تفسير سورة الأنعام

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ الليل والنهار؛ فإنهما آيتان من آيات الله تعالى. أو المراد كل ظلمة، وكل نور، أو هو ظلمة الكفر ونور الإيمان، وظلمة الجهل ونور العلم؛ جعل الظلمات ليستدل بها على ما عداها؛ فلولا ظلمة الليل ما عرفنا نور النهار، ولولا الكفر ما عرف الإيمان، ولولا الجهل ما عرف العلم. (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بعد هذه الدلالات على وجود الله تعالى ووحدانيته ﴿بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي يجعلون له عدلاً؛ وهو المثل، والشبيه، والنظير؛ وهو تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أي خلق أصلكم آدم عليه السلام ﴿مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً﴾ لكل مخلوق من مخلوقاته لا يتجاوزه ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ هو أجل القيامة ووقتها ﴿ثُمَّ أَنتُمْ﴾ بعد كل ذلك ﴿تَمْتَرُونَ﴾ تشكون في القيامة، وتجادلون في الله
﴿وَهُوَ اللَّهُ﴾ الخالق البارىء المصور ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وأين أنتم من السموات وما فيها؟ ﴿أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا﴾؟ ﴿وَفِي الأَرْضِ﴾ وهو ذلك الكوكب الصغير الحقير؛ بالنسبة لملك الله تعالى وملكوته ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ ما تسرونه في أنفسكم وتحتفظون به في صدوركم ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ ما تعملون
﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ﴾ معجزة وبرهان
-[١٥١]- ﴿إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ لا يأبهون بها، ولا يلتفتون إليها؛ وأي معجزة أكبر أو أجل من القرآن؟ وأي برهان أقوى من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام؟ ذلك اليتيم الذي آواه الله، والضال الذي هداه، والعائل الذي أغناه والأمي الذي أخرس بفصاحة ما جاء به البلغاء والفصحاء، وتحدى بآياته أساطين البيان
﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ﴾ القرآن الكريم، أو محمد عليه أفضل الصلاة السلام ﴿لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ﴾ أي سوف يأتيهم العذاب الذي يدلهم على صدق ما كذبوا به؛ وصحة ما سخروا منه
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ القرن: الأمة، أو أهل الزمان الواحد ﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ أي جعلنا لهم مكانة فيها، وقوة وسعة ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً﴾ أي جعلنا السماء تدر عليهم بالمطر؛ وهو كناية عن بسط الرزق، وسعة القوت؛ لأن المطر مصدر الرخاء والنماء ﴿وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ لكنهم طغوا وبغوا ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً﴾ أمة
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ﴾ أي لو أنزلنا عليك من السماء كلاماً مكتوباً في ورق ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ورأوه بأعينهم؛ لما آمنوا، والذي نراه ونلمسه ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ سحر واضح بيِّن
﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ﴾ هلا ﴿أُنزِلَ عَلَيْهِ﴾ أي على محمد ﴿مُلْكُ﴾ من السماء؛ يمشي معه ويؤيده، ويصدق أمامنا بما جاء به ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً﴾ كما يقترحون ﴿لَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ بهلاكهم واستئصالهم ﴿ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ﴾ لا يؤجلون، ولا يمهلون
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ﴾ أي الرسول إليهم ﴿مَلَكاً﴾ من السماء ﴿لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ أي جعلناه على صورة رجل؛ ليستطيعوا رؤيته، ويقووا على مواجهته؛ لأنه لا قوة ولا طاقة للبشر على رؤية الملك على حقيقته؛ ولأن كل نوع يميل إلى نوعه، وكل جنس يألف لجنسه؛ والإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس؛ والإنسان لا يقوى على رؤية عفريت أو شيطان، فكيف برؤية الملك الذي يهلك قرية بصيحة، ويفني أمة برجفة؟ وقد كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل لنبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه على صورة رجل؛ ليأنس إليه، ويطمئن إلى مخاطبته؛ ولم يره على صورته الحقيقية غير مرتين: مرة عند غار حراء؛ رآه ساداً للأفق، حاجباً للشمس؛ فغشي على النبي من عظمة ما رأى ورآه مرة أخرى عندما أسري به في السموات العلى
﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى﴾ فتعالى الخالق المبدع المصور؛ الذي هدانا برسول من أنفسنا، نأنس إليه، ونلتمس غنى الدارين من يديه ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم﴾
-[١٥٢]- لخلطنا عليهم ﴿مَّا يَلْبِسُونَ﴾ على أنفسهم؛ بأن يقولوا على الملك الذي أنزلناه في صورة رجل ﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ مثل ما استهزىء بك ﴿فَحَاقَ﴾ فنزل ﴿بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ﴾ أي جزاءه من العقاب والتعذيب ﴿كِتَابَ﴾ قضى ربكم
﴿عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ تفضلاً منه على العباد؛ ومن دلائل رحمته تعالى: تلطفه بخلقه رغم تجبرهم، وإمدادهم رغم عصيانهم؛ وأي رحمة أبلغ من رزقه لمن يكفر به، وإمهاله لمن يعبد غيره؟ ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ للحساب والجزاء ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك في حصول وقوعه ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم﴾ أضاعوها بكفرهم، وأعمالهم السيئة في الدنيا؛ فلا يقام لهم وزن في الآخرة، وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم
﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي له تعالى كل شيء - هو خالقه ومالكه - من ساكن أو متحرك؛ لأن الذي يسكن لا بد أن يكون متحركاً. والآية الكريمة تنص على كل مخلوق من متحرك وساكن بطبعه، أو ساكن بعد تحرك ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالكم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالكم
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ ناصراً ومعيناً ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فاطر الشيء: خالقه ابتداء من غير مثال سبق ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ﴾ سائر مخلوقاته ويتكفل بأرزاقهم وأقواتهم ﴿وَلاَ يُطْعَمُ﴾ لا يحتاج لأحد يرزقه أو يطعمه؛ شأن من عبدتم من المخلوقات كعيسى ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هو يوم القيامة
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾ الذي لا يعجزه شيء ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ مستعلياً عليهم؛ فهم كلهم تحت رحمته؛ وقيد إرادته؛ يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يسعد من يشاء بجنته ورحمته، ويشقي من يشاء بناره وغضبه، بيده الملك والملكوت، والعزة والجبروت؛ تفرد بالعظمة والسلطان ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ في صنعه ﴿الْخَبِيرُ﴾ بخلقه
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾ لي بالرسالة والنبوة ﴿قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي أن دعوتي لتوحيده، وحثى على معرفته: شهادة على نبوتي، ودليل على صدقي ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ﴾ وهو شهادة أخرى قاطعة ناصعة؛ فأي شهادة أكبر من هذا تطالبونني بها، وتلزمونني بإبدائها؟ ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ أي لأنذركم بهذا القرآن؛ ومن سيبلغه من بعد وفاتي؛ فكأنما أنذرته بنفسي وأبلغته. أو ومن بلغه القرآن: وجب عليه القيام بتبليغه أيضاً
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنصارى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي يعرفون محمداً؛ لنعته في كتبهم (انظر آية ١٥٧ من سورة الأعراف).
-[١٥٣]- ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم﴾ بتعريضها للجحيم والعذاب الأليم ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بمحمد؛ رغم معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ بأن أشرك معه غيره من مخلوقاته
﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنهم آلهة، وتشركونهم معي في العبادة
﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ الفتنة هنا بمعنى الاختبار؛ أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال. وقيل: «فتنتهم» معذرتهم
﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ غاب
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ بأذنيه، وينصرف عنك بقلبه؛ ومثل هذا غير جدير بالاعتبار؛ وأولى بمثله أن يورده الله تعالى موارد الغواية، ويبعده عن مواطن الهداية أغطية؛ بسبب انصرافهم وعنادهم وكفرهم ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ أي لئلا يفقهوا القرآن ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ ثقلاً يمنع من السمع ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ﴾ منزلة عليك من القرآن الكريم ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ﴾ القرآن ﴿إِلاَّ أَسَاطِيرُ﴾ أكاذيب
﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ أي ينهون الناس عن سماعه ﴿وَيَنْأَوْنَ﴾ يتباعدون ﴿وَأَنْ﴾ وما ﴿يُهْلِكُونَ﴾ بهذا النهي والنأي ﴿إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾ لأنهم يعرضونها للعذاب الشديد يوم القيامة
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ﴾ حبسوا ﴿عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ﴾ نرجع إلى الدنيا.
﴿وَلَوْ رُدُّواْ﴾ إليها ﴿لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي لعادوا إلى كفرهم وعنادهم
﴿وَقَالُواْ إِن﴾ ما ﴿هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ لا شيء غيرها ولا حياة بعدها ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ في الآخرة كما يزعم محمد.
هذا وقد ظهر في زماننا هذا قوم من غلاة الزنادقة ينكرون البعث، ويقولون بالتعطيل وفي الواقع أن عقولهم وقلوبهم هي المعطلة؛ وسيرون غداً حينما تلتهمهم النيران، ويحل بواديهم الخسران؛ من أضل سبيلاً، وأسوأ قيلا (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ للحساب، ورأوا بأعينهم سوء المآب ﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا﴾ الذي ترونه وتلمسونه ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي أنذركم به محمد؛ فكذبتموه وكفرتم به ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ فجأة
﴿قَالُواْ﴾ وقتذاك ﴿يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ أي على ما قصرنا في الدنيا ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾ ذنوبهم
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ مثلما كذبك قومك؛ وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ﴿فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ﴾ فاصبر كما صبروا ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ بإهلاك المكذبين ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ لأوامره وسنته، ومواعيده بنصر رسله
﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ﴾ عظم وشق ﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾ عن الإيمان ﴿فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ﴾ تطلب وتجد ﴿نَفَقاً﴾ سرباً ﴿فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ﴾ تصعد عليه ﴿فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ معجزة مما يقترحونه من غير إرادتنا
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ للدعوة إلى الإيمان
﴿الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ سماع تدبر وتفكر ﴿وَالْمَوْتَى﴾ الكفار؛ سماهم موتي: لأن حالهم كحالهم ﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يوم القيامة، ويوقفهم على النار؛ فيقولون: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾
﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ﴾ هلا ﴿نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ معجزة
﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ﴾ الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان أو حيوان. والمراد بها هنا الحيوان ﴿إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ تحتاج إلى تدبير رزقها ومعايشها، وتدل على خالقها المتكفل بأرزاقها؛ وفي الآية دليل على وجوب السير مع هذه الأمم بالحسنى، وعدم مجاوزة الحدود التي رسمها الله تعالى في معاملتها؛ ووجوب الرفق بها في سائر الحالات؛ أليست أمماً أمثالنا؟
وقد شغف أناس كثيرون من علماء الحيوان والنبات بدراسة هذه الأمم - من الحيوان والطير - فرأوا عجباً يضيق بصنعه بنو الإنسان فإنك لو أردت أن ترى آية في الاختراع، وغاية في الإبداع؛ لما وجدت أروع ولا أبدع من لوح الشمع الذي يصنعه النحل بنفسه؛ فإن الرسام المبدع لا يكاد يستطيع أن يرسم بأدواته وأقلامه ما رسمه النحل بتوفيق من ربه؛ وناهيك باختياره للورود والأزهار التي يرتشف منها الرحيق الذي يحوله - بقدرة ربه وإلهامه - إلى شراب مختلف الطعوم والألوان
هذا عدا النظام الدقيق الذي تسير عليه مملكة النحل؛ مما تعجز أساطين العقول البشرية عن الإتيان بمثله؛ فسبحان من خلقه وسخره، وأوحى إليه بأمره؛ فاستمع إلى وحي ربه؛ شأن فضلاء بني الإنسان
ولو تأملت إلى مملكة النمل، وما هي عليه من نظام محكم دقيق، لصغرت أمامك نفسك، وهانت عليك حكمتك وتدبيرك؛ فقد ثبت أنه من خير الأمم المنظمة؛ التي تدبر حيانها ومعيشتها، وتحفظ في يومها لغدها، وتثابر في عملها حتى تنال مرادها؛ وترى النمل إذا نزلت به نازلة، أو اجتاحته جائحة؛ لا تفتر عزيمته، ولا تنهار قوته؛ بل يعتبر النمل نفسه وحدة لا تتجزأ، وأنه يجب التضحية بالفرد لمصلحة المجموع؛ فكما يدفع الإنسان عن نفسه - ما يصيبه في هذه الحياة - بيده أو بأي عضو من أعضائه، ويضحي بزهرة أبنائه في سبيل الدفاع عن أرضه ووطنه؛ فكذلك النمل يضحي ببعضه في سبيل حياة باقية؛ فتراه إذا دهمه مطر أو سيل
155
فأودى بمنازله، وأطاح بمملكته؛ فجعلها خراباً يباباً؛ وصار الفناء الشامل، والهلاك المدمر قيد خطوة منه، حينئذ تراه يتجمع ألوفا مؤلفة، وملايين لا عداد لها فيتكور على نفسه، فيحمل السيل هذه المجموعات الهائلة منه حتى تستقر على اليابسة - بعد أن يبيد أكثرها اختناقاً وغرقاً - فيبدأ من نجا من أفراد هذه المملكة في العمل والإنشاء والتعمير، كأن لم تحل بهم داهية تذهب بلب الحكماء، وتعصف بعقول العقلاء وتراهم يبدأون بما فيه قوام حياتهم؛ فيلتقطون الحبوب - التي اختزنوها ونالتها مياه الأمطار - فيجففونها في الشمس خشية التلف، ويعيدونها إلى مخازنها التي أعدوها لها من قبل
والذي يبدو أن الله تعالى خلق هذه المخلوقات وأبدع هذه الكائنات؛ لخدمة بني الإنسان ومنفعته الخاصة؛ ولا تقف هذه المنافع عند المنفعة المادية فحسب، بل هناك منافع أدبية وتعليمية لا حد لها؛ فالمؤمن الصادق الإيمان يجب عليه أن يقلد هذه الأمم - التي هي دونه في الخلقة، وفوقه في الخلق - فلا يعيش لنفسه فقط، ولا يقصر جهده على ما يعود عليه وحده بالمنفعة؛ بل يجب أن يكون كالنحلة: دائب العمل لمصلحة الآخرين؛ فما من شك أن النحل يأكل من الثمار والأزهار ليحفظ نفسه وحياته؛ ولكنه لا يكتفي بهذا القدر؛ بل يسعى جاهداً لتوفير القوت والشراب لغيره
وكذلك النمل: فإن تدبيره لمعايشه؛ يفوق تدبير كثير من المخلوقات؛ فإن مثابرته وكده، وتضحية بعضه في سبيل بعضه؛ كل ذلك سخره الله تعالى ليستفيد منه بنو الإنسان ما يجعلهم أهلاً للخلافة في هذه الأرض؛ ليعمروها بالخير والبر فتبارك الخالق البارىء المصور؛ الهادي للحيوان، والمنعم على الإنسان فليتدبر ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر آية ٦٩ من سورة النحل) ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ﴾ ما تركنا في اللوح المحفوظ ﴿مِن شَيْءٍ﴾ لم نثبته ونبينه ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة ﴿يُحْشَرُونَ﴾ يجمعون؛ فيقتص للجماء من القرناء؛ بل يقتص من بني الإنسان، ما فعله بالحيوان (انظر آية ٤٠ من سورة النبأ)
156
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ﴾ عن سماع الحق ﴿وَبُكْمٌ﴾ عن النطق به ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾ ظلمة الكفر، وظلمة الضلال، وظلمة العصيان، وظلمة الجهل (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿مَن يَشَإِ اللَّهُ﴾ أن يضلله ﴿يُضْلِلْهُ﴾ بما قدمت يداه، من عصيان مولاه؛ بأن كذب بآيات الله، وأصم أذنيه عن سماعها، وحبس لسانه عن النطق بها، وتمرغ في أوحال الجهل والخبال؛ فليس له جزاء سوى النردى في الضلال ﴿وَمَن يَشَأْ﴾ أن يهده ﴿يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق قويم؛ هو الإيمان، الذي هو طريق الجنة
-[١٥٧]- طريق النعيم المقيم
﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم﴾ هي عند بعضهم بمعنى: أرأيتم.
وعند الآخرين بمعنى: أخبروني ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾ الذي توعدكم به في الدنيا ﴿أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ﴾ القيامة ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾ ليكشف ما حل بكم. والمعنى: هل يوجد عندئذ من يستطيع أن يمنعكم من عذاب الله تعالى، أو أن يدفع عنكم بأسه
﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ منه وحده تطلبون ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ أي إن أراد أن يكشف ما نزل بكم ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ به في عبادته
﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ﴾ بالبؤس؛ وهو القحط والجوع ﴿وَالضَّرَّآءِ﴾ الضرر؛ وهو المرض، ونقصان الأنفس ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ إلينا فنكشف ما بهم
﴿فَلَوْلا﴾ فهلا ﴿إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ﴾ عذابنا ﴿تَضَرَّعُواْ﴾ تذللوا إلينا لنكشف عنهم ما نزل بهم؛ كعادتنا دائماً
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي تركوه فلم يعملوا به ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قوينا جسومهم، ووسعنا أرزاقهم، وبذلنا لهم المزيد من الخيرات والنعم؛ استدراجاً لهم ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ﴾ فرح بطر وكفران، لا فرح شكر وإيمان ﴿أَخَذْنَاهُمْ﴾ بالعذاب ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة. عن سيد الخلق صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ أي قانطون يائسون. يقال: أبلس من رحمة الله؛ إذا قنط؛ ومنه سمي إبليس. والإبلاس أيضاً: الانكسار والحزن
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ﴾ استؤصلوا عن آخرهم ﴿مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾
أي بما أخذه منكم ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ يعرضون
﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم﴾ أرأيتم ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً﴾ فجأة؛ بغير مقدمات، أو دلائل تدل على مجيئه؛ فقد تأتي النقمة من جهة الرحمة، وقد يحل القحط من جهة الرخاء؛ فقد يمطر السحاب ناراً، وقد تقذف الأرض حمماً ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ ظاهراً بمقدمات تدل على إتيانه. أو المراد: ﴿بَغْتَةً﴾ ليلاً، و ﴿جَهْرَةً﴾ نهاراً ﴿فَمَنْ آمَنَ﴾ ب الله ﴿وَأَصْلَحَ﴾ عمله
﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ﴾ فأملك التصرف فيها، والإعطاء منها ﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فأستكثر من الخير. وها هو الرسول الأعظم؛ سيد الخلق قاطبة يقول له ربه: أعلن على الملإ أنك لا تعلم الغيب؛ فا بال أقوام يدعون علم ما مضى، وما حضر، وما استقبل؟ وأعجب من ادعائهم هذا: أنهم يجدون من يصدقهم ويثق بأقوالهم؛ مع أنهم من كبار الدجاجلة، وقد جاء ذكرهم والتحذير منهم في شتى الأحاديث؛ فليحذر المؤمن من تمويههم وباطلهم؛ وليعلم أن الاستسلام لمثل أقوالهم ضرب من الكفر قال -صلى الله عليه وسلم-:
-[١٥٨]- «من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ ذهب بعضهم إلى تفضيل الملك على الرسول؛ بدليل هذه الآية. والآية الكريمة لا يؤخذ منها التفضيل؛ بل المراد نفي الأفعال الخارقة للعادة، والتي لا تتأتى إلا من الملائكة عليهم الصلاة والسلام ﴿إِنْ أَتَّبِعُ﴾ ما أتبع فيما أقول وأعمل ﴿إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ من ربي ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى﴾ الكافر ﴿وَالْبَصِيرُ﴾ المؤمن ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ في ذلك فتؤمنون
﴿وَأَنذِرْ بِهِ﴾ أي بالقرآن ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ﴾ غيره ﴿وَلِيُّ﴾ ينصرهم
﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾
يعبدونه ويتضرعون إليه ﴿بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ أي صبحاً ومساءاً ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ يطلبون مرضاته تعالى؛ ولا يبتغون شيئاً من أعراض الدنيا
﴿وَكَذلِكَ فَتَنَّا﴾ ابتلينا ﴿بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ ابتلينا الشريف بالوضيع، والقوي بالضعيف، والغني بالفقير، والسادة بالعبيد ﴿لِّيَقُولواْ﴾ أي ليقول الشرفاء، والأقوياء، والأغنياء؛ والسادة ﴿أَهَؤُلاءِ﴾ الوضعاء، والضعفاء، والفقراء والعبيد ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ﴾ بالعقل والإيمان والهداية؟ قال تعالى رداً على استفهامهم البادي على ألسنتهم تارة، وفي قلوبهم أخرى ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ فيوفقهم إلى مرضاته، ويسوقهم إلى جناته
﴿كِتَابَ﴾ قضى ﴿رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ تفضلاً منه على عبيده، وإحساناً منه لخلقه ومن رحمته تعالى ﴿أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد عمل السوء ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أعماله ﴿فَإِنَّهُ﴾ تعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لذنبه به يؤخذ من هذه الآية أن جناية العالم أكبر من جناية الجاهل، وأن من لوازم التوبة: إصلاح العمل
﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ نوضحها ونبينها ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ تظهر ﴿سَبِيلٍ﴾ طريق ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ الذين يصرون على ذنوبهم؛ فلا يتوبون منها، ولا يرجعون عنها
﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ أي إني على حجة واضحة ظاهرة من ربي؛ وهي القرآن قد ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ و ﴿مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ أي ليس عندي ما تطلبونه من العذاب؛ وذلك كقولهم ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ﴾
أي يقوله، ويتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره وفي قراءة ﴿يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ الحاكمين
﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذاب ﴿لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ بتعجيله وإنزاله بكم؛ وقسركم على الإيمان، ولكن الله تعالى وحده يعلم متى يعذب عباده، ومتى يعفو عنهم، ومتى يرحمهم ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ فيعذبهم وقت إرادته؛ لا وقت طلبهم
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ﴾ من ورق الشجر يعلم شكلها وحجمها ومقدارها، ومتى تسقط،
-[١٥٩]- وأين تسقط، وكم مرة تدور في الهواء، وكم مرة تتقلب على الأرض عند سقوطها ﴿وَلاَ حَبَّةٍ﴾ من الحبوب؛ كالبر والشعير والذرة والعدس ونحوه؛ إلا يعلم كيف تنبت، ومتى تنبت، ومن يجتنيها، ومن يأكلها؛ وقد تحمل الحبة من قطر إلى قطر، وتجوب البحار والأنهار؛ جرياً وراء آكلها؛ حتى تستقر في جوف من كتبت له، وزرعت من أجله؛ فتعالى الخالق الرازق، العليم الحكيم ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ مكتوب ﴿مُّبِينٌ﴾ بيّن واضح؛ وهو اللوح المحفوظ: كتب فيه لتعلمه الملائكة الموكلون بانفاذ أوامره تعالى
﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾ يميتكم عند نومكم؛ وذلك لأن النوم قرين الموت؛ إذ فيه تقبض روح النائم، وتسبح في ملكوت ربها؛ كما تقبض روح الميت تماماً؛ غير أن النائم لا تنفصل روحه من جسده انفصالاً تاماً؛ بل لا تزال متصلة به. أما الميت فتنفصل روحه من جسده انفصالاً تاماً فيريها الله تعالى ما شاء من نعمة أو نقمة؛ حتى يقضي تعالى بالقيامة فتتصل كل روح بجسدها الذي يعيده الله تعالى لها؛ فيلقى المؤمن من كرم الله تعالى وحسن وفادته ما ينسيه البؤس الذي لقيه في دنياه ويلقى الكافر من الذل والهوان والعذاب ما ينسيه النعيم الذي كان فيه ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ ما كسبتم فيه من الآثام. وجرح واجترح: بمعنى كسب؛ وذلك لأن الآثام لا ترتكب إلا بالجوارح ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أي في النهار؛ برد أرواحكم
﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى﴾ وهو انقضاء آجالكم (انظر آية ٤٢ من سورة الزمر) ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم عليه
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾ الذي لا يعجزه شيء ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ بالاستعلاء؛ فكلهم مخلوق وفق إرادته، وكلهم تحت سلطانه ورحمته؛ يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل وهو اللطيف الخبير ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ ملائكة حافظين ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي جاء وقته وأوانه ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ المكلفون بقبض أرواح الخلائق ﴿وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ فيما عهد إليهم به، فلا يتعجلون أحداً لم يحن حينه، ولا يتركون أحداً انقضى أجله
﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ﴾ سيدهم ومالكهم ﴿الْحَقِّ أَلاَ لَهُ﴾ وحده ﴿الْحُكْمُ﴾ بين عبيده؛ لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ قيل: يحاسب الناس جميعاً في مقدار حلب شاة
﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ مخاوفهما وأهوالهما، أو ظلمات البر: الصواعق. وظلمات البحر: الأمواج؛ وكلاهما يشتد في الغيم والليل ﴿تَدْعُونَهُ﴾ عند الوقوع في المهالك ﴿تَضَرُّعاً﴾ ابتهالاً وتذللاً؛ معلنين الضراعة ﴿وَخُفْيَةً﴾ قائلين ﴿لَّئِنْ أَنجَانَا﴾ ربنا ﴿مِنْ هَذِهِ﴾ المهالك والأهوال ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ له،
-[١٦٠]- المؤمنين به
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ يخلطكم فرقاً؛ على أهواء شتى متباينة ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ شدة بعض في القتال. لما نزل قوله تعالى ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾
قال «أعوذ بوجهك» فلما نزل ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قال: «أعوذ بوجهك» فلما نزل ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قال: «هذا أهون وأيسر». وقد ذهب بعض مفسري هذا العصر إلى أن قوله تعالى: ﴿عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ هو ما يلقى من الطائرات، من قنابل ومهلكات، وقوله: ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ هو الديناميت الذي يدسه الأعداء في باطن الأرض؛ يدل على ذلك ما بعده: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ ولم يقل ويذيقكم بأسه. وهو قول ظاهر التكلف، بادي التعسف. والمعنى المراد من الآية: ﴿عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ هو الصواعق - التي أهلك الله تعالى بها كثيراً من مكذبي الأمم قبلنا - وما تلقيه البراكين من الأحجار والحمم. وقوله: ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ هو الخسف والزلازل؛ أعاذنا الله تعالى من نقمته، بمنه ورحمته
﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ﴾ أنبأتكم به، وعذاب ذكرته لكم ﴿مُّسْتَقِرٌّ﴾ أي قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها؛ فيعلم صدق النبإ من كذبه ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ صدق ما أنبأتكم به؛ حين ينزل بواديكم العذاب، وتندمون؛ ولات ساعة مندم
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ يتكلمون فيها بما لا يليق؛ من النقد، أو الطعن، أو التكذيب ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ تركهم عند خوضهم، والإعراض عنهم ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ أي بعد التذكر
﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الخوض مع الخائضين ﴿مِنْ حِسَابِهِم﴾ من آثام الخائضين ﴿مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى﴾ أي ولكن قيامهم وعدم القعود معهم لتذكيرهم بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الخوض في آيات الله
﴿وَذَرِ﴾ اترك ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ﴾ الذي دعوا إليه، وكلفوا باتباعه، وهو الإسلام
﴿لَعِباً وَلَهْواً﴾ سخرية واستهزاء ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ خدعتهم بزخرفها وبهرجها؛ فانقادوا إليها، وتمسكوا بها؛ وتركوا الآخرة وما يوصل إليها وراء ظهورهم ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ عظ بالقرآن، أو بالدين ﴿أَن تُبْسَلَ﴾ مخافة أن تبسل. والبسل: الحبس، والفضيحة، والهلاك. والبسل: أيضاً الإعجال والشدة. وأصل الإبسال: المنع ﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾ وإن تقدم كل فداء؛ والعدل: المثل ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ﴾ حبسوا، أو فضحوا، أو أهلكوا ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ ماء شديد الحرارة
﴿قُلْ أَنَدْعُواْ﴾ أنعبد ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ نرجع كما كنا كفاراً ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ للإسلام وأنجانا من
-[١٦١]- عبادة الأصنام؛ ونكون ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ﴾ أضلته ﴿الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ﴾ بإغوائهم وتزيينهم؛ وصيرته ﴿حَيْرَانَ﴾ لا يدري ما هو فاعل، وماذا تكون عاقبته؟ ﴿لَهُ أَصْحَابٌ﴾ رفقة خيرون؛ يتمنون نجاته من زلته وتخليصه من سقطته ﴿يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى﴾ قائلين له ﴿ائْتِنَا﴾ أي ارجع عن غيك، وتعال في زمرتنا. فلا يجيبهم إلى ما يطلبونه، ولا يتبعهم إلى الهدى ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ﴾ الإسلام، والتوفيق إليه ﴿هُوَ الْهُدَى﴾ وما عداه فهو ضلال ووبال
﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ الله تعالى يوم القيامة لما يريد ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ما أراده من فناء الدنيا، وموت الخلائق؛ ثم إحيائهم ثانية، ثم محاسبتهم على ما عملوا، ثم إدخال أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار كل هذا يتم من غير جهد، ولا عناء؛ بل بقوله تعالى ﴿كُنَّ﴾ كما قال للسموات والأرض؛ كونا؛ فكانتا. ولآدم: كن؛ فكان. ولفظ
﴿كُنَّ﴾ هي في الواقع تقريب لأذهاننا؛ لنعلم أنه تعالى لا يعجزه مطلب، ولا يؤده شيء - مهما عظم - وفي الحقيقة أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان؛ بغير افتقار للفظ ﴿كُنَّ﴾ فتعالى القادر المقتدر ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ﴾ القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. وقيل: «الصور» جمع صورة؛ كبسر وبسرة
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ﴾ أي مثل ما أريناه كفر قومه، وأطلعناه على فساد عبادتهم للأصنام: نريه ﴿مَلَكُوتَ﴾ ملك، وسلطان. قيل: الملك: السلطان الظاهر، والملكوت: السلطان الباطن؛ فهو الملك التام؛ ظاهره وباطنه ﴿السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما حوتا من عجائب المخلوقات، وغرائب المصنوعات؛ ليستدل بذلك على وجودنا ووحدانيتنا ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ عياناً، كما أيقن بياناً
﴿فَلَمَّا جَنَّ﴾ أظلم ﴿عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً﴾ قيل: هو الزهرة، أو المشتري، أو هو أي كوكب من كواكب السماء؛ وهي تبلغ ملايين الملايين؛ بل لا يحيط بها عد العادين، وإحصاء المحصين؛ فلما رأى هذا الكوكب ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ لا يخفى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يؤمن بالكوكب وغيره إيماناً يقينياً؛ وما كان له أن يقر بالربوبية لغير الله - وقد اختاره للنبوة والرسالة والإمامة - وحاشا أن يتصف إبراهيم بمثل هذا وإنما قال ما قال، وفعل ما فعل: لفتاً لأنظار قومه إلى فساد ما يعبدونه، وتسفيهاً لأحلامهم ﴿فَلَمَّآ أَفَلَ﴾ غاب هذا الكوكب
﴿فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً﴾ طالعاً، أو مبتدئاً في الطلوع
﴿فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً﴾ طالعة.
-[١٦٢]- ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ﴾ من كل الكواكب التي ظننتها رباً ﴿فَلَمَّآ أَفَلَتْ﴾ غابت وامحى ضوؤها؛ وأثبت إبراهيم لقومه بذلك أن الله المعبود: يجب أن يكون أكبر من كل شيء، وأنه يجب ألا يطرأ عليه التغير، ولا يجوز له الأفول حينذاك انتقل إبراهيم من الاستدلال إلى التقرير، ومن الاستقراء إلى التوثيق والتثبت؛ وواجه قومه بما يجب أن يواجههم به؛ قائماً بالدعوة المطلوبة منه والمرسل بها ﴿قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ به الله تعالى في العبادة
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ اتجهت بكليتي ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ خلقهما؛ والفطر: الخلق من غير مثال سابق ﴿حَنِيفاً﴾ مائلا إلى الدين الحق؛ والحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام، الثابت عليه
﴿وَحَآجَّهُ﴾ جادله ﴿قَوْمِهِ﴾ فيما قاله ﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي﴾ أتجادلونني ﴿فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي﴾ إلى معرفته ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ في عبادته ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يبتليني بشيء من المكروه؛ فلا اعتراض لي عليه؛ إذ أنني ملكه وصنع يده؛ يفعل بي ما يشاء، ويحكم فيّ بما يريد
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ﴾ وهي لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع، ولا تعقل ﴿وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ﴾ وهو السميع البصير، اللطيف الخبير، المعطي المانع، النافع الضار ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً﴾ أي ما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ﴾ والاطمئنان للمصير: نحن الذين عبدنا الإله الحق، القادر القاهر الرازق، المحيي المميت؛ ولم نخف آلهتكم وأصنامكم؛ أم أنتم وقد عبدتم ما صنعتم بأيديكم من جماد لا يقدر على حماية نفسه؛ ولم تخشوا ربنا الذي خلقنا وهدانا، ورزقنا وكفانا ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ نحن أم أنتم ﴿أَحَقُّ بِالأَمْنِ﴾ والطمأنينة؟
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ﴾ يخلطوا
﴿إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ بشرك ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ أو هو الظلم نفسه ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ﴾ من العذاب في الدنيا، والأمن بالنجاة من النار في الآخرة
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ﴾ التي احتج بها إبراهيم على قومه بوجود الله تعالى ووحدانيته؛ بأن وجهنا نظره للكائنات، فرأى ما يحدث لها من تغيرات؛ وعلم أن الإله لا يتبدل، وأن الخالق لا يتغير؛ وتوصل بطريق الاستدلال العقلي إلى معرفة الله تعالى: الموجود في سائر الوجود ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ وصلوات الله وسلامه على سيدنا ومولانا إبراهيم: رأس الملة الحنيفية، وإمام أهل الحق، وجد نبينا محمد ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ في العلم والحكمة، وسمو الروح، وعلو الهمة
﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ﴾ أي من ذرية نوح عليه السلام.
﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى﴾ اللذين قتلهما اليهود عليهم اللعنة ﴿وَإِلْيَاسَ﴾ وهو غير ﴿إِلْيَاسَ﴾ جد النبي عليه الصلاة والسلام - بسكون الهمز - لأنه أول من ابتلى باليأس، وهو السل؛ سمي بذلك لليأس من شفائه
﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ اخترناهم واصطفيناهم ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ﴾ طريق
﴿ذلِكَ﴾ الهدى الذي أضفيناه على هؤلاء الأنبياء ﴿هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ المتقين ﴿لَحَبِطَ﴾ لبطل
﴿أُوْلَئِكَ﴾ الأنبياء المذكورون: هم ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي الكتب التي أنزلت عليهم ﴿وَالْحُكْمَ﴾ العلم النافع، وحسن الفصل في الحكومة ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا﴾ أي بالكتب، أو بالكتاب والحكم والنبوة ﴿هَؤُلاءِ﴾ الفسقة الظلمة الكفرة ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً﴾ من المؤمنين الطائعين المنيبين
﴿أُوْلَئِكَ﴾ الأنبياء الذين ذكرناهم: هم ﴿الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ أي اقتد يا محمد بهم، واصبر كصبرهم، وتحمل أذى قومك كما تحملوا أذى أقوامهم؛ و ﴿قُلْ﴾ لقومك ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي لا أسألكم على القرآن جعلاً ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ لسائر الجن والإنس
﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما عبدوه حق عبادته ﴿إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ كأنهم يريدون أن ينزل إليهم ربهم بنفسه، أو ينزل لهم بعض ملائكته؛ كسابقيهم في الكفر: الذين قالوا لرسولهم: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً﴾ وقالوا ﴿لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً﴾ ﴿قُلْ﴾ لهم: كيف تقولون ذلك وقد تحققتم من نزول الكتاب على بشر من قبلي؛ وإلا فقولوا لي ﴿مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾ أوراقاً مفرقة؛ أي كسائر الأوراق، وهو ليس كسائرها
-[١٦٤]- ﴿تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ تبدون منها ما يروق لكم من الأحكام، وتخفون كثيراً مما يثقل عليكم؛ وهو خطاب لليهود ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ جواب لقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى﴾ ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ دعهم واتركهم ﴿فِي خَوْضِهِمْ﴾ باطلهم الذي يخوضون فيه
﴿وَهَذَا كِتَابٌ﴾ القرآن ﴿أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ كثير المنافع والفوائد ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ما تقدمه من الكتب ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ مكة شرفها الله تعالى، وزادها فضلاً وسميت «أم القرى» لأن الناس يؤمونها، وهي قبلة أهل القرى، وأعظمها شأناً ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ كل الدنيا ومن فيها من العقلاء؛ وذلك لأن ما حول مكة: هي الجهات الأربع التي يتكون منها كل الأرض ومن عليها ﴿وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ المحافظة على الصلاة: ملازمتها في أوقاتها
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ الكافرون ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ أهواله وسكراته ﴿وَالْمَلائِكَةُ﴾ الموكلون بقبض أرواحهم ﴿بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾ بالتعذيب؛ ويقولون لهم ﴿أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ﴾ أرواحكم، أي خلصوها من عذابنا إن أمكنكم، أو هو كناية عن صعوبة خروج أرواح الكافرين؛ وقد ورد أن أرواح الكافرين تنزع انتزاعاً شديداً، وتسل من جسومهم، كما يسل الحرير من الشوك؛ أما روح المؤمن فتنشط للخروج فرحاً بلقاء ربها أو يقال لهم هذا القول يوم القيامة: ﴿أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ﴾ من النار إن استطعتم؛ يدل عليه ما بعده ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الهوان
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾ منفردين بلا مال ولا معين ﴿وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ﴾ ملكناكم في الدنيا: من الأموال والنعم.
-[١٦٥]- ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ﴾ آلهتكم؛ وقد كنتم تقولون عنها: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ﴾ أي في استحقاق عبادتكم ﴿شُرَكَآءَ﴾ لله ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ أي تشتت جمعكم ﴿وَضَلَّ﴾ غاب ﴿عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ في الدنيا من شفاعتها لكم
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ﴾ عن النبات ﴿وَالنَّوَى﴾ عن النخل ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أي النبات الغض من الحب اليابس ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ الحب اليابس من النبات، أو الإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان، أو المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيف تصرفون
﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ خالق نور النهار ﴿وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً﴾ تسكن فيه سائر المخلوقات، وتهدأ مما أصابها من تعب النهار ووصبه جعل ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً﴾ أي جعلهما تعالى - فضلاً عن كونهما للإنارة والنفع العام - فهما لمعرفة الحساب الزمني؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ هي آدم عليه السلام ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ المستقر: رحم المرأة. والمستودع: صلب الرجل. أو المستقر: من خلق من الخلائق؛ فاستقر في الأرض، والمستودع: من لم يخلق بعد. وزعم بعضهم أن المستقر: الرحم. والمستودع: القبر. وهو ليس بشيء؛ إذ أن المقام مقام إنشاء: «إن الله فالق الحب والنوى. فالق الإصباح وهو الذي أنشأكم.
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه» ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً﴾ أي أخضر ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ﴾ أي من الخضر ﴿حَبّاً مُّتَرَاكِباً﴾ متراكماً؛ بعضه فوق بعض؛ وهو السنبل وما يشبهه ﴿قِنْوَانٌ﴾ جمع قنو؛ وهو العذق؛ وهو من التمر: كالعنقود من العنب ﴿دَانِيَةٌ﴾ سهلة الجنى والمنال ﴿وَجَنَّاتٍ﴾ حدائق ﴿مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ (انظر آية ٢٦٦ من سورة البقرة) ﴿مُشْتَبِهاً﴾ في الشجر واللون ﴿وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ في الطعم؛ فمنه الحلو والمز والحامض، وجميع ذلك ﴿يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ﴾ فجلَّ الصانع المبدع
-[١٦٦]- ﴿انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ﴾ كيف يكون فجاً؛ لا طعم فيه، ولا لون له، ولا رائحة انظروا بعد ذلك إلى نضجه؛ بعد أن تتحول مرارة الثمرة إلى حلاوة، ويابسها إلى طراوة، وخضرتها إلى احمرار أو اصفرار؛ حتى تلذ في الطعم، وتلين في القضم، وتسهل في الهضم؛ وهذا كله ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ﴾ أي وجعلوا الجن شركاءلله في العبادة؛ وقد يراد بالجن: الشياطين. وذلك باتباعهم فيما يوحون به إليهم، ويوسوسون ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ أي وقد خلقهم ﴿وَخَرَقُواْ لَهُ﴾ أي اختلقوا ﴿بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ منهم بحقيقة ما يقولون. واختلاقهم البنين والبنات: قولهم: الملائكة بناتالله. وقول النصارى: عيسى ابن الله، وقول اليهود: عزير ابن الله ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)} مبدعهما
﴿إِنِّي﴾ كيف ﴿يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ﴾ زوجة
﴿ذلِكُمْ﴾ الموصوف بهذه الصفات ﴿اللَّهُ رَبُّكُمُ﴾ الذي خلقكم
﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ أي لا تراه الأبصار، ولا تحيط به ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ أي يرى أصحاب الأبصار، ويحيط بسائر المرئيات ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ بعباده ﴿الْخَبِيرُ﴾ بدقائق الأمور
﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ﴾ جمع بصيرة؛ وهي نور القلب. أي جاءكم من الوحي والآيات؛ ما هو للقلوب بمنزلة البصائر ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ آمن وانقى ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ لأن ثواب إيمانه وتقواه عائد إليها ﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾ كفر ﴿فَعَلَيْهَا﴾ لأن إثم كفره عائد عليها أيضاً
﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ أي قرأت الكتب السابقة ونقلت عنها ما تتلوه علينا اليوم. يقولون هذا وهم يعلمون أنه عليه الصلاة والسَّلام أمي لا يقرأ ولا يكتب
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾
﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ﴾ أي لو أراد تعالى أن يلزمهم بالإيمان ويجبرهم على الطاعة لفعل؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعلهم أحراراً مستقلين في اختيار ما يشاءون حتى يكونوا مسؤولين عن عملهم، مؤاخذين على جرمهم
﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً﴾ اعتداءً ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ منهم بما يجبلله تعالى ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من أمم الكفار ﴿عَمَلَهُمْ﴾ أي زيناه في زعمهم؛ حيث قالوا: ﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ وهو كقوله: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾
﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ غاية اجتهادهم في الأيمان ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ معجزة ﴿لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ﴾ لا ينزلها بإرادتكم أو إرادتي؛ بل ينزلها متى شاء، وحيث شاء ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فقد أنزل الله تعالى على الأمم الآيات تلو الآيات، والمعجزات تلو المعجزات؛ فلم يؤمنوا بها؛ بل ازدادوا كفراً وعناداً؛ وقالوا: هذا سحر مبين
﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ قلوبهم؛ فلا يؤمنوا كما آمن الناس ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فلا يروا الحقائق التي يراها المؤمنون؛ وذلك عقوبة لهم ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ حين ظهرت آياته البينات، وحججه الظاهرات (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء) ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ ندعهم ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يترددون متحيرين
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ﴾
كما قالوا: ﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ﴾ ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ كما قالوا ﴿فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا﴾ ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾ جمع قبيل؛ أي أفواجاً. كما قالوا ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً﴾ أي إنا لو أجبناهم لما سألوا، وحققنا لهم كل ما اقترحوا ﴿مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ إيمانهم؛ فليلجأوا إلى ساحته، وليهرعوا إلى طاعته
﴿وَكَذلِكَ﴾ كما أن لك أعداء من المشركين ﴿جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾ ممن سبقك ﴿عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ يزين بعضهم إلى بعض: فتزين شياطين الجن لشياطين الإنس، وتزين شياطين الإنس للإنس بما يوحون به من شرور وفجور وقد قدم تعالى شياطين الإنس على شياطين الجن؛ لأنهم على الشر أقدر؛ وعلى ما يورد الجحيم أطوع؛ وشيطان الجن - مهما علت مرتبته؛ وسمت مكانته؛ في الشر والتزيين والتغرير - فإنك بالاستعاذة منه تمحقه، وبتلاوة القرآن تهلكه أما شيطان الإنس فإنك لو قرأت عليه ما بين دفتي المصحف؛ لما تخلصت منه، ولا ابتعدت عنه إلا إن أعاذك منه اللطيف الخبير، وأنجاك من كيده وشروره وقد قال: «قرناء السوء شر من شياطين الجن» ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ ما زينوه من قولهم ووسوستهم في الشر، وإغرائهم على المعاصي ﴿غُرُوراً﴾ خداعاً وباطلاً ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله لمنعهم من الإيحاء والوسوسة؛ ولكن الله تركهم امتحاناً لعباده؛ ليعلم أصحاب الإيمان الراسخ؛ المقيمين على العهد، الحافظين للود ﴿فَذَرْهُمْ﴾ دعهم واتركهم
﴿وَلِتَصْغَى﴾ تميل وتتجه ﴿إِلَيْهِ﴾ إلى ما توحى به شياطين الإنس والجن ﴿أَفْئِدَةُ﴾ قلوب ﴿الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ أما من آمن بها؛ فإنه لا يصغي قلبه، ولا يلتفت إلى ما توحي به الشياطين، ولا يرضاه، ولا يقترف ما يغضب مولاه
﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾ يرضوا بما أوحت به الشياطين ﴿وَلِيَقْتَرِفُواْ﴾ ليكتسبوا. والاقتراف: ارتكاب الإثم
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿مُفَصَّلاً﴾ مبيناً محكماً ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ هم من آمن من اليهود والنصارى ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي القرآن ﴿مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ وذلك لما لمسوه فيه من الصدق، ولما علموه عنه من كتبهم السابقة «التوراة والإنجيل» ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ﴾ أيها السامع ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكين
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ القرآن ﴿صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ كل ما فيه من قصص وأخبار: مشتمل على الصدق، وكل ما فيه من أوامر ونواه، وقضاء وأحكام: مشتمل على العدل ﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أي لا أصدق مما جاء فيه فيتبع؛ ولا أعدل من أوامره فيطاع؛ بل كل ما فيه واجب الطاعة والاتباع عقلاً؛ فلا يصح تركه إلى أصدق منه، ولا يجوز تبديله بما هو أعدل منه ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ وهو جل شأنه أصدق الصادقين وأعدل العادلين ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالكم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالكم
﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي يضلوك عن الطريق المستقيم؛ الموصل إليه تعالى. وهذه الآية دليل على ما نراه من ضلال الغالبية العظمى وإضلالها وقد ورد ذلك الخطاب موجهاً إلى الأمة الإسلامية؛ في شخص إمامها ورسولها صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ وقد علم تعالى أنه لن يطيع أحداً من الضالين المضلين، وأنه لا سبيل لأحد منهم عليه - وقد وقاه الله تعالى كيد الكائدين، ووسوسة الشياطين، وإضلال المضلين - ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ أي ما يتبع هؤلاء المضلون ﴿إِلاَّ الظَّنَّ﴾ وهو ظنهم بأن آباءهم كانوا على حق، وهم على آثارهم مقتدون
﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ يكذبون. والخرص: الكذب، والتخمين
﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ﴾ بيَّن ﴿لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ وهو قوله تعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ من ذلك المحرم؛ فهو حلال أيضاً عند المجاعة المتلفة؛ بشرط عدم البغي والاعتداء ﴿وَإِنَّ كَثِيراً﴾ من المضلين ﴿لَّيُضِلُّونَ﴾ الناس عن الحق، وعن كل ما هو حلال مباح ﴿بِأَهْوَائِهِم﴾ و ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ منهم بصحة ما يقولون؛ بل يضلون بسبب هواهم وميلهم؛ بغير استناد منهم إلى علم صحيح: كمن يحل بعض الشراب المحرم لميله إليه، ويحل الحشيش لتعوده عليه، أو كمن يفتي بغير علم ولا سند من كتاب أو سنة
﴿وَذَرُواْ﴾ اتركوا ﴿ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ علانيته: كالقتل والسب، وسره: كالزنا والغيبة ﴿سَيُجْزَوْنَ﴾ في الآخرة ﴿بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾ يكتسبون من الإثم
﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ الفسق: العصيان والترك لأمر الله تعالى ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ﴾ يوسوسون ﴿إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ من المشركين ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ فيما أحله الله تعالى وحرمه وذلك بقولهم - في حل الميتة - كيف تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتلهالله؟
﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ أي كافراً فهديناه للإيمان؛ الذي هو حياة القلوب والنفوس ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً﴾ هو نور الإيمان واليقين؛ يهدي به الله تعالى أولياءه الصالحين أو هو نور العلم والمعرفة ﴿يَمْشِي بِهِ﴾ أي بهذا النور ﴿فِي النَّاسِ﴾ يهديهم بهديه، ويرشدهم إلى ما ينجيهم في دنياهم وأخراهم ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾
ظلمات الكفر والجهل والخطيئة. (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ أي من هذه الظلمات. وكيف يخرج منها وهو لم يحاول الخروج، ولم يسع إليه، ولم يفكر فيه؟ ﴿كَذلِكَ﴾ كما زين للمؤمنين إيمانهم ﴿زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وقد زين الله تعالى للمؤمنين أعمالهم، وللكافرين أعمالهم؛ بعد عرض الإيمان عليهم جميعاً: فآمن المؤمنون، وكفر الكافرون يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ فترى أن التزيين قد حصل بعد عدم الإيمان
﴿وَكَذلِكَ﴾ كما جعلنا في مكة صناديد قريش يمكرون فيها ﴿جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا﴾ أي جعلنا أكابرها مجرمين ﴿لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ بالصد عن الإيمان، وإفشاء الفجور والفساد، والابتعاد عن طرق السداد والرشاد ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ لأن وبال مكرهم عائد عليهم
﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ دالة على صدق الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ﴾ لك ﴿حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أرادوا لعنهم الله أن يكونوا مثل أنبياء الله تعالى ورسله؛ فيمدهم بالآيات، ويخصهم بالمعجزات ونظيره قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾ وذلك لمزيد كفرهم، وبالغ كبرهم، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ فيختار لها الأبرار الأطهار، لا الكفار الفجار؛ ويعد لحمل شريعته، صفوة خليقته فكلهم - عليهم الصلاة والسلام - من خيرة الأنام فكيف يختار معهم بعض الكفرة اللئام؛ الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وعبدوا من دونه الطواغيت، واختاروا العصيان على الإيمان، وعصوا الرحمن وأطاعوا الشيطان فهيهات هيهات لما يقولون ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ﴾ ذل وهوان.
﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾
أي يزيده على ضلاله الذي اختاره لنفسه وارتضاه ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ الحرج: شدة الضيق والانقباض ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ﴾ أي يتصعد فيها؛ وهو كناية عن بعد منال الإيمان، وعن تكلفه ما لا يطيقه، أو هو كناية عن الضيق الذي يأخذ بتلابيبه من كل جانب ﴿كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ﴾ العقاب والغضب ﴿عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بالله، ولا يصدقون برسله
﴿وَهَذَا﴾ الإيمان ﴿صِرَاطُ رَبِّكَ﴾ طريقه: الذي رسمه لعباده، وارتضاه لهم؛ فمن حاد عنه: حاد بإرادته واختياره، ومن سلكه: فقد سلكه بإرادته وتوفيق ربه له
﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ﴾ الجنة: دار الأمن والسعادة والسلامة
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ المراد بهم الشياطين ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ﴾ أي أضللتم كثيراً منهم بإغوائهم ﴿وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم﴾ الذين أطاعوهم ﴿مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ في الدنيا: استمتع الجن بطاعة الإنس وانقيادهم لهم، واستمتع الإنس بالشهوات التي زينتها لهم الشياطين ﴿وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ القيامة التي جعلتها موعداً لنا، أو الموت الذي جعلته نهاية لحياتنا واستمتاعنا
﴿وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً﴾ أي نجعلهم أولياء بعض؛ عقوبة لهم على ظلمهم، أو نسلط بعضهم على بعض فيهلكه ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ يفعلون من المعاصي
﴿وَغَرَّتْهُمُ﴾ خدعتهم
﴿ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ منه لها؛ فتعالى الله عن الظلم وإنما هم ظلموا أنفسهم باتباع الهوى والشيطان، وانشغالهم بالحياة الدنيا وزخرفها، عن الآخرة ونعيمها ﴿وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ بدون رسول أو نذير
﴿وَلِكُلِّ﴾ من الجن والإنس ﴿دَرَجَاتٌ﴾
في الجنة، أو دركات في النار ﴿مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ من خير أو شر (انظر آية ٣١ من سورة الأحقاف)
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ﴾ يعطي من يشاء إعطاءه، ويرزق من يشاء رزقه بغير حساب؛ ورزقه تعالى ما له من نفاد وهو جل شأنه ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ الواسعة قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ جعلنا الله تعالى ممن وسعته رحمته، وتناولته مغفرته، وشملته عنايته ورعايته ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ بالإهلاك أو بالموت ﴿وَيَسْتَخْلِفُ﴾ يخلق من يخلفكم على هذه الأرض؛ خلفاً آخر أطوع منكم
﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ﴾ به؛ من العذاب والقيامة ﴿لآتٍ﴾ لا محالة ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين عذابنا إذا أنزلناه
﴿قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أي اعملوا على تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم في الكفر ﴿إِنَّي عَامِلٌ﴾ ما في استطاعتي من طاعة لربي، وإيمان به ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ غداً يوم القيامة؛ عند نزول نقمة الله ﴿مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أي العاقبة المحمودة في الآخرة
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ أي مما خلق. ذرأ الله الخلق: خلقهم. وذرأ الشيء: كثره ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾ الزرع ﴿وَالأَنْعَامُ﴾ الإبل والشاء؛ وتطلق على الإبل خاصة ﴿نَصِيباً﴾ قسماً وجزءاً ﴿فَقَالُواْ هَذَآ﴾ النصيب ﴿للَّهِ بِزَعْمِهِمْ﴾ وجعلوا منها أيضاً نصيباً، وقالوا: ﴿وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ يعنون الأصنام ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ﴾ قيل: كان إذا اختلط ما جعلوه لله بما جعلوه لشركائهم: تركوه، وإذا اختلط ما جعلوه لشركائهم بما جعلوهلله: أخذوه. وقد يكون المعنى: أن الله تعالى لا يقبل منهم شيئاً؛ فما جعلوه له فهو مردود عليهم، وغير مقبول منهم، وواصل إلى شركائهم؛ فلينتظروا ثوابه منهم لا من الله
﴿وَكَذلِكَ﴾ كما زين لهؤلاء المشركين أن جعلو الله نصيباً ولأصنامهم نصيباً ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ﴾ بالوأد: زين لهم ذلك ﴿شُرَكَآؤُهُمْ﴾ من الشياطين؛ وسماهم تعالى شركاء: لأنهم يتبعونهم ويستمعون إليهم؛ كطاعتهم واستماعهملله؛ فهم بذلك - في نظرهم - شركاءلله في العبادة؛ أو المراد بالشركاء: أصدقاء السوء؛ الذين يزينون الكفر والمعاصي؛ فمنهم من يزين الوأد خشية الفقر، ومنهم من يزينه خشية فضيحة الزنا وهوان السبي زينوا ذلك لهم
-[١٧٢]- ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ ليهلكوهم بهذا الجرم والإثم ﴿وَلِيَلْبِسُواْ﴾ ليخلطوا ﴿عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ فلا يعرفون ما أحله الله تعالى مما حرمه ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾ ولكنه تعالى تركهم وشأنهم: خلق لهم عقولاً يفكرون بها، وبعث لهم رسلاً يهدونهم إلى ما ينفعهم، وأنزل عليهم كتباً يستضيئون بنورها، ويسيرون على هديها، وأبان لهم فيها ما يضرهم وما ينفعهم ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ﴿فَذَرْهُمْ﴾ دعهم يا محمد واتركهم ﴿وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ وما يختلقون من باطلهم من جملة افترائهم وكفرهم أن ﴿الأَنْعَامِ﴾ على الأنعام والحرث التي وهبها الله تعالى لهم، وأحلها لمن شاء من عباده
﴿هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ حرام ﴿لاَّ يَطْعَمُهَآ﴾ لا يأكلها ﴿إِلاَّ مَن نَّشَآءُ﴾ من خدمة الأوثان؛ وسدنة الأصنام ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ بباطلهم وكذبهم. والزعم: القول الحق، أو الباطل والكذب. وأكثر ما يستعمل في الباطل وفيما يشك فيه ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ أي حرم ركوبها؛ كالسائبة والبحيرة والحامي ﴿سَيَجْزِيهِم﴾ ربهم ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ عليه من أحكام لم ينزلها، وشرائع لم يشرعها
﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ﴾
من الأجنة والألبان ﴿خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ قيل: هي البحائر والسوائب؛ كانوا يخصون الذكران وحدهم بشرب ألبانها وأكل أولادها ﴿وَإِن يَكُنْ﴾ الجنين ﴿مَّيْتَةً فَهُمْ﴾ نساءً ورجالاً ﴿فِيهِ شُرَكَآءُ﴾ يأكلونه جميعاً ﴿سَيَجْزِيهِم﴾ ربهم ﴿وَصْفَهُمْ﴾ أي سيجزيهم عقوبة كذبهم وافترائهم ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم﴾ خلق لكم وأبدع ﴿جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ﴾ حدائق ذات أفنان وظلال ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ﴾ أي ثمره الذي يؤكل؛ يختلف في الطعم؛ فهذا حلو، وهذا حامض، وهذا من ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً﴾ في الخلقة والشكل والأغصان والأوراق ﴿وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ في الطعم ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ﴾ أي زكاته ﴿يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ بدون تأخير؛ فقد وجب حق الفقير بالحصاد. وقيل: المراد بحقه: التصدق من الحب والثمار على الفقراء؛ وهو حق ثابت: مأمور به، مثاب عليه، معاقب على تركه وهل يجوز لك - أيها المؤمن الكريم - أن تنعم وعيالك برزقالله؛ دون أن تؤتي منه عيال الله؟ وهل يجوز لك - أيها المؤمن الرحيم - أن تبيت مطمئن النفس، ممتلىء البطن؛ والفقير بجوارك طاوي الكشح، متطلع إليك، حانق عليك؟
وقد تغالى بعض الصوفية؛ فقال: إن لكل نعمة حقاً، وأن مرتب الموظف يستحق حقه يوم قبضه؛ الذي هو «يوم حصاده».
-[١٧٣]- ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ في حبس الزكاة عن أربابها، والحقوق عن أصحابها؛ إذ أن هذا هو منتهى الإسراف في البخل أو أريد بالإسراف: الخطأ في العطية؛ بأن يعطي من لا يستحق. وزعم قوم من المفسرين - أثابهم الله تعالى - أن الإسراف: مجاوزة القدر في الإعطاء؛ حتى يجحف صاحب المال بنفسه. وهو قول غير مستساغ؛ إذ أنه لا سرف في الخير وقد فاتهم أن الله تعالى أعقب ذلك بقوله ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ وما من أحد يؤمن ب الله واليوم الآخر يستطيع أن يقول: إن الباذل ماله في سبيل مرضاتالله؛ مستوجب لغضبالله، والحرمان من محبته؛ وهو جل شأنه القائل: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾.
يقول الله تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ أي هو الذي أنشأ كل هذا بقدرته وعظمته؛ لا أنتم بحرثكم الأرض، ووضعكم البذر؛ ولو شاء لما أنشأها، ولجعلها قاحلة مجدبة؛ فالفضل له وحده لا لكم وهو جل شأنه مالكها ومالككم فما لكم إذا قيل لكم: ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ﴾ أكلتم. وإذا قيل لكم: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ تغاضيتم وأعرضتم؟ فلا تبكوا إذا انتزعها منكم واستخلف عليها قوماً غيركم؛ يطيعون أمره، ويجتنبون نهيه ولا تقولوا عند حضور آجالكم ﴿رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ ولو أخركم لعدتم لما نهيتم عنه، ولبخلتم بالخيرات، وأسرفتم في الملذات ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
فانظر - يا رعاك الله - كيف عبر تعالى بقوله: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وتأمل واعلم أن للمال حقاً في أعناقنا؛ يأمرنا الله تعالى بأدائه لأربابه وانظر لمبلغ هذا النظام، الذي وضعه خالق الأنام؛ ومدى إنصافه وحسنه، والفائدة التي تعود على المعطى قبل العاطي، وعلى المنفق قبل المنفق عليه: نتملك الأرض فتنبت لنا من خيراتها، بغير حول لنا ولا قوة؛ بل بقدرته تعالى وإرادته ويأمرنا الرزاق الوهاب لسائر هذه النعم أن نعطي الفقير حقه فيها - ولو شاء لجعله المالك لها، ونحن الفقراء إلى قليل العطاء - فنأبى إلا أن نشح ونبخل؛ فنورد أنفسنا النيران، ويحل بوادينا الخسران فانظر بربك أيها المنصف لو أن الخلائق عملت بإرشاد الخالق
-[١٧٤]- وأخرجت ما في ذمتها من الصدقات والزكاة؛ لما بقي على ظهرها إنسان يشتكي الفقر والحرمان؛ ولحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق وإذا نظرت - بعين التدبر - إلى معظم الجرائم لوجدت أن السبب الأول؛ بل السبب الأوحد فيها هو المال والمال وحده: يتمتع الغني بسائر ضروب التمتع، ويكسر قلب الفقير بما يظهره من نفيس الملبس، ولذيذ المطعم، وفاره المركب فيدفعه الفقر، والحقد، والجوع إلى ارتكاب السرقة، والنهب، والسلب، والقتل ويعلم الله تعالى وحده أن تبعة هذه الآثام لا تقع على الجاني؛ بل على المجنى عليه فليبادر من يتقي الله ويخشاه، ويحذر عقاب آخرته وشقاء دنياه؛ وليخرج ما في عنقه من زكاة ماله، وصدقات أوجبها عليه ربه؛ عن طيب خاطر وصفاء نية؛ ففي هذا النعيم الأكبر، والخير الأوفر
﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً﴾ أي تتخذونها لحمل الأثقال أي تتخذون من أصوافها وأوبارها ما تفترشونه. وقيل: الحمولة: الأنعام الكبيرة التي يحمل عليها. والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد. وقيل: الحمولة: ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير وغير ذلك. والفرش: الغنم والمعز
﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ هو بيان للحمولة والفرش؛ أي ومن الأنعام أنشأ تعالى لكم ثمانية أزواج ﴿مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ زوجين اثنين؛ يريد الذكر والأنثى؛ فذلك أربعة أزواج؛ لأن كل واحد من الاثنين زوج للآخر؛ والواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره من جنسه: سمي كل واحد منهما زوجاً، وهما معاً زوجان؛ يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾ ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما حرموا - من الحرث والأنعام - اتباعاً للشيطان ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ من الضأن والمعز ﴿حَرَّمَ﴾ ربكم ﴿أَمِ الأُنثَيَيْنِ﴾ منهما ﴿مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ وذلك لأنهم - لعنهم الله تعالى - كانوا يحرمون الذكران تارة، والإناث تارة، وما اشتملت عليه أرحامهما تارة أخرى؛ وكذلك كان شأنهم بالنسبة للإبل والبقر
﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ حضوراً مشاهدين ﴿إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ التحريم الذي تزعمونه
﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ أي على آكل يأكله ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ قذر ونجس. والرجس: كل عمل يؤدي إلى العذاب والعقاب ﴿أَوْ فِسْقاً﴾ الفسق: الفجور، والخروج عن الطاعة ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾
-[١٧٥]- أي ذكر اسم غير الله تعالى عليه؛ وسمي «فسقاً» لأنه خروج عن طاعة الله تعالى، وإعلاء لاسم غير اسمه، في موضع يجب ذكر اسمه تعالى فيه؛ وقد كانوا في الجاهلية يذبحون على النصب، ويذكرون اسم آلهتهم. ويقاس عليه ما يفعله الآن جهلة العوام من تسمية الأولياء عند الذبح؛ خاصة في الموالد التي يقيمونها
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى أكل شيء من هذه المحرمات؛ كأن أوشك على الهلاك جوعاً، ولم يجد ما يتبلغ به سوى ميتة، أو لحم خنزير، أو دماً، أو ذبيحة أُهل لغير الله بها؛ فله أن يتناول منها القدر الذي يسد رمقه فحسب؛ ولا يزيد فيبلغ بما يأكل حد الشبع؛ وبشرط أن يكون ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على أحد من جماعة المسلمين: كأن يكون قاطعاً للطريق، أو مبتغياً لإثم؛ وأوشك من جوعه على التلف؛ فإنه ليس له أن يتمتع برخصة الله تعالى؛ إلا أن يتوب وينيب؛ كما أنه ليس له أن يأخذ برخصة الإفطار في رمضان وقصر الصلاة؛ في حالة السفر ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ معتد على آخر؛ بأن يختطف قوته من هذا المأكول الحرام المحلل. أو هو ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ متلذذ بما يأكل؛ بغير ضرورة ملحة ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ متجاوز حاجته التي تدفع عنه الموت
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ﴾ اليهود ﴿حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وهو كل ما لم يكن منفرج الأصابع من البهائم والطير: كالإبل، والأوز والبط، وأشباهها ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ﴾ ظاهر الآية يدل على أن التحريم تناول سائر شحومهما ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ من الشحم ﴿أَوِ الْحَوَايَآ﴾ الأمعاء؛ أي ما حملته الأمعاء من الشحم ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ﴾ من الشحم ﴿بِعَظْمٍ﴾ فجميع ذلك مباح. وقيل: إنما حرم الله تعالى الثروب خاصة؛ وهي الشحم الرقيق يكون على الكرش والأمعاء ﴿ذلِكَ﴾ التحريم ﴿جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ﴾ أي بسبب بغيهم وكفرهم
﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ لا حد لها، تسع كل شيء ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ عذابه؛ رغم رحمته الواسعة ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ فإن من تمام رحمته تعالى الانتصاف من المجرمين، والانتقام من الظالمين للمظلومين
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ﴾
أشرك فهو راض عن هذا الشرك؛ ولو لم يرضه ﴿مَآ أَشْرَكْنَا﴾ وهي حجة الكافرين والمعاندين في سائر العصور: ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا﴾ ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ ﴿لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ يحاجون بذلك ربهم؛ وحجته تعالى قائمة عليهم؛ وله تعالى الحجة البالغة: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ﴿كَذلِكَ﴾ أي مثل ذلك التكذيب ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وقالوا مثل قولهم ﴿حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ عذابنا ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾ بأن الله تعالى راضٍ عن
-[١٧٦]- شرككم وشرك آبائكم؟ ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ تكذبون
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ على الناس جميعاً؛ حيث لا حجة لأحد عليه؛ وحجته تعالى تقطع كل المعاذير، وتزيل سائر الشكوك: ألم يرسل لعباده الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ ويسلكها في قلوب الكافرين لعلهم يؤمنون؟ فأي عذر بعد ذلك للجاحد المعاند؟ ألم يبذل له خالقه كل السبل الموصلة إلى معرفته فأعرض عنها واتبع هواه؟ ألم يقم له الدليل تلو الدليل على قدرته ووحدانيته فأبى إلا ضلالاً وخبالاً؟ وهل بعد هذا تقوم له حجة بقوله ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ لقد قال العظيم الكريم ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ فكيف يريد ما لا يرضى؟ بل كيف يعذب على ما أراد؟ فيا أيها الكافر الفاجر؛ المشرك بربه، المجترىء على خالقه: لقد هداك ربك إلى معرفته فأنكرت، ودعاك إلى رحمته فأعرضت، وسلك الإيمان في قلبك فأبيت وبعد ذلك تريد أن تتستر وراء منطق الجهال، وقول الضلال: ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ ونسيت قول الحكيم العليم: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ (
انظر آيتي ٢٠٠ من سورة الشعراء، و٢٨ من سورة التكوير)
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ﴾ أي هاتوا شهداءكم ﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ أي فإن شهد شهداؤهم زوراً بأن الله تعالى حرم ما حرموه من حرثهم وأنعامهم ﴿فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ أي فلا تجالسهم ولا تخاطبهم ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ لأنهم تركوا الحق الذي أنزل إليك، واتبعوا أهواءهم ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي يجعلون له عدلاً. والعدل: المثل
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ من فقر ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ وخوف الإملاق: كفر بالخلاق فقد خلق الله تعالى الخلق وتكفل بأرزاقهم - ولو كانوا في مهمه قفر - ألا ترى أنه تعالى يرزق الحشرة داخل الصخر الأصم؟ ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ﴾ الكبائر ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ كالقتل، والسب ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ كالزنا والغيبة. وقيل: أريد به سر الزنا وعلانيته ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ الذي يوجب قتلها؛ كقتل القاتل، أو القتل دفاعاً عن النفس، وأمثال ذلك
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وهي أن تستثمروه له، وأن تؤدوا زكاته ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ بلوغ الأشد: هو قوة البدن، وزيادة المعرفة بالتجربة؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. وهو أيضاً بلوغ الحلم ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا نكلفها إلا طاقتها - في إيفاء الكيل والوزن - وقد جاء ذلك الضابط خشية التحرج والتأثم؛ فيضطر البائع إلى زيادة المكيل والموزون، ويضطر المشتري بدوره إلى أخذ ما يقل عن استحقاقه
-[١٧٧]- فيهما؛ وبذلك تضيق صدورهما؛ لذلك أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان في حدود الطاقة البشرية؛ بغير ما ظلم ولا غبن ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ﴾
أي إذا حكمتم بين الناس، أو أديتم شهادة؛ فاحكموا بينهم وأدوا الشهادة بالعدل ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ المحكوم عليه أو المشهود ضده ﴿ذَا قُرْبَى﴾ وذلك عهد الله تعالى عهد به إليكم ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ﴾ لتؤجروا، وتذوقوا حلاوة الطاعة وعزها، وتتجنبوا مرارة المعصية وذلها (انظر آية ١٤ من سورة لقمان)
﴿وَأَنَّ هَذَا﴾ الذي أمرتكم به، وعاهدتكم عليه؛ من عدم الإشراك بي، وبالإحسان إلى الوالدين، وبالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، وعن قربان الفواحش ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ وعن قتل النفس ﴿إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ وعن قربان مال اليتيم ﴿إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وبالوفاء بالكيل والميزان، وبالعدل في الحكم والشهادة؛ فجميع ذلك ﴿صِرَاطِي﴾ أي طريقي ﴿مُّسْتَقِيماً﴾ واضحاً، موصلاً إلى خيري الدنيا والآخرة ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ لتؤجروا ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ﴾ الطرق المختلفة، والأهواء المتباينة، والديانات المتعددة ﴿فَتَفَرَّقَ﴾ فتتفرق وتميل ﴿بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ عن طريقه تعالى الذي وصفه بالاستقامة، وبالتالي يكون غيره مائلاً عن الحق معوجاً قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾
﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ أي تماماً للنعمة على الذي أحسن الطاعة، وتجنب المعصية ﴿وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاجون إليه
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ هو القرآن: كبير النفع، كثير الخير، عظيم البركة
﴿أَن تَقُولُواْ﴾ أي لئلا تقولوا إذا لم ننزل عليكم القرآن ﴿إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا﴾ هما اليهود والنصارى؛ وقد نزل عليهما أشهر كتابين - بعد القرآن - نزلا من عندالله: التوراة والإنجيل
﴿وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ﴾ أي عن دراسة هذه الأمم لكتابيها ﴿لَغَافِلِينَ﴾ لأنهما لم ينزلا بلساننا، ولا بلغتنا، ولم نؤمر باتباعهما. فأنزل الله القرآن قطعاً لهذه الحجة؛ ومنها يعلم أن الله تعالى لا يؤاخذ من لم يصلهم كتاب، ولم ينذرهم رسول؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾
﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ﴾ الذي أنزل عليهم ﴿لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ﴾ أي لكنا أشد استقامة، واتباعاً لما في الكتاب، وأطوعلله من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا؛ قال تعالى رداً على هذه الحجة المفترضة ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ كتاب عربي بلسانكم، مبين لما تحتاجون إليه ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ لمن عمل به واتبعه ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ بعد إذ جاءته ﴿وَصَدَفَ﴾ أعرض وصد ﴿عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ
-[١٧٨]- آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ﴾
أسوأه
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظرون ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾ أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ يوم القيامة للحساب والجزاء ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ علامات الساعة؛ كطلوع الشمس من مغربها؛ وحينئذٍ ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل حضور الموت، وظهور علامات القيامة ﴿أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ وهو الإخلاص في الإيمان
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾ وهم اليهود والنصارى ﴿وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ فرقاً متباينة ﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أي لست مسؤولاً عما فعلوا. وقيل: عنى بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً: أهل البدع والضلال من هذه الأمة؛ الذين اتبعوا ما تشابه من القرآن، وأولوه طبقاً لأهوائهم ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ﴾ أي عاقبة أمرهم ﴿إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ فيجازيهم عليه ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾
﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ المراد بالعشر: الكثرة دون العدد؛ فقد يبلغ الجزاء ما لا يحصره حد، ولا يحصيه عد واقرأ إن شئت قول المنان الوهاب، المعطي من يشاء بغير حساب: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (انظر آية ٢٦١ من سورة البقرة)
﴿صِرَاطِ﴾ طريق ﴿دِيناً قِيَماً﴾ مستقيماً لا عوج فيه؛ و ﴿قَيِّماً﴾ قيماً؛ وبه قرأ سائر القراء عدا الكوفيين وابن عامر ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ مسلماً ﴿وَمَا كَانَ﴾ إبراهيم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
بل كان أول الهادمين للشرك، المستدلين على الوحدانية بالعقل والمنطق والتدبر (انظر الآيات ٧٦ وما بعدها من هذه السورة)
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾ عباداتي
﴿وَبِذلِكَ أُمِرْتُ﴾ من ربي ومن عقلي الذي وهبنيه وأكرمني به
﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ إثماً ﴿إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ أي لا يقع وبال إثمها إلا عليها ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ الوزر: الإثم، والحمل الثقيل؛ أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ﴾ جمع خليفة ﴿الأَرْضِ﴾ أي أهلك من سبقكم، واستخلفكم مكانهم ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ في العلم والجاه والمال والسطوة ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ليختبركم ﴿فِي مَآ آتَاكُمْ﴾ فيما أعطاكم من نعمه؛ وليعلم - علم ظهور - من أطاعه فيما آتاه، وأحسن فيما وهبه ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه وخالفه؛ فليبادر من ابتلى بالعصيان والحرمان إلى الرجوع إلى ربه، والمآب إلى خالقه ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ﴾ لمن تاب وأناب ﴿رَّحِيمٌ﴾ به؛ فلا يؤاخذه بما سلف من أمره؛ تفضلاً منه تعالى ورحمة بخليقته
178
سورة الأعراف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

179
Icon