تفسير سورة الواقعة

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾ سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه أحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾ شق ذلك على المسلمين، فنزلت: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾.
وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" بسند فيه نظر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ وذكر فيها ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾ قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأوّلين وقليل منَّا. فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزلت: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾. فقال رسول الله - ﷺ -: "يا عمر تعال، فاسمع ما أنزل الله تعالى، أنزل: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾ ". وأخرجه ابن حاتم عن عروة بن رويم مرسلًا.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في "البعث" عن عطاء ومجاهد قالا: لمّا سأل أهل الطائف الوادي يحمى لم، وفيه عسل ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: إن في الجنة كذا وكذا. قالوا: يا ليت لنا في الجنّة مثل هذا الوادي، فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨)...﴾ الآيات.
وأخرج البيهقي من وجه اخر عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج "واد بالطائف"، وظلاله، وطلحه، وسدره. فأنزل الله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١)﴾ وانتصاب ﴿إِذَا﴾ بجوابها المحذوفة، تقديره: إذا
(١) لباب النقول.
قامت القامة، وحدثت، وحصلت وذلك عند النفخة الثانية يكون من الأهوال ما لا يفي به المقال.
سمّاها (١) واقعة مع أنَّ دلالة اسم الفاعل على الحال، والقيامة مما سيقع في الاستقبال لتحقق وقوعها. ولذا اختار ﴿إِذَا﴾، وصيغة الماضي. فالواقعة من أسماء القيامة، كالصاخة، والطامة، والآزفة. سميت واقعة؛ لأنها كائنة لا محالة، أو لقرب وقوعها، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وقال أبو الليث: سميت القيامة واقعة لصوتها. وقيل: منصوب باذكر محذوف، أي: إذكر وقت وقوع الواقعة، أو بالنفي المفهوم من
٢ - قوله: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢)﴾؛ أي: لا يكون عند وقوعها تكذيب. والكاذبة مصدر كالعاقبة، أي: ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلًا. وقيل: إنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها على تقدير فاء الربط لكون الجواب فعلًا جامدًا؛ أي: إذا وقعت الواقعة.. فليس هناك تكذيب لوقوعها لمشاهدتها كما وقع تكذيبها في الدنيا من المشركين. ويحتمل أن يكون الكاذبة اسم فاعل، واللام للتوقيت، والمعنى؛ أي: لا يكون عند وقوعها نفس تكذب على الله، وتفتري بالشريك، والولد، والصاحبة، وبأنه لا يبعث الموتى. لأن كل نفس حينئذٍ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كاذبة مكذبة.
ومعنى الآية (٢): أنها إذا وقت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلًا، أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله، وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة. وقال الزجاج ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢)﴾، أي: لا يردها شيء، وبه قال الحسن، وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي: ليس لها تكذيب؛ أي: لا ينبغي أن يكذب بها أحد.
وعبارة "المراغي": أي إذا قامت القيامة ليس لوقعتها ارتداد، ولا رجعة كالجملة الصادرة من ذي سطوة قاهر. قاله الحسن، وقتادة. وقد يكون المعنى: ليس في وقت وقوعها كذب. لأنّه حق لا شبهة فيه.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
٣ - ثم هول شأنها، وعظم أمرها. فقال: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)﴾؛ أي: هي خافضة لأقوام، رافعة لآخرين. وهو (١) تقرير لعظمتها على سبيل المجاز؛ فإن الوقائع العظام يرتفع فيها أناس إلى مراتب، ويتضع أناس. وتقديم الخفض على الرفع للتشديد في التهويل. قال بعضهم: خافضة لأعداء الله إلى النار، رافعة لأولياء الله إلى الجنة، أو تخفض أقوامًا بالعدل، وترفع أقوامًا بالفضل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تخفض أقوامًا كانوا مرتفعين في الدنيا، وترفع أقومًا كانوا متضعين فيها، اهـ. كما يشاهد ذلك في تبدل الدول من ذل الأعزة وعز الأذلة. وفي هذا إيماء إلى ما يكون يومئذٍ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات. ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله إلى النار؛ ورفعت أولياءه إلى الجنة.
وقرا الجمهور: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)﴾ برفعهما (٢) على إضمار مبتدأ، أي: هي خافضة رافعة. وقرأ زيد بن على؛ والحسن، وعيسى الثقفي، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وابن مقسم، والزعفراني، واليزيدي في اختياره بنصبهما على الحال؛ وصاحب الحال الواقعة، والعامل فيها ﴿وَقَعَتِ﴾. وتستعمل العرب الخفض والرفع في المكان والمكانة، والعز، والإهانة. ونسبة الخفض والرفع إليها على سبيل المجاز؛ كما مرّ؛ لأن الخافض والرافع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
٤ - والظرف في قوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)﴾؛ أي: زلزلت الأرض زلزالًا، متعلق (٣) بـ ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)﴾، مجردة عن معني الشرط؛ أي: خافضة رافعة إذا حركت الأرض تحريكًا شديدًا، بحيث ينهدم ما فوقا من بناء وجبل، ولا نسكن زلزلتها حتى تلقي جميع ما في بطنها على ظهرها. والرج: تحريك الشيء، وازعاجه؛ أي: تخفض، وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض، وينخفض ما هو مرتفع. وقيل: إن الظرف بدل من الظرف الأول، ذكره الزجاج. فيكون معنى وقوع الواقعة: هو رج الأرض، وبس الجبال.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٥ - وقوله: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥)﴾؛ أي: فتت الجبال فتا، معطوف على ﴿رُجَّتِ﴾؛ أي: فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس؛ أي: المبلول؛ أي: مثل السويق الملتوت من بس السويق إذا لته، والبسيسة: سويق يلت، فيتخذ زادًا، وقيل: صارت كثيبًا مهيلًا بعد أن كانت شامخة. وقيل: معناه: قلعت من أصلها، وسيّرت على وجه الأرض حتى ذهب بها.
٦ - ﴿فَكَانَتْ﴾؛ أي: صارت الجبال بسبب ذلك ﴿هَبَاءً﴾؛ أي: غبارًا. وهو ما يسطع من حوافر الخيل، أو الذي يرى في شعاع الكوّة، أو الهباء: ما يتطاير من شرر النار، أو ما ذرته الريح من الأوراق. ﴿مُنْبَثًّا﴾؛ أي: منتشرًا متفرّقًا. وروي: أن الله تعالى يبعث ريحًا من تحت الجنة، فتحمل الأرض والجبال، وتضرب بعضها ببعض، ولا تزال كذلك حتى تصير غبارًا، ويسقط ذلك الغبار على وجوه الكفار. كقوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠)﴾. وقال بعضهم: إنّ هذه الغبرة هي التراب الذي أشار إليه تعالى: ﴿لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾. وسيجيء تحقيقه في محله. والكلام على الشبيه؛ أي: فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح، وفرقته.
وقرأ زيد بن علي (١): ﴿رَجَّت﴾ و ﴿بسَّتْ﴾ مبنيًا للفاعل. و ﴿إذا رجَّت﴾ بدل من ﴿إِذَا وَقَعَتِ﴾، وجواب الشرط عندي ملفوظ به. وهو قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾.
والمعنى: إذا كان كذا وكذا، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم، وما أعظم ما يجازون به، أي: إن سعادتهم، وعظم رتبتهم عند الله تعالى تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم. وقرأ الجمهور ﴿مُنْبَثًّا﴾ بالثاء المثلثة. وقرأ مسروق، والنخعيُّ، وأبو حيوة ﴿منبتًا﴾ بالتاء المثناة من فوق؛ أي: منقطعًا من قولهم: بتَّه الله؛ أي: قطعه.
٧ - ثم ذكر سبحانه أحوال الناس، واختلافهم. فقال: ﴿وَكُنْتُمْ﴾ إمَّا خطاب للأمة الحاضرة، والأمم السالفة تغليبًا أو للحاضرة فقط ﴿أَزْوَاجًا﴾؛ أي: أصنافًا ﴿ثَلَاثَةً﴾ اثنان في الجنة، وواحد في النار. وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود، أو في الذكر يسمى زوجًا فردًا كان كالعينين والرجلين. فكل منهما يسمى زوجًا، وهما
(١) البحر المحيط.
معًا زوجان أو شفعًا كما هنا. فهاهنا أزواج ثلاثة.
٨ - ثم فصل سبحانه هذه الأصناف الثلاثة، فقال: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨)﴾؛ أي: أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ مبتدأ، خبره ﴿مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ على أن ﴿مَا﴾ الاستفهامية مبتدأ ثان، وما بعده خبره. وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرابط، كما في قوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾، و ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢)﴾. والاستفهام للتعظيم والتفخيم. والأصل: ما هم؛ أي: أيُّ شيء هم في حالهم وصفتهم. ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم أو التهويل والتفظيع.
٩ - والكلام في قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩)﴾ كالكلام في قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨)﴾.
وأصحاب الميمنة: هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم. وأصحاب المشأمة: هم الذين يأخذون بشمائلهم. أو الذين يكونون على يمين العرش، فيأخذون طريق الجنة، والذين يكونون على شمال العرش فيفضى بهم إلى النار. أو أصحاب الميمنة: أصحاب المنزلة السنيّة، وأصحاب المشأمة: أصحاب المنزلة الدنيّة أخذًا من تيّمنهم بالميامن؛ أي: بطرف اليمين، وتشؤمهم بالشمائل؛ أي: بجانب الشمال. كما تقول: فلان منّي باليمين، أو بالشمال. إذا وصفته عندك بالرفعة أو الضمة. تريد ما يلزم من جهتي اليمين والشمال من رفعة القدر وانحطاطه. أو أصحاب اليمن، وأصحاب الشؤم. فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعاصيهم، أو أصحاب الميمنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، حين أخرجت ذريته من صلبه، قال تعالى في حقهم: "هؤلاء من أهل الجنة ولا أبالي". وأصحاب المشأمة: هم الذين كانوا على شماله، وقال تعالى فيهم: "هؤلاء من أهل النار ولا أبالي".
والمراد من هذا الكلام: تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة، والفظاعة. كأنَّه قيل: فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة، وحسن الحال. وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة، وسوء الحال. فكأنه قيل: ما عرفت حاله، أي شيء هي، فاعرفها وتعجب منها.
١٠ - ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث، فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠)﴾ والتكرير فيه
347
للتفخيم والتعظيم؛ كما مر في القسمين الأوليين. كما تقول: أنت أنت، وزيد زيد. وهم القسم الثالث من الأزواج الثلاثة. أخر ذكرهم ليقترن ببين محاسن أحوالهم.
وأصل السبق: المتقدم في السير، ثم تجوز به في غيره من المتقدم. والجملة مبتدأ وخبر.
والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت محاسنهم. كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري. أو السابقون الأول مبتدأ، والثاني تأكيد له، كرر تعظيمًا لهم؛ والخبر جملة قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلخ. وفي البرهان: التقدير عند بعضهم: السابقون ما السابقون، فحذف ﴿ما﴾ لدلالة ما قبله عليه.
ومعنى الآيات: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧)﴾؛ أي (١): وصرتم أيها الخلائق في ذلك اليوم ثلاثة أصناف: اثنان في الجنة، وواحد في النار. ثم بينهم بقوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ...﴾ إلخ؛ أي: فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم، أيُّ شيء هم في حالهم. فهم في غاية حسن الحال في الكرامة؛ والسرور؛ وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيُّ شيء هم في حالهم فهم في غاية سوء الحال، وهم في الهوان والعذاب. والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت محاسنهم. فهم يسبقون الخلق إلى الجنّة من غير حساب. فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم السابقون إلى الهجرة، السابقون في الآخرة إلى الجنّة. وقيل: هم السابقون إلى الإسلام. وقيل: هم الذين صلُّوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار. وقيل: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. وقيل: إلى الجهاد. وقيل: هم المسارعون إلى التوبة؛ وإلى ما دعا الله إليه من أعمال البرّ والخير. وقيل: هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة.
فإن قلت (٢): لم أخر ذكر السابقين، وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟
قلت: فيه لطيفة، وذلك أنَّ الله تعالى ذكر في أوّل السورة من الأمور الهائلة
(١) المراح.
(٢) الخازن.
348
عند قيام الساعة تخويفًا لعباده. فأما المحسن فيزداد رغبة في الثواب، وأما المسيء فيرجع عن إساءته خوفًا من العقاب. فلذلك قدم ﴿أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ ليسمعوا، ويرغبوا. ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا. ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من درجتهم.
١١ - وقيل (١): وجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوليين ليقرنه بما هو لهم المذكور بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفة الجليلة. وهو مبتدأ، خبره ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾؛ أي: الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم، وأعليت مراتبهم، ورقيت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية. يقول الفقير: عرف هذا المعنى من قوله - ﷺ -: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس": فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن. فإنه يظهر منه أن الفردوس مقام المقربين لقربه من العرش الذي هو سقف الجنة. ولم يقل: أولئك المتقرّبون؛ لأنهم بتقريب ربهم سبقوا لا بتقرب أنفسهم. ففيه إشارة إلى الفضل العظيم في حقّ هؤلاء، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
١٢ - وقوله: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)﴾ إما (٢) متعلق بـ ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾؛ أي: مقرّبون عند الله في جنات النعيم، أو خبر ثان لأولئك، أو حال من الضمير في ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ أي: كائنين في جنّات النعيم.
والمعنى (٣): أي والسابقون الذين يتقدّمون غيرهم إلى الطاعات هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت فخامة أمورهم. وقد يكون المعنى: والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه. فمن سبق في هذه الدنيا إلى فعل الخير كان في الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة. فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - ﷺ - قال: "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "الذين إذا أعطوا الحق
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم". أخرجه أحمد. أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل "السَّبْق" هم الذي نالوا حظوةً عند ربهم، وهم في جنات النعجم يتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فِي جَنَّاتِ﴾ بالجمع. وقرأ طلحة بن مصرف ﴿في جنّة﴾ بالإفراد. وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة؛ ودار العدل.
١٣ - وارتفاع: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم أمم كثيرة، وجماعة من الأولين غير محصورة العدد، أي: أولئك السابقون جماعة من الأولين، وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبيّنا عليهما السلام، وعلى من بينهما من الأنبياء العظام، وهذا التفسير مبنيّ على أن يراد السابقين: غير الأنبياء. و (٢) اشتقاق الثلة من الثل. وهو الكسر. وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم. وقال الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف؛ ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾؛ أي: جماعة منهم
١٤ - ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾؛ أي: من هذه الأمّة. ولا يعارضه قوله - ﷺ - "إن أمتي يكثرون سائر الأمم" أي: يغلبونهم بالكثرة. فإن أكثرية سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الأمّة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقوهم ألفين، وتابعوهم ألفًا. فالمجموع ثلاثة آلاف. ويكون سابقوا هذه الأمّة ألفًا وتابعوهم ثلاثة آلاف. فالمجموع أربعة آلاف فرضًا. وهذا المجموع أكثر من المجموع الأوّل. وفي الحديث: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة".
والحاصل: أن المراد بالأولين في قوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾ هم (٣) الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبيّنا محمد، وبالآخرين في قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾؛ أي: من هذه الأمة المحمدية. وسموا قليلًا بالنسبة إلى من كان قبلهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم. قال الحسن: سابقوا مَنْ مضى أكثر من سابقينا.
قال الزجاج: الذين عاينوا جميع الأنبياء، وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي - ﷺ -. ولا يخالف هذا ما ثبت في "الصحيح" من قوله - ﷺ -: "إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة؛ لأنّ قوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾ إنما هو تفصيل للسابقين فقط، كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الآخرين، وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمّة، ومن ثلّة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة. والمقابلة بين الثُّلَّتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال: هذه الثلة أكثر من هذه الثلة، كما يقال: هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة، وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة. وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور.
والمعنى: أي هم جماعة كثيرة من سالفي الأمم، وقليل من أمّة محمد - ﷺ -. ويستأنس لهذا بقوله - ﷺ -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة".
١٥ - ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين، فقال: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥)﴾ حال أخرى من المقربين، أو خبر آخر للضمير المحذوف، كما في "البيضاوي". والسرر: جمع سرير، مثل: كثب جمع كثيب، أي: حال كونهم على سرر منسوجة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت من الوضن. وهو نسج الدرع، أو (١) موصولة بالذهب والفضة، منسوجة بالدر والياقوت. ويقال: أرضها من الذهب الممدود، وقوائمها من الجواهر النفيسة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سُرُرٍ﴾ بضم السين، والراء الأولى. وقرأ زيد بن علي وأبو السمال بفتح السين، وهي لغة لبعض بني نعيم، وكلب، يفتحون عين فصل
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
جمع فعيل المضعف. نحو: سرير.
١٦ - ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦)﴾ حالان (١) من الضمير المستكن فيما تعلق به ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾. والتقابل أن يقبل بعضهم على بعض إما بالذات، وإما بالعناية والمودة؛ أي: مستقرين على سرر حال كونهم متكئين عليها؛ أي: قاعدين على تلك السرر قعود الملوك للاستراحة متقابلين لا ينظر بعضهم من أقفاء بعض. وهو وصف لهم بحسن العشرة، وتهذيب الأخلاق والآداب. وقال أبو الليث: متقابلين في الزيارة.
١٧ - وجملة قوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: يدور حولهم للخدمة حال الشرب وغيره ﴿وِلْدَانٌ﴾، جمع وليد. وخدمة الوليد أمتع من خدمة الكبير ﴿مُخَلَّدُونَ﴾؛ أي: مبقون أبدًا على شكل الولدان، وطراوتهم، لا يتحولون عنها. لأنهم خلقوا للبقاء، ومن خلق للبقاء لا يتغير، وهم خلقوا للخدمة قط، والحور العين للخدمة والمتعة، في محل النصب على الحال من المقربين أو مستأنفة لبيان بعض ما أعد الله لهم من النعيم.
والمعنى (٢): مستقرون عل سرر موضونة حال كونهم متكئين عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، فهم في صفاء، وعش، ورغد، وحسن معاشرة، لا يوجد في نفوسهم من الشحناء، والبغضاء ما يوجب الافتراق، يدور عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون، ولا يتغيرون. فهم دائمًا على الصفة الي تسر المخدوم إذا رأى الخادم، يعني: أنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مؤنة ما يريدون. فهم في غاية ترف ونعيم. قيل: هم ولدان المسلمين يموتون صغارًا، لا حسنة لهم ولا سيئة. وقيل: هم أطفال المشركين. ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة.
١٨ - وقوله: ﴿بِأَكْوَابٍ...﴾ إلخ، متعلق بيطوف، أي: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب من الذهب والجواهر، أي (٣): بآنية لا عرى لها، ولا خراطيم. وهي الأباريق الواسعة الرأس، لا خرطوم لها، ولا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أي موضع أراد منها، فلا يحتاج أن يحول الإناء من الحالة التي تناوله بها
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ليشرب. ﴿وَأَبَارِيقَ﴾، جمع إبريق. وهو الإناء الذي له عروة، وخرطوم يبرق لونه من صفائه. وقيل: إنها أعجمية معربة آبْ ري؛ أي: بآنية ذات عرى وخراطيم. وبقال: الكوب للماء وغيره. والإبريق لغسل الأيدي، والكأس لشرب الخمر. كما قال: ﴿وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾؛ أي: وبكأس من خمر جارية من العيون. أخبر أن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا، تستخرج بتكلف وعلاج وتكون في أوعية، بل هي كثيرة جارية. كما قال: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ﴾. والكأس: القدح إذا كان فيها شراب، وإلا فهو قدح. يقال: معن الماء إذا جرى، فهو فعيل بمعنى الفاعل؛ أي: ظاهرة تراها العيون في الأنهار كالماء المعين.
فإن قلت: كيف جمع الأكواب والأباريق، وأفرد الكأس؟
فالجواب: أن ذلك على عادة أهل الشراب. فإنهم يعدون الخمر في الأواني المتعددة، ويشربون بكأس واحدة.
١٩ - ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ أي: (١) لا تتصدع رؤوسهم، ولا تتوجع من شربها؛ أي: لا ينالهم بسب شربها صداع كما ينالهم ذلك من خمر الدنيا. والصداع: هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه. وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. وليست هذه الخصال الذي خمر الجنة، بل هي لذّة بلا أذى.
وقرأ مجاهد ﴿لا يَصَّدعون﴾ بفتح الياء، وشدَّ الصاد. وأصله: يتصدَّعون، أدغم التاء في الصاد؛ أي: لا يتفرقون عنها كما يتفرق الشراب، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾. وقرأ الجمهور (٢) بضم الياء، وتخفيف الصاد. والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم، أو في محل النصب على الحال.
وجملة ﴿وَلَا يُنْزِفُونَ﴾، معطوفة على الجملة التي قبلها، أي: لا يسكرون بشربها، فتذهب عقولهم، أو لا ينفد شرابهم، من أنزف الشارب، إذا نفد عقله، أو شرابه. فالنفاد إما للعقل، وهو من عيوب خمر الدنيا، أو للشراب فإن بنفادها تختل الصحبة. وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا يُنْزَفُون﴾ مبنيًا للمفعول، من أنزف الشارب إذا نفد
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
عقله. وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء، وكسر الزاي من نزف البئر استفرغ ماءها. فالمعنى: لا تفرغ خمرهم. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا، وعبد الله، والسلمي، والجحدري، والأعمش، وطلحة، وعيسى بضم الياء، وكسر الزاي؛ أي: لا يفتى لهم شراب.
والمعنى (١): يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق، وخمر تجري من العيون، ولا تعصر عصرًا. فهي صافية نقية، لا تنقطع أبدًا. وهم يطلبون منها ما يريدون، ولا صداع في شرابها، ولا ذهاب منها للعقل، كما في خمور الدنيا.
٢٠ - وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام، فقال: ﴿وَفَاكِهَةٍ﴾ معطوف على ﴿بِأَكْوَابٍ﴾؛ أي: يطوف عليهم ولدان بفاكهة كائنة ﴿مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾؛ أي: مما يختارونه، ويأخذون خيره، وأفضله من ألوانها. وكلها خيار. والفاكهة: ما يؤكل من الثمار تلذذًا، لا لحفظ الصحة لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالغذاء في الجنة، وليس ذلك كقوت الدنيا الذي يتناوله من يضطر إليه. وهو إشارة إلى أنه يتناول المأكولات التي يتنعم بها.
٢١ - ثم ذكر اللحم الذي هو سيد الإدام، كانت العرب يتوسعون بلحوم الإبل، ويعز عندهم لحم الطير الذي هو أطيب اللحوم، ويسمعون بها عند الملوك فوعدوها؛ فقيل: ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ﴾؛ أي: ويطوفون عليهم بلحم طير كائن ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾؛ أي: مما يتمنونه، وتشتهيه أنفسهم مشويًّا أو مطبوخًا. يتناولونها مشتهين لها، لا مضطرين ولا كارهين.
وقرأ الجمهور (٢) بجر ﴿وَفَاكِهَةٍ﴾ ﴿وَلَحْمِ﴾ عطفًا على أكواب. وقرأ زيد بن عليّ، وأبو عبد الرحمن برفعهما على الابتداء، والخبر مقدّر؛ أي: ولهم فاكهة، ولحم طير.
والمعنى: ويطوفون عليهم بألوان من الفاكهة المختلفة المطاعم، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم، وبأنواع من لحوم الطير مما لذ وطاب. فيأخذون منها ما
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
يشتهون، وفيه يرغبون، وفي "الأسئلة المقحمة": إنما قال: ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)﴾ فغاير بين اللفطين. فالجواب: لأنَّ الفواكه كما تكون للأكل تكون أيضًا للنظر والشم، وأما لحم الطير فمختلف الشهوات في أكل بعض أجزائه دون بعض.
٢٢ - وبعد أن ذكر طعامهم، وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم. لأنَّ الجماع كان أشهى شيء بعدهما. فقال: ﴿وَ﴾ لهم فيها ﴿حُورٌ عِينٌ﴾ معطوف (١) على ﴿وِلْدَانٌ﴾، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: وفيها أو لهم حور. وهي جمع حوراء، وهي البيضاء أو الشديدة بياض العين، والشديدة سوادها. وعين جمع عيناء، وهي الواسعة الحسنة العين، وهن خلقن من تسبيح الملائكة، كما في "عين المعاني".
والمعنى: أي ولهم فيها نساء بيض، واسعات الأعين، مشرقات الوجوه، تبدو علهين نضرة النعيم. وكأنهن اللالىء صفاء وبهجة. وقرأ الجمهور ﴿وَحُورٌ عِينٌ (٢٢)﴾ برفعهما، وخرج على أن يكون معطوفًا على ﴿وِلْدَانٌ﴾ أو على الضمير المستكن في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ أو على مبتدأ محذوف هو وخبره، تقديره: لهم هذا كله، وحور عين أو على حذف خبر فقط؛ أي: ولهم حور أو فيها حور. وقرأ السلميّ، والحسن، وعمرو بن عبيد، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش، وطلحة، والمفضل وأبان، وعصمة، والكسائي بجرهما. والنخعيّ ﴿وحير عين﴾ بقلب الواو ياء، وجرهما. والجر عطف على المجرور، أي: يطوف عليهم ولدان بكذا، وكذا، وحور عين. وقيل: هو على معنى: وينعمون بهذا كله، وبحور عين. وقال: الزمخشري: عطفًا على ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾. كأنه قال: هم في جنات، وفاكهة، ولحم، وحور. انتهى. وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض. وهو فهم أعجمي. وقرأ أبي، وعبد الله ﴿وحورً عينًا﴾ بنصهما. قالوا، على معنى: ويعطون هذا كله، وحورا عينًا. وقرأ قتادة ﴿وحور عينٍ﴾ بالرفع مضافًا إلى ﴿عين﴾. وابن مقسم بالنصب مضافًا إلى ﴿عين﴾. وعكرمة ﴿وحوراء عيناء﴾ على التوحيد، اسم جنس، وبفتح الهمزة فيهما. فاحتمل أن يكون مجرورًا عطفًا على المجرور السابق، واحتمل أن يكون منصوبًا كقراءة أبي، وعبد الله ﴿وحورًا عينًا﴾ ورجح أبو عبيد، وأبو حاتم
(١) روح البيان.
قراءة الجمهور.
٢٣ - ثم شبههن سبحانه باللؤلؤ المكنون، فقال: ﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣)﴾ صفة لحور أو حال؛ أي: كائنات كأمثال الدر المخزون في الصدف الذي لم تمسه الأيدي، ولا وقع عليه الغبار، ولم تره الأعين. أو المصون عما يضرُّ به، ويدنسه في الصفاء والنقاء ولما بالغ في وصف جزائم بالحسن والصفاء دل على أن أعمالهم كانت كذلك؛
٢٤ - لأن الجزاء من جنس العمل. فقال: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مفعول لأجله (١) أي: يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم الصالحة في الدنيا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فالمنازل منقسمة على قدر الأعمال. وأما نفس دخول الجنة فبفضل الله ورحمته، لا بعمل عامل. ويجوز أن يكون مصدرًا مؤكدًا لفعل محذوف؛ أي: يجزون جزاء... إلخ؛ أي: (٢) جازاهم ربهم على ما عملوا، وأثابهم بما كسبوا في الدنيا، وزكوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء الفرائض على أتم الوجوه وأكملها، فهم كانوا قوامين في الليل، صوامين في النهار ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)﴾.
٢٥ - وبعد أن وصف النساء وصف حينئذٍ حديثهم، فقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿لَغْوًا﴾؛ أي: كلامًا لا ينفع، قاله في "المفردات". واللغو من الكلام: ما لا يعتد به وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا. وهو صوت العصافير، ونحوها من الطور. ﴿وَلَا﴾ يسمعون ﴿تَأْثِيمًا﴾؛ أي: شيئًا منسوبًا إلى الإثم، كالشتم أو نسبتهم إلى الإثم بمعنى: لا يقال لهم: أثمتم؛ لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، كما يتكلم به أهل الدنيا. أو المعنى: لا يأتون تاثيمًا؛ أي: ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح. والإثم: اسم للافعال المبطئة عن الثواب، والجمع آثام.
٢٦ - والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا قِيلًا﴾؛ أي: قولًا ﴿سَلَامًا سَلَامًا﴾ بدل من ﴿قِيلًا﴾ منقطع؛ أي: لكنهم يسمعون فيها قولًا سلامًا سلامًا. ومعنى سماعهم السلام: أنهم يفشون السلام، فيسلمون سلامًا بعد سلام، أو لا يسمع كل من المسلِّم والمسلَّم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
عليه إلا سلام الآخر بدأ وردًا. وقيل: تسلم عليهم الملائكة، أو يرسل الرب سبحانه بالسلام إليهم.
والمعنى: لا يسمعون فيها من غيرهم كلامًا لغوًا ساقطًا، ولا كلامًا يأثم به صاحبه، ولا يقولون كلامًا لغوًا ساقطًا، ولاكلامًا يأثمون به لو كانوا في الدنيا. ولكن يقولون كلامًا هو سلام بعضهم على بعض، أو لا يسمحون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قولًا هو سلام الملائكة عليهم أو سلام الرب سبحانه عليهم، أي: لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث، ولا هجر القول، وما تتقزز منه النفوس الراقية ذات الأخلاق العالية، ولكن يسمعون أطيب السلام، وسامي الكلام مما يستساغ، كما قال سبحانه: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾. وقرىء ﴿سلام سلام﴾ بالرفع. قال مكي: ويجوز الرفع على معنى سلام عليكم مبتدأ وخبر.
وفي الآية (١): إشارة إلى أن جنات السابقين المقربين صافية عن الكدورات المنغصة لساكنيها، فارغة عن العاملات المعبسة لقاطنيها، لا يقول أهلها إلا مع الحق، ولا يسمعون إلا من الحق، تجلى الحق لهم عن اسمه السلام المشتمل على السلامة من النقائض، والآفات المتضمن للقربات والكرامات.
٢٧ - ولما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين، وما أعده لهم من النعيم المقيم ذكر أحوال أصحاب اليمين. فقال: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ وهذا شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة إثر تفصيل شؤون السابقين. وهو مبتدأ، خبره جملة قوله: ﴿مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾؛ أي: لا تدري ما لهم من الخير والبركة بسبب فواضل صفاتهم، وكوامل محاسنهم.
٢٨ - وقوله: ﴿فِي سِدْرٍ﴾ خبر ثان، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم في سدر ﴿مَخْضُودٍ﴾؛ أي: غير ذي شوك، خال منه، لا كسدر الدنيا. فإن سدر الدنيا مخلوق بشوك، وسدر الجنة بلا شوك، كأنه خضد شوكه؛ أي: قطع، ونزع عنه. فقوله (٢): ﴿سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ إما من باب المبالغة في التشبيه، أو مجاز بعلاقة السببية؛ فإن الخضد سبب لانقطاع الشوك. وقيل: "مخضود"؛ أي: مثني أغصانه لكثرة حمله؛ من خضد الغصن إذا ثناه. وهو رطب. فمخضود على هذا الوجه من حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وقال الضحاك،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
ومجاهد، ومقاتل بن حيان: إن السدر المخضود الموقر حملًا. والسدر: شجر النبق. وهو ثمر معروف، محبوب عند العرب، يتخذون من ورقه الحرض. وفي "المفردات": السدر: شجر قليل الغذاء عند الأكل، وقد يخضد، ويستظل به. فجعل ذلك مثلًا لظل الجنة ونعيمها. قال بعضهم: ليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره، بل كلها مأكول، ومشروب، ومشموم، ومنظور إليه.
٢٩ - ﴿وَ﴾ في ﴿طَلْحٍ﴾؛ أي: موز ﴿مَنْضُودٍ﴾؛ أي: مملوء بحمله، وثماره من أسفله إلى أعلاه؛ أي: نضد حمله، وتراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه، ليست له سوق بارزة. وهو شجر الموز. وهو شجر له أوراق كبار، وظل بارد. كما أن أوراق السدر صغار؛ أو هو أم غيلان. وله أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة، تقصد العرب منه النزهة والزينة، وإن كان لا يؤكل منه شيء.
وعن السدي: هو شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وعن مجاهد: كان لأهل الطائف واد معجب فيه الطلح والسدر، فقالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية، وقد قال تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾. وذكر لكل قوم ما يعجبهم، ويحبون مثله. وفضل طلح الجنة وسدرها على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
٣٠ - ﴿وَ﴾ في ﴿ظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾؛ أي: دائم باق، لا يزول، ولا تنسخه الشمس، لا ينقص، ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. والعرب تقول للشيء الذي لا ينقطع: ممدود، كقول لبيد:
غلب العَزَاءَ وَكَانَ غَيْرَ مُغَلَّبٍ دَهْرٌ طَوِيلٌ دَائِمٌ مَمْدُودُ
وفي الحديث: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة، فيتحدثون في أصلها، ويتذكر بعضهم، ويشتهي لهو الدنيا، فيرسل الله تعالى ريحًا من الجنة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا.
وقال في "كشف الأسرار": ويحتمل أن الظل عبارة عن الحفظ. تقول: فلان
في ظل فلان أي: في كنفه وحفظه ورعايته. لأنه لا شمس في الجنة. انتهى. يقول الفقير (١): بل المراد من الظل: الراحة. كما في قوله تعالى: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾. لأنّه إنما يجلس المرؤ في الظل للاستراحة، وكانت العرب يرغبون فيه لقلّته في بلادهم، وغلبة حرارة الشمس. ومنه قوله - ﷺ -: "السلطان ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم" أي: يستريح عند عدله. ومنه: قولهم: مدَّ الله ظلاله؛ أي: ظلال عدله ورأفته، حتى يصل أثر الاستراحة إلى الناس كلهم.
٣١ - ﴿وَ﴾ في ﴿مَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾؛ أي: منصب، يسكب لهم، ويصب عليهم، يجري أينما شاؤوا، وكيفما أرادوا بلا تعب، لا ينقطع عنهم أبدًا. فهو مسكوب يسكبه الله سبحانه في مجاريه، أو مصبوب سائل، يجري على وجه الأرض في غير أخدود. يعني: كون الماء مسكوبًا كثيرًا إما عبارة عن كونه ظاهرًا مكشوفًا غير مختص ببعض الأماكن والكيفيات أو عن كونه جاريًا. وأكثر ماء العرب من الآبار والبرك، فلا يسكب. فلا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالماء الكثير الجاري، حتى يجري في الهواء على حسب الاشتهاء. كأنه مثل حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البواد إيذانًا بالتفاوت بين الحالين. فكما أنَّ بينما تفاوتًا فكذا بين حاليهما.
٣٢ - ﴿وَ﴾ في ﴿فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ بحسب الأنواع، والأجناس، والألوان، والطعوم والروائح. دائمة في جحيع الأوقات
٣٣ - ﴿لَا مَقْطُوعَةٍ﴾ في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات. ﴿وَ﴾ مباحة لهم ﴿لَا مَمْنُوعَةٍ﴾ عمن أراد تناولها بوجه من الوجوه، كبعد المتناول، وانعدام ما يشتري به، وشوك في الشجر يؤذي من يقصد تناولها، وحائط يمنع الدخول إليها، ونحوها من المحظورات. بل هي معدة لمن أرادها، يحول بينه وبينها حائل. وفي الحديث: "ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين". وقرىء ﴿فاكهة كثيرة﴾ برفعهما؛ أي: وهناك فاكهة كثيرة.
٣٤ - ﴿وَ﴾ في ﴿فُرُشٍ﴾ جمع فراش. وهو ما يبسط، ويفرش. وقرأ الجمهور (٢) بضم الراء، وأبو حيوة بسكونها؛ أي: هم في بسط ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾؛ أي: مرفوع بعضها
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
فوق بعض أو مرفوعة على الأسرة أو رفيعة القدر أو مرتفعة وارتفاعها كما بين السماء والأرض. وهو مسيرة خمس مئة عام. والظاهر: أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه، والنوم. وقال أبو عبيده، وغيره: إنَّ الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش، وباللباس وبالإزار. وفي الحديث: "الولد للفراش". فسمى المرأة فراشًا. وارتفاعهن كونهن على الأرائك، أو كونهن مرتفعات القدر في الحسن، والكمال.
٣٥ - دل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥)﴾؛ لأن الضمير عائد على الفرش في قول أبي عبيدة، إذ هن النساء عنده. وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه لفظ الفرش من الملابس التي تفرش، ويضطجع عليها. وهو النساء؛ أي: ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدًا من غير ولادة إبداء وإعادة. أما الإبداء فكما في الحور العين؛ لأنهن أنشأهن الله في الجنة من غير ولادة. وأمّا الإعادة فكما في نساء الدنيا المقبوضة عجائز. وفي الحديث: "هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطًا" جمع شمطاء. والشمط: بياض شعر الرَّأس يخالطه سواد. "رُمْصًا" جمع رمصاء. والرمص بالتحريك. وسخ يجتمع في الموق. جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابًا على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارًا. فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت: وَا وجعاه. فقال النبي - ﷺ -: "ليس هناك وجعٌ". وقد فعل الله في الدنيا بزكريا عليه السلام، فقال تعالى: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾. سئل الحسن عن ذلك الصلاح، فقال: جعلها شابة بعد أن كانت عجوزًا، وولودًا بعد أن كانت عقيمًا.
٣٦ - وذلك قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ﴾ بعد أن كن عجائز ثيبات ﴿أَبْكَارًا﴾؛ أي: شواب أبكارًا؛ أي: عذارى، لم يطمئهن إنس قبلهم ولا جان. جمع بكر. والمصدر البكارة بالفتح، وسميت التي لم تفتض بكرًا اعتبارًا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء. قال سعدي المفتي: إن أريد بالإنشاء معنى الإبداء، فالجعل بمعنى الخلق، وقوله: ﴿أَبْكَارًا﴾ حال. إن أريد به: الأعادة فهو بمعنى التصيير، و ﴿أَبْكَارًا﴾ مفعوله الثاني. قال بعضهم: ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦)﴾ على أن المراد بهن: نساء الدنيا؛ لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكر. وهن أفضل، وأحسن من حور الجنة؛ لأنهن عملن الصالحات في الدنيا، بخلاف الحور. وعن الحسن محمد الله تعالى عنه: قالت عجوز عند عائشة ضي الله عنها من بني عامر: يا رسول الله أدع الله أن
يدخلني الجنة، نقال: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت وهي تبكي، فقال: النبي - ﷺ -: أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز"، وقرأ الآية: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَثنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦)﴾. وهو حديث مرسل، رواه البغوي بسنده.
٣٧ - ﴿عُرُبًا﴾ جمع عروب، كرسل جمع رسول. وهي المتحببة إلى زوجها، الحسنة التنقل. وفي "المفردات": امرأة عروبة؛ أي: معربة بحالها عن عفتها، ومحبة زوجها، من اعرب إذا بين. وفي بعض التفاسير: ﴿عُرُبًا﴾ كلامهن عربي. وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام.
وقرأ حمزة (١)، وناس منهم: شجاع، وعباس، والأصمعي عن أبي عمرو، وناس منهم: خارجة، وكردم، وأبو خليد عن نافع، وناس منهم: أبو بكر، وحمّاد وأبان عن عاصم بسكون الراء. وهي لغة تميم، وقرأ باقي السبعة بضمها. وهما لغتان في جمع فعول.
﴿أَتْرَابًا﴾؛ أي: أقرانًا وأمثالًا، في الشكل، والقد. والأتراب (٢): هن اللواتي على ميلاد واحد، وسن واحد. وقال مجاهد: ﴿أَتْرَابًا﴾ أمثالًا وأشكالًا. وقال السدي: أترابًا في الأخلاق، لا تباغض بينهن، ولا تحاسد. جمع ترب. وهي اللدة، والسن، ومن ولد معك. والمعنى؛ أي: مستويات في سن بنت ثلاث وثلاثين سنة، وكذا أزواجهن. والقامة ستون ذراعًا في سبعة أذرع عل قامة أبيهم آدم، شباب جرد مكحولون أحسنهم كالقمر ليلة البدر، وآخرهم كالكوكب الدري في السماء، يبصر وجهه في وجهها، وتبصر وجهها في وجهه. لا يبزقون، ولا يتمخطون، وما كان فوق ذلك من الأذى فهو أبعد. وفي الحديث: "إنَّ الرجل ليفتض في الغداة سبعين عذراء ثم ينشئهن الله أبكارًا". وفي الحديث: "أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء". والجابية بالجيم: بلد بالشام. وصنعاء: بلد باليمن، كثيرة الأشجار والمياه، تشبه دمشق.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
٣٨ - وقوله: ﴿لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨)﴾ أعاد ذكره للتأكيد والتحقيق. وهو متعلق (١) بـ ﴿أَنْشَأْنَاهُنَّ﴾ أو بـ ﴿جعلنا﴾ أو بـ ﴿أَتْرَابًا﴾.
والمعنى: أنَّ الله سبحانه أنشأهنّ لأجلهم أو خلقهن لأجلهم أو هن مساويات لأصحاب اليمين في السن، أو هو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هن لأصحاب اليمين.
٣٩ - وقوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾ راجع إلى قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧)﴾. وهو خبر مبتدأ محذوف.
والمعنى: هم - أي: أصحاب اليمين - جماعة، أو أمة أو فرقة، أو قطعة من الأوّلين، أي: من الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبيّنا محمد - ﷺ -، وجماعة أو أمّة أو فرقة أو قطعة من الآخرين؛ أي: من أمة محمد - ﷺ -.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩)﴾؛ أي: من سابقي هذه الأمّة،
٤٠ - ﴿وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾ أي: من أخرى هذه الأمة. وفي الحديث (٢): "هم جميعًا من أمتي"؛ أي: الثلتان من أمتي. فعلى هذا التابعون بإحسان، ومن جرى مجراهم ثلة أولى. وسائر الأمة ثلة أخرى إلى آخر الزمان. وإنما لم يقل في حق هؤلاء: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كما قال ذلك في حقّ السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره.
وحاصل معنى الآيات (٣): هم - أي: أصحاب اليمين - يتمتعون بجنات فيها السدر الذين قطع شوكه، لا كسدر البرية في الدنيا، وفيها الموز الذي مليء ثمرًا، فلا تظهر له سيقان، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر، ووهج الشمس، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى نصب وتعب للحصول عليه، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدًا، ولا تمتنع عنهم في وقت، فهم يجدونها متى شاؤوا، وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة، لا تتعب الجالس عليها.
ثم ذكر ما يتمتعون به من النساء، فقال: إنا أعددناهن نساء أبكارًا متحببات
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
إلى أزواجهن، إذ هن يحسن التبعل كلهن في سن واحدة، لا تمتاز واحدة عن أخرى، وأعطيناهن لأصحاب اليمين جماعة من مؤمني الأمم السالفة، وجماعة من مؤمني أمة محمد - ﷺ -.
٤١ - ولما فرغ الله سبحانه مما أعده لأصحاب اليمين.. شرع في ذكر أصحاب الشمال، وما أعده لهم. فقال: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ وهم الكفار لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)﴾. وهو مبتدأ، خبره جملة قوله: ﴿مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ والاستفهام فيه للإنكار؛ أي: لا تدري ما لهم من الشر، وشدة الحال يوم القيامة.
٤٢ - هم ﴿فِي سَمُومٍ﴾؛ أي: في حر نار تنفذ في المسام. وهي ثقب البدن؛ وتحرق الأجساد والأكباد. وهو إما خبر ثان لأصحاب الشمال أو خبر مبتدأ محذوف. وفي "القاموس": السموم: الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، وتكون غالبًا في النهار. والحرور: الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار. انتهى ﴿وَ﴾ في ﴿حَمِيمٍ﴾؛ أي: في ماء حار بالغ نهاية الحرارة.
٤٣ - ﴿و﴾ في ﴿ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾؛ أي: من دخان أسود بهيم. فإن اليحموم: الدخان، والأسود من كل شيء كما في "القاموس". وهو يفعول من الحمة بالضم. وهو الفحم أو من الأحم وهو الأسود، كما سيأتي. تقول العرب: أسود يحموم إذا كان شديد السواد. قال الضحاك: النار سوداء، وأهلها سود، وكل شيء فيها أسود. ولذا لا يكون في الجنة الأسود إلا الخال؛ وأشفار العين، والحاجب.
والمعنى: أنهم يفزعون إلى الظل، فيجدونه ظلًا من دخان جهنم شديد السواد.
يقول الفقير (١): ففيه تحذير من شرب الدخان الشائع في هذه الأعصار. فإنه يرتفع حين شربه، ويكون كالظل فوق شاربه مع ما لشربه من الغوائل الكثيرة ليس هذا موضع ذكرها، فنسأل الله العافية لمن ابتلي به. إذ هو مما تستخبثه الطباع السليمة، وهو حرام كما عليه أكثر العلماء، إلا من شذَّ وعاند.
٤٤ - ثم وصف هذا الظل بقوله: ﴿لَا بَارِدٍ﴾ كسائر الظلال التي تكون باردة، بل هو
(١) روح البيان.
363
حارّ؛ لأنه من دخان نار جهنم. ﴿وَلَا كَرِيمٍ﴾؛ أي (١): ولا نافع من أذى الحر لمن يأوي إليه نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح. يعني: أنه سماه ظلًّا، ثم نفى عنه. وصيغة البرد والكرم الذي عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيق أنه ليس بظل. والكرم صفة لكل ما يرضي، بجري في بابه. والظل يقصد لفائدتين: لبرودته، ودفع أذى الحر، وإن لم تحصل الاستراحة بالبرد لعدمه. كما في البيوت المسدودة الأطراف، بحيث لا يتحرك فيها الهواء؛ فإن من يأوي إليها يتخلص بها من أذى حر الشمس؛ وإن لم يستروح ببردها. وفيه تهكم بأصحاب المشأمة، وأنهم لا يستأهلون للظل البارد والكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. قال سعيد بن المسيب: ﴿وَلَا كَرِيمٍ﴾؛ أي: ليس فيه حسن منظر، وكل ما لا خير فيه فلىس بكريم. وقال الضحاك: ﴿وَلَا كَرِيمٍ﴾؛ أي: ولا عذب. وقرأ الجمهور (٢) ﴿لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤)﴾ بجرهما، وابن أبي عبلة برفعهما، أي: لا هو بارد ولا كريم.
ومعنى الآيات (٣): أي أصحاب الشمال في حال لا يستطاع وصفها، ولا يقادر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب. ثم فسر هذا المبهم بقوله: ﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ...﴾ إلخ؛ أي: هم في حرٍّ ينفذ في المسامّ، وماء متناه في الحرارة، وظل من دخان أسود ليس بطيب الهبوب ولا حسن المنظر؛ لأنه دخان من سعير جهنم، يؤلم من يستظل به.
قال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة ﴿الكريم﴾ في النفي، فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة، اهـ. وذكر السموم الذي هو الريح المتعفن يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة، بقتل الإنسان. والحميم: الذي هو الماء الحار، ولم يذكر النار إشارة بالأدنى إلى الأعلى؛ فإن هواءهم إذا كان سمومًا، وماءهم الذي يستغيثون به حميمًا، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها، فما ظنك بنارهم؟. فكأنه قال: إن أبرد الأشياء لديهم أحرها، فما بالك بحالهم مع أحرها؟. ونحو الآية قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
364
﴿(٢٩) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)﴾.
والخلاصة (١): أنَّ السموم تضربهم فيعطشون، وتلتهب تارةً أجشاؤهم فيشربون الماء فيقطع أمعاءهم، ويريدون الاستظلال بظل فيكون ظل اليحموم.
٤٥ - ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب. فقال: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن أصحاب الشمال ﴿كَانُوا﴾ في الدنيا ﴿قَبْلَ ذَلِكَ﴾؛ أي: قبل ما ذكر من سوء العذاب النازل بهم ﴿مُتْرَفِينَ﴾ أي (٢): منعمين بأنواع النعم من المآكل، والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات. فلا جرم عذبوا بنقائضها. يقال: ترف كفرح، تنعم وأترفته النعمة أطغته وأنعمته، والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء فلا يمنع، كما في "القاموس". وهذه الجملة تعليل لما قبلها
٤٦ - ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ﴾ ويداومون ويواظبون ﴿عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: على الذنب العظيم الذي هو الشرك. ومنه: قولهم: بلغ الغلام الحنث؛ أي: الحلم، ووقت المؤاخذة بالذنب. وحنث في يمينه خلاف برَّ فيها. وقال بعضهم: الحنث هنا: الكذب؛ لأنهم كانوا يحلفون بالله مع شركهم لا يبعث الله من يموت. يقول الفقير: يدل على هذا ما يأتي من قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١)﴾.
والحكمة في ذكر سبب عذابهم - مع أنه لم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين -: التنبيه على أن ذلك الثواب منه تعالى فضل، لا تستوجبه طاعة مطيع، وشكر شاكر، وإن العقاب منه تعالى عدل. فإذا لم يعلم سبب العقاب يظن أن هناك ظلمًا.
٤٧ - ﴿وَكَانُوا﴾ مع شركهم ﴿يَقُولُونَ﴾ لغابة عتوّهم وعنادهم ﴿أَئِذَا مِتْنَا﴾ والهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف هو متعلق ﴿إذا﴾، دل عليه قوله: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾؛ أي: أنبعث إذا متنا. ﴿وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا﴾؛ أي: أنبعث إذا كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ترابًا، وبعضها عظامًا نخرة بالية. وتقديم (٣) التراب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
لعراقته في الاستبعاد، وانقلابه من الأجزاء البادية. و ﴿إذا﴾ ممحضة للظرفية، والعامل فيها ما دل عليه قوله سبحانه: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾، لا نفسه. لأن ما بعد "إنَّ، واللام، والهمزة" لا يعمل فيما قبلها. وهو البعث، كما مرَّ تقديره آنفًا. وهو المرجع للإنكار والاستبعاد، وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت، وإن كان البدن على حاله، بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية بالكلية. وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم ترابًا وعظامًا، بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة.
٤٨ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨)﴾ للإنكار والاستبعاد أيضًا، داخلة على محذوف، والواو: للعطف على المستكن في ﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾ لوقوع الفصل بينهما بالهمزة، والتقدير: ألمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون؟.
والمعنى: أن بعث آبائهم الأولين أبعد لتقدم موتهم. وقرىء (١) ﴿وآبائنا﴾ بلا همزة. وقرأ نافع، وابن عامر "أو" بالسكون. وقد سبق مثله، ذكره البيضاوي.
ومعنى الآيات (٢): أي إنهم كانوا في الدنيا منعمين بألوان من المآكل، والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات، فلا جرم عذبوا بنقائضها، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم، ويقولون: أنبعث نحن وآباؤنا الأولون، ونعود كرة أخرى، وقد صرنا أجسادًا بالنية، وعظامًا نخرة.
والخلاصة: أنهم كانوا يمتعون بوافر النعم، وجزيل المنن. وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم، ولم يشكروا أنعم الله عليهم، فاستحقوا عذاب ربهم، وكانوا مكذبين بهذا اليوم، مستبعدين وقوعه، وركبوا رؤوسهم فلم يلووا على شيء، وهاموا في أودية الضلالة، وساروا في سبيل الغواية، ولا رقيب ولا حسيب.
وقد جرت سنّة القران أن يذكر أسباب العقاب (٣)، ولا يذكر أسباب الثواب؛ لانَّ الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
المتفضل به نقص ولا ظلم، أما العدل إن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم، كما مر آنفًا في بيان الحكمة، وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابًا:
١ - الحياة بعد الموت.
٢ - طول العهد بعد الموت، حتى صارت اللحوم ترابًا، والعظام رفاتًا.
٣ - بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين: أو يبعث آباءنا الأولون؟.
٤٩ - فرد الله سبحانه عليهم كل هذا، وأمر رسوله أن يجيبهم ويرد عليهم استبعادهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ردًّا لإنكارهم، وتحقيقًا للحق. ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ﴾ في الزمن من الأمم الماضية ﴿وَالْآخِرِينَ﴾ فيه الذين أنتم من جملتهم، وفي تقديم (١) ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ مبالغة في الرد، حيث كان إنكارهم لبعث آباءهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي.
٥٠ - ﴿لَمَجْمُوعُونَ﴾ بعد الموت، وكأنه ضمن الجمع معنى السوق، فعدى تعديته بإلى. وقرىء ﴿لمجمعون﴾، ولذا قال: ﴿إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾؛ أي: إلى ما وقتت به الدنيا، وحدت من يوم معلوم لله، معين عنده. وهو يوم القيامة. والإضافة بمعنى من، كخاتم ففة. والميقات هو الوقت المضروب للشي ينتهي عنده أو يبتدأ فيه؛ ويوم القيامة ميقات تنتهي الدنيا عنده، وأول جزء منه. فالميقات الوقت المحدود، وقد يستعار للمكان. ومنه: مواقيت الإحرام للحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرمًا.
والمعنى (٢): أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلًا لهم: إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد؛ والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا ليجمعون في صعيد واحد في ذلك اليوم المعلوم، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه. ونحو الآية قوله تعالى في سورة النازعات: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾.
٥١ - ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء في مآكلهم، ومشاربهم فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ الخطاب (٣) لأهل مكة؛ وأضرابهم، وهو معطوف على ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ﴾، داخل
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
تحت القول. و ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي زمانًا أو رتبة. ﴿أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ عن الحق والهدى ﴿الْمُكَذِّبُونَ﴾؛ أي: البعث. ووصفهم بوصفين قبيحين. وهما الضلال عن الحق، والتكذيب له.
٥٢ - ﴿لَآكِلُونَ﴾ بعد البعث، والجمع، ودخول جهنم ﴿مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ من الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر. وتفسيره؛ أي: مبتدئون الأكل من شجر هو الزقوم. وهو شجر كريه المنظر والطعم، حار في اللمس، منتن في الرائحة، وهي الشجرة الملعونة في القرآن، ويقال: سدرة المنتهى، أغصانها نعيم لأهل الجنة، وأصولها زقوم، لأهل النار. فهي مبدأ اللطف، والقهر، والجمال، والجلال، ولا أصل لهذا الكلام، وبجوز (١) أن تكون "من" الأولى مزيدة، والثانية بيانية، وأن تكون الثانية مزيدة والأولى للابتداء.
٥٣ - ﴿فَمَالِئُونَ﴾ يقال: ملأ الإناء فهو مملوء، من باب قطع، والملاء بالكسر: مقدار ما يأخذ الإناء إذا امتلأ. ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك الشجرة. والتأنيث باعتبار المعنى. ﴿الْبُطُونَ﴾؛ أي: بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع أو بالقسر. وفيه (٢) بيان لزيادة العذاب، وكماله؛ أي: لا يكتفى منكم بنفس الأكل كما يكتفي من يأكل الشيء تحلة القسم بمسمى الأكل، بل تلزمون بأن تملؤوا منها البطون؛ أي: يملأ كل واحد منكم بطنه أو بطون الأمعاء، والأول أظهر، والثاني أدخل في التعذيب.
٥٤ - ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على شجر الزقوم؛ أي: عقب ذلك بلا ريث لعطشكم الغالب. وتذكير الضمير هنا باعتبار لفظ الشجر؛ لأنه يذكر ويؤنث أو عائد إلى الزقوم. وبجوز (٣) أن يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله: ﴿لَآكِلُونَ﴾؛ أي: فشاربون على الزقوم عقب أكله ﴿مِنَ الْحَمِيم﴾؛ أي: من الماء الحار البالغ الغاية في الحرارة. وقرىء ﴿من شجرة﴾ بالإفراد.
٥٥ - ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)﴾؛ أي: شربًا كشرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء أصابها. وهذه الجملة كالتفسير والبيان لما قبلها؛ أي: لا يكون شربكم شربًا معتادًا، بل يكون مثل شرب الهيم. وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء (٤) يصيبها، يشبه الاستسقاء فتشرب ولا تروي إلى أن تموت أو تسقم سقمًا شديدًا، والهيم: جمع أهيم وهيماء، كحمر وأحمر وحمراء. فأصله:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
هيم بضم الهاء بوزن حمر، فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء، فصار نظير بيض. قال قيس بن الملوح:
يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِيْ مَكَانَ شِفَائِيَا
وقيل: جمع هائم وهائمة، وجمع فاعل على فعل كباذل وبذل، عائذ وعوذ شاذ. وقال الضحاك (١)، وابن عيينة، والأخفش، وابن كيسان: الهيم: الأرض السهلة ذات الرمل.
والمعنى عليه: أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء، ولا يظهر له فيها أثر.
ومعنى هذا الكلام (٢): أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يفطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل. فإذا ملؤوا منه بطونهم، وهو في غاية الحرارة، والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه لتشرب الإبل العطاش. وفيه بيان لزيادة العذاب أيضًا؛ أي: لا يكون شربكم أيها الضالون كشرب من يشرب ماء حارًا منتنًا، فإنه يمسك عنه إذا وجده مؤلمًا معذبًا بخلاف شربكم، فإنكم تلزمون بأن تشربوا منه مثل ما يشرب الجمل الأهيم، فإنه يشرب ولا يروى.
٥٦ - ﴿هَذَا﴾ الذي ذكر من الزقوم والحميم أوّل ما يلقونه من العذاب ﴿نُزُلُهُمْ﴾؛ أي: رزقهم المعدّ لهم؛ أي: كالنزل الذي يعد للنازل مما حضر مكرمة له. ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي: يوم الجزاء. فإذا كان ذلك نزلهم فما ظنك بحالهم بعدما استقر لهم القرار، واطمأنت بهم الدار في النار؟. وفيه من التهكم بهم، والتوبيخ لهم ما لا يخفى، كما في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأن ما يعد لهم في جهنم ليس مكرمة لهم، كما قال:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا
والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة، مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
369
وقرأ الجمهور (١): ﴿مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾. وقرأ عبد الله ﴿من شجرة﴾، كما مرت الإشارة إليه. والضمير في قوله: ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا﴾ عائد على شجر. إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر. وعلى قراءة عبد الله فهو واضح. ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ قال الزمخشري: ذكر على لفظ الشجر كما أنَّث على المعنى في ﴿مِنْهَا﴾، قال: ومن قرأ ﴿من شجرة﴾ فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم؛ لأنه يفسرها، وهي في معناه. وقال ابن عطية: الضمير في ﴿عَلَيْهِ﴾ عائد على المأكول أو على الأكل، انتهى، فلم يجعله عائدًا على شجر. قال الزمخشري: فإن قلت (٢): كيف يصح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكان عطفًا للشي على نفَسه؟
قلت: ليستا بمتفقتين من حيث كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهى الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضًا، فكانتا صفتين مختلفتين، انتهى.
والفاء تقتضي التعقب في الشربين، وأنهم أوّلًا لمَّا عطشوا شربوا من الحميم ظنًّا أنه يسكن عطشهم، فازداد العطش بحرارة الحميم، فشربوا بعده شربًا لا يقع به ري أبدًا، وهو مثل شرب الهيم، فهما شربان من الحميم، لا شرب واحد، اختلفت صفتاه فعطف، والمقصود الصفة، والمشروب منه في ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)﴾ محذوف لفهم المعنى، تقديره: فشاربون منه شرب الهيم.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة (٣): ﴿شُرْبَ الْهِيمِ﴾ بضم الشين. وهو مصدر سماعي، وقيل: اسم لما يشرب. وقرأ مجاهد، وأبو عثمان النهدي بكسرها. وهو بمعنى المشروب اسم لا مصدر، كالطحن والري، وقرأ الأعرج، وابن المسيب، وحبيب بن الحبحاب، ومالك بن دينار، وباقي السبعة بفتحها. وهو مصدر مقيس. وقرأ الجمهور: (٤) ﴿نُزُلُهم﴾ بضمتين. وقرأ ابن محيصن، وخارجة عن نافع، ونعيم، ومحبوب، وأبو زيد، وهارون، وعصمة، وعباس كلهم عن أبي عمرو بضم النون وسكون الزاي.
(١) البحر المحيط.
(٢) الكشاف.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
370
ومعنى الآيات: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ...﴾ إلخ؛ أي (١): أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم؛ إذ لم توحدوا الله سبحانه، ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه. ثم كذبتم رسله، فأنكرتم البعث والجزاء في هذا اليوم، إنكم لآكلون من شجر الزقوم فمالئون منها بطونكم، فشاربون بعد ذلك من ماء حار، لغلبة العطش عليكم، ولكنه شرب لا يشفي الغليل، ومن ثم تشربون، ولا ترتوون فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام، فلا يروي لها الماء غليلًا، ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب، بل هو أوله وقطعة منه. فقال: هذا الزقوم المأكول، والحميم المشروب أول الضيافة التي تقدم لهم، كما يقدم للنازل مما حضر. فما بالك بهم بعدما يستقر بهم المقام في الدار؟.
وفي الآية: إشارة إلى إفراط النفس والهوى في شرب ماء حميم الجهل والضلال، وفي أكل زقوم المشتهيات المورثة للوبال، ولغاية حرصها لا تزيد إلا جوعًا وعطشًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
الإعراب
﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)﴾.
﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب المحذوف، تقديره: إذا وقعت الواقعة وقامت القيامة تكون يومئذٍ الأهوال الهائلة، والفظائع المختلفة، وجملة ﴿إِذَا﴾ الشرطية مستأنفة، وفي إعراب ﴿إِذَا﴾ هنا أوجه:
١ - إنها ظرف محض ليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها ما في ليس من معنى النفي، كأنّه قيل: ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت، وعليه الزمخشري. وقد ردوا عليه بما لا يسعه كتابنا.
٢ - إن العامل فيها اذكر مقدرًا.
(١) المراغي.
371
٣ - إنها شرطية والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها وهو اختيار أبي حيان.
٤ - إنها شرطية وجوابها مقدر؛ أي: إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت. وهو العامل فيها، وعليه إعرابنا السابق.
٥ - إنها مبتدأ، و ﴿إِذَا رُجَّتِ﴾ خبرها. وهذا على القول: بأنها تتصرف.
٦ - إنها ظرف ﴿خَافِضَةٌ﴾، ﴿رَافِعَةٌ﴾. قاله أبو البقاء.
٧ - إنها ظرف لـ ﴿رُجَّتِ﴾، و ﴿إِذَا﴾ الثانية إما بدل من الأولى أو تكرير لها.
٨ - إن العامل فيها ما دل عليه قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾؛ أي: إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها.
٩ - إن جواب الشرط قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾.
١٠ - إنها صلة؛ أي: وقعت الواقعة مثل: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾، و ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾. وهو كما يقال: قد جاء الصوم؛ أي: دنا واقترب، قاله الجرجاني. ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿لِوَقْعَتِهَا﴾ خبرها مقدم، واللام بمعنى في على تقدير مضاف، و ﴿كَاذِبَةٌ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿كَاذِبَةٌ﴾ صفة لموصوف محذوف؛ أي: ليس نفس كاذبة توجد في وقت وقوعها. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل النصب حال من الواقعة؛ أي: إذا وقعت الواقعة حالة كونها موصوفة بعدم وقوع كاذبة في وقت وقوعها تكون الأهوال الهائلة. ﴿خَافِضَةٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي خافضة لأناس، ﴿رَافِعَةٌ﴾ خبر ثان لذلك المحذوف. والجملة الاسمية في محل النصب، حال ثانية من الواقعة؛ أي: حالة كونها خافضة لأناس، رافعة لآخرين. ﴿إِذَا رُجَّتِ﴾ ﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿رُجَّتِ الْأَرْضُ﴾ فعل مغير الصيغة، ونائب فاعل، ﴿رَجًّا﴾ مفعول مطلق. و ﴿إِذَا﴾ يجوز أن تكون بدلًا من ﴿إِذَا﴾ الأولى، وجوابها محذوف كالأولى أو تأكيد لها. ويجوز أن تكون ظرفًا محضًا متعلقًا بـ ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)﴾؛ أي: تخفض وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال. ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ﴾ فعل، ونائب فاعل، معطوف على ﴿رُجَّتِ الْأَرْضُ﴾، ﴿بَسًّا﴾ مفعول مطلق، ﴿فَكَانَتْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿كانت﴾ فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الجبال، ﴿هَبَاءً﴾ خبرها، ﴿مُنْبَثًّا﴾ صفة ﴿هَبَاءً﴾. وجملة كان معطوفة على جملة ﴿بست الجبال﴾.
372
﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)﴾.
﴿وَكُنْتُمْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿وَكُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿أَزْوَاجًا﴾ خبرها، ﴿ثَلَاثَةً﴾ صفة ﴿أَزْوَاجًا﴾. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)﴾. ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنكم تكونون أزواجًا ثلاثة، وأردتم بيان تلك الثلاثة فأقول لكم: أصحاب الميمنة. ﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ مبتدأ أوّل، ومضاف إليه، ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ثان، ﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ خبره. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول. وجملة الأول مع خبره في فصل النصب؛ مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. والغرض من هذا الاستفهام: التعظيم، والتفخيم؛ وتكرير المبتدأ بلفظه أغنى عن الضمير الرابط. مثل قوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢)﴾. ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢)﴾. ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ مبتدأ أوّل؛ ﴿مَا﴾ اسم استفهام في فصل الرفع مبتدأ ثان، ﴿أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الأول مع خبره في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾. ﴿وَالسَّابِقُونَ﴾ مبتدأ، ﴿السَّابِقُونَ﴾ خبره؛ أي: السابقون إلى الخير في الدنيا هم السابقون في الآخرة إلى الجنة. والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾؛ وقيل: ﴿السَّابِقُونَ﴾ الأول: مبتدأ، والثاني: تأكيد له أو نعت، وجملة ﴿أُولَئِكَ﴾ خبره. ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ خبره. والجملة في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿السَّابِقُونَ﴾ الأول أو خبر له.
﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨)﴾.
﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)﴾ خبر ثان لـ ﴿أُولَئِكَ﴾ أو حال من الضمير في ﴿الْمُقَرَّبُينَ﴾. ﴿ثُلَّةٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، ﴿مِنَ الْأَوَّلِينَ﴾ نعت لـ ﴿ثُلَّةٌ﴾؛ أي: هم ثلّة من الأوّلين. والجملة مستأنفة. ﴿وَقَلِيلٌ﴾ معطوف على ﴿ثُلَّةٌ﴾، ﴿مِنَ الْآخِرِينَ﴾ نعت لـ ﴿قليل﴾، ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ نعت ثان لـ ﴿ثُلَّةٌ﴾ أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف،
373
﴿مَوْضُونَةٍ﴾ صفة لـ ﴿سُرُرٍ﴾، ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في متعلق الجار والمجرور في قوله: ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ حال ثانية من ذلك المستكن، أو من الضمير المستكن في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾. ﴿يَطُوفُ﴾ فعل مضارع، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، ﴿وِلْدَانٌ﴾ فاعل، ﴿مُخَلَّدُونَ﴾ صفة لـ ﴿وِلْدَانٌ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من الضمير المستكن في ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾. ﴿بِأَكْوَابٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَطُوفُ﴾، ﴿وَأَبَارِيقَ﴾ معطوف على ﴿أكواب﴾، مجرور بالفتحة. لأنه ممنوع، الصرف لصيغة منتهى الجوع. ﴿وَكَأْسٍ﴾ معطوف على ﴿أكواب﴾ أيضًا، ﴿مِنْ مَعِينٍ﴾ صفة لـ ﴿كأس﴾.
﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦)﴾.
﴿لَّا﴾ نافية، ﴿يُصَدَّعُونَ﴾ فعل مضارع، مغيّر الصيغة، والواو: نائب فاعل، ﴿عَنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿يُصَدَّعُونَ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿يُصَدَّعُونَ﴾. ﴿وَفَاكِهَةٍ﴾ معطوف على ﴿أكواب﴾، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، صفة لـ ﴿فاكهة﴾، وجملة ﴿يَتَخَيَّرُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: يتخيّرونه. ﴿وَلَحْمِ﴾ معطوف على ﴿أكواب﴾ أيضًا، ﴿طَيْرٍ﴾ مضاف إليها، ﴿مِمَّا﴾ صفة للحم، وجملة ﴿يَشْتَهُونَ﴾ صلة لما الموصولة. ﴿وَحُور﴾ مبتدأ، خبره محذوف تقديره: ولهم حور. ﴿عِينٌ﴾ صفة لـ ﴿حور﴾، أو معطوف على ﴿وِلْدَانٌ﴾؛ أي: ويطوف عليهم حور عين للتنعيم لا للخدمة، أو ثم حور عين أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ونساؤهم حور عين. وقرىء بالنصب على تقدير: ويجزون حورًا عينًا. والجملة على جميع التقادير مستأنفة. وقرىء بالجر عطفًا على ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾؛ أي: وفي حور عين. ﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ﴾ جار ومجرور، ومضاف، صفة ثانية لـ ﴿حور﴾، ﴿الْمَكْنُونِ﴾ صفة لـ ﴿اللُّؤْلُؤِ﴾، ﴿جَزَاءً﴾ مفعول لأجله لفعل محذوف، تقديره: يفعل بهم ذلك كله لأجل جزائهم، أو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: يجزون ذلك جزاء. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾؛ ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول. ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يَسْمَعُونَ﴾ فعل، وفاعل، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَسْمَعُونَ﴾، ﴿لَغْوًا﴾ مفعول به، ﴿وَلَا تَأْثِيمًا﴾
374
معطوف على ﴿لَغْوًا﴾. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء منقطع، ﴿قِيلًا﴾ مستثنى منقطع واجب النصب، ﴿سَلَامًا﴾ إما بدل من ﴿قِيلًا﴾؛ أي: لا يسمعون فيها إلا سلامًا سلامًا أو نعت لـ ﴿قِيلًا﴾، منصوب بـ ﴿قيلا﴾ لأنّه مصدر؛ أي: إلَّا أن يقولوا: سلامًا سلامًا، أو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: يسلّمون تسليمًا ﴿سَلَامًا﴾ مؤكدة للأولى.
﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤)﴾.
﴿وَأَصْحَابُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ مبتدأ أول، ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ثان، ﴿أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ خبره. والجملة في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول وخبره مستأنفة. ﴿فِي سِدْرٍ﴾ خبر ثان لـ ﴿أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾، ﴿مَخْضُودٍ﴾، صفة لـ ﴿سِدْرٍ﴾، ﴿وَطَلْحٍ﴾ معطوف على ﴿سِدْرٍ﴾، ﴿مَنْضُودٍ﴾ صفة لـ ﴿طلح﴾، ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)﴾ معطوفان أيضًا على ﴿سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾، ﴿وَفَاكِهَةٍ﴾ معطوف عليه أيضًا، ﴿كَثِيرَةٍ﴾ صفة لـ ﴿فاكهة﴾، ﴿لَّا﴾ نافية، ﴿مَقْطُوعَةٍ﴾ صفة ثانية لـ ﴿فاكهة﴾، ﴿وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ معطوف على ﴿مَقْطُوعَةٍ﴾ على كونه صفة لـ ﴿فاكهة﴾، و ﴿لا﴾ للنفي، ولذلك كررت. نظير قوله: مررت برجل لا طويل ولا قصير. ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤)﴾ معطوف على ﴿سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾.
﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿أَنْشَأْنَاهُنَّ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، ﴿إِنْشَاءً﴾ مفعول مطلق والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ مستأنفة. ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول أول، ﴿أَبْكَارًا﴾ مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْشَأْنَاهُنَّ﴾. ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧)﴾ نعتان لـ ﴿أَبْكَارًا﴾، ﴿لأصحاب اليمين﴾ متعلق بـ ﴿أَنْشَأْنَاهُنَّ﴾، ﴿ثُلَّةٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم ثلّة ﴿مِنَ الْأَوَّلِينَ﴾ صفة لـ ﴿ثُلَّةٌ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿ثُلَّةٌ﴾ معطوف على ﴿ثُلَّةٌ﴾، ﴿مِنَ الْآخِرِينَ﴾ صفة لـ ﴿ثُلَّةٌ﴾.
375
﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨)﴾.
﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١)﴾ تقدم إعراب نظيره قريبًا، فجدّد به عهدًا. والكلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمله من أحوالهم بعد أن فصل حال أهل اليمين. ﴿فِي سَمُومٍ﴾ خبر ثان لـ ﴿أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾؛ أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم في سموم، وقد تقدم نظيره. ﴿وَحَمِيمٍ﴾ معطوف على ﴿سَمُومٍ﴾، ﴿وَظِلٍّ﴾ معطوف على ﴿سَمُومٍ﴾ أيضًا، ﴿مِنْ يَحْمُومٍ﴾ صفة لـ ﴿ظل﴾، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿بَارِدٍ﴾ صفة ثانية ﴿ظل﴾، ﴿وَلَا كَرِيمٍ﴾ معطوف على ﴿بَارِدٍ﴾. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿قَبْلَ ذَلِكَ﴾ ظرف، متعلق بمحذوف حال من اسم ﴿كان﴾ أو بـ ﴿مُتْرَفِينَ﴾. و ﴿مُتْرَفِينَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾؛ وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر إنّ، وجملة ﴿إنَّ﴾ جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَكَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يُصِرُّونَ﴾ خبره. وجملة ﴿كَانُوا﴾ معطوفة على ﴿كان﴾ الأول. ﴿عَلَى الْحِنْثِ﴾ متعلق بـ ﴿يُصِرُّونَ﴾، ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْحِنْثِ﴾. ﴿وَكَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، معطوف على ﴿كان﴾، الأوّل أيضًا، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾. ﴿أَئِذَا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، دل عليه قوله: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾، تقديره: أنبعث. ﴿إذا﴾ ظرف مجرد عن الشرط متعلق بذلك المقدر، ﴿مِتْنَا﴾ فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾. ﴿وَكُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه؛ ﴿تُرَابًا﴾ خبر ﴿كان﴾، ﴿وَعِظَامًا﴾ معطوف على ﴿تُرَابًا﴾. وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿مِتْنَا﴾. ﴿أَإِنَّا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿إنا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿مبعوثون﴾ خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جملة استفهامية، مفسرة لذلك المحذوف. ﴿أَوَآبَاؤُنَا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو: عاطفة، ﴿آبَاؤُنَا﴾ معطوف على الضمير المستكن في ﴿مبعوثون﴾. وحسن العطف على الضمير من غير تأكيد بنحن وجود الفاصل الذي هو الهمزة. والتقدير: المبعوثون نحن وآباؤنا. ﴿الْأَوَّلُونَ﴾ صفة لـ ﴿آبَاؤُنَا﴾.
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤)
376
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)}.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر. والجملة مستأنفة، مسوقة للرد على إنكارهم؛ وتحقيقًا للحق. ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿وَالْآخِرِينَ﴾ معطوف على ﴿الْأَوَّلِينَ﴾. ﴿لَمَجْمُوعُونَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿مجموعون﴾ خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِلَى مِيقَاتِ﴾، متعلق بـ ﴿مجموعون﴾، ﴿يَوْمٍ﴾ مضاف إليه، ﴿مَعْلُومٍ﴾ صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾. وقد ضمن الجمع معنى السوق، فعدّاه بإلي، وإلّا فكان الظاهر تعديته بفي. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿إِنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿أَيُّهَا﴾ ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، والهاء: حرف تنبيه، ﴿الضَّالُّونَ﴾ بدل من ﴿أيّ﴾ أو نعت لها. وجملة النداء معترضة. ﴿الْمُكَذِّبُونَ﴾ صفة لـ ﴿الضَّالُّونَ﴾، ﴿لَآكِلُونَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿آكلون﴾ خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ الأولى. ﴿مِنْ شَجَرٍ﴾ متعلق بـ ﴿آكلون﴾، ﴿مِنْ زَقُّومٍ﴾ نعت لـ ﴿شَجَرٍ﴾، أو بدل من ﴿مِنْ شَجَرٍ﴾، ﴿فَمَالِئُونَ﴾ الفاء: عاطفة ﴿مالئون﴾ معطوف على ﴿آكلون﴾، ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿مالئون﴾، ﴿الْبُطُونَ﴾ مفعول به لـ ﴿مالئون﴾. لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل. ﴿فَشَارِبُونَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿شاربون﴾ معطوف على ﴿مالئون﴾، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿شاربون﴾، ﴿مِنَ الْحَمِيمِ﴾ متعلق به أيضًا. ﴿فَشَارِبُونَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿شاربون﴾ معطوف على ﴿شاربون﴾، ﴿شُرْبَ الْهِيمِ﴾ مفعول مطلق. ﴿هَذَا﴾ مبتدأ، ﴿نُزُلُهُمْ﴾ خبره، ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿نُزُلُهُمْ﴾؛ أي: حال كونه كائنًا في ذلك اليوم العصيب، أو من الضمير؛ أي: حال كونهم كائنين في ذلك اليوم الرهيب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١)﴾؛ أي: قامت القيامة. وصفت بأنها تقع لا محالة، أو كأنها واقعة في نفسها. ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)﴾ الرج: تحريك الشيء، وإزعاجه. والرجرجة: الاضطراب، أي: خافضة رافعة إذا حركت الأرض تحريكًا شديدًا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، كما مرّ. أصله: رججت مبنيًا للمفعول، أدغمت عين الكلمة في لامها، وكذلك ﴿رَجًّا﴾ أدغمت عين المصدر في لامه، فوزنه فعل. وكذلك القول في ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥)﴾؛ أي: فتتت حتى صارت مثل
377
السويق الملتوت. من بس السويق إذا لته. والبسيسة: سويق يلت فيتخذ زادًا، أو سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها، وفي "المصباح": بسست الحنطة وغيرها بسًّا من باب قتل. وهو الفت. فهي بسيسة فعيلة بمعنى مفعولة.
﴿هَبَاءً﴾ الهباء: غبار كالشعاع في الرتبة، وكثيرًا ما يخرج شعاع الشمس من الكوّة النافذة، وفيه إعلال بالإبدال. أصله: هباو، أبدلت ﴿الواو﴾ همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿مُنْبَثًّا﴾؛ أي: منتشرًا متفرقًا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه. ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا﴾؛ أي: أصنافًا. قال الراغب: الزوج يكون لكل عن القرينين الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة، ولكل قرينين منها، ومن غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلًا له أو مضادًا، اهـ.
﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ والميمنة: ناحية اليمين. والمشأمة: ناحية الشمال. والعرب يتيمنون بالميامن، ويتشاءمون بالشمائل. والمراد: أصحاب المرتبة السنية الرفيعة. وفي "القاموس": اليمن: البركة كالميمنة، بمن فهو ميمون، وأيمن. والجمع ميامين، وأيامن واليمين ضد اليسار، والجمع أيمن، وأيمان، وأيامن، وأيامين، والبركة، والقوة. والشؤم ضد اليمن، والمشأمة ضد الميمنة، انتهى.
﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾ الثلة: الجماعة قلت أو كثرت، وقيل: الجماعة الكثيرة من الناس، كما قال:
وَجَاءَتْ إلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ مُزبِدِ
وفي "القاموس": الثله بالضم: الجماعة من الناس، والكثير من الدراهم. وقد تفتح. وبالكسر: الهلكلة. والجمع ثلل، كعنب، اهـ. واشتقاقه من الثل؛ وهو الكسر؛ وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم، وقال الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل: ثلة من الأولين.
﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ جمع سرير. وهو ما يجعل للإنسان من المقاعد العالية الموضوعة للراحة والكرامة، اهـ خطيب. ﴿مَوْضُونَةٍ﴾ من الوضن. وهو النسج. وفي "القاموس": وضن الشيء يضنه فهو موضون ووضين ثني بعضه على بعض، وضاعفه. ووضن الغزل نسجه؛ والموضونة، الدرع المنسوجة، أو المتقاربة النسج،
378
أو المنسوجة حلقتين حلقتين، أو المنسوجة من قضبان الذهب، مشتبكة بالجواهر.
والمعنى: منسوجة متداخلة، كصفة الدرع. قال الأعشى:
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُوْدَ مَوْضُوْنَةٍ تُسَاقُ إِلَى الْحَيِّ عِيْرًا فَعِيْرَا
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا﴾، أي: على السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسيّ فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه، اهـ خطيب. ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾؛ أي: فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وقال مجاهد، وغيره: هذا في المؤمن، وزوجته وأهله. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاث مئة ذراع. فإذا أراد العبد أن يجلس عليه.. تواضع وانخفض له، فإذا جلس عليه ارتفع، اهـ خطيب.
﴿يَطُوفُ﴾ أصله: يطوف بوزن يفعل بضم العين، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد نظير يقول. ﴿وِلْدَانٌ﴾ بكسر الواو كصبيان باتفاق القراء جمع وليد بمعنى مولود، والولد يجمع على أولاد، كسبب وأسباب، اهـ من "المصباح". والصحيح: أنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة من غير ولادة أحد، كما خلقت الحور العين من غير ولادة. وأطلق علي اسم الولدان؛ لأنَّ العرب تسمى الغلام وليدًا ما لم يحتلم، والأمة وليدة وإن أسنت. ﴿مخلدون﴾؛ أي: باقون، لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يتغيرون. وقيل: من الخلد. وهو القرط. قال امرؤ القيس:
وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلَّا سَعِيْدٌ مخَلَّدٌ قَلِيْلُ الْهُمُوْمِ مَا يَبِيْتُ بِأَوْجَالِ
﴿بِأَكْوَابٍ﴾ جمع كوب؛ أي: بآنية لا عرا لها، ولا خراطيم. ﴿وَأَبَارِيقَ﴾ جمع آب ريْ إفعيل، مشتق من البريق. وهو اللمعان لصفاء لونه. وقيل: أعجمية معربة أبازير. وهي آنية لها عرًا وخراطيم. والعرا: ما يمسك بها المسماة بالآذان. والخراطيم: هي ما يصب منها المسماة بالبزابيز، اهـ شيخنا، قال عديّ بن الرقاع:
وَدَعَوْا بِالصَّبُوحِ يَوْمًا فَجَاءَتْ بِهِ قَنْيَةٌ فِيْ يَمِيْنِهَا إِبْرِيْقُ
﴿وَكَأْسٍ﴾ والكأس: القدح إذا كان فيها شراب، وإلا فهو قدح. ﴿مِنْ مَعِينٍ﴾ أي: من خمر جارية من منبع لا يفيض، ولا ينقطع أبدًا. يقال: معن الماء إذ جرى، فهو فعيل بمعنى فاعل، أو ظاهرة تراها العيون في الأنهار، كالماء المعين. وهو الظاهر البخاري. فيكون بمعنى مفعول من المعاينة، من عانه إذا شخصه وميزه
379
بعينه. قال في "القاموس": المعن: الماء الظاهر، ومعن الماء أساله، وأمعن الماء جرى. والمعنان بالضم: مجاري الماء في الوادي. والمراد: أنها لم تعصر كخمر الدنيا.
﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾؛ أي: لا يحصل لهم صداع بسبب شربها، كما يحدث ذلك في خمر الدنيا. والصداع: هو الداء الذي يأخذ الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه. والصدع: شق في الأجسام الصلبة كالزجاج، والحديد، ونحوهما. ومنه استعير الصداع. وهو الانشقاق في الرأس من الوجع. ومنه: الصديع للفجر.
﴿وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه. فالنفاد إما للعقل. وهو من عيوب خمر الدنيا. أو للشراب. فإن بنفادهما تختل الصحبة. يقال: نزف الرجل بالبناء للمجهول؛ أي: ذهب عقله سكرًا. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ونزف الرجل دمًا رعف فخرج دمه كله، كلاهما وارد.
﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠)﴾؛ أي: يختارون، ويرضون. يقال: تخيرت الشىء أخذت خيره. ﴿مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أصله: يشتهيون بوزن يفتعلون؛ استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء لذلك.
﴿وَحُورٌ﴾ جمع حوراء، كحمر جمع حمراء. فمعنى الحور: النساء شديدات البياض؛ أي: بياض أجسادهن. والعين: جمع عيناء. فمعنى العين: شديدات سواد العيون مع سعتها، مثل: أعين الظباء والبقر.
قال الأصمعي: وليس في بني آدم حور عين، وإنما قيل للنساء: حور تشبيهًا بالظباء والبقر، اهـ.
وقوله: ﴿عِينٌ﴾ جمع عيناء، كسرت فاؤه لمناسبة الياء، وإلا فقياسه أن يجمع كما جمعت حمراء. فأصل "عين" عين بضم العين؛ لأنه نظير حمر جمع حمراء، فخفف بإبدال ضمة فائه كسرة لتصح الياء؛ وإنما لم تبدل ياؤه واوًا وكما فعلوا في موقن وموسر. أصلها: ميقن وميسر؛ لأن الجمع أثقل من المفرد، والواو أثقل من الياء. فيجتمع حيئذٍ ثقلان. قال في الخلاصة:
وَيُكْسَرُ الْمَضْمُوْمُ فِيْ جَمْعٍ كَمَا يُقَالُ هِيْمٌ عِنْدَ جَمْعِ أَهْيَمَا
﴿الْمَكْنُونِ﴾؛ أي: المصون الذي لم تمسه الأيدي. وهو أصفى، وأبعد من
380
التغير. ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)﴾ الهمزة فيه مبدلة من ياء لتطرفها إثر ألف زائدة. فأصله: جزاي. ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾؛ أي: باطلًا. قال في "القاموس": اللغو واللغا: السقط، وما لا يعتد به من كلام وغيره، كما مر بسطه. ﴿وَلَا تَأْثِيمًا﴾؛ أي: ما يقال حين سماعه: وقعتم في الإثم. والإثم: الأفعال المبطئة عن الثواب. والجمع آثام. ﴿إِلَّا قِيلًا﴾ فيه إعلال بالقلب أصله: قولًا، قلبت ﴿الواو﴾ ياء لسكونها إثر كسرة.
﴿أَبْكَارًا﴾ جمع بكر. والمصدر البكارة. قال الراغب: البكرة: أول النهار، وتصور منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار. فقيل لكل متعجل: بكر. وسميت التي تفتض بكرًا اعتبارًا بالثيب لتقدمها عليها، فيما يراد به النساء. ﴿عُرُبًا﴾ جمع عروب، كرسل جمع رسول. وهي المتحببة إلى زوجها، الحسنة التنقل، واشتقاقه من أعرب إذا بين. والعرب تبين محبتها لزوجها. ﴿أَتْرَابًا﴾ جمع ترب بالكسر. وهي اللدة، والسن. وفي "السمين": الترب: هو المساوي لك في سنك؛ لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد. وهو آكد في الائتلاف. وهو من الأسماء التي لا تتعرف بالإضافة لأنه في معنى الصفة. إذ معناه: مساويك، ومثله: خدنك؛ لأنه في معنى صاحبك، اهـ سمين.
﴿فِي سَمُومٍ﴾ السموم: حر نار ينفذ في المسام. قال في "القاموس": السموم: الريح الحارة تكون غالبًا في النهار. والحرور: الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار. ﴿وَحَمِيمٍ﴾ وهو الماء المتناهي في الحرارة. ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣)﴾، وزنه يفعول، قال أبو البقاء: من الحم بالضم، أو من الحميم. واليحموم قيل: هو الدخان الأسود البهيم. وقيل: واد في جهنم. وقيل: اسم من أسمائها. والأول أظهر، اهـ سمين. وفي "المختار": وحممه تحميمًا سخم وجهه بالفحم، والحمم: الرماد، والفحم، وكل ما احترق من النار. الواحدة حممة، اليحموم: الدخان، اهـ.
﴿يُصِرُّونَ﴾ أصله: يصررون بوزن يفعلون، نفلت حركة الراء الأولى إلى الصاد فسكنت، فأدغمت في الراء الثانية. ﴿عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾، أي: الذنب العظيم. وهو الشرك بالله، وجعل الأوثان والأنداد أربابًا من دون الله تعالى.
381
﴿أَئِذَا مِتْنَا﴾ قرىء ﴿مُتنا﴾ بضم الميم. لأنَّ المستعمل الفاشي في هذه الفاعل: مات يموت بوزن فعل يفعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك التقى ساكنان: الألف والتاء لام الكلمة، فحذفت الألف لذلك، فاحتيج إلى معرفة هذه العين المحذوفة من الفعل الأجوف هل هي واو أو ياء؟ فحذفت حركة الفاء، وعوض عنها حركة مجانسة لتلك العين المحذوفة. وهي الضمة؛ لأن العين واو، فقيل: متنا بوزن فلنا. أما من قرأ ﴿مِتْنَا﴾ بكسر الميم فتوجيه ذلك أن في هذا الفعل لغة على فعل يفعل بكسر العين في الماضي والمضارع، ولما حذفت عينه لالتقاء الساكنين، كسرت فاؤه لتدل الكسرة على أن العين المحذوفة مكسورة كما قالوا: قلت من الكيل، وخفت من الخوف. فقولهم: ثنا بكسر الميم كثير الاستعمال شاذ في القياس. وقوله: ﴿متنا﴾ بضم الميم قليل الاستعمال غير شاذ في القياس، وفي الفعل أيضًا لغة ثالثة، حكاها الكوفيون. وهي أنه من باب فعل بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع. وعليه يتجه أيضًا كسر الميم كما في خفت.
﴿لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)﴾ أصله: موقات، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. والميقات: هو الوقت المضروب للشيء ينتهي عنده أو يبتدأ فيه. ﴿مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ والزقوم: هو من أخبث الشجر المر ينبت في الدنيا بتهامة، وفي الآخرة ينبت في أصل الجحيم. وهو كريه المنظر، مر الطعم، منتن الرائحة. ﴿فَمَالِئُونَ﴾ اسم فاعل من ملأ الثلاثي. يقال: ملأ الأناء فهو مملوء من باب قطع. والمليء بالكسر: مقدار ما يأخذه الإناء إذا امتلأ. ﴿شُرْبَ الْهِيمِ﴾ وعبارة السمين: والهيم بكسر الهاء جمع أهيم للمذكر، وهيماء للمؤنث كحمر وأحمر وحمراء. وهو الجمل والناقة التي أصابها الهيام. وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت، أو تسقم سقمًا شديدًا. والأصل: هيم بضم الهاء كحمر، قلبت الضمة كسرة لتصح الياء. وذلك نحو: بيض في أبيض، وبيضاء وفعل بضم الفاء جمع لأفعل، وفعلاء على حد قول ابن مالك:
382
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١)﴾.
ومنها: التعبير باسم الفاعل الذي حقيقة في الحال عند الإطلاق عما في المستقبل. وهو القيامة إشعارًا بتحقق وقوعها. ولذا اختيرت إذا دون إن الشرطية، واختيرت صيغة الماضي أيضًا.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)﴾ وفيه أيضًا المجاز العقلي؛ لأن الخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى؛ يرفع أولياءه، ولخفض أعداءه. وفي إسنادهما إلى القيامة مجاز عقلي؛ لما فيه من إسناد الشيء إلى زمانه كقولهم: نهاره صائم.
ومنها: تقديم الخفض على الرفع في قوله: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣)﴾ مبالغة في التهويل منها.
ومنها: حذف الفاعل في قوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥)﴾ لعلمه، وإفادة للتهويل منها.
ومنها: الطباق بين ﴿الْمَيْمَنَةِ﴾، و ﴿الْمَشْأَمَةِ﴾ وبين: ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ و ﴿الْآخِرِينَ﴾.
ومنها: التفخيم والتعظيم في قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧)﴾ على طريق الاستفهام.
ومنها: التحقير والإهانة في قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١)﴾.
ومنها: التفنّن في قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ إلخ، وقوله: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ إلخ، بعد قوله أولًا: ﴿أصحاب الميمنة﴾ الخ، وقوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ إلخ.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣)﴾؛ أي: كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفاته، حذف منه وجه الشبه. فهو مرسل مجمل.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥)﴾ من الوضن. وهو حقيقة
383
في نسج الدرع. ثم استعير لكل نسج محكم.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩)﴾ فجمع في هاتين الكلمتين جميع عيوب الخمر في الدنيا.
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير في قوله: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)﴾.
وقوله: ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)﴾ وهو مما يزيد في رونق الكلام، وحسنه. وهو المسمى عندهم بالسجع المرصع؛ أي: غير المتكلف به. وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: المبالغة في التشبيه في قوله: ﴿سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾؛ لأنّ المخضود في سدر الدنيا، المقطوع المزال عنه شوكه. فإن سدر الدنيا مخلوق بشوك، والذي أزيل عنه شوكه يسمى مخضودًا. وسدر الجنة خلق بلا شوك، كأنه خضد شوكه؛ أي: قطع ونزع عنه. فقوله: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨)﴾ إما من باب المبالغة في التشبيه أو مجاز بعلاقة السببية، فإن الخضد سبب لانقطاع الشوك.
ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦)﴾ لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم. فهو مدح لهم بإفشاء السلام. وهذا كقول القائل: ولا ذنب ليس إلا محبتك.
ومنها: التهكم بأصحاب المشأمة في قوله: ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤)﴾ إشعارا بأنهم لا يستأهلون للظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)﴾؛ أي: كالنزل الذي يعد للنازل مما أحضر مكرمة له.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
384
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله تعالى لما ذكر (١) الأزواج الثلاثة، وبين مآل كل منها، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازبٍ في حميم وغساق، وذكر أن ذلك إنما نالهم لأنهم أشركوا بربهم، وعبدوا معه غيره، وكذبوا رسله، وأنكروا البعث والجزاء.. أردف ذلك بإقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب، وأقام الدليل على البعث والجزاء. ثم أثبت الأصل الثالث - وهو النبوة - فيما بعد.
(١) المراغي.
385
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء.. أعقب ذلك بذكر الأدلة على النبوة، وصدق القرآن الكريم. وأقسم على هذا بما يرونه في مشاهداتهم من مساقط النجوم، إنه لكتاب كريم لا يمسّه إلا المطهرون، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام. فكيف تتهاونون في اتباع أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم الله تعالى، وجزيل فضله عليكم.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) جحود الكافرين بآياته، وتكذيبهم رسوله وكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر أو افتراء، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء.. أردف ذلك بتوبيخهم على ما يعتقدون، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل، وقد جحدتم الله، وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم؛ لأنَّ الخالق إما الله وإما أنتم، فإذا نفيتم الله فأنتم الخالقون، وإذًا فلماذا لا ترجعون الروح لميتكم؟ وهو يعالج سكرات الموت. فإن كنتم صادقين فارجعوها، الحق إنكم لا تعقلون الدليل والبرهان، بل لا تفهمون إلا المحسوسات فلما لم تروا الفاعل كذبتم به، وهذا من شيمة الجهال. إذ للعلم وسائل عديدة. فليس عدم رؤية الشيء دليلًا عل عدم وجوده.
ثم بين حال المتوفى، ومن أي الأزواج الثلاثة هو؟. فإن كان من السابقين.. فله روح واطمئنان نفس علمًا منه بما سيلقاه من الجزاء، ورزق طيب في جنات النعيم. فيرى فيها ما تلذ الأنفس، وتقر به الأعين، وإن كان عن أصحاب اليمين.. فتسلم عليه الملائكة، وتعطيه أمانًا من ربه، وإن كان من أصحاب الشمال.. فضيافته ماء حميم، وعذاب في النار أبدًا.
ثم بين لرسوله - ﷺ - أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين، وعليه أن ينزه ربه العظيم عن كل ما لايليق به.
(١) المراغي.
386
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه مسلم، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مطر الناس على عهد رسول الله - ﷺ - فقال النبي - ﷺ -: "أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر". قالوا: هذه رحمة وضعها الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، وكذا. فنزلت هذه الآية: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥)﴾ حتى بلغ ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾. وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في "الصحيحين" من حديث زيد بن خالد الجهني، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
التفسير وأوجه القراءة
٥٧ - ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُم﴾ أيها الكفرة ﴿فَلَوْلَا﴾؛ أي: فهلا ﴿تُصَدِّقُونَ﴾ بالخلق فإن ما لا يحققه العمل، ولا يساعده، بل ينبىء عن خلافه ليس من التصديق في شيء أو بالبعث، فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة. قال مقاتل: خلقناكم، ولم تكونوا شيئًا، وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث. قال القاضي زكريا: فإن قلت: كيف قال ذلك مع أنهم مصدقون بذلك بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾؟ قلت: هم، وإن صدقوا بألستهم لكن لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق كانوا كأنهم مكذبون به، أو أن ذلك تحضيض على التصديق بالبعث بعد الموت بالاستدلال بالخلق الأول، فكأنّه قال: هو خلقكلم أولًا باعترافكم، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيًا. فهلا تصدقون بذلك؟ انتهى.
واعلم (٢): أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجمع يشير به إلى ذاته وصفاته وأسمائه كما قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾، وكما قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾. وإذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير إلى ذاته المطلقة كما قال: ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. هذا إذا كان القائل المخبر هو الله تعالى، وأما إذا كان العبد فينبغي أن يقول: أنت يا رب، لا أنتم؛ لإيهامه الشرك المنافي
(١) الشوكاني بتصرف.
(٢) روح البيان.
لتوحيد الله القائل، ولذا يقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ ليدل على شهادته بخصوصه، فتعين توحيده، ويظهر تصديقه.
وفي قوله (١): ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ التفات من الله سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتًا لهم، وإلزامًا للحجة.
والمعنى (٢): أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى، فهلا تصدقون بالبعث. وفي هذا تقرير للمعاد، ورد على المكذبين به المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد الذين قالوا: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾.
٥٨ - ثم أعاد الدليل فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨)﴾؛ أي: ما تقذفونه، وتصبونه في أرحام النساء من النطف التي يكون منها الولد. فقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ بمعنى أخبروني، و ﴿مَا تُمْنُونَ﴾ مفعوله الأول. والجملة الاستفهامية أعني: قوله: ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾ إلخ، مفعوله الثاني. يقال: أمنى الرجل يمني لا غير، ومنيت الشيء أمنيه إذا قضيته. وسمي المني منيًّا؛ لأن الخلق منه يقضى.
٥٩ - ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾؛ أي: تقدرونه، وتصورونه بشرًا سويًّا في بطون النساء ذكرًا، أو أنثى ﴿أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ له؛ أي: أم نحن المقدرون المصورون له من غير دخل شيء فيه، و ﴿أَمْ﴾ هي المتصلة، وهي أولى. وقيل: منقطعة ما بعدها جملة. فالمعنى: بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير. ومجيء الخالقون بعد ﴿نَحْنُ﴾ بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة.
وفيه (٣): إشارة إلى معنى: أن وقوع نطف الأعمال، والأفعال، وموادها في أرحام قلوبكم ونفوسكم بخلقي، وإرادتي لا بخلقكم وإرادتكم. ففيه تخصيص مواد الخراطر المقتضية للأفعال والأعمال والأقوال إلى نفسه، وقدرته، وسلبها عن الخلق.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿تُمْنُونَ﴾ بضم الفوقانية، من أمنى يمني. وقرأ ابن عباس،
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
وأبو السمال، ومحمد بن السميقع، والأشهب العقيلي بفتحها، من مني يمني. وهما لغتان. وقيل: معناهما مختلف. يقال: أمنى إذا أنزل عن جماع، ومني إذا أنزل عن احتلام. وسمي المني منيًا؛ لأنه يمنى؛ أي: يراق، وقد سبق في عبارة الروح معنى غير ما هنا.
وعبارة أبي حيان هنا (١): وجاء ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ هنا مصرحًا بمفعولها الأول، ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها إذا كانت بمعنى أخبروني، وجاء بعد ﴿أَمْ﴾ جملة فقيل: ﴿أَمْ﴾ منقطعة. وليست المعادلة للهمزة، وذلك في أربعة مواضع هنا ليكون ذلك على استفهامين. فجواب الأول لا، وجواب الثاني نعم. فتقدر ﴿أَمْ﴾ على هذا: بل أنحن الخالقون؟ فجوابه نعم. وقال قوم من النحاة: ﴿أَمْ﴾ هنا معادلة للهمزة، وكان ما جاء من الخبر بعد ﴿نَحْنُ﴾ جيء به على سبيل التوكيد. إذ لو قال: أمْ نحن.. لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر، انتهى.
ومعنى الآية (٢): أي أخبروني عمّا قذفتم به في الأرحام من النطف أأنتم تقدرونه بشرًا سويًّا تام الخلق أم الله الخالق لذلك؟. ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابًا واحدًا، لا ثاني له.
والخلاصة: أخبروني أيها المنكرون قدرة الله على إحيائكم بعد مماتكم عن النطف التي تمنون في أرحام نسائكم أأنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها؟
٦٠ - ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا﴾ قرأ الجمهور (٣): ﴿قَدَّرْنَا﴾ بالتشديد. وقرأ مجاهد، وحميد، وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف. وهما لغتان. يقال: قدرت الشيء، وقدرته؛ أي: قسمنا. ﴿بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ وكتبناه عليكم، ووقتنا موت كل واحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة. فمنهم من يموت صغيرًا، ومنهم من يموت كبيرًا.
وعبارة الخطيب هنا: أي قضينا به، وأوجبناه، وكتبناه فلم نترك أحدًا منكم
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
بغير حصة منه. وأقتنا موت كل واحد بوقت معين لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا، وربما كان في الأوج "ضد الهبوط" من قوة البدن، وصحة المزاج. فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره.. ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا، وربما كان في الحضيض من ضعف البدن، واضطراب المزاج، فلو تمالؤوا على تقصيره طرفة عين.. لعجزوا، اهـ، أي: والقادر على هذا كله قادر على إعادتكم وبعثكم.
﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾؛ أي: بمغلوبين،
٦١ - بل قادرين ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ﴾ منكم ﴿أَمْثَالَكُمْ﴾؛ أي: أشباهكم؛ أي: لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق. يقال: سبقته على كذا؛ أي: غبته عليه، وغلب فلان فلانًا على الشيء إذا أخذه منه بالغلبة. وقال الضحاك: معناه: أنه جعل أهل السماء، وأهل الأرض فيه سواء، وما نحن بمسبوقين على أن نأتي بخلق مثلكم. وقال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم.. لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا. وقال ابن جرير: المعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم؛ أي: لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. ﴿و﴾ على أن ﴿نُنْشِئَكُم﴾ ونوجدكم ﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من الأطوار، والصور، والهيئات. لا تعهدون بمثلها. وقال الحسن؛ أي: على أن نجعلكم قردة وخنازير، كما فعلنا بأقوام قبلكم إن لم تؤمنوا برسلنا. يعني: لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلًا منكم، ومسخكم من صوركم إلى غيرها. وقيل: المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا. وقال مجاهد: ﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يعني: في أي خلق شئنا. ومن كان قادرًا على هذا فهو قادر على البعث. وقال سعيد بن المسيب: ﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يعني: في حواصل طيور سود تكون ببرهوت، كأنها الخطاطيف. وبرهوت واد باليمن، اهـ.
والمعنى (١): أي نحن قسمنا الموت بينكم، ووقتنا موت كل واحد بميقات معين لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة. وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم، ونأتي بأشباههكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من
(١) المراغى.
الأطوار، والأحوال التي لا تعهدونها.
والخلاصة: نحن قدرنا بينكم الموت؛ لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم، ونجيء بآخرين من جنسكم، فنحن نميت طائفة، ونبدلها بطائفة أخرى قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل.
٦٢ - ثم ذكر دليلًا آخر على البعث. فقال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ واللام للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمتم أيّها الكفرة ﴿النَّشْأَةَ﴾؛ أي: الخلقة ﴿الْأُولَى﴾ هي خلقتهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ولم تكونوا قبل ذلك شيئًا. وقيل: هي فطرة آدم من التراب.
وعبارة الخطيب هنا: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ أي: الترابية لأبيكم آدم، واللحمية لأمكم حواء، والنطفية لكم. وكل منها تحويل من شيء إلى غيره. فإن الذي شاهدتم قدرته على ذلك قادر على إعادتكم.
﴿فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: فهلا تذكرون قدرة الله على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؛ فإن (١) من قدر على الأولى التي كانت بلا مواد قدر على الأخيرة حتمًا فإنها أقل صنعًا لحصول المواد، وتخصص الأجزاء وسبق المثال.
وفي الخبر: "عجبًا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبًا للمصدق بالنشأة الآخرة، وهو يسعى لدار الغرور". وفي الآية دليل على صحة القياس، حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى. وترك القياس إذا كان جهلًا.. كان القياس علمًا، وكل ما كان من قبيل العلم فهو صحيح. قال أبو حيان: ولا تدل إلا على قياس الأولى لا على جميع أنواع القياس.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿النَّشْأَةَ﴾ بالقصر. وقرأ مجاهد، والحسن، وابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال من ﴿تذكَّرون﴾. والباقون بالتشديد. وقرىء ﴿تذْكُرون﴾ بسكون الذال، وضم الكاف من ذكر الثلاثي.
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
والمعنى (١): والله لقد علمتم. أنَّ الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار، والأفئدة فهلا تتذكرون، وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداية قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى، كما قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، وقال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠)﴾.
٦٣ - ثم أردف ذلك بدليل آخر في الرزق في المطعوم فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني يا أهل مكة ﴿مَا تَحْرُثُونَ﴾؛ أي: ما تبذرون، وتطرحون من الحبوب في أرضكم، وتعملون فيها بالسقي ونحوه. والحرثة: إلقاء البذر في الأرض، وتهيئتها للزرع.
٦٤ - ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ﴾؛ أي: تنبتونه، وتجعلونه زرعا ونباتًا يربو، وينمو إلى يبلغ الغاية. فيكون فيه السنبل والحب ﴿أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾؛ أي: بل نحن المنبتون له، الجاعلون له زرعًا لا أنتم. والاستفهام المفهوم من ﴿أَمْ﴾ للإنكار. والزرع: الإنبات، وحقيقة ذلك يكون بالأمور الإلهية دون البشرية، ولذا نسب الحرث إليهم، ونفى عنهم الزرع، ونسبه إلى نفسه. وفي الحديث: "لا يقولون أحدكم زرعت، وليقل حرثت، فإن الزارع هو الله".
والمعنى (٢): أي أخبروني أيها المشركون عن الحرث الذي تحرثونه: أأنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته؟ أي: أأنتم تصيرونه زرعًا أم نحن الذين نصيره كذلك؟ فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث؟. ورُوي عن حجر المنذريّ: أنه كان إذا قرأ ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾، وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ.
والحاصل (٣): أن الحرث فعلهم من حيث إن اختيارهم له مدخل في الحرث، والزرع خالص فعل الله سبحانه. فإن إنبات السنبل والحب لا مدخل فيه لاختيار العبد أصلًا، وإذا نسب الزرع إلى العبد، فلكونه فاعلًا للأسباب التي هي سبب الزرع والإنبات. وفي "الأسئلة المقحمة": الأصح: أن الحرث والزرع واحد، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾. فهلا أضاف الحرث إلى نفسه أيضًا؟.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والجواب: أن إضافة الحرث إلينا إضافة الاكتساب، وإضافته إلى نفسه إضافة الخلق والإبداع. كقوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾.
قال الحليمي: يستحب لكل من ألقى في الأرض بذرًا أن يقرأ بعد الاستعاذة ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾. ثم يقول: الله الزارع، والمنبت، والمبلغ. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين. ويقال: إنّ هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات الدود، والجراد، وغير ذلك ببركة تلك الآيات، ولا مانع من ذلك، وإن كان لا أصل له.
وفي الآية (١): امتنان ليشكروا على نعمة الزرع، واستدلال بأن من قدر على الإنبات قادر على الإعادة. فكما أنه ينبت الحب في الأرض، وينبت بذر النطفة في الرحم فكذا ينبت من حب عجب الذنب في القبر. فإن كلها حب، وذلك لأن بذر النطفة، وكذا عظم عجب الذنب شيء كخردلة.
٦٥ - ﴿لَوْ نَشَاءُ﴾ ﴿لَوْ﴾ للمضي، وإن دخل على المضارع، ولذا لا يجزمه، فهو شرط غير جازم؛ أي: لو أردنا ﴿لَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: الزرع بمعنى المزروع ﴿حُطَامًا﴾ هشيمًا؛ أي: يابسًا متفننًا متكسرًا بعدما أنبتناه، واخضر بحيث طمعتم في حيازة غلاله، وجمعها من بعد ظهوره وقبل اشتداد حبه. ﴿فَظَلْتُمْ﴾؛ أي: فصرتم بسبب ذلك ﴿تَفَكَّهُونَ﴾؛ أي: تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال، أو تندمون على ما فعلتم فيه من الاجتهاد، وأنفقتم عليه، أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه.
والحطام (٢): الهشيم الذي لا ينتفع به، ولا يحصل منه حب، ولا شيء مما يطلب من الحرث. وقال الفراء: ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم. وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: معنى الآية: تعجبون من ذهابها، وتندمون مما حل بكم. وقال عكرمة: تلاومون، وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله. وقال ابن زيد: تفجعون. وهذا (٣) كله تفسير باللازم. ومعنى ﴿تَفَكَّهُونَ﴾: تطرحون
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
الفكاهة عن أنفسكم. وهي المسرة. ورجل فكه، منبسط النفس، غير مكترث بشيء. وتفكه من أخوات تحرج وتحوب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَظَلْتُمْ﴾ بفتح الظاء مع لام واحدة. وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية الفيكي عنه بكسرها كما قالوا: مسست بفتح الميم وكسرها. وحكاها الثوريّ من ابن مسعود، وجاءت عن الأعمش، وقرأ ابن عباس، والجحدري ﴿فظللتم﴾ بلامين. أولاهما مكسورة على الأصل. وقرأ الجحدري أيضًا بفتحها. وهي لغة. والمشهور: ظللت بالكسر. وقرأ الجمهور ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ بالهاء. وقرأ أبو حزام العكلي: ﴿تفكنون﴾ بالنون بدل الهاء؛ أي: تندمون. قال ابن خالويه: ﴿تفكه﴾ تعجب تفكن تندم وفي "المصباح": التفكن: التندم. ومنه: الحديث: "مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء، ويتركها القرباء. فبينا هم إذ غار ماؤها، فانتفع بها قوم يتفكنون" أي يتندمون. والحمة: العين الحارة من الحمم. وهو الماء الحار يستشفي به الأعلاء والمرضى.
٦٦ - وقوله: ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)﴾ مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل ﴿تَفَكَّهُونَ﴾؛ أي: فظلتم تفكهون حال كونكم قائلين: إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا، والغرامة أن يلزم الإنسان ما ليس في ذمته، وعليه. كما في "المغرب". أو مهلكون بهلاك زرعنا، أبو بشؤم معاصينا، أو معذبون عن الغرام، وهو أشد العذاب. قال الشاعر:
فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وحَمْرَا وفِعْلَةٌ جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى
إِنْ يعَذِّبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْطِ جِزِيْلًا فَإنَّهُ لَا يُبَالِيْ
وقرأ الجمهور (٢): ﴿إِنَّا﴾ بهمزة واحدة على الخبر. وقرأ الأعمش، وأبو بكر، والجحدري، والمفضل، وزر بن حبيش بهمزتين على الاستفهام.
والظاهر من السياق المعنى الأول (٣). أعني: ملزمون غرما بما هلك من زرعنا، أي: إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه، ومصيره حطامًا. جمع مغرم. والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض،
٦٧ - ثم أضربوا عن قولهم هذا، وانتقلوا فقالوا:
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
394
﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)﴾ حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا. والمحروم: الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه، أو محدودون لا مجدودون؛ أي: ممنوعون من الحد وهو المنع؛ أي: لا حظ لنا، ولا جد، ولا بخت. ولو كنا مجدودين.. لما فسد علينا هذا.
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر رسول الله - ﷺ - بأرض الأنصار، فقال: "ما يمنعكم من الحرث"؟ قالوا: الجدوبة. قال: "أفلا تفعلون فإن الله تعالى يقول: أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء، وإن شئت زرعت بالريح، وإن شئت زرعت بالبذر". ثم تلا ريسول الله - ﷺ - ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣)﴾ الآية. ففي الحديث إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع بأسباب وبغيرها. فالتوحيد هو أن يعتقد أن التأثير من الله تعالى لا من غيره، كالكوكب ونحوه، فإنه يتهم النفس بالمعصية القاطعة للرزق.
وفي الحديث: "ما سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي، والبحار". وفي الحديث: "دُم على الطهارة يوسع عليك الرزق". فإذا كان توسيع الرزق في الطهارة، فتضييقه في خلافها، والرزق ظاهر وباطن، وكذا الطهارة والنجاسة. فلا بد لطالب الرزق مطلقًا أن يكون على طهارة مطلقة دائمًا.
فإن قلت: فما حال أكثر السلف؛ فإنهم كانوا فقراء مع دوام الطهارة؟
قلت: كان السلف في الرزق المعنوي أكثر من الخلف، وهو المقصود الأصلي من الرزق. وإنما كانوا فقراء في الظاهر لكمال افتقارهم الحقيقي، كما قال عليه السلام: "اللهم أغنني بالافتقار إليك". فمنعوا عن الغنى الصوري تطبيقًا لكل من الظاهر والباطن بالآخر، فهم أغنى الأغنياء في صورة الفقراء، وعداهم ممن ليس على صفتهم أفقر الفقراء في صورة الأغنياء، فالمرزوق من رزق غذاء الروح من الإلهامات، والعلوم، والفيوض، والمحروم: من حرمه، فاعرفه.
والمعنى: أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم. ولو شئنا.. لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده؛ فأصبح لا ينتفع به في مطعم، ولا في غذاء. فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة، والنضرة، والبهجة، والرواء،
395
وتقولون: حقًّا إنا لمعذبون مهلكلون لهلاك أرزاقنا؟ لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا، وسوء حظنا.
٦٨ - ثم أعقبه بدليل آخر في المشروب. فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾؛ أي: أخبروني أيها الناس ﴿الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾ عذبًا فراتًا، فتسكنون به ما يلحقكم من العطش، وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ. واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء، ومنافعه؛ لأنه أعظم فوائده، وأجل منافعه.
٦٩ - ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ﴾؛ أي: من السحاب. واحده مزنة. وقيل: هو السحاب، وماؤه أعذب. والمراد به: المطر. ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ له بقدرتنا دون غيرنا. فإذا عرفتم ذلك فكيف لا تقرون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث. والرؤية (١) إن كانت بمعنى العلم، فمعلقة بالاستفهام، وإن كانت بمعنى الإبصار، أو المعرفة فالجملة الاستفهامية استئناف. وهذا هو اختيار الرضي.
٧٠ - ثم بين لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة. فقال: ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: جعلنا ذلك الماء النازل من المزن ﴿أُجَاجًا﴾؛ أي: ملحًا زعافًا، لا يمكن شربه. والأجاج (٢): الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه. وقال الحسن: هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما. وحذف (٣) اللام هاهنا، وأثبتها في الشرطية الأولى للفرق بين المطعوم والمشروب في الأهمية، وصعوبة الفقد. يعني: أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشد، وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعًا للمطعوم. وقيل: ذكر اللام في جواب لو في الزرع عملًا بالأصل، وحذفها منه في الماء اختصارًا لدلالة الأول عليه.
﴿فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: فهلا تشكرون ما ذكر جميعًا من المطعوم والمشروب بتوحيد منعمه، وإطاعة أمره. أو فلولا تشكرون على أن جعلناه عذبًا، أي: فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبًا تشربون منه، وتنتفعون به.
والمعنى (٤): أي أفرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه أأنتم أنزلتموه
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض، أم نحن منزلوه لكم لو نشاء لجعلناه ملحًا زعافًا لا تنتفعون به في شرب، ولا غرس، ولا زرع. فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبًا زلالًا. ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)﴾.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رحمه الله عنه: أن النبي - ﷺ - كان إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذبًا فرتًا برحمته، ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحت العرش بحرًا تنزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله سبحانه إليه، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السماء أن غربليه فتغربله، فليس من قطرة تقطر إلا معها ملك يضعها موضعًا، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان. فإنه نزل بغير كيل ولا وزن. وقال بعض الحكماء: إن المطر يأخذه قوس الله من البحر إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض. قال بعضهم: هو أدخل في القدرة. لأن ماء البحر مر، فيصعد ملحًا، وينزل عذبًا.
وفي الآية (١): إشارة إلى أن بعض بلاد العرب ليس لها آبار، ولا أنهار جارية. فلا يشرب أهلها إلا من المطر في المصانع.
فمنها: القدس الشريف، وينبع، وجدة المحروسة، ونحوها. وللماء العذب مزيد فضل من هذه البلاد، ولذا امتن الله به على العباد.
٧١ - ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ أيها الكفرة ﴿النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾؛ أي: أخبروني عن النار التي تقدحونها، وتستخروجها من الزناد. والعرب تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند، والأسفل الزندة. شبهوهما بالفحل والطروقة. يقال: ناقة طروقة؛ أي: بلغت أن يضربها الفحل. لأن الطرق الضرب.
٧٢ - ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ﴾ وأوجدتم ﴿شَجَرَتَهَا﴾ التي منها الزناد. وهي المرخ، والعقار، كما مر في سورة يس.
(١) روح البيان.
﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء: الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة، وعجيب القدرة.
٧٣ - ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا﴾؛ أي: جعلنا هذه النار التي في الدنيا ﴿تَذْكِرَةً﴾ لنار جهنم الكبرى؛ أي: جعلنا نار الزناد تذكيرًا لنار جهنم من حيث إنه علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا ما أوعدوا به من نار جهنم. أو تذكرة وموعظة وأنموذجا من جهنم؛ لما روي عن النبيّ - ﷺ -: "ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من حر نار جهنم". وقيل: تبصرة في أمر البعث. فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب. وفي "عين المعاني": وهو حجة على منكري عذاب القبر، حيث تضمن النار ما لا يحرق ظاهره. ﴿وَمَتَاعًا﴾؛ أي: منفعة، وبلغة. لأن حمل النار يشق. ﴿لِلْمُقْوِينَ﴾؛ أي: للذين ينزلون القواء بالفتح، وهو القفر الخالي عن الماء، والكلاء، والعمارة، وهم المسافرون، وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها ليهرب منها السباع، ويصطلوا من البرد، ويجففوا ثيابهم، ويصلحوا طعامهم. فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد. وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي.
والمعنى (١): أي أفرأيتم النار التي تقدحونها، وتستخرجونها من الزناد أأنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا؟ وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعقار "نوعان من الشجر" فيأتون بعود من العقار، وبقطعة عريضة من المرخ. يحفرون في وسطها حفرة ثم يضعون عود العقار في هذه الفجوة. ويأت فتى من فتيان القبيلة، ويحرك عود العقار فيها بالتوالي، ويأتي بعده آخر، ويصنع صنيع سابقه، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك.
وهذه عملية شاقة عسرة، ومن ثم كان البيت في القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها. وإلى هذا أشار بقوله سبحانه في قصص موسى عليه السلام: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)﴾. ثم
(١) المراغي.
بين منافع هذه النار، فقال: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا...﴾ إلخ؛ أي: نحن جعلنا النار تبصرة في أمر البعث، حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا بها ما أوعدوا به؛ لأنّ من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وجعلناها منفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين. فكم من قوم سافروا، ثم أرملوا فأججوا نارًا، فاستدفئوا، وانتفعوا بها. وقد كان من لطف الله أن أودعها الأحجار، وخالص الحديد فيتمكن المسافر من حملها في متاعه وبين ثيابه. وإذا احتاج إليها في منزله أخرج زنده، وأورى، وأوقد نارًا، فطبخ بها، واصطلى واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها في وجوه المنافع المختلفة.
وفي الحديث: "المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء". وفي "فتح الرحمن": بدأ سبحانه بذكر خلق الإنسان، ثم بما لا غنى له عنه. وهو الحب الذي منه قوته. ثم بالماء الذي به سوغه، وعجنه. ثم بالنار التي بها نضجه، وصلاحه. وذكر عقب كل من الثلاثة الأولى ما يفسده، فقال في الأولى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾، وفي الثانية: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾، وفي الثالثة: ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾. ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣)﴾ انتهى.
٧٤ - والفاء في قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾ للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أيها الإنسان جميع ما عددته لك من النعم التي أنعمت بها على عبادي، وجحود المشركين لها، وتكذيبهم بها، وأردت بيان ما هو اللازم لك في الشكر فأقول لك: سبح؛ أي: نزه، وقدس اسم ربك عما لا يليق به كمشاركة غيره تعالى له في ذلك الاسم: كالإله، والرحمن والخالق. كما تنزه ذاته عن جميع النقائص؛ لأن ما ثبت للمسمى من التنزيه والتقديس نهو ثابت للاسم؛ لأن اسمه تعالى مهاب محترم معظم منزه، كما أن ذاته كذلك.
أي (١): لا تقل لغيره تعالى: إنه إله. فإن الاسم يتبع المعنى، والحقيقة؛ أي: إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله تعالى، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى، وإنما نتخذ أصنامًا آلهة في الاسم، ونسميها آلهة، والله هو الذي
(١) المراح.
خلقها، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة. فقال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾؛ أي: فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترفت بعدم اشتراكهما في الاسم والمعنى. تعجب من أمرهم، وقل: سبحان الله العظيم.
ولم يقل (١): فسبح ربك لأن سبح منزل منزلة اللازم، ولم يعتبر تعلقه بالمفعول، ومعناه: فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى بإضمار المضاف شكرًا على تلك النعم، وإن جحدها الجاحدون، أو أحدث التسبيح بذكره تعالى على المجاز؛ فإن إطلاق الاسم للشيء ذكر له. والباء للاستعانة، أو للملابسة، والمراد بذكر ربّه هنا: تلاوة القرآن، والعظيم صفة للاسم أو الرب.
قال ابن عطاء رحمه الله تعالى: سبحه إن الله أعظم من أن يلحقه تسبيحك، أو يحتاج إلى شيء منك، لكنه شرف عبيده بأن أمرهم أن يسبحوه ليطهروا أنفسهم بما ينزهونه به، انتهى.
وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾؛ أي (٢): نزه ربك. فقوله: "باسم" زائد. أو المعنى: نزه اسم ربك. فالباء زائدة، والاسم باق على معناه أو هو بمعنى الذات أو بمعنى الذكر. أو الباء متعلقة بمحذوف حال.
٧٥ - قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ ذهب (٣) جمهور المفسرين إلا أنَّ ﴿لا﴾ مزيدة للتأكيد، وتقوية الكلام كما في قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾. والمعنى: فأقسم. ويؤيد هذا القول قوله فيما بعد: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ﴾. وقال جماعة من المفسرين: إنها للنفي، وإن المنفي بها محذوف. وهو كلام الكفار الجاحدين. وقال الفراء: هي نفي.
والمعنى: ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف فقال: أقسم. وضعف هذا القول بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز، كما قاله أبو حيان وغيره. وقيل إنها لام الابتداء. والأصل: فلأنا أقسم بذلك. فحذف المبتدأ، وأشبعت فتحة لام الابتداء، فتولد منها ألف، كقول الشاعر:
(١) روح البيان.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) الشوكاني.
400
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ العَقْرَابِ
وقد قرأ هكذا ﴿فلأقسم﴾ بدون ألف الحسن، وحميد، وعيسى بن عمر. وقيل: ﴿لا﴾ هنا على ظاهرها، وإنها لنفي القسم.
والمعنى: فلا أقسم على هذا إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم خصوصًا إلى مثل هذا القسم العظيم. وهذا القول مدفوع بتعيين المقسم به بقوله: ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾، وتفخيم شأنه بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)﴾.
وقوله: ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾؛ أي (١): بمساقطها. وهي مغاربها. وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدّلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو لأن ذلك وقت قيام المتهجّدين، والمبتهلين إليه، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم. أو بمنازلهما ومجاريهما. فإن له تعالى في ذلك من الدليل على عظم قدرته، وكمال حكمته ما لا يحيط به البيان. وقيل: المراد بالنجوم: نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وقيل: المراد بالنجوم: الصحابة، والعلماء الهادون بعدهم، ومواقعهم مقابرهم. وقيل: غير ذلك.
والمعنى: أقسم بمساقط النجوم، ومغاربها على أن هذا المنزل عليك لقرآن كريم، وله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقد أقسم سبحانه على كثير من مخلوقاته العظيمة دلالة على عظم مبدعها، فأقسم بالشمس، والقمر، والليل، والنهار، ويوم القيامة، والتين، والزتيون، كما أقسم بالأمكنة. فأقسم بطور سينين، ومكة المكرمة.
وقرأ الجمهور: ﴿بِمَوَاقِعِ﴾ جمعًا. وقرأ عمر، وعبد الله، وابن عباس، وأهل المدينة، وحمزة، والكسائي، وابن محيصن، وورش عن يعقوب ﴿بموقع﴾. قال المبرد: موقع هاهنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع.
فائدة: المناسبة بين المقسم به وهو النجوم، وبين المقسم عليه وهو القرآن الكريم في هذه الآية أن النجوم جعلها الله سبحانه ليهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والضلالة، وتلك ظلمات
(١) روح البيان.
401
حسية، وهذه ظلمات معنوية. فالقسم هنا جاء جامعًا بين الهدايتين: الحسية للنجوم، والمعنوية للقرآن. فهذا وجه المناسبة.
٧٦ - ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم، وتفخيمه. فقال: ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن هذا القسم المذكور ﴿لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة. ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى بغير كتاب. وجملة ﴿إِنَّ﴾ معترضة بين المقسم به، والمقسم عليه. وجملة ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ معترضة بن الصفة والموصوف لتأكيد تعظيم المحلوف به. فهو اعتراض في اعتراض، وجواب ﴿لو﴾ متروك، أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره؛ أي: لعظمتموه أو لعلمتم بموجبه، ففيه تنبيه على تقصير المخاطبين في الأمر، قال الفرّاء، والزجاج: وهذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم: نزول القرآن. والضمير في ﴿إِنَّهُ﴾ يعود على القسم الذي يدل عليه ﴿أُقْسِمُ﴾، والمعنى: أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون.
٧٧ - ثم ذكر سبحانه المقسم عيه، فقال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن هذا الكتاب المنزل عليك يا محمد ﴿لَقُرْآنٌ﴾؛ أي: لكتاب ﴿كَرِيمٌ﴾ كرمه الله سبحانه، وأعزه، ورفع قدره على جميع الكتب، وكرمه عن أن يكون سحرًا أو كهانة أو كذبًا، وقيل: إنه كريم لدلالته على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، وشرائف الأفعال. وقيل: لأنّه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. وقيل: لأنه كتاب كثير الخير والنفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد على أن يستعار الكرم ممن يقوم به الكرم من ذوي العقول إلى غيرهم. قال الأزهريّ: الكريم اسم جامع لما يحمد. والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى، والبيان، والعلم، والحكمة.
٧٨ - ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)﴾؛ أي: مصون من غير المقربين من الملائكة، أي: لا يطلع عليه من سواهم، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: محفوظ عن الباطل، وقال عكرمة: هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، ومن ينزل عليه. وقال السدي: هو الزبور، وقال مجاهد، وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
فإن قلت: القرآن صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى، فكيف يكون حالًّا في كتاب مكنون؛ أي: لوح محفوظ أو مصحف؟
قلت: لا يلزم من كتابته في كتاب حلوله فيه كما لو كتب على شيء ألف دينار لا يلزم منه وجودها فيه، ومثله قوله تعالى: ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾. فثبت أنه ليس حالًّا في شيء من ذلك، بل هو كلام الله تعالى، وكلامه صفة قديمة قائمة به لا تفارقه.
فإن قلت: إذا لم تفارقه فكيف سمّاه منزلًا؟.
قلت: معنى إنزاله تعالى له: إنه علمه جبريل، وأمره أن يعلمه النبي - ﷺ - ويأمره أن يعلمه لأمته مع أنه لم يزل، ولا يزال صفة لله تعالى قائمة به لا تفارقه.
٧٩ - وقوله: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)﴾ إمَّا (١) صفة لكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون من الكدورات الجسمانية، وأوضار الأوزار أو للقرآن، فالمراد المطهرون من الأحداث مطلقًا. فيكون نفيًا بمعنى النهي؛ أي: لا ينبغي أن يمسه إلا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث والجنابة ونحوهما على طريقة قوله - ﷺ -: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه"؛ أي: لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه. فالمراد من القرآن: المصحف، سماه قرآنًا على قرب الجوار والاتساع، كما روي أن رسول الله - ﷺ - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وأراد به: المصحف.
وفي الفقه: لا يجوز لمحدث بالحدث الأصغر - وهو ما يوجب الوضوء - مس المصحف إلا بغلافه المنفصل الغير المشرز كالخريطة ونحوها؛ لأن مسه ليس مسًّا بالقرآن حقيقة إلا المتصل في الصحيح. وهو المجلد المشرز؛ لأنه من المصحف يعني: تبع له، حتى يدخل في بيعه بلا ذكر، وهذا أقرب إلى التعظيم، وكره المس بالكم؛ لأنه تابع للحامل، فلا يكون حائلًا، ولهذا لو حلف لا يجلس على الأرض، فجلس وذيله بينه وبين الأرض حنث، وإنما منع الأصغر عن مس المصحف دون تلاوته؛ لأنه حل اليد دون الفم، ولهذا لم يجب غسله في الوضوء، والجنابة كانت حالة كليهما. ولا يرد العين؛ لأنّ الجنب حل نظره إلى مصحف بلا قراءة، وكذا لا يجوز لمحدث مس درهم فيه سورة إلا بصرته، ولا لجنب دخول
(١) روح البيان.
403
المسجد إلا لضرورة، فإن احتاج إلى الدخول تيمم، ودخل؛ لأنه طهارة عند عدم الماء، ولا قراءة القرآن، ولو دون آية لأن ما دونها شيء من القرآن أيضًا إلا على وجه الدعاء أو الثناء أو التبرك كالبسملة والحمدلة.
وفي "الأشباه": لو قرأ الفاتحة في صلاته على الجنازة على قول الشعبي، ومن وافقه إن قصد الدعاء والثناء لم يكره، وإن قصد التلاوة كره، وفيه إشارة إلى أن حكم القراءة يتغير بالقصد، ويجوز للجنب الذكر والتسبيح، والدعاء. والحائض والنفساء كالجنب في الأحكام المذكورة، ويدفع المصحف إلى الصبيّ؛ إذ في الأمر بالوضوء حرج بهم، وفي المنح تضييع حفظ القرآن؛ إذ الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، وفي "الأشباه": ويمنع الصبي من مس المصحف، انتهى. والتوفيق ظاهر.
وفي "كشف الأسرار": وأما الصبيان فلأصحابنا فيهم وجهان:
أحدهما: أنهم يمنعون منه كالبالغين.
والثاني: أنهم لا يمنعون لمعنيين:
أولًا: أن الصبي لو منع ذلك.. أدى إلى أن لا يتعلم القرآن، ولا يحفظه. لأن وقت تعلمه، وحفظه حال الصغر.
ثانيًا: أن الصبي وإن كانت له طهارة.. فليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح مه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهر كامل جاز أن يحمله محدثًا، انتهى.
هذا وقد ذهب جمهور العلماء (١) إلى منع المحدث، وكذا الجنب والحائض من مس المصحف، وحمله، وبذلك قال عليُّ، وابن مسعود، وسعد ابن أبي وقّاص، وعطاء، وطاوس، وسالم، والقاسم، وجماعة من الفقهاء منهم: مالك، والشافعي، ويدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - ﷺ - لعمرو بن حزم: "أن لا تمس القرآن إلا طاهرًا". أخرجه مالك مرسلًا. وقد جاء موصولًا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أنَّ رسول الله - ﷺ - كتب إلى أهل
(١) الخازن.
404
اليمن بهذا، والصحيح فيه الإرسال. وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يمس القرآن إلا طاهر". والمراد بالقرآن: المصحف. وقال الحكم، وحماد، وأبو حنيفة: يجوز للمحدث، والجنب حمل المصحف، ومسه بغلافه، فإن قلت: إذا كان الأصح: أن المراد من الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأن المراد من لا يمسه إلا المطهرون هم الملائكة. ولو كان المراد نفي الحدث.. لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، من التطهر، كيف يصح قول الشافعي: لا يجوز للمحدث مس المصحف؟.
قلت: من قال: إن الشافعي أخذه من صريح الآية حمله على التفسير الثاني. وهو القول: بأن المراد من الكتاب هو المصحف. ومن قال: إنه أخذه من طريق الاستنباط قال: المس بطهر صفة دالة على التعظيم، والمس بغير طهر نوع استهانة، وهذا لا يليق بمباشرة المصحف الكريم، والصحيح: أنه أخذه من السنة. ودليله ما تقدم من الأحاديث. والله أعلم.
ومعنى الآيات: فأقسم بمساقط النجوم، ومغاربها، وإنَّ هذا القسم قسم عظيم لو تعلمون عظمته.. لانتفعتم بذلك، أو فاعلموا عظمته؛ أي: أقسم بمواقعها إنه لقرآن كريم؛ أي: عزيز مكرم مستقر في كتاب مكنون؛ أي: مصون مستور عند الله تعالى؛ أي: في لوح محفوظ من أن يناله الشيطان بسوء، أو في مصحف مصون محفوظ من التبديل والتحريف. والقول الأول أصح. لا يمس ذلك الكتاب المكنون أعني: اللوح المحفوظ إلا الملائكة المطهرون. وهذا مروي عن ابن عباس، وأنس. وهو قول سعيد بن جبير، وأبي العالية، وقتادة، وابن زيد. أو لا يمس ذلك المصحف إلا المطهرون من الشرك. يعني: لا يمكن أهل الشرك من قراءته. قال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، أو لا يمسه إلا المطهرن من الأحداث والجنابات. وقال الحسين بن الفضل: المراد: أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وفي حرف ابن مسعود (١): ﴿ما يمسه إلا المطهرون﴾.
وقرأ الجمهور ﴿الْمُطَهَّرُونَ﴾ بتخفيف الطاء، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول من طهر مشددًا، وقرأ عيسى كذلك مخففًا اسم مفعول من أطهر. ورويت عن نافع
(١)، البحر المحيط.
405
وأبي عمرو، وقرأ سلمان الفارسي ﴿الْمُطَهِّرُونَ﴾ بتخفيف الطاء، وشد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر المضاعف، أي: المطهرون أنفسهم. وقرأ الحسن، وزيد بن عليّ، وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء والهاء وكسر الهاء. أصله: المتطهرون فأدغمت التاء في الطاء. وقرىء ﴿المتطهرون﴾.
٨٠ - وقرأ الجمهور ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾ بالرفع (١) على أنه صفة ثالثة لقرآن، أو خبر مبتدأ محذوف. وقرىء بالنصب على الحال، أو على المصدرية بفعله المحذوف؛ أي: نزل تنزيلًا. أي: هذا القرآن منزل من عند رب العالمين منجمًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة؛ لأن صيغة التفعيل تدل على التكرير، فليس بالسحر، ولا بالكهانة، ولا بالشعر، وهو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه شيء نافع.
٨١ - وبعد أن بين مزاياه، وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، بل ينبغي التمسك به، فقال: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله، وهو القرآن الكريم، وسماه حديثًا؛ لأن فيه حوادث الأمور، كما في "كشف الأسرار". وهو متعلق بقوله: ﴿مُدْهِنُونَ﴾. وجاز تقديمه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوز فيه ذلك. والأصل: أفأنتم مدهنون بهذا الحديث. ﴿أَنْتُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿مُدْهِنُونَ﴾؛ أي: (٢) متهاونون، مستحقرون كمن يدهن في الأمر؛ أي: يلين جانبه، ولا يتصلب فيه تهاونًا به، والتدهين كالمداهنة عبارة عن المداراة، والملاينة، وترك الجد، قال في "الإحياء": الفرق بين المداهنة، والمداراة يكون بالنظر إلى الغرض الباعث على الإغضاء، فإن أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنبش في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتغلنهم، وهذا معنى المداراة. وهو منع شر من يخاف شره.
والمعنى (٣): أي فبهذا القرآن تتهاونون، وتمالئون من يتكلم فيه، ولا تظهرون
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
له المخالفة، وعدم الرضا.
٨٢ - ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾؛ أي: شكر رزقكم بتقدير المضاف ليصح المعنى، كما حكاه الوادي عن المفسرين. والرزق (١) في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، والمراد: نعمة القرآن، أي: تجعلون شكر رزقكم ﴿أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ بنعمة الله فتضعون التكذيب لرازقه موضع الشكر، أو تجعلون شكر رزقكم الصوري أنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى الأنواء، وكان - ﷺ - يقول: "لو حبس الله القطر عن أمتي عشر سنين ثم أنزل.. لأصبحت طائفة منهم يقولون: سقينا بنوء كذا". وقال - ﷺ -: "أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة، والتكذيب بالقدر، والإيمان بالنجوم". وقال الهيثم: إن أزد شنوءة يقولون: ما رزق فلان؛ أي: ما شكر.
وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف، بل معنى الرزق: الشكر. ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله تعالى، وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا.
ووجه التعبير بالرزق عن الشكر (٢): أن الشكر يفيض زيادة الرزق، فيكون الشكر رزقًا تعبيرًا بالسبب عن المسبب، وقال الأزهري: معنى الآية: وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله تعالى التكذيب بأنه من عند الله الرازق. وقال أبو حيان (٣): المعنى: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به؛ أي: تضعون مكان الشكر التكذيب. ومن هذا المعنى قول الراجز:
مَكَانُ شُكْرِ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمِنَنْ كَيُّ الصَّحِيْحَات وَفْقْءُ الأَعْيُنِ
وقرأ علي، وابن عباس ﴿وتجعلون شكركم﴾. وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد. وقرأ الجمهور (٤) ﴿أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ بالتشديد من التكذيب. فالمعنى: أنه ليس من عند الله؛ أي: القرآن أو المطر، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم. وقرأ
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
عليّ، والمفضل عن عاصم بالتخفيف من الكذب. والمراد بالكذب: قولهم في القرآن: سحر وافتراء، وفي المطر من الأنواء.
والخلاصة (١): أنكم تضعون الكذب موضع الشكر. وهذا على نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾؛ أي: لم يكونوا يصلون، لكنهم كانوا يصفقون، ويصفقون مكان الصلاة. قال القرطبي: وفي هذا بيان بأن ما يصيب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابًا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلوه بالشكر إن كان نعمة، وبالصبر إن كان مكروهًا تعبدًا له وتذلَّلًا، اهـ.
٨٣ - ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣)﴾ لولا (٢) للتحضيض لإظهاد عجزهم. و"إذا" ظرفية مجردة أو مضمنة معنى الشرط. والحلقوم: مجرى الطعام. وفي "كشف الأسرار": مجرى النفس. والبلعوم: مجرى الطعام. وجواب لولا هو ما سيأتي بقوله: ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾. والضمير في ﴿بَلَغَتِ﴾ عائد إلى غير مذكور. وهو الروح، ولم يتقدم لها ذكر.. لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاؤوا بمثل هذه العبارة؛ أي: فهلا إذا بلغت النفس؛ أي: الروح أو نفس أحدكم، وروحه الحلقوم وتداعت إلى الخروج. وفي الحديث: "إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق، ويجمعون الروح شيئًا فشيئًا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم، فيتوفاها ملك الموت ".
٨٤ - ﴿وَأَنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾ للحال من فاعل ﴿بَلَغَتِ﴾؛ أي: والحال أنتم أيها الحاضرون حول صاحبها ﴿حِينَئِذٍ﴾؛ أي: حين إذ بلغت الروح الحلقوم ﴿تَنْظُرُونَ﴾ إلى ما هو فيه من الغمرات والسكرات. ولكم تعطف عليه، وشفقة ووفور رغبة في إنجائه من المهالك.
٨٥ - ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى ذلك المحتضر علمًا، وقدرة، وتصرفًا. قال بعضهم: عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع. ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها الحاضرون حوله، حيث لا تعرفون حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا عن كنهها، وكيفيتها، وأسبابها، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شي منها. ونحن المتولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا، أو بملائكة الموت الذين يقبضون روحه ﴿وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
لا تدركون، ولا تعلمون كنه ما يجري عليه لجهلكم بشؤوننا. فقوله: ﴿لَا تُبْصِرُونَ﴾ من البصيرة، لا من البصر. والأقرب تفسيره بقوله: لا تدركون كوننا أعلم به منكم، كما في "حواشي سعديّ المفتي".
٨٦ - ﴿فَلَوْلَا﴾ بمعنى هلا أيضًا ﴿إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾؛ أي: غير مربوبين مملوكلين أذلاء، من دان السلطان رعيته إذا سامهم، واستعبدهم. وفي "المفردت": أو غير مجزيين؛ فإن الدين الجزاء أيضًا. وهو ناظر إلى قوله تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧)﴾. فإن التحضيض يستدعي عدم المحضّض عليه حتمًا.
٨٧ - ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ أي (١): النفس إلى مقرها، وتردون روح ميتكم إلى بدنه من المرجع. وهو الردّ، وهو العامل في ﴿إذا﴾، والمحضّض عليه بلولا الأولى. والثانية مكررة للتأكيد. وهي مع ما في حيّزها دليل جواب الشرط.
والمعنى: إن كنتم غير مربوبين، كما ينبىء عنه عدم تصديقم بخلقنا إيّاكم فهلا ترجعون النفس إلى مقرّها عند بلوغها الحلقوم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في اعتقادكم. فإن عدم تصديقهم بخالقيته تعالى لهم عبارة عن تصديقهم بعدم خالقيته تعالى بموجب مذهبهم.
أي: فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله تعالى. فآمنوا به. وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ تكرير للتأكيد، لا من اعتراض الشرط. إذ لا معنى له هنا.
والمعنى (٢): أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلاقيمهم، وأنتم ومن حضركم من أهليكلم تنظرون إليهم، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم، ولكن لا تبصرون. وجواب لولا قوله الآتي: ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾.
وخلاصة المعنى: إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون فهلا ترجعون النفوس
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها؟ ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى. فقال: ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦)﴾؛ أي: فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرّها من الجسد إن كتم غير مصدقين أنكم تبعثون، وتحاسبون، وتجزون، ولن ترجعوها. فبطل زعمكم أنكم غير مربوبين، ولا مملوكين.
٨٨ - وبعد أن ذكر حال المحتضرين في الدنيا أردفها بذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجًا ثلاثة. فقال:
١ - ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ﴾ المتوفى ﴿مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾؛ أي: من الذين قربهم ربهم من جواره في جناته لفعله ما أمر به، وتركه ما نهي عنه، وهم أجل الأزواج الثلاثة.
٨٩ - ﴿فَرَوْحٌ﴾؛ أي: فله استراحة وطمأنينة نفس ﴿وَرَيْحَانٌ﴾؛ أي: رزق واسع من عند الله تعالى. ﴿وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾؛ أي: بستان ذات تنعم ليس فيها غيره. وتبشره الملائكة بجنات النعيم، وقد جاء في حديث البراء بن عازب: "إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينيه فأخرجي إلى روح، وريحان، ورب غير غضبان". وقرأ الجمهور (١) ﴿فَرَوْحٌ﴾ بفتح الراء.
والمعنى: الراحة من الدنيا، والاستراحة من أحوالها. وقال الحسن: الروح: الرحمة. وقال مجاهد: الروح: الفرح، وقرأ ابن عباس، وعائشة، والحسن، وقتادة، ونصر بن عاصم، والجحدري، ونوح القارىء، والضحاك، والأشهب، وشعيب بن الحبحاب، وسليمان التيمي، والربيع بن خيثم، ومحمد بن عليّ، وأبو عمران الجوني، وغيرهم ﴿فرُوح﴾ بضم الراء. قيل: ومعنى هذه القراءة: الرحمة؛ لأنها كالحياة للمرحوم. والريحان: الرزق، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومقاتل. وقال الحسن: الريحان هو الريحان المعروف الذي يشم. قال قتادة، والربيع بن خيثم: هذا عند الموت، والجنة مخبوءة إلى أن يبعث.
٢ - ٩٠ ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ﴾ المتوفى ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ عبر عن السابقين بالمقربين لكونه أجل أوصافهم، وعبر عن أصحاب اليمين بالعنوان السابق. إذ لم يذكر لهم
(١) البحر المحيط والشوكاني.
فيما سبق وصف واحد ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الآخرين. واستعير اليمين للتيمن والسعادة، قاله الراغب.
٩١ - ﴿فَسَلَامٌ لَكَ﴾؛ أي: فتبشره الملائكة، وتقول له: سلام لك يا صاحب اليمين ﴿مِنْ﴾ إخوانك ﴿أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ يسلمون عليك عند الموت وبعده. فيكون السلام إشارة له إلى أنه من أهل الجنة، قال في "الإرشاد": هذا إخبار من جهته تعالى بتسليم بعضهم على بعض، كما يفصح عنه اللام. لا حكاية لإنشاء سلام بعضهم على بعض، وإلا لقيل: عليك. والالفتات إلى خطاب كل واحد منهم للتشريف.
٣ - ٩٢ ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ﴾ المتوفى ﴿مِنَ الْمُكَذِّبِينَ﴾ بالحق ﴿الضَّالِّينَ﴾ عن الهدى، وهم أصحاب الشمال. عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١)﴾ ذمًّا لهم بذلك وإشعارًا بسبب ما ابتلوا به من العذاب. وهو تكذيب البعث ونحوه
٩٣ - ﴿فَنُزُلٌ﴾؛ أي: فله نزل كائن ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾؛ أي: من ماء حار يشرب بعد أكل الزقوم، كما فصل من قبل.
٩٤ - ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾؛ أي: وإدخال في النار. وقيل: إقامة فيها، ومقاساة لألوان عذابها. وقيل: ذلك ما يجده في القبر من سموم النار، ودخانها. وهو مصدر مضاف إلى المفعول.
والمعنى: أي فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما في بطنه والجلود، ويدخل في النار التي تغمره من جميع جهاته.
وقرأ الجمهور (١) ﴿وَتَصْلِيَةُ﴾ رفعًا عطفًا على ﴿فَنُزُلٌ﴾. وقرأ أحمد بن موسى، والمتقري، واللؤلؤي عن أبي عمرو بجر التاء عطفًا على ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾؛ أي: فنزل من حميم ومن تصلية جحيم.
٩٥ - ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم، وما آل إليه كل قسم منهم أكد ذلك بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به، ومن قيام الأدلّة عليه، ومن حال المقربين، وأصحاب اليمين، وحال المكذبين الضالين. ﴿لَهُوَ حَقُّ﴾ الخبر ﴿الْيَقِينِ﴾ الذي لا شك فيه لتظاهر الأدلة القاطعة عليه، كأنه
(١) البحر المحيط.
مشاهد رأي العين. وهذا (١) على مذهب البصريين. فيجعلون المضاف إليه محذوفًا، والتقدير: حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين. وأما الكوفيون فيقولون: فهو من إضافة الشيء إلى نفسه؛ أي: لهو محض اليقين، وخالصه. قال المبرد: هو كقولك: عين اليقين، ومحض اليقين.
٩٦ - ولما (٢) أعاد التقسيم موجزًا الكلام فيه أمره أيضًا بتسبيحه، وتنزيهه، والإقبال على عبادة ربه، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء. فقال: ﴿فَسَبِّحْ﴾ يا محمد أو أيها المخاطب؛ أي: نزه الله سبحانه عما لا يليق بشأنه حال كونك متلبسًا ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: بذكره للتبرك به. وقيل: المعنى: فصل بذكر ربك. فالباء (٣) متعلقة بمحذوف، كما قدرنا. وقيل: زائدة. والاسم بمعنى الذات. وقيل: هي للتعدية. لأن ﴿سَبِّحْ﴾ يتعدى تارة بنفسه كقوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، وتارة بحرف الجر كقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾. والأول أولى. والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم، ويجوز أن يكون صفة لربك، لأن كلا منهما مجرور.
والفاء في قوله: ﴿فَسَبِّحْ﴾ لترتيب التسبيح أو الأمر به على ما قبلها؛ فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التي من جملتها الإشراك، والتكذيب بآياته الناطقة بالحقّ. وقال أبو عثمان: فسبح شكرًا لما وفقنا أمتك إليه من التمسك بسنتك.
والمعنى (٤): أي فبعد أن استبان لك الحق، وظهر لك اليقين، فنزه ربك عما لا يليق به مما ينسبه الكفار إليه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله - ﷺ - ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)﴾ قال: "اجعلوها في
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
412
ركوعكم". ولما نزلت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾ قال: "اجعلوها في سجودكم". وكان رسول الله - ﷺ - يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى".
وسر اختصاص سبحان ربي العظيم بالركوع، والأعلى بالسجود (١) أن الأول إشارة إلى مرتبة الحيوان. والنسائي: إشارة إلى مرتبة النبات والجماد. فلا بد من الترقي في التنزيه، والحق سبحانه فوق التحت كما أنه فوق الفوق. ونسبة الجهات إليه على السواء لنزاهته عن التقيد بالجهات، فلهذا شرع التسبيح في الهبوط. واختلف الأئمة في التسبيح المذكور في الصلاة. فقال أحمد: هو واجب، تبطل الصلاة بتركه عمدًا، ويسجد لتركه سهوًا. والواجب عنده مرة واحدة، وأدنى الكمال ثلاث. وقال أبو حنيفة، والشافعي: هو سنة. وقال مالك: يكره لزوم ذلك لئلا يعد واجبًا فرضًا.
الإعراب
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩)﴾.
﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿فَلَوْلَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿لولا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلّا، ﴿تُصَدِّقُونَ﴾ فعل مضارع، مرفوع بالنون، والواو: فاعل. والجملة التحضيضية معطوفة على ما قبلها. ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿رأيتم﴾ فعل، وفاعل، بمعنى أخبروني. والتقدير: أتنكرون البعث، وخلقي إيّاكم فأخبروني عمّا تمنون الخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول أول لـ ﴿رأيتم﴾، وجملة ﴿تُمْنُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد محذوف، تقديره: ما تمنونه. ﴿أَأَنْتُمْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، ﴿أنتم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَخْلُقُونَهُ﴾ خبر. والجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رأيتم﴾. ويجوز إعراب ﴿أنتم﴾ فاعلًا بفعل مقدر؛ أي: أتخلقونه أنتم. فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضمير، وهو من باب الاشتغال. ولعله من جهة
(١) روح البيان.
413
القواعد أمكن لأجل أداة الاستفهام. ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري، ﴿نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب؛ أي: بل نحن الخالقون لا أنتم، ويكون الكلام حينئذٍ مشتملًا على استفهامين. الأول: أأنتم تخلقونه. وجوابه لا. والثاني: مأخوذ من ﴿أَمْ﴾؛ أي: بل أنحن الخالقون، وجوابه نعم. ويجوز أن تكون ﴿أَمْ﴾ متصلة معادلة للهمزة، ويجاب عن وقوع الجملة بعدها بأن الخبر الذي بعد ﴿نَحْنُ﴾ أتي به على سبيل التأكيد، لا لتصحيح الكلام؛ إذ لو قيل: أم نحن لاكتفى به بدون الخبر. ويؤيد كونها متصلة أن الكلام يؤول إلى أي الأمرين واقع، وإذا صح ذلك كانت متصلة. إذا الجملة في تأويل المفرد، اهـ سمين.
﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ في مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)﴾.
﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ، ﴿قَدَّرْنَا﴾ فعل، وفاعل، ﴿بَيْنَكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿قَدَّرْنَا﴾ ﴿الْمَوْتَ﴾ مفعول به؛ أي: أوجبناه، وكتبناه عليكم. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة أو اعتراضية، ﴿مَا﴾ حجازية، ﴿نَحْنُ﴾ اسمها، ﴿بِمَسْبُوقِينَ﴾ خبرها، والباء: زائدة. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا﴾، أو معترضة لاعتراضها بين الجار والمجرور الآتي، ومتعلقه الذي هو ﴿قَدَّرْنَا﴾. ﴿عَلَى﴾ حرف جر، ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿نُبَدِّلَ﴾ فعل، وفاعل مستتر، منصوب بـ ﴿أن﴾، ﴿أَمْثَالَكُمْ﴾ مفعول به. والجملة في تأويل مصدر مجرور بعلى؛ أي: على تبديلنا أمثالكم. والجار والمجرور متعلق بمسبوقين، أو بـ ﴿قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾. ﴿وَنُنْشِئَكُمْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿نُبَدِّلَ﴾، ﴿في مَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿ننشئكم﴾، وجملة ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أي: ننشئكم في صور لا تعلمونها من الحيوانات الممتهنة المرتطمة بالأقدار كالقردة والخنازير. ﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿عَلِمْتُمُ﴾ فعل، وفاعل، ﴿النَّشْأَةَ﴾ مفعول به، ﴿الْأُولَى﴾ صفة لـ ﴿النَّشْأَةَ﴾. والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَلَوْلَا﴾
414
الفاء: عاطفة، ﴿لولا﴾ حرف تحضيض، ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة معطوفة على جملة جواب القسم. ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾ تقدم إعراب نظير هذه الجملة آنفًا، فجدد به عهدًا. ﴿لَوْ﴾ شرطية، ﴿نَشَاءُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، ﴿لَجَعَلْنَاهُ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿جَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ فعل، وفاعل، ومفعولان. والجملة جواب لو الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَظَلْتُمْ﴾ الفاء: عاطفة ﴿ظلتم﴾ فعل ناقص من أخوات كان والتاء اسمها. أصله: ظللتم بكسر اللام الأولى، فحذفت العين تخفيفًا. ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ فعل مضارع، وفاعل. أصله: تتفكهون. والجملة في محل النصب خبر ﴿ظل﴾، وجملة ﴿ظل﴾ معطوفة على جواب لو الشرطية. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَمُغْرَمُونَ﴾ خبره، واللام حرف ابتداء. وجملة إن في محل النصب، مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل ﴿تَفَكَّهُونَ﴾، كما مرّ، تقديره: فظلتم تفكهون حال كونكم قائلين: إنّا لمغرمون. ﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب، ﴿نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لقول محذوف.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠)﴾.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ﴾ تقدّم إعراب نظيرها، ﴿الَّذِي﴾ صفة لـ ﴿الْمَاءَ﴾، وجملة ﴿تَشْرَبُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف. ﴿أَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿أَنْزَلْتُمُوهُ﴾ خبره. والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رأيتم﴾. ﴿مِنَ الْمُزْنِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلْتُمُوهُ﴾. ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ تقدم إعراب نظيرها ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿نَشَاءُ﴾ فعل شرط لها، ﴿جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾ فعل، وفاعل، ومفعولان. والجملة جواب لو، وجملة لو مستأنفة. ﴿فَلَوْلَا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿لولا﴾ حرف تحضيض، ﴿تَشْكُرُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ تقدم نظيرها، ﴿النَّارَ﴾ مفعول أول لـ ﴿رأيتم﴾، ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ
415
﴿النَّارَ﴾، وجملة ﴿تُورُونَ﴾ صلة الموصول، ﴿أَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿أَنْشَأْتُمْ﴾ خبره، ﴿شَجَرَتَهَا﴾ مفعول به. والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رأيتم﴾. ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ مبتدأ وخبر، معطوف على ما قبله. ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿جَعَلْنَاهَا﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿تَذْكِرَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾، ﴿وَمَتَاعًا﴾ معطوف عليه، ﴿لِلْمُقْوِينَ﴾ متعلق بـ ﴿متاعا﴾ أو صفة له. ﴿فَسَبِّحْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا عرفت النعم المذكورة، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ﴿سبح﴾. ﴿سبح﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿سبح﴾ أو بمحذوف حال؛ أي: متبركًا. وقيل اسم مقحم، ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿اسم﴾ أو لـ ﴿رَبِّكَ﴾. والجملة الفعلية مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) في كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾.
﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، و ﴿لا﴾ زائدة لتأكيد معنى القسم؛ أي: فأقسم، ﴿أُقْسِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة مستأنفة. ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ متعلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾. ﴿وَإِنَّهُ﴾ الواو: اعتراضية، ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَقَسَمٌ﴾ خبره، واللام حرف ابتداء. والجملة معترضة لاعتراضها بين القسم وجوابه. ﴿لَوْ﴾ حرف شرط، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ فعل شرط لها، وجواب لو محذوف، تقديره. لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم. وجملة لو معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين الصفة والموصوف. ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة ﴿قسم﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَقُرْآنٌ﴾ خبره، واللام: حرف ابتداء، ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة أولى ﴿لَقُرْآنٌ﴾. وجملة ﴿إِنّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿في كِتَابٍ﴾ صفة ثانية ﴿لَقُرْآنٌ﴾؛ ﴿مَكْنُونٍ﴾ صفة لـ ﴿كِتَابٍ﴾، ﴿لَا﴾ نافية ﴿يَمَسُّهُ﴾ فعل مضارع، ومفعول به، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿الْمُطَهَّرُونَ﴾ فاعل. والجملة صفة ثالثة ﴿لَقُرْآنٌ﴾. ﴿تَنْزِيلٌ﴾ صفة رابعة ﴿لَقُرْآنٌ﴾، ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ صفة لـ ﴿تَنْزِيلٌ﴾ أو متعلق به. ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، تقديره: أأنتم مكذّبون رسولي. والجملة مستأنفة. والفاء: عاطفة على
416
ذلك المحذوف، ﴿بهذا الحديث﴾ متعلق بـ ﴿مُدْهِنُونَ﴾. ﴿الْحَدِيثِ﴾ بدل من اسم الإشارة. ﴿أَنتُم﴾ مبتدأ، ﴿مُدْهِنُونَ﴾ خبره. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. والتقدير: أأنتم مكذّبون رسولي، فأنتم مدهنون بهذا الحديث. ﴿وَتَجْعَلُونَ﴾ فعل، وفاعل، ﴿رِزْقَكُمْ﴾ مفعول أول. والجملة الفعلية معطوفة على ﴿مُدْهِنُونَ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿أَنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولا ثانيًا لـ ﴿تجعلون﴾، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وتجعلون شكر رزقكم تكذيب رازقه.
﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥)﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾ الفاء: استئنافية، ﴿لولا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلّا، ﴿إِذَا﴾ ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾، ﴿بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ فعل، ومفعول به على الاتساع وفاعله ضمير يعود على النفس؛ أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ الواو: حالية، ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، ﴿حِينَئِذٍ﴾ ظرف مضاف إلى مثله، منصوب ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة المضافة إليها ﴿إذ﴾؛ أي: حين إذ بلغت الروح الحلقوم، والظرف متعلق بتنظرون، وجملة ﴿تَنْظُرُونَ﴾ في محل الرفع، خبر عن ﴿أَنْتُمْ﴾، ومتعلق النظر محذوف؛ أي: إليه؛ أي: إلى المحتضر. وجملة ﴿أَنْتُمْ﴾ حال من فاعل ﴿بَلَغَتِ﴾. ﴿وَنَحْنُ﴾ الواو: حالية، أو استئنافية، ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ، و ﴿أَقْرَبُ﴾ خبره، ﴿إِلَيْهِ﴾، ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلّقان بـ ﴿أَقْرَبُ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿تَنْظُرُونَ﴾ أو مستأنفة معترضة. ﴿وَلَكِنْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿لكن﴾ حرف استدراك ﴿لا﴾ نافية، ﴿تُبْصِرُونَ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿تَنْظُرُونَ﴾؛ أي: لا تعلمون أنا أقرب إليه منكم بالعلم، أو لا تعلمون ما هو فيه من المشقة والكرب.
﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٨٧)﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لولا﴾ حرف تحضيض مؤكّدة لـ ﴿لولا﴾ الأولى تأكيدًا لفظيًا، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، في محل
417
الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾، ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ فعل مضارع، مرفوع بالنون، والواو: فاعل، والهاء: مفعول به. والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. و ﴿لولا﴾ تحضيضية، وهي للطلب. والمعنى: فارجعوا روح المحتضر إلى مقرّها وجسدها وقت بلوغها الحلقوم للنزع إن كتم غير مدينين. ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها؛ أي: إن كنتم صادقين في نفي البعث فارجعوها إلى جسدها. وهي مؤكّدة لجملة ﴿إن﴾ الشرطية الأولى. وملخص الكلام إن صدقتم في نفي البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده لينتفي عنه الموت، فينتفي البعث. اهـ "سمين".
﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال المتوفّى عند وفاته، وأردت بيان حاله إثر وفاته فأقول لك: أما إن كان من المقربين إلخ. ﴿أمّا﴾ حرف شرط أبدًا، وتفصيل غالبًا، نائبه عن مهما الشرطية وفعل شرطها، ﴿إن﴾ حرف شرط جازم، ﴿كَانَ﴾ فعل ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المتوفى، ﴿مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ خبرها. وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف لدلالة جواب أمّا عليه. والتقدير: إن كان من المقربين يجزى بالروح والريحان وجنة نعيم، وجملة إن الشرطية معترضة بين ﴿أمّا﴾، وجوابها، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَرَوْحٌ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿أمّا﴾ وجوبًا، ﴿روح﴾ مبتدأ، خبره محذوف، مقدم عليه، تقديره: فله روح. ﴿وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ معطوفان على ﴿روح﴾. والجملة الاسمية جواب ﴿أمّا﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿أما﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. والمعنى: فأقول لك مهما يكن من شيء، فللمتوفى روح وريحان، وجنة نعيم إن كان من المقربين، وسلام من أصحاب اليمين إن كان منهم الخ. ﴿وَأَمَّا﴾ الواو: عاطفة، ﴿أَمَّا﴾ حرف شرط، ﴿إِن﴾ حرف شرط، ﴿كَانَ﴾ فعل ناقص في محل
418
الجزم بـ ﴿إِن﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المتوفى، ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾، خبرها، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كان من أصحاب اليمين يسلّم عليه. وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية معترضة. ﴿فَسَلَامٌ﴾ الفاء: رابطة لجواب أمّا، ﴿سلام﴾ مبتدأ. سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء. ﴿لَكَ﴾ خبر عن ﴿سلام﴾ ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ نعت لـ ﴿سلام﴾ أو حال منه. والجملة الاسمية جواب أمّا، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب، معطوفة على جملة أمّا الأولى.
﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أَمَّا﴾. حرف شرط، ﴿إِنْ﴾ حرف شرط، ﴿كَانَ﴾ فعل ناقص في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المتوفى، ﴿مِنَ الْمُكَذِّبِينَ﴾ خبرها، ﴿الضَّالِّينَ﴾ صفة لـ ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾. وجواب ﴿إن﴾ محذوف، تقديره: إن كان المتوفى من المكذبين يجزى بالحميم والجحيم. وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معترضة بين ﴿أَمَّا﴾ وجوابها. ﴿فَنُزُلٌ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾ الشرطية، ﴿نزل﴾ مبتدأ، حذف خبره المقدم، ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿حَمِيمٍ﴾، ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)﴾ معطوف على ﴿نزل﴾. والجملة الاسمية جواب ﴿أَمَّا﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب. والتقدير: مهما يكن من شيء فللمتوفى نزل من حميم، وتصلية جحيم إن كان من المكذبين الضالّين. وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب، معطوفة على جملة أما الأولى. ﴿إِنَّ هَذَا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَهُوَ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿هو﴾ ضمير فصل، أو مبتدأ، و ﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ أو خبر هو. والجملة الاسمية خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. وإضافة حق إلى اليقين عن إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: الحق المتيقّن الذي لا شك فيه. ﴿فَسَبِّحْ﴾ الخ، تقدم إعرابه، ولكن نعيده لزيادة بعض الفوائد. فنقول: الفاء: فاء الإفصاح كما مرّ، ﴿سبح﴾ فعل أمر بمعنى نزه، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿بِاسْمِ﴾ الباء: حرف جر، ﴿اسم﴾ زائد، ﴿رَبِّكَ﴾ مجرور بالباء؛ أي: سبح بربك العظيم. ويجوز أن تكون الباء للحال؛ أي: حال كونك متلبسًا باسم ربك أو متبركًا به، ويجوز أن تكون الباء للتعدية بناء على أنَّ ﴿سبح﴾ يتعدى تارة
419
بنفسه، وتارة أخرى بحرف الجر. ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة.
فائدة: أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك؛ لأنه لم يكثر دورانها هنا كثرته في البسملة، وحذفوها من البسملة لكثرة دورانها. وهم شأنهم الإيجاز، وتقليل الكثير إذا عرف معناه. وهذا معروف لا يجهل. وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله، ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء. اهـ خطيب انتهى من الفتوحات.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَا تُمْنُونَ﴾؛ أي: ما تقذفونه في الأرحام من النطف. قرأ العامة بضم التاء، من أمنى الرباعي يمني إمناء. وقرىء بفتح التاء من مني الثلاثي يمني من باب رمى. كلاهما بمعنى قذف المني في الرحم. وأصله من المني. وهو التقدير. قال الشاعر:
لا تَأْمَنْ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمِ حَتَّى تُلاقِيَ مَا يُمْنِيْ لَكَ الْمَانِيْ
ومنه: المنيَّة. لأنَّها مقدرة تأتي على مقدار. وفي "المختار": وقد يقال: مني من باب رمى، وأمنى أيضًا. اهـ. وأصل ﴿تُمْنُونَ﴾: تمنيون بوزن تفعلون، أستثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، وضمت النون لمناسبة الواو.
﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾؛ أي: نميتكم دفعة واحدة، ونخلق أشباهكم. ويجوز في ﴿أَمْثَالَكُمْ﴾ وجهان:
أحدهما: أنه جمع مثل بكسر الميم، وسكون الثاء؛ أي: نحن قادرون على أن نعدمكم، ونخلق قومًا آخرين أمثالكم. ويؤيده قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾.
والثاني: أنه جمع مثل بفتحتين. وهو الصفة؛ أي: نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا، وننشئكم في صفات غيرها، اهـ سمين.
﴿فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: في صورة لا تعلمونها في جنسكم كتبديل صوركم بصورة القردة والخنازير. قال الحسن؛ أي: نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام
420
قبلكم. و ﴿مَا﴾ مقطوعة في الرسم على القاعدة من أن ﴿مَا﴾ الموصولة مفصولة، اهـ خطيب.
﴿مَا تَحْرُثُونَ﴾؛ أي: تبذرون حبه، وتعملون في أرضه. قال الراغب: الحرث: تهيئة الزراعة، وإلقاء البذر فيها، اهـ.
والمعنى: المناسب هنا تفسير ما بالبذر، ومعنى تحرثون البذر؛ أي: تلقونه في الأرض فكأنه قال: أفرأيتم البذر الذي تلقونه في الطين أأنتم تزرعونه؛ أي: تنبتونه. وفي "المختار": الزرع: طرح البذر. والزرع أيضًا: الإنبات، يقال: زرعه الله؛ أي: أنبته. ومنه قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾. وبابه قطع، اهـ.
﴿حُطَامًا﴾؛ أي: هشيمًا متكسّرًا متفتتًا لشدة يبسه، والحطام: الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء. وأصل الحطم: كسر الشيء مثل الهشم، ونحوه. ثم استعمل لكل كسر متناه.
﴿فَظَلْتُمْ﴾ في إعلال بحذف عينه، إذ أصله: ظللتم بوزن فعلتم، حذفت عينه، وبقيت فاؤه، كما هي لغة فيه. وفيه لغة أخرى. وهي حذف العين، وكسر الفاء ظِلت. وهكذا كل فعل ثلاثي مكسور العين ماض عينه، ولامه من جنس واحد فيه ثلاث استعمالات، وهي استعماله تامًّا، كقولك: ظللت، وحذف عينه، وإبقاه حركة فائه كما هي. وحذف العين وكسر الفاء، كما تقدم.
﴿تَفَكَّهُونَ﴾ فيه حذف إحدى التاءين، كما تقدم. فأصله: تتفكهون حذفت إحدى التاءين تخفيفًا. وأصل التفكه: تناول ضروب الفواكه للأكل. والفكاهة: المزاح. ومنه: حديث زيد كان من أفكه الناس مع أهله، ورجل فكه طيب النفس. وقد استعير هنا للتنقل في الحديث. وقيل: معناه: تندمون. وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم. ولا تلقي الفكاهة إلا من الحزن. فهو من باب تحرج وتأثم. وقيل: تفكهون تعجبون. وقيل: تتلاومون. وقيل: تتفجعون. كله من باب التفسير باللازم.
﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)﴾ جمع مغرم. والمغرم: هو الذي ذهب ماله بغير عوض. وأصل الباب اللزوم. والغرام: العذاب اللازم. والغرامة: أن يلزم الإنسان ما ليس عليه، ولا في ذمته.
421
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)﴾ الإيراء: إظهار النار بالقدح. يقال: أورى يورى، ووريت بك زنادي، أي: أضاء بك أمري. ويقال: قدح فأورى إذا ظهرت النار، فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى. وفي "المصباح": ورى الزند يرى وريًا من باب وعى. وفي لغة ورى يرى بكسرهما، وأورى بالألف. وذلك إذا أخرج ناره. وفي "المختار": وأوراه غيره أخرج ناره. وفي "معاجم اللغة": تستخرجون النار من الزناد. وهو جمع زند. والزند: العود الذي يقدح به النار. وهو الأعلى. والزندة السفلى، فيها ثقب، وهي الأنثى. فإذا اجتمعا قيل: زندان، والجمع زناد. والعرب تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: ما من شجر، ولا عود إلّا فيه النار سوى العناب، اهـ. وأصل ﴿تُورُونَ﴾: توريون مضارع أورى الرباعيِّ، وفيه إعلال بالحذف ثلاث مرات:
أولًا: حذفت منه همزة أفعل، كما تقدم غير مرة.
وثانيًا: حذفت الضمة التي على الياء للتخفيف.
وثالثًا: لما سكنت الياء بعد حذف حركتها حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الراء لمناسبة الواو.
﴿الْمُزْنِ﴾ السحاب، جمع مزنة. وفي "القاموس": المزن بالضم: السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، والقطعة مزنة. ﴿أُجَاجًا﴾ في "المختار": ماء أجاج: مر شديد الملوحة. وقد أج يؤج أجوجًا بالضم.
﴿لِلْمُقْوِينَ﴾؛ أي: للمسافرين الذين يسكنون القواء؛ أي: القفر، والمفاوز؛ أي: جعلناها ينتفع بها المسافرون. وخصوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين. وأصل المقوين: المقويين اسم فاعل من أقوى الرباعي استثقلت الكسرة على الواو، وبعدها ياء مكسورة، وأخرى ساكنة، فحذفت كسرة الياء الأولى لام الكلمة، فلما سكنت حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الجمع فوزنه مفعين.
﴿لَا يَمَسُّهُ﴾ أصله: يمسسه، نقلت حركة السين الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في السين الثانية. والظاهر والله أعلم: أن ضمة السين ضمة إعراب، وأنَّ ﴿لا﴾ نافية. وهذا أحد وجهين، ذكرهما السمين. ثم قال: والثاني: أن ﴿لا﴾ ناهية، والفعل بعدها مجزوم. لأنه لو فك عن الادغام.. لظهر ذلك، كقوله تعالى:
422
﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب. فضمته ضمة إتباع لحركة الهاء.
﴿مُدْهِنُونَ﴾ قال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة، والملاينة، وترك الجد. وقال المؤرخ: المدهن: المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره. والإدهان والمداهنة: التكذيب، والنفاق، وأصله: اللين، وأن يضمر خلاف ما يظهر، وادهن داهن بمعنى واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت. وفي "الشهاب": وأصل الإدهان جعل الأديم، ونحوه مدهونًا بشيء من الدهن. ولما كان ذلك ملينًا له لينًا محسوسًا أريد به: اللين المعنوي على أنه تُجُوِّز به عن مطلق اللين، أو استعير له، ولذا سميت المداراة، والملاينة مداهنة. وهذا مجاز معروف، ولشهرته صار حقيقة عرفية، فلذا تجوز به هنا عن التهاون أيضًا؛ لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه، اهـ "شهاب".
﴿غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ جمع مدين، اسم مفعول من دان يدين. والأصل: مديونين، نقلت حركة الياء إلى الدال، فلما سكنت حذفت واو مفعول لالتقاء الساكنين، ثم كسرت الدال لمناسبة الياء الساكنة بعدها. فهو مثال مبيع.
﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩)﴾ الروح بالفتح: الراحة، والرحمة، ونسيم الريح. والريحان: الرحمة، والرزق كما في "المختار". وفي "القاموس": والريحان: نبت طيب الرائحة، أو كل نبت كذلك، أو أطرافه أو ورقه، والولد، والرزق. وأصله ريحان بوزن فعلان، والياء فيه منقلبة عن واو على غير قياس لعدم وجود سبب للقلب. وقيل: أصله: ريوحان لتصغيره على رويحان. فلما اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، فصار ريحان بتشديد الياء، ثم خففت الياء لتسهيل اللفظ فصار ريحان. وقيل: إن الكلمة لا قلب فيها، ولا إدغام، أن الياء أصل، وهي عين الفعل بدليل جمعها على رياحين، وتصغيره على ريحين.
﴿وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ ترسم ﴿جَنَّت﴾ هنا مجرورة التاء. ووقف عليها بالهاء ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، والباقون بالتاء على الرسم، اهـ خطيب. ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)﴾؛ أي: احتراق بها. وهو بوزن تفعلة مصدر قياسي لفعَّل المضعف
423
المعتل اللام: كزكى تزكية، وولى تولية.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التحضيض في قوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧)﴾ حثًّا لهم على الاعتراف بالبعت والإعادة كاعترافهم بالخلق الأولى.
ومنها: تكرار ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ في مواضعها احتجاجًا على المشركين، وإلزامًا لهم بالحجة.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾، وقوله: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾، وقوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩)﴾، وقوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢)﴾. وجناس الاشتقاق بين ﴿ننشئكم﴾، وبين ﴿النَّشْأَةَ﴾.
ومنها: فن صحة الإقسام في الآيات المذكورة من قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨)﴾ إلى قوله: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣)﴾. وهو عبارة استيفاء المتكلم جميع الأقسام للمعنى المذكور الآخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئًا.
ومنها: العدول من لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو ردفه، وتابعه. وهو لفظ الجعل في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾.
ومنها: تأكيد الفعل باللام في قوله في الزرع: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾، وعدم تأكيده في الماء، حيث قال: ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾؛ لأنّ الزرع، ونباته، وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطامًا لما كان يحتمل أن يتوهم أنه من فعل الزارع، ولهذا قال سبحانه: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)﴾، أو يتوهم أن خصبه من سقي الماء، وأن جفات من حرارة الشمس وعدم السقي، أو تواتر مرور الإعصار. أخبر سبحانه أنه هو الفاعل لذلك كله على الحقيقة، وأنه قادر على جعله.. لو شاء حطامًا في حالة نموه، وزمن شبيبته ونضارته، فلما كان هذا التوهم محتملًا..
424
أوجبت البلاغة تأكيد فعل الجعل فيه باللام، بإسناده لزارعه على الحقيقة، ومنشئه لرفع هذا التوهم، ولما كان إنزال المطر من السماء محالًا بما لا يتطرق احتمال توهم متوهم أن أحدًا من جميع الخلق قادر عليه لم يحتج إلى تأكيد الفعل في جعله أجاجًا. فإنه لا يمكن أن يتوهم أحد أن أحدًا ينزل المطر من السماء أجاجًا، ولا عذبًا الذي هو أسهل من الأول، وأهون.
ومنها: فن التسهيم في هذه الآيات أيضًا. وهو وأن يكون ما تقدم من الكلام دليلًا على ما تأخر منه أو بالعكس فقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣)﴾ إلى قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)﴾ يقتضي أوائل هذه الآيات أواخرها اقتضاء لفظيًّا ومعنويًا. كما ائتلفت الألفاظ فيها بمعانيها المجاورة ائتلاف الملائم بالملائم، والمناسب بالمناسب؛ لأن ذكر الحرث يلائم ذكر الزرع، وذكر كونه سبحانه لم يجعله حطامًا ملائم لحصول التفكه به، وعلى هذه الآية يقاس نظم أختها.
ومنها: زيادة لفظ ﴿اسم﴾ في قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)﴾، وزيادة ﴿لا﴾ في قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ تأكيدًا للكلام.
ومنها: الاعتراض بالجملة الاسمية بين القسم والمقسم عليه في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)﴾.
ومنها: الاعتراض بين الصفة والموصوف في قوله: ﴿لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ حيث استعار الكرم ممن يقوم به الكرم من ذوي العقول للقران بجامع كثرة النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١)﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾؛ أي: شكر رزقكم.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣)﴾ كأنما الروح شيء مجسم يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة.
ومنها: تكرار لولا التحضيضية في قوله: ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦)﴾
425
لغرض التأكيد اللفظي.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله، ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)﴾ لغرض الرد على المنكرين.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ﴾ لغرض التشريف.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
426
خلاصة موضوعات هذه السورة
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - اضطراب الأرض، وتفتت الجبال حين قيام الساعة.
٢ - إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة.
٣ - اجتماع الأولين والآخرين في هذا اليوم.
٤ - إقامة الأدلة على وجود الخالق.
٥ - إقامة البراهين على البعث، والنشور، والحساب.
٦ - إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها.
٧ - تبكيت المكذبين على إنكار الخالق.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
427
سورة الحديد
سورة الحديد مدنية. نزلت بعد الزلزلة. قال القرطبيّ في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الحديد بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وقيل: مكية.
وآيها تسع وعشرون آية. وكلماتها خمس مئة وأربع وأربعون كلمة. وحروفها ألفان وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا.
المناسبة: مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة (١)؛ لأنه تعالى أمر بالتسبيح، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض.
وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها من وجهين (٢):
١ - إن هذه بدئت بالتسبيح، وتلك ختم به.
٢ - إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح. فكأنه قيل: سبح باسم ربك العظيم. لأنه سبح له ما في السموات والأرض.
التسمية: سميت هذه السورة سورة الحديد لذكر الحديد فيها. وهو قوة الإنسان في السلم والحرب، وعدته في البنيان والعمران فمن الحديد تبنى الجسور الضخة، وبه تشاد العمائر، ومنه تصنع الدروع والسيوف والرماح، وتكون منه الدبابات، والغواصات، والسيارات، والطائرات، والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من المنافع التي كادت أن لا تحصى.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم: سورة الحديد كلها مدنية إلا في قول
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
428
الكلبي. فإنه قال: إنها مكية، وكلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. وبرد (١) على القول بأنها مدنية ما نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب: أنه لما قرأ هذه الآيات من أول هذه السورة إلى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وكانت مكتوبة في صحيفة عند أخته.. أسلم. فهذا يقتضي أن هذه الآيات مكية. فعلى هذا تستثنى على القول بأن السورة مدنية، تأمل.
فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه أحمد (٢)، والترمذي، وحسنه، والنسائي، وابن مردويه، واليبهقي في "الشعب" عن العرباض بن سارية: أن رسول الله - ﷺ - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية". وفي إسناده بقية بن الوليد. وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله - ﷺ -، ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو مرسل.
وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال: كان رسول الله - ﷺ - لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وكان يقول: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية". قال يحيى: فنراها الآية التي في آخر الحشر. قال ابن كثير في تفسيره: والآية المشار إليها، والله أعلم هي قوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ...﴾ الآية، والمسبحات المذكورة هي: الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الفتوحات.
(٢) الشوكاني.
429

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)﴾.
المناسبة
مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها قد تقدم آنفًا.
430
وأما قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) أنواعًا من الأدلة تثبت وحدانيته، وعلمه، وقدرته.. فبين أن كل ما في السموات والأرض فهو في قبضته يصرفه كيفما يشاء على ما تقتضيه حكمته. ثم ذكر أنواعًا من الظواهر في الأنفس ترشد إلى هذا، وأومأ إلى النظر والتأمل فيها. أعقب بذكر التكاليف الدينية فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس لله، وإخلاص العمل له، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ثم طلب إنفاق المال في سبيله، وأبان أن المال عارية مستردة فهو ملك له، وأنتم خلفاؤه في تثميره في الوجوه التي فيها خير لكم، ولأمتكم، ولدينكم. ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبع مئة ضعف. ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول، وقد أخذ عليكم العهد به، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. والله رؤوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك، وهداكم إلى طاعته. ثم ذكر فضل السابقين الأوّلين الذين أسلموا قبل فتح مكة، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله حين عز النصير، وقيل المعين. فهؤلاء يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح، وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجًا، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأجر الكريم عند ربهم. ثم حث على الإنفاق مرة أخرى، وسماه قرضًا حسنًا له، وأنه سيرد هذا القرض، ويجازي به أجل الأجر يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر (٢) بالإيمان والإنفاق في سبيل الله، وحث على كل مهما بوجود موجباته.. فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه. وهي وجود الرسول بين أظهرهم، وكتاب الذي يتلى بين أيديهم، وحث على الإنفاق، فأبان أن المال مال الله، وهو عارية بين أيديهم، ثم يرد إليه، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم في جنات النعيم، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد، حين النصير
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
431
والمعين.. ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة. فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ليرشدهم إلى الجنة، وأنهم يبشرون بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، ثم أردفه بذكر حال المنافقين إذ ذاك، وأنهم يطلبون من المؤمنين شيئًا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل؛ فيتهكم بهم المؤمنون، ويخيبوا آمالهم، ويقولون لهم: ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا نورًا بتحصيل العلوم والمعارف، فلا نور إلا منها.
ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلي المؤمنين، فيه الرحمة، ومما يلي المنافقين فيه العذاب؛ لأنه في النار. ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه، وأنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر فينطفيء نور الإيمان، وشكلوا في أمر البعث، وغرهم الشيطان فأوقعهم في مهاوي الردى.
ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل في النجاة لهم إذ ذاك فلا تجدي الفدية، كما تنفع في الدنيا. فلا مأوى لهم إلا النار، وبئس القرار.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسًا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة، فيردونهم خائبين، ويقولون لهم: ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورًا.. أردف هذا (١) بعتاب قوم من المؤمنين، فترت همتهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم، فقست تلوبهم، وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه. ثم أبان لهم بضرب المثل: أن القلوب القاسية تحيا بالذكر، وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث، والمطر.
(١) المراغي.
432
Icon