تفسير سورة النازعات

مراح لبيد
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة النازعات
مكية. خمس وأربعون آية، مائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وثلاثة وخمسون حرفا
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) أي والملائكة الذين ينزعون روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافر، وأصول القدمين كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) أي والملائكة التي تحل نفس المؤمن حلا رفيقا، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وتنشط روح المؤمن بالخروج إلى الجنة. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) أي والملائكة الذين ينزعون نفس الصالح يسلونها سلا رفيقا رويدا، ثم يتركونها حتى تستريح، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة لئلا يصل إليه ألم وشدة، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) أي والملائكة الذين يسبقون بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وبأرواح الكافرين إلى النار، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥)، أي فالملائكة الذين يدبرون أمور العباد، قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل.
فأما جبريل: فهو موكل بالرياح والجنود.
وأما ميكائيل: فهو موكل بالقطر والنبات.
وأما عزرائيل: فهو موكل بقبض الأرواح.
وأما إسرافيل: فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى وليس في الملائكة أقرب منه. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) و «يوم» منصوب بجواب القسم المضمر، أي لتبعثن يا كفار مكة يوم تتحرك النفخة الأولى مع ظهور الصوت، وسميت النفخة: بالراجفة، لأن الدنيا تتزلزل عندها وتصوت فإن تلك النفخة هي المحركة لكل شيء، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) أي النفخة الثانية والرادفة: رجفة أخرى تتبع الأولى، فتضطرب الأرض لإحياء الموتى، كما اضطربت في الأولى لموت الإحياء.
ويروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن بين النفختين أربعين عاما، ويروى أن في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك كالسبب للإحياء، ولله أن يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أي قلوب كثيرة وهي قلوب الكفار يوم إذ يقع النفختان شديدة الاضطراب، وهذه الجملة مبتدأ وخبر، أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) أي أبصار أصحاب هذه القلوب ذليلة، يَقُولُونَ منكرين للبعث متعجبين منه: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ (١٠)، أي في الحالة الأولى. وقرأ أبو حيوة «في الحفرة»، أي أنرد إلى ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا،
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) أي متفتتة، نرد ونبعث مع كون تلك العظام أبعد شيء من الحياة. وقرأ حمزة وعاصم «ناخرة» بألف أي فارغة تمر بها الريح، فيسمع لها صوت. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «إذا» على الخبر، قالُوا تِلْكَ أي الرجعة إلى الحياة إِذاً أي إن رددنا إلى الحالة الأولى وصحّ ذلك كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢)، أي رجعة ذات هلاك أي إن الرجعة إن صحت، فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣)، أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله بل هي سهلة هينة في قدرته، لأنها حاصلة بصيحة واحدة من إسرافيل، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض البيضاء المستوية من أرض الآخرة بعد ما كانوا أمواتا في جوف أرض الدنيا، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) أي أليس قد أتاك يا أشرف الخلق حديث موسى هذا إن اعتبر إتيانه قبل هذا الكلام، وإلا فالمعنى: هل أتاك يا أكرم الرسل حديثه؟ أنا أخبرك به: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ ظرف ل «حديث» طُوىً (١٦) وهو اسم واد بالشام، وهو عند الطور بين أيلة ومصر، وإنما سميت «طوى» لكثرة ما مشت عليه الأنبياء.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون. وقرأ الباقون بضم الطاء منونا.
وروي عن أبي عمرو بكسر الطاء. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ. عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان، وعنه أيضا كان من أصبهان، طوله أربعة أشبار، وهو أول من اتخذ القبقاب ليمشي فيه خوفا من أن يمشي على لحيته. وقال مجاهد: كان من أهل إصطخر. وقرأ عبد الله «أن اذهب» لأن في النداء معنى القول، إِنَّهُ طَغى (١٧) أي تجاوز الحد على الخالق، وعلى الخلق، فكفر بالله، وتكبر على بني إسرائيل، فاستعبدهم، فَقُلْ بعد ما أتيته: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) ؟ أي هل لك يا فرعون سبيل إلى أن تصلح فتوحد بالله؟ وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي وهل أدعوك إلى معرفة ربك بالبرهان فتعرفه، فَتَخْشى (١٩) فإن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة فمن خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) أي فذهب موسى إلى فرعون، فأراه قلب العصاحية،
فَكَذَّبَ فرعون موسى بالقلب واللسان وسمى معجزته سحرا، وَعَصى (٢١) الله تعالى بإظهار التمرد بعد ما علم صحة الأمر حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين، ثُمَّ أَدْبَرَ أي انصرف عن موسى وأعرض عن الإيمان، يَسْعى (٢٢) أي يجتهد في مكايدة موسى، وفي معارضة الآية، فَحَشَرَ، أي فجمع السحرة بالشرط للمعارضة فَنادى (٢٣) في المجمع بنفسه، أو بواسطة المنادي فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
أي لا رب فوقي، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) أي فعذبه الله في الآخرة بالإحراق بالنار، وفي الدنيا بالإغراق بالماء. وقيل: فعاقبه الله بكلمته الآخرة وهي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وبكلمته الأولى وهي قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] وكان بينهما أربعون سنة، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في قصة فرعون لَعِبْرَةً أي لعظة لِمَنْ يَخْشى (٢٦)، وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى، والتكذيب لأنبيائه خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون، وعلما بأن الله تعالى ينصر رسله، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ، أي أأنتم يا أهل مكة في خلقكم بعد موتكم أصعب في تقديركم أم خلق السماء على عظمها والوقف هنا تام، بَناها (٢٧) وهذا تفصيل لكيفية خلقها، رَفَعَ سَمْكَها أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، ومقدار ذهابها في سمت العلو مسافة خمسمائة عام.
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقا، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكا، فَسَوَّاها (٢٨) أي فجعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع، ولا انخفاض، ولا تفاوت، ولا فطور، وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعل الليل مظلما وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) أي وأبرز نهارها، وإنما عبر عن النهار بالضحى، لأنها أكمل أجزاء النهار في الضوء، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بألفي سنة دَحاها (٣٠)، أي بسطها على الماء،
أَخْرَجَ مِنْها أي الأرض ماءَها، أي عيونها المنفجرة بالماء وأنهارها الجاري ماؤها، وَمَرْعاها (٣١) أي نباتها من العشب والشجر، والثمر، والحب، والعصف، والحطب، واللباس، والدواء حتى النار والملح، فإن النار من العيدان والملح من الماء، وإذا تأملت علمت أن جميع ما يتلذذ الناس به في الدنيا أصله الماء والنبات، وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢)، أي أثبتها على وجه الأرض لتسكن، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) أي إنا خلقنا هذه الأشياء منفعة لكم ولأنعامكم، فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) أي الداهية العظمى أعني يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥)، أي يوم يتذكر كل أحد فيه ما عمله في الدنيا من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة، وطول الأمد ويجوز أن يكون يوم بدلا من الطامة الكبرى مبنيا على الفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءت، أي أظهرت الجحيم إظهارا بينا لِمَنْ يَرى (٣٦) فيراها كل ذي بصر من المؤمنين والكفار. وقرأ أبو نهيك و «برزت» بالتخفيف. وقرأ ابن مسعود «لمن رأى» فعلا ماضيا. وقرأ زيد ابن علي وعائشة وعكرمة «برزت» مبنيا للفاعل مخففا، و «ترى» بالتاء وهي إما للتأنيث فالضمير ل «الجحيم»، وإما للخطاب أي لمن ترى أنت يا محمد من الكفار الذين يؤذونك، وجواب «إذا» محذوف تقديره انقسم الناس قسمين، فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) أي تمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) أي انهمك فيها،
ولم يستعد للحياة الأخروية بالطاعة، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) له، ويقال: التقدير فإن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان
موصوفا بهذه الصفات. قيل: نزلت هذه الآية في النضر وأبيه الحرث، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقام حضرة ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) أي عن الميل إلى الحرام الذي يشتهيه
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) له، قيل: نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير، ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد، ووقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه حتى استشهد رضي الله عنه.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فَأَمَّا مَنْ طَغى فهو أخو مصعب بن عمير، أسر يوم بدر وأخذته الأنصار، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق وأكرموه وبيّتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه فقال: ما هو بأخ له، شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا، فأوثقوه حتى تبعث أمه فداءه وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متشحطا في دمه قال صلّى الله عليه وسلّم: «عند الله أحتسبك»، وقال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب»
«١».
يَسْئَلُونَكَ يا أشرف الخلق عَنِ السَّاعَةِ على سبيل الاستهزاء حين سمع المشركون وصفها بالأوصاف الهائلة مثل طامة وصاخة، وقارعة: أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) أي متى إقامتها، أي في أيّ وقت يوجدها الله تعالى، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) أي في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)، أي إلى ربك يرجع منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) أي إنما أنت مخوف من يخاف هولها، فالإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها. وقرأ عمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر، وطلحة، وابن محيصن «منذر» بالتنوين، وهو الأصل وحذف التنوين للتخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦). وهذا إما تأكيد لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به، أي كأن كفار قريش يوم يعاينون الساعة لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشية يوم واحد أو ضحاه، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عن الساعة بطريق الاستبطاء مستعجلين بها، ويقولون: متى هذا الوعد؟ فالمعنى: كأنهم يوم يرون قيام الساعة لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية هي من الزوال إلى الغروب، أو ضحى يومها واعتبار كون اللبث بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم.
(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣: ٤٦)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦:
٣٠١).
Icon