تفسير سورة الواقعة

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الواقعة
وهي مكية، وعن مسروق أنه قال : من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة وأهل النار، ونبأ الدنيا والآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. والله أعلم.

قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذا وَقعت الْوَاقِعَة﴾ مَعْنَاهُ: إِذا كَانَت الْقِيَامَة، وَهَذَا قَول عَامَّة الْمُفَسّرين. وَسميت الْقِيَامَة وَاقعَة؛ لِأَنَّهُ لَا بُد من وُقُوعهَا. وَالْعرب تسمي كل متوقع لَا بُد مِنْهُ وَاقعا، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْوَاقِعَة هَاهُنَا هِيَ الصَّيْحَة لمَوْت الْخَلَائق. وَقيل: سميت الْقِيَامَة وَاقعَة؛ لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من الشدَّة. وَعَن بَعضهم: لِأَنَّهَا تقع على غَفلَة من النَّاس. فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب قَوْله: ﴿إِذا﴾ ؟ وَلَا بُد لهَذِهِ الْكَلِمَة من جَوَاب، وَالْجَوَاب: أَن جَوَابه قَوْله: ﴿فأصحاب الميمنة﴾.
وَقَوله: ﴿لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة﴾ قَالَ قَتَادَة: لَيْسَ مثنوية وَلَا رد وَلَا رَجْعَة. وَيُقَال مَعْنَاهُ: هِيَ صدق وَلَا كذب فِيهَا. وَقيل: لَيْسَ لوقوعها من نفس كَاذِبَة، حُكيَ هَذَا عَن سُفْيَان، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ عِنْد وُقُوعهَا مكذب بهَا.
وَقَوله: ﴿خافضة رَافِعَة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: تخْفض أَقْوَامًا، وترفع آخَرين، وَعنهُ فِي رِوَايَة أُخْرَى: تخْفض أَقْوَامًا ارتفعوا، وترفع أَقْوَامًا خفضوا فِي الدُّنْيَا. وَعَن السدى: ترفع أَقْوَامًا فِي الْجنَّة، وتخفض أَقْوَامًا فِي النَّار. وَمعنى هَذَا: تخْفض أهل الْمعْصِيَة بِإِيجَاب النَّار لَهُم، وترفع أهل الطَّاعَة بِإِيجَاب الْجنَّة لَهُم. قَالَ ابْن جريج: خافضة رَافِعَة بِالْحَسَنَاتِ والسيئات.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذا رجت الأَرْض رجا﴾ قَالَ الْمبرد: الرجة حَرَكَة يسمع مِنْهَا صَوت،
341
﴿الأَرْض رجا (٤) وبست الْجبَال بسا (٥) فَكَانَت هباء منبثا (٦) وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة (٧) فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة (٨) وَأَصْحَاب المشأمة مَا﴾ وَهِي أَكثر من الصَّيْحَة. فعلى هَذَا معنى الاية: حركت الأَرْض بِمن فِيهَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا﴾.
342
وَقَوله: ﴿وبست الْجبَال بسا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: فتتت فتا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: قلعت من أَصْلهَا. وَقَالَ السدى: كسرت كسرا. قَالَ مُجَاهِد: بست كَمَا يبس السويق أَي: دقَّتْ، والبسيسة هِيَ الدَّقِيق، والسويق يلت ويتخذ مِنْهُ الزَّاد. وَقَالَ قَتَادَة: بست أَي: جعلت كبيس الشَّجَرَة تَذْرُوهُ الرِّيَاح، وَقَالَ الشَّاعِر فِي البس بِمَعْنى اللت:
(لَا تخبزا خبْزًا وبسا بسا...
أوردهُ النّحاس. وَقَالَ بَعضهم: بست أَي: سيرت، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " يخرج من الْمَدِينَة قوم يبسون وَالْمَدينَة خير لَهُم " أَي: يَسِيرُونَ.
وَقَوله: ﴿فَكَانَت هباء منبثا﴾ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ هُوَ مَا سَطَعَ من سنابك الْخَيل من المرضح وَالْغُبَار، ثمَّ يذهب.
وَعَن بَعضهم: إِن الهباء المنبث هُوَ الَّذِي يرى فِي الكوة من ضوء الشَّمْس كالعمود الْمَمْدُود.
وَالأَصَح هُوَ الأول هُوَ الهباء المنبث. وَعَن بَعضهم: أَن الهباء المنبث هُوَ الرماد.
وَقَوله: ﴿وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة﴾ أَي: أصنافا ثَلَاثَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة﴾ قَالَ يزِيد بن أسلم: هم الَّذين أخذُوا من الشق الْأَيْمن من آدم عَلَيْهِ السَّلَام،
342
﴿أَصْحَاب المشأمة (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ المقربون (١١) فِي﴾ وَأَصْحَاب المشأمة هم الَّذين أخذُوا من الشق الْأَيْسَر. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: أَصْحَاب الميمنة هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بإيمالهم. وَأَصْحَاب المشأمة هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بشمالهم وَقَالَ السدى: أَصْحَاب الميمنة: جُمْهُور أهل الْجنَّة، وَأَصْحَاب المشأمة: جُمْهُور أهل النَّار. وَيُقَال: أَصْحَاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم، وَأَصْحَاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم. وَالْعرب تسمي الْجَانِب الْأَيْسَر الْجَانِب الأشأم، وتسمي الْيَسَار الشؤمى، وَالْيَمِين الْيُمْنَى.
وَقَوله: ﴿مَا أَصْحَاب الميمنة﴾ و ﴿مَا أَصْحَاب المشأمة﴾ هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب للتعجيب، وَهُوَ فِي كَلَام الله مَعَ عباده للتّنْبِيه على عظم شَأْن الْأَمر.
343
وَقَوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ قَالَ كَعْب: هم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. وَعَن بَعضهم: هُوَ كل من صلى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: مُؤمن آل فِرْعَوْن سبق إِلَى مُوسَى، وَمُؤمن آل ياسين سبق إِلَى عِيسَى، وَعلي سبق إِلَى مُحَمَّد بِالْإِيمَان، أوردهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس. وَيُقَال: السَّابِقُونَ هم المبادرون إِلَى الطَّاعَات.
وَقَوله: ﴿السَّابِقُونَ﴾ تَقْدِير الْآيَة: وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْخيرَات والطاعات هم السَّابِقُونَ فِي الدَّرَجَات. وَقيل: هُوَ على طَرِيق التَّأْكِيد.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ المقربون﴾ أَي: المقربون من الْمنزلَة والكرامة والوصول إِلَيّ رضَا الله تَعَالَى. وَذكر فِي مَوضِع آخر أصنافا ثَلَاثَة فَقَالَ: ﴿ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات﴾ فَذهب بعض أهل التَّفْسِير إِلَى أَن الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي سُورَة الْوَاقِعَة [كلهم] من الْمُؤمنِينَ مثل الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي تِلْكَ السُّورَة، وَأَن أَصْحَاب المشأمة هم
343
﴿جنَّات النَّعيم (١٢) ثلة من الْأَوَّلين (١٣) وَقَلِيل من الآخرين (١٤) ﴾ الظَّالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَأَصْحَاب الميمنة هم المقتصدون، وَالسَّابِقُونَ هم السَّابِقُونَ بالخيرات. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْأَصَح، وَأَن أَصْحَاب المشأمة هم الْكفَّار؛ وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ بعده: ﴿وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال فِي سموم وحميم﴾ ووصفهم بالْكفْر على مَا سَيَأْتِي.
344
وَقَوله: ﴿فِي جنَّات النَّعيم﴾ ذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي فِي وصف جنَّة النَّعيم: " أَن لبنة مِنْهَا فضَّة، ولبنة ذهب، وطينها الْمسك، وترابها الزَّعْفَرَان، وحصباءها الدّرّ والياقوت ".
قَوْله: ﴿ثلة من الْأَوَّلين﴾ أَي: جمَاعَة من الْأَوَّلين، وَلَفظ الثلَّة مَأْخُوذ من الثل وَهُوَ الْقطع.
وَقَوله: ﴿وَقَلِيل من الآخرين﴾ اخْتلف أهل التَّفْسِير فِيهِ على الْقَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من الْأَوَّلين هم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين قبل نَبينَا مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿وَقَلِيل من الآخرين﴾ هم من أمة مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَمِيعًا من هَذِه الْأمة، وَقد رُوِيَ هَذَا فِي خبر مَرْفُوع، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين. فَإِن قيل على القَوْل الأول: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَأَتْبَاع الرَّسُول من الْمُؤمنِينَ أَكثر من أَتبَاع الْأَنْبِيَاء؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الْأَوَّلين هُوَ من رأى جمع الْأَنْبِيَاء وآمن بهم، وَمن الآخرين من رأى مُحَمَّدًا وآمن بِهِ، وعَلى الْقطع
344
﴿على سرر موضونة (١٥) ﴾ يعلم أَن أُولَئِكَ مِمَّن رأى نَبينَا وآمن بِهِ، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام: ﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ﴾ هَذَا فِي نَبِي وَاحِد، فَكيف فِي جَمِيع الْأَنْبِيَاء؟ وَإِنَّمَا كثرت هَذَا الْأمة بعد وَفَاة الرَّسُول، وَقد رُوِيَ " أَنه لما نزلت هَذَا الْآيَة حزن أَصْحَاب رَسُول الله حزنا شَدِيدا لقَوْله: ﴿وَقَلِيل من الآخرين﴾ فَقَالَ النَّبِي: " إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا ربع أهل الْجنَّة، بل ثلث أهل الْجنَّة، بل نصف أهل الْجنَّة، وتقاسمونهم فِي النّصْف الثَّانِي ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أهل الْجنَّة مائَة وَعِشْرُونَ صفا، ثَمَانُون من هَذِه الْأمة ".
345
قَوْله تَعَالَى: ﴿على سرر﴾ فالسرر جمع سَرِير. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن ارتفاعه سَبْعُونَ ذِرَاعا، وَقيل: أَكثر من ذَلِك، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿موضونة﴾ أَي: مرمولة بقضبان الذَّهَب. وَقيل: مشبكة منسوجة بالدر والياقوت. والوضين فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الحزام الَّذِي يشد بِهِ بطن الدَّابَّة، سمي وضينا لنسجه وإدخاله بعضه فِي بعض، قَالَ الشَّاعِر:
(إِلَيْك تعدو قلقا وضينها مُعْتَرضًا فِي بَطنهَا جَنِينهَا)
(مُخَالفا دين النَّصَارَى دينهَا...
345
﴿متكئين عَلَيْهَا مُتَقَابلين (١٦) يطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون (١٧) بأكواب وأباريق وكأس من معِين (١٨) لَا يصدعون عَنْهَا﴾
وَقَالَ آخر:
(وَمن نسج دَاوُد موضونة تساق مَعَ الْحَيّ عيرًا فعيرا)
والسرير المرمول أوطأ من السرير الَّذِي هُوَ غير مرمول. وَقيل: موضونة أَي: مصفوفة.
346
وَقَوله: ﴿متكئين عَلَيْهَا﴾ الاتكاء هُوَ الِاسْتِنَاد على طَرِيق التنعم.
وَقَوله: ﴿عَلَيْهَا مُتَقَابلين﴾ هُوَ مثل قَوْله: ﴿إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين﴾ أَي: لَا ينظر بَعضهم إِلَى قفا بعض، ووجوههم إِلَى وُجُوه إخْوَانهمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون﴾ أَي: غلْمَان.
وَقَوله: ﴿مخلدون﴾ أَي: لَا يموتون. وَقيل: مخلدون مسرورون. وَقيل: مقرطون، قَالَ الشَّاعِر:
وَقَوله: ﴿بأكواب﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأكواب هِيَ الْأَوَانِي المستديرة الرُّءُوس، وَلَيْسَت لَهَا خراطيم، والأباريق الَّتِي لَهَا خراطيم. وَفِي الْخَبَر فِي وصف الْكَوْثَر أَكَاوِيبه عدد نُجُوم السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿وكأس من معِين﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْعَرَب لَا تسمى الْإِنَاء كأسا حَتَّى يكون فِيهِ الْخمر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿معِين﴾ أَي: خمر جَار. وَيُقَال: إِن خمر أهل الْجنَّة تكون بَيْضَاء، وَقيل: حَمْرَاء، وَالله أعلم.
346
﴿وَلَا ينزفون (١٩) وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون (٢٠) وَلحم طير مِمَّا يشتهون (٢١) وحور عين (٢٢) كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون (٢٣) جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (٢٤) لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما (٢٥) إِلَّا قَلِيلا سَلاما سَلاما (٢٦) ﴾
347
وَقَوله: ﴿لَا يصدعون عَنْهَا﴾ أَي: لَا يلحقهم من شربهَا صداع مثل مَا يُصِيب شَارِب الْخمر فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينزفون﴾ أَي: وَلَا تذْهب عُقُولهمْ. وَقيل: لَا يسكرون. وَقيل: لَا تَتَغَيَّر ألوانهم، وَقيل: لَا يقيئون مثل مَا يقئ شَارِب الْخمر فِي الدُّنْيَا. وَفِي اللُّغَة يُسمى ذَاهِب اللَّوْن منزوفا، وذاهب الْعقل نزيفا، وَكَذَلِكَ العطشان، قَالَ الشَّاعِر:
(ومخلدات باللجين كَأَنَّمَا أعجازهن [أقاوز] الكثبان)
(فلثمت فاها آخِذا بقرونها شرب النزيف بِبرد مَاء الحشرج)
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا ينزفون " بِكَسْر الزَّاي، وَمَعْنَاهُ: لَا تفنى خمرهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون﴾ أَي: يختارون.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلحم طير مِمَّا يشتهون﴾ أَي: يُرِيدُونَ.
وَقَوله: ﴿وحور عين﴾ بِالرَّفْع فيهمَا، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَقُرِئَ بِالْفَتْح فيهمَا فِي الشاذ، فعلى الرّفْع مَعْنَاهُ: وَلَهُم حور عين، وعَلى الْكسر مَعْنَاهُ: وَيُطَاف عَلَيْهِم بحور عين، وعَلى النصب مَعْنَاهُ: ويعطون حورا عينا. وَالْمَشْهُور بِالرَّفْع والخفض، وَسميت الْحور حورا؛ لبياضهن وَشدَّة سَواد أعينهن، وَقيل: سمين حورا؛ لِأَن الطّرف يحار فِيهِنَّ.
وَقَوله: ﴿عين﴾ أَي: حسان الْأَعْين، وَهُوَ مَا ذكرنَا من بَيَاض الْبشرَة وَسَوَاد الحدقة.
وَقَوله: ﴿كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون﴾ أَي: اللُّؤْلُؤ الْمكنون فِي أصدافه لم تنله يَد.
وَقَوله: ﴿جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: ثَوابًا لَهُم لعملهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما﴾ أَي: كلَاما بَاطِلا، وكلاما يَأْثَم بِهِ قَائِله، واللغو كل مَا يلغى.
وَقَوله: ﴿إِلَّا قَلِيلا سَلاما سَلاما﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا قَوْلهم السَّلَام بعد السَّلَام، والتحية بعد
﴿وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين (٢٧) فِي سدر مخضود (٢٨) وطلح منضود
التَّحِيَّة. وَقد قَالُوا: إِن الِاسْتِثْنَاء هَاهُنَا من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَهُوَ مُنْقَطع، وَهُوَ بِمَعْنى لَكِن. وَقيل: إِنَّه من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؛ لِأَن اللَّغْو كَلَام مسموع، وَالسَّمَاع كَلَام مسموع، وَاخْتلفُوا فِي نصب قَوْله: {سَلاما﴾
قَالَ بَعضهم: انتصب لِأَن مَعْنَاهُ: سلمك الله سَلاما أَي: يَقُول بَعضهم لبَعض، وَمِنْهُم من قَالَ: انتصب تبعا لقَوْله: ﴿قيلا﴾ لِأَن سَلاما هُوَ الْفِعْل الْمَذْكُور.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين﴾ قد بَينا، وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ: لَهُم منزلَة دون منزلَة المقربين. وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده: أَنهم الَّذين خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا ثمَّ تَابُوا. وَذكر الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى فاستخرج مِنْهَا ذُرِّيَّة شبه الذَّر بيضًا؛ وَقَالَ لَهُم: ادخُلُوا الْجنَّة برحمتي، ثمَّ مسح صفحة ظَهره اليسى واستخرج مِنْهَا ذُرِّيَّة كالحمم سَوْدَاء، وَقَالَ لَهُم: ادخُلُوا النَّار وَلَا أُبَالِي. وَفِي رِوَايَة: أَخذ بِيَمِينِهِ كل طيب، وَأخذ بِشمَالِهِ كل خَبِيث. وَفِي الصَّحِيح "أَن كلتا يَدَيْهِ يَمِين". فعلى هَذَا معنى قَوْله: ﴿وَأَصْحَاب الْيَمين﴾ هم الَّذين أخذُوا من صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى.
وَقَوله: ﴿فِي سدر مخضود﴾ أَي: قد قطع شوكه وَنزع. والسدر: شجر النبق، قَالَ السّديّ: ثَمَرَة أحلى من الْعَسَل. وَقيل: مخضود أَي: موقر حملا. وَيُقَال: لَا عجم فِي ثمره. وَفِي اللُّغَة الخضد هُوَ الْقطع. قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صفة مَكَّة: "لَا يخضد شَجَرهَا" أَي: لَا يقطع.
وَقَوله: ﴿وطلح منضود﴾ قَرَأَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: "وطلع منضود" وَهُوَ مثل قَوْله
347
((٢٩} وظل مَمْدُود (٣٠) وَمَاء مسكوب (٣١) وَفَاكِهَة كَثِيرَة (٣٢) لَا مَقْطُوعَة وَلَا) فِي مَوضِع آخر: ﴿لَهَا طلع نضيد﴾ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَغَيرهم: هُوَ الموز.
قَوْله: ﴿منضود﴾ أَي: متراكم بعضه على بعض، وَذكر النّحاس أَن الْعَرَب تَقول: عَسى يَا فلَان تطلح، أَي: بِنِعْمَة، قَالَ الشَّاعِر:
(كم رَأينَا من أنَاس هَلَكُوا ورأينا الْمَرْء عمرا بطلح)
أَي: بِنِعْمَة. وَيُقَال: إِن الطلح هَاهُنَا هُوَ شجر العضاه، وَهُوَ أَكثر شجر الْعَرَب، وَله منظر حسن. وَرُوِيَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي الله عَنْهُم لما ذَهَبُوا إِلَى الطَّائِف أعجبهم طلح وَج، فَذكر الله تَعَالَى أَن لَهُم فِي الْجنَّة طلحا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يكون لَهُم فِي الْجنَّة شَجَرَة شوك؟ : قُلْنَا: لَا يكون ثمَّ شوك، إِلَّا أَنه شجر يشبه الطلح فِي الْكبر وَحسن المنظر، وَيجوز أَن يكون فِي الْجنَّة شَجرا؛ لأكل الثَّمر مِنْهُ، وَشَجر يحسن النّظر إِلَيْهِ، وَالأَصَح أَنه الموز.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿منضود﴾ قَالُوا مَعْنَاهُ: أَن ثمره وورقه من أَوله إِلَى آخِره لَيست لَهَا سَاق بارزة.
349
وَقَوله: ﴿وظل مَمْدُود﴾ قَالَ الْحسن: لَا يَنْقَطِع. وَعَن يحيى بن أبي كثير: أَن سَاعَات الْجنَّة تشبه الْغَدَاة الْبَارِدَة فِي الصَّيف. وَيُقَال: إِنَّهَا مثل سَجْسَج لَيْسَ فِيهِ حر وَلَا برد. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن فِي الْجنَّة شَجَرَة يسير الرَّاكِب فِي ظلها مائَة عَام لَا يقطعهُ، واقرءوا إِن شِئْتُم: ﴿وظل مَمْدُود﴾ ".
وَقَوله: ﴿وَمَاء مسكوب﴾ أَي: مصبوب، وَمَعْنَاهُ: أَنه ينصب إِلَيْهِم من الْعُلُوّ. قَالَ الْحسن: مسكوب أَي: جَار لَا يَنْقَطِع أبدا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَفَاكِهَة كَثِيرَة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة﴾ قَالَ الزّجاج: لَا مَقْطُوعَة
349
﴿مَمْنُوعَة (٣٣) وفرش مَرْفُوعَة (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء (٣٥) ﴾ أَي: لَا يكون فِي حِين دون حِين، وَلَا مَمْنُوعَة أَي: لَا يخْطر عَلَيْهَا كَمَا يخْطر على الْبَسَاتِين فِي الدُّنْيَا، وَقيل: لَا مَقْطُوعَة: لَا يَنْقَطِع أبدا، وَالْمعْنَى على هَذَا أَنَّهَا إِذا جنيت ظهر مَكَانهَا فِي الْحَال مثلهَا أَو خير مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَلَا مَمْنُوعَة﴾ أَي: لَا يمْنَع الْأَخْذ مِنْهَا، وَقيل: لَا يمْنَع الْأَخْذ بعد وَلَا شوك. وَعَن ابْن شَوْذَب قَالَ: رَأَيْت الْحجَّاج بن فرافصة وَاقِفًا فِي سوق الْفَاكِهَة بِالْبَصْرَةِ، فَقلت: مَا تصنع هَاهُنَا؟ فَقَالَ: أنظر إِلَى هَذِه المقطوعة الممنوعة.
350
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:وقوله تعالى :( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) قال الزجاج : لا مقطوعة أي : لا يكون في حين دون حين، ولا ممنوعة أي : لا يخطر عليها كما يخطر على البساتين في الدنيا، وقيل : لا مقطوعة : لا ينقطع أبدا، والمعنى على هذا أنها إذا جنيت ظهر مكانها في الحال مثلها أو خير منها. وقوله :( ولا ممنوعة ) أي : لا يمنع الأخذ منها، وقيل : لا يمنع الأخذ بعد ولا شوك. وعن ابن شوذب قال : رأيت الحجاج بن فرافصة واقفا في سوق الفاكهة بالبصرة، فقلت : ما تصنع هاهنا ؟ فقال : أنظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وفرش مَرْفُوعَة﴾ أَي: عالية، وَيُقَال: بَعْضهَا فَوق بعض. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " ارتفاعها مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، ومسيرة مَا بَينهمَا خَمْسمِائَة عَام ". وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه، وَقَالَ: هُوَ غَرِيب. وَذهب جمَاعَة من التَّابِعين أَن الْفرش المرفوعة هَاهُنَا هِيَ النِّسَاء، وَالْعرب تسمي الْمَرْأَة فرَاش الرجل ولحافه. وسماهن مَرْفُوعَة؛ لِأَنَّهُنَّ رفعن بِالْفَضْلِ وَالْجمال والكمال. وَالْعرب تسمي كل فَاضل رفيعا. وَيُقَال: سماهن فرشا؛ لِأَنَّهُنَّ على الْفرش، فكنى بالفرش عَنْهُن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء﴾ فِيهِ قَولَانِ: لِأَنَّهُنَّ الْحور، وَمعنى الْإِنْشَاء فِيهِنَّ أَن الله تَعَالَى يَجْعَل الصبايا وَالْعجز على سنّ وَاحِدَة فِي الصُّورَة والشباب. وَعَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: هن الْعَجز الرمص العمش. وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تفضل الْمَرْأَة الصَّالِحَة فِي الْحسن على الْحور ﴿فجعلناهن أَبْكَارًا (٣٦) عربا أَتْرَابًا (٣٧) لأَصْحَاب الْيَمين (٣٨) ثلة من الْأَوَّلين (٣٩) وثلة من الآخرين (٤٠) ﴾
سبعين ضعفا" ذكره النقاش، وَهُوَ غَرِيب جدا.
وَقَوله: ﴿فجعلناهن أَبْكَارًا﴾ أَي: عذارى. قَالَ الضَّحَّاك: أهل الْجنَّة لَا يأْتونَ النِّسَاء من مرّة إِلَّا وَجَدُوهُنَّ عذارى.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿عربا﴾ أَي: محببات إِلَى أَزوَاجهنَّ. وَعَن ابْن عَبَّاس: عواشق لِأَزْوَاجِهِنَّ. وَعَن بَعضهم: غنجات. وَعَن بَعضهم شكلات. عَن بَعضهم: مغتلمات. تَقول الْعَرَب للناقة إِذا كَانَت تشْتَهى الْفَحْل: عرُوبَة.
وَعَن زيد بن أسلم حَسَنَات الْكَلَام. وَعَن بَعضهم: عربا أَي: يتكلمن بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَعْرُوف الأول [و] يُمكن الْجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال كلهَا، فَكَأَنَّهَا تتحبب إِلَى زوجهات بغنج وشكل، وَكَلَام حسن، وميل شَدِيد، وبلفظ عَرَبِيّ.
وَقَوله: ﴿أَتْرَابًا﴾ أَي: لدات، كأنهن على سنّ وَاحِد وميلاد وَاحِد.
وَيُقَال: أَتْرَابًا: أشكالا لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي الْجِسْم والمقدار، قَالَ الشَّاعِر:
وَقَوله ﴿لأَصْحَاب الْيَمين﴾ أَي: هَذَا الَّذِي قُلْنَا لأَصْحَاب الْيَمين.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين﴾ أَي: جمَاعَة من الْأَوَّلين، وهم الَّذين اتبعُوا الْأَنْبِيَاء والمتقدمين - صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - وَجَمَاعَة من الآخرين، وهم الَّذين اتبعُوا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والثلة: الْقطعَة. وَقد روى أبان بن أبي عَيَّاش عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ هَذِه
350
﴿وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال (٤١) فِي سموم وحميم (٤٢) وظل من يحموم (٤٣) لَا بَارِد وَلَا كريم (٤٤) إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك مترفين (٤٥) ﴾ الْآيَة: ﴿ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين﴾ وَقَالَ: " الثُّلَّتَانِ من أمتِي ". فعلى هَذَا الثلَّة الأولى هم الَّذين عاينوا النَّبِي وآمنوا بِهِ، والثلة الثَّانِيَة هم الَّذين آمنُوا بِهِ وَلم يروه.
فَإِن قيل: كَيفَ وَجه الْجمع بَين هَذِه الْآيَة وَبَين الْآيَة الَّتِي تقدّمت، وَهِي قَوْله: ﴿وَقَلِيل من الآخرين﴾ وَالْجَوَاب: قد روينَا أَن تِلْكَ الْآيَة لما نزلت حزن أَصْحَاب رَسُول الله، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكرنَا معنى الْقَلِيل، وهم من عاين النَّبِي وَاتبعهُ، فعلى هَذَا معنى الثلَّة هَاهُنَا جَمِيع من اتبعهُ، عاينه أَو لم يعاينه.
352
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٩:و قوله تعالى : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) أي : جماعة من الأولين، وهم الذين اتبعوا الانبياء نبينا صلى الله عليه وسلم والثلة : القطعة.
و قد روي أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية :( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) وقال :" الثلتان من أمتي ". ١ فعلى هذا الثلة الأولى هم الذين عاينوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، والثلة الثانية هم الذين آمنوا به ولم يروه. فإن قيل : كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين الآية التي تقدمت، وهي قوله :( وقليل من الآخرين )٢ والجواب : قد روينا أن تلك الآية لما نزلت حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكرنا معنى القليل، وهم من عاين النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه، فعلى هذا معنى الثلة هاهنا جميع من اتبعه، عاينه أو لم يعاينه.
١ - رواه ابن جرير ( ٢٧ /١١) و ضعفه، و ابن عدى في الكامل ( ١ /٣٨٧ )، و البغوي ( ٤/ ٢٨٥ -٢٨٦). وزاد الزيلغى في تخريج الكشاف ( ٣ /٤٠٤ ) : و ابن مردوية، و الواحدى، و الثعلبى، و قال الحافظ في تلخيصه لتخريج الكشاف : و أبان هو ابن أبي عياش متروك. و قال السيوطي في الدر ( ٦ /١٧٦ ) : أخرج الفريابي، و عبد بن حميد، ابن جرير، و ابن منذر، و ابن عدي، وابن مردويه بسند ضعيف فذكره.
و له شاهد عن أبي بكرة، انظر تخريج الكشاف و الدر..

٢ - الواقعة : ١٤..

قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال﴾ فقد ذكرنَا مَعْنَاهُ.
قَوْله: ﴿فِي سموم﴾ هِيَ الرّيح الحارة. وَقيل: إِنَّه اسْم جَهَنَّم.
وَقَوله: ﴿وحميم﴾ أَي: المَاء الَّذِي انْتهى حره. وَفِي التَّفْسِير: أَنه يخرج من صَخْرَة فِي جَهَنَّم. وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود: أَن أَنهَار الْجنَّة تخرج من جبل من الكافور فِي الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿وظل من يحموم﴾ أَي: دُخان أسود يغشي أهل النَّار، ويصيبهم من حره مَا يغلي دماغهم. وَعَن بَعضهم: أَن اليحموم اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. وَعَن (ابْن البريدة) : أَن اليحموم جبل فِي النَّار يظل أهل النَّار مُدَّة أَن يستظلوا بظله، فَيُؤذن لَهُم بعد مُدَّة، فيصيبهم من حره مَا يستغيثون مِنْهُ، وَيكون ذَلِك أَشد عَلَيْهِم مِمَّا كَانُوا فِيهِ.
وَقَوله: ﴿لَا بَارِد وَلَا كريم﴾ أَي: لَا بَارِد الْمدْخل، وَلَا كريم المنظر. قَالَ الْفراء: الْعَرَب تجْعَل الْكَرِيم تَابعا فِي كل مَا يبْقى عَنهُ، وصف يُرَاد بِهِ الذَّم. يَقُول: هَذِه الدَّار لَيست بواسعة وَلَا كَرِيمَة، وَهَذَا الْفرس لَيْسَ بجواد وَلَا كريم.
352
﴿وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون (٤٧) أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ (٤٨) قل إِن الْأَوَّلين والآخرين (٤٩) لمجموعون إِلَى مِيقَات يَوْم مَعْلُوم (٥٠) ثمَّ إِنَّكُم أَيهَا الضالون المكذبون (٥١) لآكلون من شجر من زقوم (٥٢) فمالئون مِنْهَا الْبُطُون (٥٣) فشاربون عَلَيْهِ من﴾
353
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك مترفين﴾ أَي: منعمين، والترفة: النِّعْمَة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن عباد الله لَيْسُوا بالمتنعمين. وَالْمعْنَى: التَّوَسُّع فِي الْحرم وَمَا لَا يحل؛ لِأَن التَّوَسُّع فِي الْحَلَال والتنعم مِنْهُ جَائِز، وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ عُقُوبَة.
وَقَوله: ﴿وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم﴾ قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: الشّرك. وَيُقَال: هُوَ الْإِثْم الْعَظِيم. وَيُقَال للصَّبِيّ إِذا بلغ: قد بلغ الْحِنْث أَي: بلغ زمَان الْإِثْم. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: الْحِنْث الْعَظِيم: الْيَمين الْفَاجِرَة. وَعَن الشّعبِيّ: هُوَ الْيَمين الْغمُوس.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يصرون﴾ أَي: يُقِيمُونَ عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتُوا.
وَقَوله: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون﴾ أَي: بعث الْقِيَامَة، قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار.
وَقَوله: ﴿أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ﴾ أَي: أَو يبْعَث آبَاؤُنَا الْأَولونَ بعد أَن صَارُوا تُرَابا ورمما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن الْأَوَّلين والآخرين لمجموعون إِلَى مِيقَات يَوْم مَعْلُوم﴾ وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:قوله تعالى :( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) وهو يوم القيامة.
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِنَّكُم أَيهَا الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم﴾ والزقوم كل طَعَام يصعب على الْإِنْسَان أكله ويشق عَلَيْهِم، وَقد بَينا مَعْنَاهُ من قبل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥١:وقوله :( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم ) والزقوم كل طعام يصعب على الإنسان أكله ويشق عليهم، وقد بينا معناه من قبل.
وَقَوله: ﴿فمالئون مِنْهَا الْبُطُون﴾ قَالَ أهل اللُّغَة: الشّجر يؤنث وَيذكر، وَذكره على بن عِيسَى.
353
﴿الْحَمِيم (٥٤) فشاربون شرب الهيم (٥٥) هَذَا نزلهم يَوْم الدّين (٥٦) نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا تصدقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون (٥٨) أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ (٥٩) نَحن قَدرنَا بَيْنكُم الْمَوْت﴾
354
وَقَوله: ﴿فشاربون عَلَيْهِ من الْحَمِيم﴾ قَالَ ذَلِك لِأَن من أكل شَيْئا و [وغص] مِنْهُ عَطش وَشرب.
وَقَوله: ﴿فشاربون شرب الهيم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الْإِبِل العطاش. وَعند أهل اللُّغَة أَن الهيم دَاء يُصِيب الْإِبِل، فتعطش، وَلَا تروى أبدا حَتَّى لَا تزَال تشرب فتهلك. وَيُقَال: شرب الهيم: الرمل كلما يصب عَلَيْهِ المَاء لم يظْهر عَلَيْهِ ويشربه.
وَقَوله: ﴿هَذَا نزلهم يَوْم الدّين﴾ أَي: رزقهم وعطاؤهم. فَإِن قيل: النزل إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي الْإِكْرَام وَالْإِحْسَان، وَالْجَوَاب: أَنه لما جعل هَذَا فِي مَوضِع النزل لأهل الْجنَّة سَمَّاهُ نزلا، وَهُوَ كَمَا أَنه سمى عقوبتهم ثَوابًا، ووعيدهم بِشَارَة، وَالْمعْنَى فِيهِ مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا تصدقُونَ﴾ أَي: هلا تصدقُونَ مَعَ ظُهُور هَذِه الدَّلَائِل أَي: صدقُوا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون﴾ الإمناء: إِلْقَاء المنى.
وَقَوله: ﴿أأنتم تخلقونه﴾ أَي: تخلقون مِنْهُ الْإِنْسَان.
وَقَوله: ﴿أم نَحن الْخَالِقُونَ﴾ أَي: بل نَحن الْخَالِقُونَ. قَالَ الْأَزْهَرِي فِي هَذِه الْآيَة: إِن الله تَعَالَى احْتج عَلَيْهِم بأبلغ دَلِيل فِي الْبَعْث والإحياء بعد الْمَوْت فِي هَذِه الْآيَة، وَذَلِكَ لِأَن المنى الَّذِي يسْقط من الْإِنْسَان ميت، ثمَّ يخلق الله مِنْهُ شخصا حَيا، وَقد كَانُوا مقرين أَن الله خلقهمْ من النطف، وَكَانُوا منكرين للإحياء بعد الْمَوْت، فألزمهم أَنهم لما أقرُّوا بِخلق حَيّ من نُطْفَة ميتَة يلْزمهُم أَن يقرُّوا بِإِعَادَة الْحَيَاة فِي ميت. وَمعنى الْآيَة: كَمَا أقررتم بذلك فأقروا بِهَذَا.
354
﴿وَمَا نَحن بمسبوقين (٦٠) على أَن نبدل أمثالكم وننشئكم فِي مَا لَا تعلمُونَ (٦١) وَلَقَد علمْتُم النشأة الأولى فلولا تذكرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون (٦٤) لَو نشَاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (٦٥) إِنَّا﴾
355
قَوْله تَعَالَى: ﴿نَحن قَدرنَا بَيْنكُم الْمَوْت﴾ يَعْنِي: إِنَّا نميتكم أَي: لَو كُنَّا نعجز عَن إحيائكم بعد الْمَوْت لعجزنا عَن إماتتكم بِإِخْرَاج أَنفسكُم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا نَحن بمسبوقين﴾ أَي: بمغلوبين. قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: إِذا أردنَا أَن نعيدكم لم يسبقنا سَابق، وَلم يفتنا شَيْء. وَيُقَال: لَو أَرَادَ غَيرنَا أَن يفعل مثل فعلنَا لعجز عَنهُ، تَقول الْعَرَب: مَا أسبق فِي هَذَا الْفِعْل أَي: لَا يفعل مثل فعلي أحد.
وَقَوله: ﴿على أَن نبدل أمثالكم﴾ أَي: لَو شِئْنَا أَن نميتكم ونخلق أمثالكم لقدرنا عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وننشئكم فِيمَا لَا تعلمُونَ﴾ من الْهَيْئَة وَالصُّورَة أَي: لَو شِئْنَا فعلنَا ذَلِك. وَيُقَال: أَن نجعلكم فِي صُورَة القردة والحنازير. وَيُقَال: ننشئكم من مَكَان لَا تعلمُونَ أَي: فِي عَالم لَا تعلمونه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد علمْتُم النشأة الأولى﴾ أَي: الْخلق الأول، اسْتدلَّ عَلَيْهِم بالنشأة الأولى على النشأة الثَّانِيَة.
وَقَوله تَعَالَى ﴿فلولا تذكرُونَ﴾ أى: هلا تتعظون وتعتبرون.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون﴾ أَي: تنبتونه. يُقَال للْوَلَد: زرعه الله أَي: أَنْبَتَهُ الله.
قَوْله: ﴿أم نَحن الزارعون﴾ أَي: نَحن المنبتون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:وقوله تعالى :( أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) أي : تنبتونه. يقال للولد : زرعه الله أي : أنبته الله. قوله :( أم نحن الزارعون ) أي : نحن المنبتون.
وَقَوله: ﴿لَو نشَاء لجعلناه حطاما﴾ أَي: يَابسا يتفتت وينكسر لَا شَيْء فِيهِ.
وَقَوله: ﴿فظلتم تفكهون﴾ أَي: تتعجبون. وَيُقَال: تَنْدمُونَ وتتحسرون.
355
﴿لمغرمون (٦٦) بل نَحن محرومون (٦٧) أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون (٦٨) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نَحن المنزلون (٦٩) لَو نشَاء جعلنَا أجاجا﴾
356
وَقَوله: ﴿إِنَّا لمغرمون﴾ أَي: معذبون. قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ قَتَادَة: ملقون بِالشَّرِّ، وَعَن بَعضهم: أَنه من الغرام، وَهُوَ الْهَلَاك. وَقيل: من الْغرم؛ لأَنهم غرموا وَلم يُصِيبُوا شَيْئا.
وَقَوله: ﴿بل نَحن محرمون﴾ أَي: حرمنا الْجد، وَلم نصل إِلَى مَا كُنَّا نأمله ونرجوه. وَعَن تغلب: أَن المغرم هُوَ المولع، يُقَال: فلَان مغرم أَي: مولع بِهِ، فعلى هَذَا معنى قَوْله: ﴿إِنَّا لمغرمون﴾ أَي: ولع بِنَا الْمُصِيبَة والحرمان. وَيُقَال: إِنَّا لمغرمون أَي: غرمنا كَمَا غرمنا وَلم نصب شَيْئا، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْغرم بِمَعْنى الْعَذَاب:
(أبرزوها مثل المهاة تهادى بَين جنس كواعب أتراب)
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم﴾ هَذَا مَذْكُور للتّنْبِيه على مَا فِيهِ من الدَّلِيل.
وَقَوله: ﴿المَاء الَّذِي تشربون﴾ مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿أأنتم أنزلتموه من المزن﴾ أَي: من السَّحَاب. قَالَ نفطويه: المزن هُوَ السَّحَاب الملآن من المَاء، قَالَ جرير:
(وَيَوْم النيار وَيَوْم الجفا ركانا عذَابا فَكَانَا غراما)
(كَأَنَّهَا مزنة غراء رَائِحَة أَو درة لَا يواري لَوْنهَا الصدف)
وَقَوله: ﴿أم نَحن المنزلون﴾ أَي: نَحن أنزلنَا المَاء من المزن، وَلم تنزلوه أَنْتُم، ينبههم بذلك على عَظِيم قدرته.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَو نشَاء جَعَلْنَاهُ أجاجا﴾ أَي: مرا شَدِيد المرارة. وَقيل: ملحا شَدِيد الملوحة. يُقَال: أج المَاء تأج إِذا ملح. وَالْمعْنَى: أَنا لَو نشَاء جَعَلْنَاهُ أجاجا بِحَيْثُ لَا يُمكن شربه، ينبههم بذلك على الشُّكْر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي كَانَ إِذا
356
﴿فلولا تشكرون (٧٠) أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون (٧١) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نَحن المنشئون (٧٢) نَحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (٧٣) ﴾ شرب قَالَ: " الْحَمد الله الَّذِي جعله عذبا فراتا، وَلم يَجعله ملحا أجاجا ". أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ.
قَوْله: ﴿فلولا تشكرون﴾ أَي: فَهَلا تشكرون.
357
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون﴾ أَي: تقتدحون.
يُقَال: أورت الزند إِذا استخرج النَّار مِنْهُ. وَيُقَال: زند وزندة للحجر الَّذِي يقْدَح مِنْهُ النَّار.
وَقَوله: ﴿أأنتم أنشأتم شجرتها﴾ أَي: خلقْتُمْ شجرتها.
وَقَوله: ﴿أم نَحن المنشئون﴾ يَعْنِي: أم نَحن خلقنَا الشَّجَرَة. وشجرة النَّار شَجَرَة مَعْرُوفَة، وَيَقُولُونَ: فِي كل شجر نَار، واستمجد [المرخ والعفار].
وَقَوله تَعَالَى: ﴿نَحن جعلناها تذكرة﴾ أَي: جعلنَا النَّار تذكرة من النَّار الْكُبْرَى، وَهِي نَار جَهَنَّم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن نَاركُمْ هَذِه هِيَ جُزْء من سبعين جُزْءا من نَار جَهَنَّم ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " ضربت بِالْمَاءِ مرَّتَيْنِ ".
وَقَوله: ﴿ومتاعا للمقوين﴾ أظهر الْأَقَاوِيل فِيهِ: أَن المقوين الْمُسَافِرين، وهم الَّذين ينزلون فِي الأَرْض القفر الخالية. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لجَمِيع النَّاس المقيمين والمسافرين. وعَلى القَوْل الأول خص الْمُسَافِرين؛ لِأَن منفعتهم بالنَّار أَكثر؛ لأجل الاصطلاء من
357
﴿فسبح باسم رَبك الْعَظِيم (٧٤) فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم (٧٥) ﴾ الْبرد، والاستضاءة بِاللَّيْلِ، وَفِي إيقاد النَّار رد السبَاع، وَمَنْفَعَة الاستضاءة الاهتداء عِنْد ضلال الطَّرِيق.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ومتاعا للمقوين أَي: مَنْفَعَة لكل من لَيْسَ لَهُ (زَاد) وَلَا مَال.
وَيُقَال: أقوى الْمَكَان إِذا خلا عَن الشَّيْء. وَأنكر القتيبي وَغَيره هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: مَنْفَعَة الْغَنِيّ بالنَّار أَكثر من مَنْفَعَة الْفَقِير، وَالْعرب تَقول للْفَقِير مقوى، وللغني مقوى؛ تَقول للْفَقِير مقوى؛ لنفاد مَا مَعَه وخلوه عَنهُ، وللغني مقوى لقُوته وَقدرته على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْفَقِير، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: أَن النَّار مَنْفَعَة لجَمِيع النَّاس من الْفُقَرَاء والأغنياء والمقيمين والمسافرين.
358
وَقَوله: ﴿فسبح باسم رَبك الْعَظِيم﴾ لما ذكر الله الدَّلَائِل على الْكفَّار فِي هَذِه الْآيَة الْمُتَقَدّمَة، وَوجه الدَّلِيل فِيهَا أَنهم كَانُوا مقرين أَن فَاعل هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ الله، وَأَنَّهُمْ عاجزون عَنْهَا، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْث والنشأة الْآخِرَة؛ فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: لما لم تنكروا قدرَة الله تَعَالَى على هَذِه الْأَشْيَاء وَمَا فِيهَا من عَجِيب الصنع، فَكيف تنكرون قدرته على بعثكم وإحيائكم بعد موتكم؟ فَلَمَّا ألزمهم الدَّلِيل قَالَ لنَبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ﴿فسبح باسم رَبك الْعَظِيم﴾ كَأَنَّهُ أرشده إِلَى الِاشْتِغَال بتنزيه الرب وتسبيحه وتقديسه حِين لزم الْكفَّار الْحجَّة، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أفضل الْكَلَام سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم﴾ أَي: أقسم، و " لَا " صلَة. وَقيل: إِن معنى " لَا " أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا من أَن الْقُرْآن شعر وسحر وكهانة، بل أقسم بمواقع النُّجُوم. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن معنى مواقع النُّجُوم أَي: مساقط النُّجُوم. وَيُقَال: مساقطها ومطالعها أقسم بهَا لما علق بهَا من مصَالح الْعباد. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول جمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين (مِنْهُم) : الْحسن، وَقَتَادَة، وَعِكْرِمَة،
358
﴿وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ عَظِيم (٧٦) إِنَّه لقرآن كريم (٧٧) فِي كتاب مَكْنُون (٧٨) لَا﴾ وَغَيرهم أَن مواقع النُّجُوم هَاهُنَا نُجُوم الْقُرْآن، وَمعنى المواقع نُزُوله نجما نجما. وَفِي الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى أنزل الْقُرْآن جملَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ أنزل نجما نجما فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة إِلَى النَّبِي.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن المُرَاد من مواقع النُّجُوم انتثارها وتساقطها يَوْم الْقِيَامَة.
359
وَقَوله: ﴿وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ عَظِيم﴾ قَالَ ذَلِك لَان قسم الله عَظِيم، وكل مَا أقسم بِهِ. وَيُقَال: إِن تَخْصِيصه هَذَا الْقسم بالعظم؛ لِأَنَّهُ أقسم بِالْقُرْآنِ على الْقُرْآن؛ قَالَه الْقفال الشَّاشِي.
وَقَوله: ﴿إِنَّه لقرآن كريم﴾ هُوَ مَوضِع الْقسم، وَهُوَ الْمقسم [عَلَيْهِ].
وَقَوله: ﴿كريم﴾ أَي: كثير الْخَيْر وَالْبركَة. تَقول الْعَرَب: هَذِه النَّاقة كَرِيمَة، وَهَذِه النَّخْلَة كَرِيمَة، إِذا كثرت فوائدها ومنافعها.
قَوْله: ﴿فِي كتاب مَكْنُون﴾ أَي: مصون، وَقد فسر باللوح الْمَحْفُوظ، وَفسّر أَيْضا بِكِتَاب فِي السَّمَاء عِنْد الْمَلَائِكَة فِيهِ الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بِهِ أَنه لَا يمس ذَلِك الْكتاب إِلَّا الْمَلَائِكَة الْمُطهرُونَ. قَالَ قَتَادَة: فَأَما الْمُصحف يمسهُ كل أحد، وَإِنَّمَا المُرَاد ذَلِك الْكتاب فِي السَّمَاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بِهِ الْمُصحف، وَقَوله: ﴿لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ﴾ خبر بِمَعْنى النَّهْي أَي: لَا تمسوه إِلَّا على الطَّهَارَة. وَقد ورد أَن النَّبِي كتب فِي كتاب عَمْرو بن حزم " وَلَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر ". وَعَن عَلْقَمَة وَالْأسود
359
﴿يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ (٧٩) تَنْزِيل من رب الْعَالمين (٨٠) أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون (٨١) وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون (٨٢) ﴾ أَنَّهُمَا دخلا على سلمَان ليقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن، فجَاء من الْغَائِط، فَقَالَا لَهُ: تَوَضَّأ لنقرأ عَلَيْك الْقُرْآن، فَقَالَ: اقرآني، لَا أُرِيد أَن أمسه، ثمَّ قَرَأَ: ﴿لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ﴾.
360
وَقَوله: ﴿تَنْزِيل من رب الْعَالمين﴾ أَي: الْقُرْآن نزله رب الْعَالمين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون﴾ أَي: مكذبون تَكْذِيب مُنَافِق. والمدهن والمداهن بِمَعْنى وَاحِد، والمداهن هُوَ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يكون قلبه خلاف لِسَانه، وَلسَانه خلاف قلبه. وَيُقَال: المدهنون: هم الَّذين يدْفَعُونَ الصدْق وَالْحق بِأَحْسَن وَجه يقدر عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿ودوا لَو تدهن فيدهنون﴾ يَعْنِي: تكذب فيكذبون، وترائي فيراءون.
وَقَوله: ﴿وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون﴾ قَرَأَ عَليّ: " وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة يَعْنِي: تضعون التَّكْذِيب مَوضِع الشُّكْر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(تَحِيَّة بَينهم ضرب وجيع... )
أَي: يضعون الضَّرْب الوجيع مَوضِع التَّحِيَّة. وَيُقَال معنى الْآيَة: تَجْعَلُونَ شكر رزقكم أَنكُمْ تكذبون، فَحذف الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿واشتعل الرَّأْس شيبا﴾ أَي: شعر الرَّأْس.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الرزق هَاهُنَا بِمَعْنى الْهِدَايَة الَّتِي أَعْطَاهُم الله تَعَالَى بِالْقُرْآنِ، فَكَأَن الله تَعَالَى لما أنزل الْقُرْآن، وَبَين لَهُم طَرِيق الْحق بِهِ فَكَذبُوهُ وأنكروا، سمي بذلك الْبَيَان رزقا، وَجعل تكذيبهم كفرانا لهَذَا الرزق. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: خسر قوم جعلُوا حظهم من الْقُرْآن التَّكْذِيب. وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ
360
﴿فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم (٨٣) وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون (٨٤) وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون (٨٥) فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين (٨٦) ﴾ الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَن الرزق هَاهُنَا هُوَ الْمَطَر، والتكذيب هُوَ قَوْلهم: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " أَلا ترَوْنَ إِلَى مَا قَالَ ربكُم؟ قَالَ: مَا أَنْعَمت على عبادى نعْمَة إِلَّا أصبح فريق مِنْهُم بهَا كَافِرين يَقُولُونَ الْكَوْكَب وَبِالْكَوْكَبِ.. " أوردهُ مُسلم فِي صَحِيحه. وَفِي خبر آخر بِرِوَايَة (مُعَاوِيَة) اللَّيْثِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " يصبح الْقَوْم مجدبين، فيأتيهم الله برزق من عِنْده، فيصبحوا مُشْرِكين يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا ".
361
قَوْله تَعَالَى: ﴿فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم﴾ أَي: بلغت النَّفس الْحُلْقُوم. الْآيَة فِي بَيَان عجزهم، وَذكر قدرته عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون﴾ الْخطاب لأهل الْمَيِّت.
وَقَوله: ﴿وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم أى بِالْقُدْرَةِ وَقد قيل ملك الْمَوْت وأعوانه يَعْنِي: أَنهم أقرب إِلَى الْمَيِّت مِنْكُم.
وَقَوله: {وَلَكِن لَا تبصرون﴾
أَي: لَا ترَوْنَ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فلولا إِن كُنْتُم﴾ أَي: فَهَلا إِن كُنْتُم، [وَقَوله] :﴿غير مدينين﴾ أَي: غير مُدبرين مملوكين مقهورين يَعْنِي: إِن كُنْتُم قَادِرين على مَا شِئْتُم، وَلم تَكُونُوا فِي ملكنا وقهرنا [فَردُّوا] روح الْمَيِّت إِلَى مَكَانَهُ، وَهُوَ معنى قَوْله:
361
﴿ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين (٨٧) فَأَما إِن كَانَ من المقربين (٨٨) فَروح وَرَيْحَان﴾
362
﴿ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ ينبئهم بذلك على عجزهم. وَيُقَال: غير مدينين أَي: غير محاسبين ومجزيين.
وَالْقَوْل الأول هُوَ الْوَجْه فِي معنى الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَما إِن كَانَ من المقربين﴾ ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَات حَال الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة عِنْد الْمَوْت، وَهِي الْأَصْنَاف الَّتِي ذكرهم فِي أول السُّورَة، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَما إِن كَانَ من المقربين﴾ أَي: السَّابِقين إِلَى الْخيرَات، المبرزين فِي الطَّاعَات.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَروح﴾ قِرَاءَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " فَروح " وَاخْتَارَهُ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ، وَالْأَشْهر: " فَروح " بِفَتْح الرَّاء، وَمَعْنَاهُ: الرَّحْمَة. وَيُقَال: [الرّوح] الاسْتِرَاحَة، وَمن قَرَأَ بِضَم الرَّاء فَهُوَ بِمَعْنى الْحَيَاة الدائمة الَّتِي لَا فنَاء بعْدهَا. وَفِي الْخَبَر: " أَنه إِذا وضع الْمُؤمن فِي قَبره، وَأجَاب بِجَوَاب الْحق يُقَال لَهُ: نم نومَة الْعَرُوس لَا هم وَلَا بؤس " وَفِي خبر آخر " يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة وَيُقَال لَهُ هَذَا موضعك ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَرَيْحَان﴾ أَي: رزق، وَهُوَ الرزق الَّذِي يدر عَلَيْهِ من الْجنَّة فِي الْقَبْر. وَقد بَينا من قبل الريحان بِمَعْنى الرزق فِي شعر الْعَرَب:
(سَلام الْإِلَه وريحانه وَرَحمته وسماء دُرَر)
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الريحان الَّذِي يشم. قَالَ أَبُو الجوزاء: يُؤْتى بضبائر من ريحَان الْجنَّة فتجعل روحه فِيهَا.
وَقَوله: ﴿وجنة نعيم﴾ هِيَ الْجنَّة الموعودة. قَالَ أهل التَّفْسِير: الرّوح وَالريحَان فِي الْقَبْر، وجنة نعيم يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال: الرّوح عِنْد الْمَوْت، وَالريحَان فِي الْقَبْر، وجنة نعيم فِي الْقِيَامَة عِنْد الْبَعْث. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه، وَقيل: يَا رَسُول الله، لَكنا نكره الْمَوْت قَالَ:
362
﴿وجنة النَّعيم (٨٩) وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين (٩٠) فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين (٩١) وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين (٩٢) فَنزل من حميم (٩٣) وتصلية جحيم (٩٤) إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين (٩٥) فسبح اسْم رَبك الْعَظِيم (٩٦) ﴾ لَا، إِن الْمُؤمن إِذا بشر برحمة من الله أحب لِقَاء الله، فَأحب الله لقاءه، وَإِن الْكَافِر إِذا بشر بالنَّار كره لِقَاء الله وَكره الله لقاءه " وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
363
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين﴾ قد بَينا أَصْحَاب الْيَمين.
وَقَوله: ﴿فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين﴾ أَي: تسلم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم. وَقيل: يسلم الله عَلَيْهِم، فَيَقُول: سَلام عَلَيْك. وَلَك بِمَعْنى عَلَيْك.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿من أَصْحَاب الْيَمين﴾ أَي: لِأَنَّك من أَصْحَاب الْيَمين. وَهَذَا قَول كثير من الْمُفَسّرين. وَقَالَ بَعضهم: الْخطاب للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: أبشر بالسلامة لأَصْحَاب الْيَمين، كَأَنَّهُ يَقُول: لَا تشغل قَلْبك بهم، فَإِنَّهُم قد نالوا السَّلامَة. وَقيل: المُرَاد من الْآيَة تَسْلِيم بَعضهم على بعض، كَأَن بَعضهم يسلم على بعض، ويهنئ بالسلامة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم﴾ أَي: الْمعد لَهُ شراب من حميم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:قوله تعالى :( وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم ) أي : المعد له شراب من حميم.
وَقَوله: ﴿وتصلية جحيم﴾ أَي: دُخُول الْجَحِيم يُقَال: أصلى كَذَا أَي: قاسه، فعلى هَذَا تصلية جحيم أَي: مقاساة الْجَحِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين﴾ أَي: مَحْض الْيَقِين، يُشِير إِلَى أَنه كَائِن لَا خلف فِيهِ. وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِنَّه يَقِين أَحَق الْيَقِين، كَمَا يُقَال: حق عَالم أَي: عَالم حق.
وَقَوله: ﴿فسبح باسم رَبك الْعَظِيم﴾ أَي: نزه رَبك وعظمه، كَأَنَّهُ أرشده إِلَى الِاشْتِغَال بثنائه وتسبيحه وتقديسه ليصل إِلَى دَرَجَة المقربين.
363

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (١) لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير (٢) هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر﴾
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْكَلْبِيّ وَجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مَدَنِيَّة. وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: اسْم الله الْأَعْظَم فِي سِتّ آيَات من أول سُورَة الْحَدِيد. وَعَن أبي التياح أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يعرف كَيفَ وصف الْجَبَّار نَفسه فليقرأ سِتّ آيَات من أول سُورَة الْحَدِيد. وَالله أعلم.
364
Icon