تفسير سورة المطفّفين

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة المطففين
مكية وهي ست وثلاثون آية

عن ابن عباس قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ويل يومئذ للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك١ روى الحاكم والنسائي وابن ماجه بسند صحيح، وقال السدي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله تعالى ﴿ ويل للمطففين ١ ﴾ والطف الحقير والمراد بالمطففين ما بين بقوله ﴿ الذين إذا اكتالوا ﴾.
١ أخرجه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: التوقي في الكيل والوزن (٢٢٢٣)..
﴿ الذين إذا اكتالوا ﴾أي أخذوا الكيل أو اتزنوا ولم يذكره اكتفاء بذكر الوزن في القرنية الثانية ولعل الكيل كان هو الغالب في الاستعمال ﴿ على الناس ﴾ متعلق بقوله اكتالوا أو بقوله ﴿ يستوفون ﴾ وقع على موضع من تقديره إذا اكتالوا من الناس يستوفون منهم للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس أو أن اكتيالهم بتحامل فيهم عليهم، قال الفراء من يتعاقبان في هذه الموضع فإذا اكتلت عليك كأنه قال أخذت ما عليك وإذا قال اكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك.
﴿ وإذا كالوهم أو زنوهم ﴾ الضمير المنصوب راجع إلى الناس أي كالوهم أو وزنوهم حذف الجار وأوصل الفعل روى التقدير كالوا مكيلهم فحذف المضاف وأقيم مضاف إليه مقامه وليس تأكيد المتصل بالمنفصل إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والإعطاء لا في المباشرة وعدمها وأيضا يأبى يأبي عند الخط فإنه يستدعي عن إثبات ألف بعد الواو ﴿ يخسرون ﴾ أي ينقصون الكيل والوزن يقال خسر الميزان وأخسره وسمى هذا العمل بالتطفيف لأن ما يبخس في الكيل والوزن لا يكون إلا حقيرا وفيه إيماء إلى أن بخس الحقير موجب للويل والعذاب فبخس الكثير بالطريق الأولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خمس بخمس ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغيره ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر )١ رواه الحاكم من حديث بريدة، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه الطبراني من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ولا فشا الربا في قوم إلا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو ) رواه مالك موقوفا والختر الغدر، قلت : وقطع الرزق بالتطفيف قد يكون بجعله فقيرا لا يقدر على شيء، يكون بمنع الرزق عنه مع قدرته عليه فلا يقدر الأكل منه في حقه كما في البقالين من ديارنا، قال البغوي كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول اتق الله أوف الكيل والوزن فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم.
١ رواه الطبراني في الكبير وفيه إسحاق بن عبد الله بن كيسان المروزي، لينه الحاكم وبقية رجاله موثوقون وفيهم كلام.
انظر: مجمع الزوائد في كتاب: الزكاة، باب: فرض الزكاة (٤٣٤٦)..

﴿ ألا يظن ﴾ ذكر الظن مكان اليقين إيماء إلى أن من كان يظن ذلك ينبغي أن لا يرتكب موجبات تلك الشدائد فكيف من يستقين والاستفهام للإنكار وفيه تعجيب من مآلهم وتوبيخ ﴿ أولئك ﴾ المطففين فاعل ليظن ﴿ أنهم مبعوثون ﴾ قام مقام المفعولين ليظن.
﴿ ليوم عظيم ٥ ﴾ متعلق بمبعوثون وللتعليل أي لحساب يوم عظيم أو بمعنى في يوم عظيم وهو يوم القيامة عظمه لعظم ما يكون فيه، أخرج ابن المبارك عن الحسن قال لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظمة ذلك اليوم.
﴿ يوم يقوم الناس ﴾ من القبور منصوب مبعوثون على الظرفية أو بدل من يوم عظيم وفتحه على البناء لإضافته إلى غير متمكن ﴿ لرب العالمين ﴾ أي لحسابه وجزائه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يوم يقوم الناس لرب العالمين حين يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه )١ متفق عليه وأخرج الحاكم مثله عن أبي سعيد الخدري، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ويلجمهم حتى آذانهم )٢ وأخرج الطبراني وأبو يعلى وابن حبان عن ابن عباس إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة حتى يقول يا رب ارحمني ولو إلى النار، وأخرج الحاكم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن العرق ليلجم الرجل في الموقف حتى يقول : يا رب إرسالك لي إلى النار أهون علي مما أجد وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب ) أخرج البيهقي عن قتادة في قوله تعالى :﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين ٦ ﴾ قال بلغني أن كعبا كان يقول يقومون مقدار ثلاثمائة عام، وأخرج مسلم عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى يكون منهم مقدار ميل ) قال سليم بن عامر فوالله ما أدري ما يعني بالميل الأرض أم الميل الذي يكحل به العين ؟ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ومنهم من يكون إلى ركبته ومنهم من يكون إلى حقونه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه ) وأخرج أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر نحوه، وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة الباهلي عنه صلى الله عليه وسله وفيه ويزاد في حرها كذا وكذا تغلى منها الهوام كما تغلى القدور، وأخرج أحمد والطبراني بسند جيد عن أنس رفعه قال لم يلق ابن آدم شيئا منذ خلق الله أشد عليه من الموت وهو أهون مما بعده وإنهم ليلقون من هول ذلك اليوم شدة حتى يلجمهم حتى أن السفن لو أجريت لجرت، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجمهم الكافر العرق قبل الحساب قيل له : فأين المؤمنين ؟ قال : على كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام وأخرج هناد عن ابن مسعود نحو هذا كله وفيه ( ما طول ذلك اليوم عليهم أي على المؤمنين إلا كساعة من نهار ) وأخرج هناد وابن المبارك عن سلمان قال : تدني الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة قاب قوسين أو قوسين ويعطى حر عشر سنين وليس أحد من الناس عليه يومئذ إلى خرقة ولا يرى عورة مؤمن ولا مؤمنة ولا يجد حرها مؤمن ولا مؤمنة، وأما الكافر فيطبخهم طبخا حتى يسمع لأجوافهم عق عق.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة المطففين (٤٩٣٨)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفة يوم القيامة (٢٨٦٢)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: ﴿ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم﴾ (٦٥٣٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفة يوم القيامة (٢٨٦٣)..
﴿ كلا ﴾ ردع عن التطفيف وتم الكلام، وقال الحسن : كلا ابتداء يتصل بما بعده بمعنى ﴿ إن كتاب الفجار ﴾ يعني صحف أعمالهم التي كتبتها الحفظة الكرام والمراد بالفجار الكفار ﴿ لفي سجين ﴾ مشتق من السجن بمعنى الحبس في القاموس السجين كالسكين الحبس الدائم الشديد قال الأخفش فعيل من السجن كما يقال فسيق وشريب معناه لفي حبس شديد، وقال عكرمة لفي سجين أي في خسأ وضلال لما كان كتاب الفجار في أي ما في الكتاب من الأعمال موجبا لكونهم في الحبس والخساء والضلال أسند ذلك إلى الكفار مجازا والظاهر من الأحاديث والآثار أن السجين اسم موضع في كتاب الفجار كذا في القاموس، وكون الكتاب في ذلك الموضع بأن يوضع صحف أعمالهم هناك أو يكتب هناك تاب جامع الصحف أعمال الفجار من الثقلين ووجه تسمية ذلك الموضع بالسجين أن هناك يحبس أرواح الكفار أجمعين وذلك الموضع هو الأرض السابعة أو تحت الأرض السابعة، أخرج ابن مندة والطبراني وأبو الشيخ عن حمزة بن حبيب مرسلا قال :( يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين ؟ فقال : في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت قالوا : يا رسول الله وأرواح الكفار ؟ قال : محبوسة في سجين ) وروى ابن المبارك والحكيم الترمذي وابن أبي الدنيا وابن مندة عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال : نفس الكافر في سجين، قال البغوي قال عبد الله بن عمر وقتادة ومجاهد والضحاك سجين هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار قلت : كذا أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر روى البغوي بسنده عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( سجين أسفل سبع أرضين وعليّون في السماء السابعة تحت العرش ) وقد ورد في حديث طويل عن البراء بن عازب مرفوعا في ذكر موت المؤمنين وموت الكفار فذكر في الكفار ( أنه لا يفتح لهم أبواب السماء فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحا طرحا ) الحديث أخرج أحمد وغيره، وذكر البغوي قول شبرمة بن عطاء جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل ﴿ إن كتاب الفجار لفي سجين ﴾ فقال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ثم تهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين وهي موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين من تحت جند إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وقال الكلبي هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضراء السماء منها يجعل كتاب الفجار تحتها وروى عن ابن نجيح عن مجاهد قال سجين صخرة تحت الأرض السفلى تقلب فيجعل كتاب الفجار فيها وقال البغوي جاء في الحديث الفلق جب في جهنم مغطى والسجين جب في جهنم مفتوح، قلت : ويمكن الجمع بينهما أعني بين كون السجين تحت الأرض السابعة وكونه في جهنم أن جهنم تحت الأرض السابعة السفلى أخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي من طريق أبي عن عبد الله قال : الجنة في السماء السابعة والنار في الأرض السابعة السفلى، وأخرج البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن سلام الجنة في السماء والنار في الأرض، وأخرج ابن جرير في تفسيره عن معاذ قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين يجاء بجهنم يوم القيامة ؟ قال : يجاء بها من الأرض السابعة بها ألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك فإذا كان من العباد على مسيرة ألف سنة زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول رب نفسي نفسي.
﴿ وما أدراك ما سجين ٨ ﴾ تفخيم وتهويل قال الزجاج ليس ذلك مما كنت تعلمها أنت ولا قومك.
﴿ كتاب مرقوم ٩ ﴾ أي مكتوب فيه أعمالهم ثبت عليهم كالرقم في الثوب ولا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به أو المعنى معلم يعلمه من رآه أنه عرف لا خير فيه، وقيل : معناه مختوم بلغة حمير قال البغوي ليس هذا التفسير للسجين بل هو بيان الكتاب المذكور أنه كتاب الفجار وقال البيضاوي هذا تفسير للسجين لقب به الكتاب لأنه سبب للحبس فقال : هذا ظرفية السجين الكتاب لكونه كتابا جامعا لكتب الفجار من الثقلين والظاهر أن السجين فيه مقر أرواح الكفار ومقر صحف أعمالهم وفي الكلام حذف مضاف أي في السجين أي ما كتاب سجين أو في كتاب مرقوم أي محل كتاب مرقوم بالشر.
﴿ ويل يومئذ للمكذبين ١٠ ﴾ بالحق.
﴿ الذين يكذبون بيوم الدين ١١ ﴾ صفة موضحة أو ذامة أو مخصصة أو بدل من المكذبين وجملة ويل يومئذ الخ معترضة للذم، قلت : ويحتمل أن يكون في محل الرفع من مرقوم بمعنى رقم فيه ويل يومئذ الخ أو صفة الكتاب أي كتاب موجب للويل والتأويل الأول أظهر من حيث اللفظ وللأخيرين من حيث المعنى لأن كونه كتابا مرقوما ليس من خصائص كتاب الفجار بل قيل مثل ذلك في كتاب الأبرار أيضا يتصور كونه جوابا لقوله ما سجين ﴿ ويل للمطففين ١ ﴾ أبي بيوم الدين ﴿ إلا كل معتد ﴾
﴿ إلا كل معتد ﴾ مجاوز عن الحد في الجهل وتقليد الآباء الجهلة حتى أنكر قدرة الله على الإعادة ﴿ أثيم ﴾ منهمك في الشهوات اشتغل بها عما ورائها وحمله على الإنكار لما عداها.
﴿ إذا تتلى عليه آياتنا ﴾ يعني القرآن شرط جزائه ﴿ قال ﴾ من فرط جهله وغفلته عن كونه معجزا أو من غباوته وإعراضه عن الحق تعنتا ﴿ أساطير الأولين ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هي والأساطير جمع أسطورة أو أسطارا أو أسطر بمعنى الأحاديث التي لا نظام بها في القاموس وفي الصحاح أساطير الأولين أي شيء كتبوه كذبا، والجملة الشرطية صفة بعد صفة لمعتد لبيان أنه لا ينفعه من الأدلة العقلية والنقلية شيء والجملة ما يكذب به معترضة.
﴿ كلا ﴾ ردع عن التكذيب وعما قالوا، وقال مقاتل معناه أي لا يؤمنون ﴿ بل ﴾ إضراب عن الردع ينفي قابلية قلوبهم عن درك الحق وتميزه من الباطل يسكت حفص ها هنا سكتة ويدغم غيره ﴿ ران ﴾ قال أبو بكر وحمزة والكسائي فتح الراء والباقون بتفخيمها ﴿ على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ والرين الغلبة يقال ران الخمر على قلبه إذا غلبه عليه سكره والمعنى غلب على قلوبهم ظلمات ما كانوا يكسبون من المعاصي حتى عمى قلوبهم عن التميز بين الحق والباطل، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب وفزع واستغفر صقل قلبه منها وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذا لكم الران الذي ذكر الله في كتابه ﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ١٤ ﴾١ رواه البغوي وكذا أخرج أحمد والترمذي وصححه وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وفي بعض الروايات ( أن العبد كلما أذنب ذنبا ) الحديث ولفظ المؤمن يدل على شدة السوداء قلب الكافر بطريق الأولى.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة ويل للمطففين (٣٣٣٤)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر الذنوب (٤٢٤٤)..
﴿ كلا ﴾ ردع عن كسب المعاصي الموجبة للرين أو هو بمعنى حقا لتحقيق الرين قال يريد أنهم لا يصدقون ﴿ إنهم ﴾ أي الكفار ﴿ عن ربهم يومئذ ﴾ أي يوم الدين يوم يرى الله سبحانه المؤمنون ﴿ لمحجوبون ﴾ لحجب ظلماتهم الناسبة عنهم فلا يرون الله سبحانه كما كانوا لا يرون الحق من الباطل في الدنيا، قال الحسن لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم لزهقت أنفسهم في الدنيا سئل مالك عن هذه الآية فقال : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأولياءه حتى رأوه، قال الشافعي في الآية دلالة على أن أولياء الله يرعون الله.
﴿ ثم ﴾ أي بعد كونهم محجوبين عن رؤية الله ﴿ إنهم لصالوا ﴾ أي لداخلوا ﴿ الجحيم ١٦ ثم يقال ﴾ يقول لهم خزنة جهنم ﴿ هذا ﴾ هذا العذاب﴿ الذي كنتم به تكذبون ﴾.
﴿ ثم يقال ﴾ يقول لهم خزنة جهنم ﴿ هذا ﴾ هذا العذاب﴿ الذي كنتم به تكذبون ﴾ أن التطفيف تكرير للأول ليعقب وعد الأبرار كما عقب وعيد الفجار إشعار بأن التطفيف فجور كما أن الإيفاء بر أو ردع عن تكذيب العذاب أو هو بمعنى حقا وقال مقاتل معناه لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه.
﴿ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ﴾ قال بعض أهل المعاني هو علو وشرف بعد شرف ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء اسم موضع على صيغة الجمع لا واحد له من لفظ كعشرين، وقال بعض المحققين هو منقول من جمع على وزن فعيل من العلو وقد مر حديث البراء المرفوع عليين في السماء السابعة تحت العرض وفي الحديث البراء الطويل في ذكر الموت المؤمنين والكفار ذكر في نفس المؤمن ( إنه يصعد بها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوا الأرض )١ الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم من طرق صحيحة، وقال ابن عباس هو يعني عليين لوح زبرجد خضراء معلق تحت العرض أعمالهم مكتوبة فيها ومن ها هنا قالوا : هو كتاب جامع الأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين، وقال كعب وقتادة هو قائمة العرش اليمنى، وقال عطاء عن ابن عباس هو الجنة وقال عطاء والضحاك هو سدرة المنتهى.
١ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
انظر: مجمع الزوائد في كتاب: الجنائز، باب: السؤال في القبر (٤٢٦٦)..

﴿ وما أدراك ما عليون ١٩ كتاب مرقوم ٢٠ ﴾ الكلام فيه كما مر في نظيره
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ وما أدراك ما عليون ١٩ كتاب مرقوم ٢٠ ﴾ الكلام فيه كما مر في نظيره
﴿ يشهده المقربون ٢١ ﴾ صفة لكتاب كما كان ويل للمكذبين صفة هناك والمقربون، قال البغوي يعني الملائكة قلت وأرواح الأنبياء والصديقين والشهداء أيضا فإن هناك لعزها كما أخرج مسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أرواح الشهداء عنه الله في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت تأوي إلى قناديل تحت العرش )١ وكذا روى سعيد بن منصور عن ابن عباس وثقي بن مخلد عن ابن أبي سعيد الخدري وروى أبو الشيخ عن أنس قال : يبعث الله شهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش، وأخرج ابن مندة عن ابن شهاب بلاغا بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر المعلقة بالعرش تغدوا ثم ترجع إلى رياض الجنة يأتي ربها سبحانه وتعالى كل يوم يسلم عليه وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال هي يعني أرواح الشهداء طائر خضر في قناديل الحديث، وأخرج البخاري عن أنس أنه قال لما قتل حارثة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنها جنان وإنه في الفردوس الأعلى )٢ وقال الله تعالى في حبيب نجار ﴿ قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون ٢٦ بما غفر لي ربي ﴾٣ الآية ولا منافاة بين كونهم في الجنة وكونهم تحت العرش في قناديل لأن العرش بمنزلة السماء للجنة، قلت : وهذا الحكم غير مختص بالشهداء فإن الأنبياء والصديقين أعلى منهم منزلة وقد ورد في الحديث بلفظ المؤمنين مطلقا، أخرج مالك والنسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنما نسمة المؤمن طائر المتعلقة في شجرة الجنة حتى ترجع إلى جسده يوم القيامة )٤ وكذا أخرج أحمد والطبراني عن أم هانئ عنه صلى الله عليه وسلم قال : يكون النسم طيرا لتعلقه بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسده، وأخرج ابن عساكر عن أم بشر امرأة أبي معروف نحوه والمراد في تلك الأحاديث الكاملين منهم كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ يشهده المقربون ٢١ ﴾ وقد ورد في بعض الأحاديث أن مقر أرواح المؤمنين في السماء السابعة ينظرون إلى منازلهم في الجنة أخرجه أبو النعيم بسند ضعيف عن أبي هريرة وأخرج أيضا عن وهب بن منبه أن لله تعالى في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين وفي بعض الأحاديث إذا أخرج من الجسد كان بين السماء والأرض رواه سعيد بن منصور عن سلمان وروى ابن المبارك والحكيم الترمذي وابن أبي الدنيا وابن مندة عن سعيد بن المسيب عن سلمان أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت ونفس الكافر في سجين وفي هذا الحديث حكاية عن حال المؤمنين على تفاوت درجاتهم، قال الشعبي في بحر الكلام الأرواح على أربعة أوجه أرواح الأنبياء تخرج من جسدها وتصير مثل صورتها المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة بالعرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها ويكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتشرب وتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة بالعرش وأرواح المطيعين من المؤمنين يربص بالجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر في الجنة وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار فهي في السجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة قلت : وما ذكر في أرواح الأنبياء أنها تصير في مثل صورتها المسك والكافر يعني أن لها أجسادا كالأجساد الإنسان وعبرها بالمسك لتطيب ريحها وعبر المجدد عن تلك الأجساد بالجسم الموهب ويكون ذلك للأنبياء ولكمل أتباعهم الصديقين قبل الموت. فإن قيل : بعض الأحاديث الصحاح تدل على أن أرواح المؤمنين حتى الأنبياء وأرواح الكفار كلها في القبور كما ورد في حديث البراء الطويل يقول الله تعالى في حق المؤمنين ( اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فيعاد روحه في جسده، وكذا قال في الكافر فيعاد روحه في قبره ) قال ابن عبد البر هذا أصح فأقيل وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام في قبره يصلي ليلة أسري به وأنه صلى الله عليه وسلم قال :( من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي غائبا بلغته )٥ فكيف تطبيق ؟ قلنا : وجه التطبيق أن مقر أرواح المؤمنين في عليين أو في السماء السابعة ونحو ذلك كما مر ومقر أرواح الكفار في سجين ومع ذلك لكل روح منها اتصال لجسده في قبره لا يدرك كنهه إلا الله تعالى وبذلك الاتصال يصح أن يعرض على الإنسان المجموع المركب من الجسد والروح مقعده من الجنة أو النار ويحس اللذة أو الألم ويسمع سلام الزائر ويجيب المنكر والنكير ونحو ذلك بما ثبت بالكتاب والسنة كما أن جبرائيل مع كون مستقره من السماوات كان يدنوا من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع يديه على فخذيه قال الشعبي في بحر الكلام هي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح ويتألم الأجساد منها كالشمس في السماء ونورها في الأرض والله تعالى أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عنه ربهم يرزقون (١٨٨٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: من أتاه سهم غرب فقتله (٢٨٠٩)..
٣ سورة يس، الآية: ٢٦ -٢٧..
٤ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر القبر والبلى (٤٢٧٧)..
٥ رواه البيهقي في شعب الإيمان، قال العقيلي: حديث لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في الموضوع.
انظر: فيض القدير (٨٨١٢)..

﴿ إن الأبرار لفي نعيم ٢٢ ﴾ مستأنفة
﴿ على الأرائك ﴾أي على الأسرة في الحجال حال من المستكن في ظرف المستقر ﴿ ينظرون ﴾ حال بعد حال مترادف لما سبق أو متداخل، قال أكثر المفسرين يعني ينظرون إلى ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة، وقال قتادة ينظرون إلى أعدائهم كيف يعذبون في النار، قلت : ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى كما أن الكفار عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
﴿ تعرف ﴾ أيها المخاطب كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو جعفر ويعقوب على المبني للمفعول ﴿ في وجوههم نضرة ﴾ بالرفع عند جعفر ويعقوب وبالنصب عند الجمهور ﴿ النعيم ﴾ أي بجنة النعيم قال الحسن النضرة في الوجه والسرور في القلب.
﴿ يسقون من رحيق ﴾ أي جنة صافية طيبة بيضاء ﴿ مختوم ﴾ أي ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختامه الأبرار.
﴿ ختامه مسك ﴾ قرأ الكسائي خاتمه بتقديم الألف على التاء على وزن عالم والباقون على وزن كتاب في القاموس ختام ككتاب الطين يختم على الشيء والخاتم ما يوضع على الطينة، والمراد بالقراءتين واحد أي مختوم أو آنية بالمسك مكان الطين وكذا قال ابن زيد، وقال ابن مسعود مختوم أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه وعاقبته مسك في القاموس والختام، من كل شيء آخره ﴿ وفي ذلك ﴾ الرحيق والنعيم ﴿ فليتنافس المتنافسون ﴾ التنافس مشتق من النفس أو من النفيس ومعناه اختيار الشيء النفيس لنفسه بحيث ينفسه به أي يضن به على غيره وحاصل المعنى فليرغب الراغبون يعني أن التنافس لا يليق على الأمتعة الدنيوية لخستها وقلتها ونفاذها بل على النعم الأخروية، فإن قيل التنافس من الرذائل فكيف يكون مرغوبا فيه ؟ قلت : إنما هو من الرذائل إذا كان متعلقا بالأمور الدنيوية لأنها غير مرضية لله تعالى ولأنها يستلزم الإضرار بغيره إذ الأمتعة الدنيوية نافدة قليلة إذا اختار لنفسه فات عن غيره بخلاف النعم الأخروية فإنها مرضية لله تعالى ولا ينفد فإيثارها لنفسه لا يضر بغيره.
﴿ ومزاجه ﴾ أي يمزج به الرحيق ﴿ من تسنيم ﴾ قال البغوي شراب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم قلت : الظاهر أنها تنصب من فوق العرش فإن العرش بمنزلة السقف للجنة، وقيل : يجري في الهواء متسنما فينصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها فإذا امتلئت أمسك وهذا معنى قول قتادة وأصل الكلمة من العلو يقال للشيء المرتفع سنام ومنه سنام البعير، قال الضحاك هو شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف أشربة الجنة قال ابن مسعود وابن عباس هو خالص للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة ثم فسره بقوله :﴿ عينا ﴾ منصوب على المدح أو بتقدير أعني أو حال من تسنيم ﴿ يشرب بها ﴾ أي منها أو بتضمين يلتذ صفة لعينا ﴿ المقربون ﴾.
﴿ عينا ﴾ منصوب على المدح أو بتقدير أعني أو حال من تسنيم ﴿ يشرب بها ﴾ أي منها أو بتضمين يلتذ صفة لعينا ﴿ المقربون ﴾ أي أصحاب كمالات النبوة بالأصالة أو بالوراثة وهم الصديقون قال البغوي روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سأل عن قوله من تسنيم، قال : هذا فيما قال الله تعالى :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾١.
١ سورة السجدة، الآية: ١٧..
﴿ إن الذين أجرموا ﴾ يعني كفار قريش أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مشركي مكة ﴿ كانوا من الذين آمنوا ﴾ عمار وصهيب وخباب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين ﴿ يضحكون ﴾ استهزاء بهم.
﴿ وإذا مروا ﴾ أي المؤمنين ﴿ بهم ﴾ أي بالكفار ﴿ يتغامزون ﴾ أي الكفار يشيرون إليهم بالجفن والحواجب استهزاء والجملة الشرطية معطوفة على يضحكون خبر لكانوا وكذا الشرطيتين الأخريين.
﴿ وإذا انقلبوا ﴾ أي الكفار ﴿ إلى أهلهم انقلبوا فكهين ﴾ معجبين ملتذين بالسخرية منهم قرأ حفص فكهين بغير ألف والباقون بالألف فاكهين.
﴿ وإذا رأوهم ﴾ يعني الكفار المؤمنين ﴿ قالوا إن هؤلاء لضالون ﴾ أي خدعهم محمد فضلوا عن دين آبائهم وتركوا اللذات، لما يرجون في الآخرة من الكرامات فقد تركوا الحقيقة بالخيال.
﴿ وما أرسلوا ﴾ أي الكفار ﴿ عليهم ﴾ على المؤمنين ﴿ حافظين ﴾ لأعمالهم ويشهدون برشدهم وصلاحهم جملة وما أرسلوا حال من فاعل قالوا.
﴿ فاليوم ﴾ أي يوم كون المؤمنين على الأرائك ينظرون إلى الله تعالى ﴿ الذين آمنوا من الكفار يضحكون ﴾ حين يرونهم في السلاسل والأغلال في النار، قال البغوي قال أبو صالح وذلك أنه يفتح للكفار في النار أبوابها ويقال لهم أخرجوا فإذا رأوها مفتوحة قبلوا إليها ليخرجوا والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم يفعل بهم ذلك مرارا والمؤمنين يضحكون من الكفار كما كان الكفار يضحكون منهم في الدنيا وقال كعب بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال الله تعالى :﴿ فاطلع فرآه في سواء الجحيم ٥٥ ﴾١ فإذا اطلعوا من الجنة إلى أعدائهم وهم يعذبون في النار فضحكوا فذلك قوله تعالى هذه الآية، وأخرج البيهقي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال لأحدهم هلم فجيئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه فما زال كذلك حتى أن أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال له هلم فما يأتيه من الإياس ).
١ سورة الصافات، الآية: ٥٥..
﴿ على الأرائك ﴾ حال من فاعل يضحكون ﴿ ينظرون ﴾ أي الكفار في النار حال مترادف أو متداخل لما قبله.
﴿ هل ثوب ﴾ أي جوزي ﴿ الكفار ما كانوا يفعلون ﴾ أي جزاء ما كانوا يعملون من الاستهزاء والاستفهام للتقرير أي نعم والله أعلم بالصواب.
Icon