في ذاتها، ثم حكمها في صفتها.
قوله تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ... (٧)﴾
لم يقل: سلطها عليهم لما يقتضي لفظ التسخير من سيرها على حكم الله تعالى.
قوله تعالى: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ).
اختلفوا في مسمى [اليوم*]، هل هو النهار أو مجموع الدورة، ووقع في كتاب العتق الثاني من المدونة ما يدل على أنه النهار، فيمن قال لعبده: إن أديت اليوم مائة دينار فأنت حر، [فمضى*] اليوم، ولم يؤد إليه شيئا فلابد من التَّلَوُّمِ له، وهذه الآية تدل على أنه النهار؛ لذكره في مقابلة الليل، فلو كان في اللغة [مجموع*] الدورة للزم هنا في إطلاقه على النهار، إما الاشتراك أو المجاز، وكلاهما مرجوح، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وروى ابن عطية عن ابن عباس: لم ينزل من السماء [قطرة ماء إلا*] بمكيال [على يد ملك*]، ولا هبت ريح إلا كذلك، إلا ما كان من طوفان نوح وريح عاد، فإِن الله أذن لهما في الخروج من غير إذن الخزان، وقال الزمخشري: روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكر مثل ما تقدم، قال: فإن الريح [عتت*] على الخزان، فلم يكن لهم عليها سبيل، وكذلك الماء يوم نوح انتهى، فإن قلت: ابن رشد ذكر في جامع البيان أن الله تعالى ما أرسل على قوم عاد من الريح إلا مقدار الخاتم، فتراه أرسل عليهم بمقدار، فكيف يفهم ذلك مع قال المفسرون هنا؟ فالجواب: أنه فتح لها مقدار الخاتم ولا يدري مقدار ما يخرج، إلا الله عز وجل فهي تخرج بلا كيل، وفي العتبية سئل: هل
تكره الحجامة والاطلاء يوم الأربعاء ويوم السبت، لأن [الحسوم*] على هؤلاء دخلت بالأربعاء، فقال: لَا أرى بذلك بأسا.
قوله تعالى: (حُسُومًا).
أعربوه حالا مع أنه من المضاف إليه، لما تنزل المضاف منزلته صح وقوعه منه نحو (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)، إذ مثل [الحمار حمار*].
قوله تعالى: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨)﴾
استفهام في معنى النفي، أي أهلك جميعهم، فلم يبق لهم شيء، فإِن قلت: قد قيل: إن هذه [... ] العادية التي عند قرطاجنة من بنائهم، وقد أخبر بذلك سيدي محمد نفع الله به في كتاب كراماته، أنه التقى عند المعلقة بالخضر عليه السلام، فأخبره بذلك وبأشياء من أمورها غير واحدة، قلت: المعنى أنهم لم تهلك منهم إلا الكفار، [فاستؤصلوا*] ولم يبق منهم، قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَبْلَهُ... (٩)﴾
هذا العطف يدل على أن الواو ليست للترتيب، لأن مجيء فرعون متأخر عن مجيء (مَنْ قَبْلَهُ)، إلا أن يقال: أنه ترتيب في اللفظ، [قال الفخر: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ*]، (وَمَنْ قِبَلِهِ) والباقون (وَمَنْ قَبْلَهُ)، ولم يحك أبو عمر المدائني هذه القراءة عن عاصم، وسئل شيخنا ابن عرفة: هل السبع متواتر أو لَا، فقال: أما مصحف عثمان فلا خلاف أنه متواتر، وعثمان لم يضع غير الأحرف فقط، وأما الشكل والنقط فلم يضعه، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقرأ النَّاس بقراءات كثيرة، أنزل بها القرآن، فبعضهم نقل عنه قراءة، وبعضهم نقل عنه أخرى؛ كما في حديث حكيم بن حزام، أنه قرأ سورة الفرقان على غير ما كان عمر يقرأها، فاختلفا حتى قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه"، فنسخ منه عثمان رضي الله عنه سبع نسخ، وقيل: ست، وقيل: أربع، وبعث لكل قطر نسخة، وحرَّق ما خالفها لَا لكونه باطلا، بل لكونه غير مجمع عليه، ففي الشواذ ما هو صحيح لكنه غير مجمع عليه، كما أن في الأحاديث الصحاح ما ليس في كتاب مسلم والبخاري، فلما مر كل مصحف لقطر قرأها أهل ذلك القطر بتلك الأحرف، وقرءوا فيما يرجع إلى [التزام الضبط*]، كالمد [والقصر*] والإمالة والترقيق والتفخيم بما رواه بعضهم عن [بعضٍ*] بالسند الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما وقع في السبع من
زيادة الأحرف كقراءة [من سوى*] نافع وابن عامر (وَسَارِعُوا) بالواو، وقراءة ابن كثير (مِنْ تَحْتِهَا) في براءة، بزيادة (مِنْ)، وقراءة نافع وابن عامر في سورة الحديد (وَاللَّهُ الغنِي) بحذف [هو*]، [والباقون بزيادتها*]، فهو من اختلاف نسخ عثمان فثبتت من في المصحف المنفي دون ما عداه، [وأثبتها*] هو فيما عدا المصحف الثامن [ووجه الجمع*] أن عثمان أسقطها [قصدا*]؛ لكونه صح عنده إثباتها [وإسقاطها*]، واختلف النَّاس في القراءات السبعة بعد اتفاقهم على ما في مصحف عثمان على أربعة أقوال:
الأول: أن الضبط والأداء بنية النطق من إعراب وإمالة ووقف وما يرجع [لإفادة*] الكلام في [ذاته*] [كـ (مَلِكِ)، [و (مَالِكِ)، (يَخْدَعُونَ) *] و (يُخَادِعُونَ) ظاهر نقل الإبياري في شرح البرهان عن الداوودي، أنها غير متواترة باعتبار الأمرين معا، وحكاه مكي في الكشف، وظاهر كلام ابن الحاجب: أنه لَا خلاف في تواتر مثل قراءة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، و (مَلِكِ). الثاني: إنها متواترة باعتبار الأمرين مطلقا، نقله الإبياري عن إمام الحرمين أبي المعالي [القول*] الثالث: إنها متواترة عند القراء فقط، المازري في شرح البرهان الرابع [إن ما*] يرجع [... ] متواترة، وما يرجع [لكيفية*] النطق غير متواترة، قاله ابن العربي في القواصم والعواصم، والإبياري ومن قرأ في الصلاة بقراءة يعقوب فصلاته صحيحة، قاله مكي في الكشف، وكذلك من يقرأ بالشاذ فصلاته صحيحة، وهذا في الشاذ الذي لم يقرأ بواحد القراء السبعة باعتبار إعراب أو إمالة أو نحو ذلك مما يرجع [لكيفية*] النطق بالكلمة مع ثبوتها في مصحف عثمان، وأما الشاذ الذي هو بلفظ غير ثابت في المصحف كقراءة عمر (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله)، فلا تجوز القراءة [به*] في الصلاة، قال المازري في شرح البرهان اتفاقا، وقال في شرح التلقين تخريج اللخمي عدم إعادة المصلي بها خطأ وزلة، وأما القراءة به في غير الصلاة فالأكثر على منعها، قاله مكي وعياض، اتفق فقهاء بغداد على [استتابة*] [**المبرد] أحد [المقرئين*] بها مع ابن مجاهد بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف، وقال ابن عبد البر في التمهيد: روى ابن وهب عن مالك جواز القراءة في غير الصلاة، وكذا قال الإبياري: المشهور من مذهب مالك أنه لَا يقرأ بها، وحكى ابن العربي في القواصم والعواصم ومكي في الكشف: أن يعقوب كان في [السبع*] وأخرج وأدخل [**الكناني]، قيل: برشوة، وقيل: بالإنصاف.
قوله تعالى: ﴿فَعَصَوْا... (١٠)﴾
يدل على أن الفاء للجمع بين الشيئين من غير ترتيب، لأن العصيان واقع مع المجيء لَا بعده، ولا يتوهم في الآية التكرار، لأن [مجيئهم*] بالخاطئة وهو معصيتهم بعدم
إيمانهم، وعصيانهم الرسول هو عدم تصديقهم بالنبوات، فإن قلت: هلا قيل: رسول الله، [أو رسول*] الجبار فهو أبلغ في التخويف؛ لأن معصية الإنسان لمن يعلم أنه جبار منتقم أدل على [جرأته*] وعدم خوفه، فالجواب: أنه تقرير الفرق بين قولك عصى فلان فلانا فضربه، وبين قولك عصا أباه فضربه، فالثاني أشد؛ لأن ضرب الأب ولده، إنما يكون على شدة المخالفة، وهو في الأكثر يسمح له ويتجاوز عنه، فضربه له دليل على سوء عصيانه ومخالفته إياه.
قوله تعالى: ﴿لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ... (١١)﴾
فيه سؤال تقريره أن [**فوران الماء متأخر عن شرطها واقع بعقبه]، وطغيان الماء مسبوق بفورانه، فالحمل في السفينة بعد طغيان الماء المتأخر عن فورانه، وقال في هود (وَقَدْ أَفْلَحَ)، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا)، فاقتضت الآية أن الحمل فيها يعقب الفوران، فهو قبل الطغيان لَا بعده، وجوابه: أن الحمل فيها حالة كونها سائرة لقوله تعالى: (فِي الْجَارَيةِ)، والحمل فيها المراد به أوائل الحمل، وهو حالة كونها [واقفة*]، وهو متقدم على حالة سيرها، ابن عطية: قال قتادة: علا الماء على كل شيء خمسة عشرة ذراعا، انتهى، مراده تحديد أقل العلو لَا أكثره، أي [أعلى*] شيء فعلا جبل في الأرض خمسة عشرة ذراعا، وأما أخفض بقعة [في*] الأرض فعلا عليها أكثر من ذلك، وحكى ابن عطية عن منذر أنها سفينة نوح، وعن المهدوي إن معناه في السفن الجارية. انتهى، والأول أصح لوجوه:
أحدهما: أن الخطاب لأهل مكة وليس [عندهم نحوه*].
الثاني: قرينة قوله تعالى: (طَغَى الْمَاءُ)، فيدل على أنه زمن الطوفان في مدة نوح.
الثالث: أن الجارية لفظ مفرد؛ إلا أن يقال: المراد به الجنس، وفيه بعد، فإن قلت: يلزم على الأول المجاز، أي حملنا إياكم، وعلى الثاني يكون حقيقة، قلت: بل هو حقيقة في الجميع لأنا كنا في ظهر نوح عليه السلام ومن معه.
قوله تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢)﴾
قيل: التذكر متأخر عن سماع الخبر، فهلا أخر عنه؟ أجيب: بأن التذكر لمن أدرك سفينة نوح وشاهدها، وكان فيها، وسماع الخبر لمن بعد، قيل: لو كان كذلك لقيل: "ليجعلها لهم" بضمير الغيبة؟ أجيب: بأنه لما [اشتمل*] اللفظ على مخاطب
وغائب، غلب ضمير المخاطب على الغائب، لأنه أبلغ حسبما نصوا عليه، وأورد الزمخشري سؤالين: لأي شيء [أُفردت*] أذن، ولأي شيء نكرت؟ وأجاب [عن*] الأول: بأن فائدة إفرادها الإيذان بأن [الوعاة*] فيهم قلة، فأفردت لتوبيخ النَّاس بقلة من يعي منهم، وعلل الثاني: بأنها نكرت للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا [وعت وعقلت*] عن الله فهي السواد الأعظم، فنكرت للتعظيم.
قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا... (١٧)﴾
قال الزمخشري: الملك أعم من الملائكة، واستدل بالنفي كقولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، هو أعم من قولك: [ما من ملائكة*]، أبو حيان: لَا نسلم أعميته، بل هما متساويان؛ كما أشار إليه ابن الحاجب في باب العموم في الجمع المنكر انتهى، وهم الزمخشري، لأنه لَا يلزم من [أعمية*] النفي نقيضه، وهو الثبوت، والملك في الآية في ظرف الثبوت، لأن نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص، ونقيض الأخص من نقيض الأعم.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ... (٢٠)﴾
ابن عطية: الظن بمعنى اليقين، الزمخشري: بمعنى العلم، القرطبي: على بابه أي ظننت أن الله تعالى سيحاسبني ويعذبني، ولم أتحقق أنه يغفر لي انتهى، ويحتمل [أنه*] على بابه، كما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ)، عقبه كما حكى عياض في المدارك عن أبي عبد الله التستري: أنه كان يقول: من أصبح وهو لَا يظن أنه يمسي، أو أمسى وهو يظن لَا يصبح، فليس بمؤمن أو فليس بمتقي، وقرأ حمزة بإسقاط الهاء من (كِتَابِيَهْ)، (مَالِيَهْ) وأثبتها في الباقي، وقرأ الباقي من القراء بإثباتها في الجميع وصلا ووقفا، اقتداء بخط المصحف، ابن عطية: قال الزهراوي: إثبات [الهاء*] في الوصل لحن لَا يجوز. انتهى، كيف يقال فيما ثبت في المصحف أنه لحن هذا لا يصح.
قوله تعالى: ﴿دَانِيَةٌ (٢٣)﴾
لما وصفها بالعلو، وشأن المكان العالي أن تكون أشجاره كذلك، فأزال ذلك بأنها مع علوها، [فثمارها*] قريبة التناول سهلة المأخذ.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ... (٢٥)﴾
الواو لازمة هنا؛ لأنها في التسمية من باب المفاعلة، ولا يصح هنا الفاء ولا غيرها، [والأظهر*] أن (مَن) موصولة، لأن [السالبة لَا تقتضي*] وجود الموضوع.
قوله تعالى: ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦)﴾
إن قلت: لأي شيء عطفه بالواو ولم يعطفه بالفاء المقتضية للتسبب، لأن [إيتاء*] الكتاب سبب في [درايته حسابه*]، وعدمه سبب في عدم درايته حسابه، فالجواب: أنه لو عطف [بالفاء*] مثبتا، كان المتمني [سوى الأول*]، فعطفه بالواو على أنه تمنى كل واحد من الأمرين على حدته.
قوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧)﴾
إما أن المراد يا ليت الموتة الأولى كانت قاضية عليَّ، فيحتاج إلى تعذر وصفه، أي القاضية الأبدية التي لَا رجوع منها للحياة، وإما أن المراد يا ليت هذه الحالة التي أنا فيها من العذاب كانت تقضي [عليَّ*] [... ] ولا يحتاج في هذا إلى تقرير صفة الأبدية، لأن المعنى [يهدي*] لذلك، فإِن قلت: هذه الآية ترد قول المتكلمين: [الوجود*] خير [كلُّهُ*] والعدم شر [كلُّهُ*]، فإِن هذا قد تمنى العدم، وهو عنده خير من الوجود، فالجواب: أنه إنما تمنى العدم لما نابه من شدة العذاب في وجوده، وقولهم: العدم شر [كلُّهُ*] بالنظر لنفسه فقط؛ لَا لعارض يعرض.
قوله تعالى: ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩)﴾
أجاب بعض الشيوخ: الوقف [عَنِّي*] [ويبتدئ*] (سُلْطَانِيَهْ)، (خُذُوهُ) أي يقول [الكافر*]: سلطانيه خذوه، ويخاطب الملائكة فقط، سلطان: المراد به الجنس، ويكون أمرهم [بأخده*] [وهذا*] صحيح في المعنى، لكن فيه تكلف (خُذُوهُ) إن قلت: لأي شيء روعي في آية أهل اليمين لفظ [الجمع*]، [ومعناها تقيد (كُلُوا وَاشرَبُوا)، وهنا رد على لفظها فقط]، فالجواب: أن أهل اليمين المطلوب تكثيرهم فناسب الجمع، وأهل الشمال المطلوب تقليلهم فناسب الإفراد، وإن كانوا باعتبار الوجود أكثر [عددا*].
[(٣٤) *]
[وانظر*] هل الحض على إطعام المسكين أعم من إطعامه، أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، لاجتماعهما فيما إذا حض الإنسان نفسه على الإطعام وأطعم، أو هما ضدان، وهو الأظهر كما أن الصواب أن صفة العلم ليست أعم من صفة القدرة، بل هما صفتان متباينتان.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا... (٣٢)﴾
جعله ابن عطية من باب القلب، أي اسلكوا السلسلة فيه وحده، الزمخشري: على ظاهره، وقال: إن السلسلة تحيط به ويلف فيها، وإطعام الطعام أشق على النفوس من مجرد الحض على إطعامه، [فالذم*] على تركه أشد وأولى من [الذم*] على ترك الأشق
الذي هو الإطعام وإطعام الطعام مقصد، والحض عليه وسيلة، والذم على ترك المقصد آكد، فإذا [ذموا*] على ترك الوسيلة، فأحرى أن يذموا على ترك المقصد، والوصف بالعظيم، وانظر هل واحد من الأمرين علمه [مستقل*]، فيستفاد منه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو [**العلة، إنما قد عدم إيمانه]، والآية نزلت في أبي جهل، وليست خاصة به، لأن خصوص السبب لَا يمنع من عموم اللفظ.
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ... (٣٨)﴾
الفاء للتسبيب وتقرير السببية، أنه لما تقدم ذكر من أوتي كتابه بيمينه وفرحه وثوابه، ومن أوتي كتابه بشماله وحسرته وعقابه، وكان ذلك أمرا مغيبا لَا يصدق به إلا من آمن، أتى هنا بفاء السببية؛ إشارة إلى أنه بسبب ذلك وقع القسم على أن القرآن المتضمن لما تقدم قول صادق، ومنهم من جعل النفي لما تقدم، ووجهه أن المنكر للحشر والنشر والحساب، لَا بد أن يأتي بشبهة على مذهبه، وهؤلاء ليست لهم شبهة على تكذيبهم، وينبغي على هذا أن يوقف على قوله: (فلا)، وإن جعلت النفي متعلقا بالقسم، فيكون غير مراد حقيقة، أي هذا الأمر ظاهر بحيث لَا يحتاج إلى القسم عليه، وقرئ [(فلأقسم) *] على أنها لام الابتداء دخلت على فعل القسم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾
إن قلت: هلا قيل: لكلام رسول، لأن الكلام أخص من القول، لانطلاق القول على [المفيد*] وغيره في الاصطلاح؟ فالجواب: أنه إذا قيل هذا في القول المطلق على [المفيد*] وغيره، فأحرى الكلام، فإن قلت: هلا قيل: إنه لقول رسول أمين، [أو*] رسول صادق؟ فالجواب: أنه ليس المراد حقيقة الكلام، بل المعنى لقول رسول موصوف بالخير أو موصوف بالحسن والكمال.
قوله تعالى: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢)﴾
فيه سؤال يورد في حسن الائتلاف، وهو ما الحكمة في تخصيص [الأول*] بـ (تؤمنون)، والثاني: [(تَذَكَّرُونَ) *]، وجوابه: أن الشعر لما كان أمرا ظاهرا يدركه كل أحد بفطنته، ويعرف أنه شعر، عبر عنه بالإيمان الذي هو محمود التصديق، ولما كانت الكهانة أمرا خفيا لَا يدرك إلا بفكر وتأمل [قرنها*] بالتذكير.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤)﴾
تقرر أن (لو) عند النحاة منع فيها الثاني لامتناع الأول، لأن الأول سبب في الثاني، وعند الأصوليين يمتنع فيها الأول لامتناع الثاني، لأن الثاني لابد أن يكون متساويا
للأول أو أعم منه، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص، ولا ينعكس، وكذلك يلزم منه تقدم المسبب على [سببه*] إذا كان أخص، فإن قلت: هلا أفرد القول، فيقال: لو تقول علينا قولا، لأن العقوبة على الكذب في القول الواحد، تستلزم العقوبة على الكذب في الأقوال المتعددة من باب أحرى، فالجواب: أن القول تارة يكون مشتملا على جملة [واحدٌ*] مدلُولها، وتارة يشتمل على جمل بعضها صدق، وبعضها كذب، فتضمنت هذه الآية أنه لو تكلم بأقاويل تقول علينا في بعضها، وصدق في البعض، [لنلنا منه عقابه*] بالعقوبة الشديدة، فيستلزم من باب أحرى مخاطبته بالعقوبة، [لو تكلم بقول واحد كله كذب*].
قوله تعالى: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)﴾
استدل بعضهم بهذه على أن الفاء في جواب الشرط لتأكيد التعقيب، فضلا عن أن تكون للتعقيب، حسبما ذكر الأصوليون والفقهاء الخلاف في قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، وتقرير الدليل من هذه الآية، أَن جواب الشرط فيها لو لم يفهم على [أنه*] عقيب الشرط لما صح الاحتجاج على الكفار، لأنهم يقولون: تقوَّل، وعقوبته مؤخرة، وليست عاجلة في الدنيا، فلا يستقيم الاستدلال عليهم بهذا، فلولا أن جواب الشرط بذاته يقتضي التعقيب من غير احتياج إلى إدخال [العاقبة*] لما استقام هذا دليلا على الكافرين، فدخول الفاء مؤكدة للتعقيب، ويستحيل أن يكون الفاء غير مفيدة للتعقيب، لأنه يناقض معنى ملزومية الشرط لجوابه [... ]. بأن ذلك الاختلاف [**إنما موجب يكون جواب] الشرط أو نهيا، وأما إذا كان جوابه خبرا، فلا خلاف فيه، أو يقال إن التعقيب هنا مستفاد من القرينة لَا من نفس اللفظ، لكن يقال: الأصل عدم القرينة، قال القرطبي: يحتمل أن [يريد*] باليمين القوة، و (من) زائدة، أي [لأخذناه*] بالقوة، وحكى هذا في غاية الضعف، لأن (من) لَا تزاد في الواجب.
قوله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ... (٤٧)﴾
إن قلت: [هلا عطفه بالإفراد كالأول*]؟ فالجواب: أن النصرة مهما تصورت، فلا تكون إلا من الجماعة عقب نزول البلاء، وإن تراخت [عنه*] وأبطأت، فلا فائدة فيها [**والقيام صح].
قوله تعالى: (حَاجِزِينَ).
مراعاة لمعنى (مِنْ أَحَدٍ) إشارة إلى أن الواحد لَا تعد منه النصرة، [وإن انتفت*] النصرة عمن هو في مظنة أن يقدر عليها، فأحرى أن [تنتفي عمن*] لَا يقدر عليها، فإن قلت: لم قال: (مِنْكُمْ)، والخطاب للكفار وليسوا بصدد أن ينصروه؟ فالجواب: أن فيهم أقاربه، كأبي طالب ونظائر له كانوا يناضلون مع كفرهم به، واحتج بهذا ابن عصفور في شرح الجمل الكبير على جواز تقديم خبر إن على اسمها، إذا كان ظرفا أو مجرورا، لأنه قدم هنا معمول الخبر على الاسم، مع أنه ليس باسم لـ (ما) ولا خبر لها، وقد منعوا كان طعامك زيدا [... ] كان ما ليس باسم لها، ولا خبر فإذا [جاز*] ذلك فأحرى في (إن).
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾
أي إن النَّاس نظروا فيه، فالمتقون تذكروا واعتبروا، والآخرون نظروا فلم يتذكروا أو لم يعتبروا بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)﴾
إن [كان*] الخطاب للكفار، فـ (مِن) لبيان الجنس، وليس هو إخبار بالمعلوم، لأنه على جهة التهديد والوعيد، وإن كان الخطاب لعموم النَّاس، فالمراد من سيكذب منهم في المستقبل.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)﴾
القرطبي: يحتمل أن يعود الضمير على (حسرة) باعتبار معناها، وهو [التكذيب*] المفهوم منها، لأنه مذكر.
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ... (٥٢)﴾
الفاء للتسبيب، وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لما نزلت "اجعلوها في ركوعكم"، أي اجعلوا مدلولها.
* * *
Icon