تفسير سورة الحاقة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿الحاقة﴾ القايمة سيمت حاقة لأنها حقٌّ مقطوع بوقوعها ﴿صَرْصَرٍ﴾ شديدة الصوت والبرد ﴿حُسُوماً﴾ متتابعة لا تنقطع من الحسم وهو القطع قال الشاعر:
«فدارت عليهم فكانت حُسوماً»... ﴿رَّابِيَةً﴾ زائدة في الشِّدة والعذاب ﴿وَاهِيَةٌ﴾ ساقطة القوة، ضعيفة متراخية من قولهم: وهي البناء اذا ضعف وتداعى للسقوط ﴿هَآؤُمُ﴾ اسم فعل أمر بمعنى خذوا ﴿قُطُوفُهَا﴾ جمع قطف وهو ما
410
يجتنى من الثمر ويقطف ﴿غِسْلِينٍ﴾ صديد أهل النار قال الكلبي: هو ما يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو ﴿غِسْلِينٍ﴾ فعلين من الغسل ﴿الوتين﴾ عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه ويسمى الأبهر وفي الحديث «ما زالت أكلةُ خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» ﴿حَسْرَةٌ﴾ ندامة عظيمة.
التفسير: ﴿الحاقة﴾ اسم للقيامة سميت بذلك لتحقق وقوعها، فهي حقٌ قاطع، وأمر واقع، لا شك فيه ولا جدال ﴿مَا الحآقة﴾ ؟ التكرار لتفخيم شأنها، وتعظيم أمرها، وكان الأصل أن يقال: ما هي؟ ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التعظيم والتهويل ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة﴾ ؟ وما أعلمك يا محمد ما هي القيامة؟ إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال، فإِنها من العظم والشدة بحيث لا يحيط بها وصف ولا خيال، وهذا على طريقة العرب فإنهم إِذا أرادوا تشويق المخاطب لأمرٍ أتوا بصغية الاستفهام يقولن: أتدري ماذا حدث؟ والآية من هذا القبيل زيادة في التعظيم والتهويل كأنه قال: إِنها شيء مريع وخطب فظيع.. ثم بعد أن عظَّم أمرها وفخَم شأنها، ذكر من كذَّب بها وما حلَّ بهم بسبب التكذيب، تذكيراً لكفار مكة وتخويفاً لهم فقال ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة﴾ أي كذب قوم صالح، وقوم هود بالقيامة، التي تقرع القلوب بأهوالها ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية﴾ أي فأمَّا ثمود قوم صالح فأُهلكوا بالصيحة المدمرة، التي جاوزت الحدَّ في الشدة قال قتادة: هي الصيحة التي خرجت عن حدِّ كل صيحة ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ أي وأما قوم هود فأُهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد وهي الدَّبور وفي الحديث «نصرتُ بالصبا، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور» ﴿عَاتِيَةٍ﴾ أي متجاوزة الحدَّ في الهبوب والبرودة، كأنها عتت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها، قال ابن عباس: ما أرسل الله من ريح قط إِلا بمكيال، ولا أنزل قطرة قطُّ إِلا بمكيال، إِلا يوم نوحِ ويوم عاد، فإِن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ أي سلطها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام متتابعة لا تفتر ولا تنقطع ﴿فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى﴾ أي فترى أيها المخاطب القوم في منازلهم موتى، لا حراك بهم ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ أي كأنهم أصول نخلٍ متآكلة الأجواف قال المفسرون: كانت الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رءوس النخل، وتدخلْ من أفواههم وتخرج من أدبارهم حتى تصرعهم، فيصبحوا كالنخلة الخاوية الجوف {
411
فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ أي فهل ترى أحداً من بقاياهم؟ أو تجد لهم أثراً؟ لقد هلكوا عن آخرهم كقوله تعالى ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ ﴿وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ﴾ أي وجاء فرعون الجبار، ومن تقدَّمه من الأمم الطاغية التي كفرت برسلها ﴿والمؤتفكات﴾ أي والأمم الذين انقلبت بهم ديارهم قرى قوم لوط حيث جعل الله عاليها سافلها قال الصاوي: ﴿المؤتفكات﴾ أي المنقلبات وهي قرى قوم لوط، التي اقتلعها جبريل ورفعها على جناحه قرب السماء ثم قلبها، وكانت خمس قرى ﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ أي بالفعلة الخائطة المنكرة، وهي الكفر والعصيان ﴿فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ أي فعصى فرعون رسول الله موسى، وعصى قوم لوطٍ رسولهم لوطاً ﴿فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً﴾ أي فأخذهم الله أخذةً زائدةً في الشدة، على عقوبات من سبقهم، كما أن جرائمهم زادت في القبح والشناعة على سائر الكفار ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية﴾ أي لما تجاوز الماء حدَّه حتى علا كل شيء وارتفع فوقه حملناكم في السفينة ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ أي لنجعل تلك الحادثة عظةً للناس وعبرة، تدل على انتقام الله ممن كذَّب رسله ﴿وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أي وتحفظها وتذكرها أذن واعية للمواعظ، تنتفع بما تسمع قال القرطبي: والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلَّ بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولهذا ختم الآية بقوله ﴿وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ قال قتادة: الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عزّ وجّل.
. ولما ذكر قصص المكذبين، أتبعه بذكر أهوال القايمة وشدائدها فقال ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أي فإِذا نفخ إِسرافيل في الصور نفخةً واحدة لخراب العالم قال ابن عباس: هي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب الدنيا ﴿وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ أي ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها، فضرب بعضها ببعضٍ حتى تندق وتتفتَّت وتصير كثيباً مهيلاً ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة﴾ أي ففي ذلك الحين قامت القيامة الكبرى، وحدثت الداهية العظمى ﴿وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ أي وانصدعت السماء فهي يومئذٍ ضعيفة مسترخية، ليس فيها تماسك ولا صلابة ﴿والملك على أَرْجَآئِهَآ﴾ أي والملائكة على أطرافها وجوانبها قال المفسرون: وذلك لأن السماء مسكن الملائكة، فاذا انقشت المساء وقفوا على أطرافها فزعاً مما داخلهم من هو ذلك اليوم، ومن عظمة ذي الجلال، الكبير المتعال ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ أي ويحمل عرض الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم وقال ابن عباس: ثمانية صفوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ أي في ذلك اليوم الرهيب، تعرضون على ملك الملوك ذي الجلال للحساب والجزاء، لا يخفى عليه منكم أحدٌ، ولا يغيب عنه سرٌّ من أسراركم، لأنه العالم بالظواهر والسرائر والضمائر.
. ثم بيَّن تعالى حال السعداء
412
والأشقياء في ذلك اليوم فقال ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ أي فأما من أُعطي كتاب أعماله بيمينه لأنه من السعداء ﴿فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ أي فيقول ابتهاجاً وسروراً: خذوا اقرءوا ك تابي، والهاء في ﴿كِتَابيَهْ﴾ هاء السكت وكذلك في ﴿حِسَابِيَهْ﴾ و ﴿مَالِيَهْ﴾ و ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾ قال الرازي: ويدل قوله ﴿هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ على أنه بلغ الغاية في السرور، لأنه لما أُعطي كتابه بيمينه، علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ﴾ أي إِني أيقنت وتحققت بأني سألقى حسابي وجزائي يوم القيامة، فأعددت له العدة من الإِيمان، والعمل الصالح قال الحسن: إِن المؤمن أحسن الظنَّ بربه فأحسن العمل، وإِنَّ المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل وقال الضحاك: كل ظنٍ في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك.. قال تعالى مبيناً جزاءه ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ أي فهو في عيشة هنيئة مرضية، يرضى بها صاحبها، لما ورد في الصحيح «أنهم يعيشون فلا يموتون أبداً، ويصحون فلا يمرضون أبداً، وينعمون فلا يرون بؤساً أبداً» ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ أي في جنةٍ رفيعة القدر، وقصور عالية شاهقة ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ أي ثمارها قريبة، يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع قال في التسهيل: القطوف جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالنعقود، روي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها وهو قائم أو قاعد أو مضطجع ﴿كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً﴾ أي يقال لهم تفضلاً وإِنعاماً: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً، بعيداً عن كل أذى، سالماً من كل مكروه ﴿بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية﴾ أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية يعني أيام الدنيا.. ولما ذكر حال السعداء أعقبه بذكر حال الأشقياء فقال ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ أي وأما من مأعطي كتابه بشماله وهذه علامة الشقاوة والخسران ﴿فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ أي فيقول اذا رأى قبائح أعماله: يا ليتني لم أعط كتابي قال المفسرون: وذلك لما يحصل له من الخجل والافتضاح فيتمنى عندئذٍ أنه لم يعط كتاب أعماله، ويندم أشد الندم ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ أي ولم أعرف عظم حسابي وشدته، والاستفهام للتعظيم والتهويل ﴿ياليتها كَانَتِ القاضية﴾ أي يا ليت الموتة الأولى التي متُّها في الدنيا، كانت القاطعة لحياتي، فلم أبعث بعدها ولم أُعذب قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره من الموت، لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمرَّ ممَّا ذاقه من الموت ﴿مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ أي ما نفعني مالي الذي جمعته ولا دفع عني من عذاب الله شيئاً ﴿هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ أي زال عني ملكي وسلطاني، ونسبي وجاهي، فلا معين لي ولا مجير، ولا صديق ولا نصير ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ أي يقول تعالى لزبانية جهنم: خذوا هذا المجرم الأثيم فشدوه بالأغلال قال القرطبي: فيبتدره مائة ألف ملك، ثم تجمع يده الى عنقه، فذلك قوله تعالى: ﴿فَغُلُّوهُ﴾ ﴿ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ﴾ أي ثم أدخلوه النار العظيمة المتأججة، ليصلى حرَّها ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾ أي ثم أدخلوه في سلسلةٍ حديدية طولها سبعون ذراعاً قال ابن عباس: بذراع الملك، تدخل السلسلة من دبره، وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته
413
وقدميه والسلسلة هي حلق منتظمة، كل حلقة منها في حلقة، يلف بها حتى لا يستطيع حراكاً.
. لمّا بيَّن العذاب الشديد بيَّن سببه فقال ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم﴾ أي كان لا يصدق بوحدانية الله وعظمته قال في البحر: بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله، وهو تعليلٌ مستأنف كأن قائلاً قال: لم يعذِّب هذا العذاب البليغ؟ فأجيب إِنه كان لا يؤمن بالله ﴿وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين﴾ أي ولا يحُثُّ نفسه ولا غيره على إِطعام المسكين قال المفسرون: ذكر الحضَّ دون الفعل للتنبيه على أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الإِحسان والصدقة؟ ﴿فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ﴾ أي فليس له في الآخرة صديق يدفع عنه العذاب، لأن الأصدقاء يتحاشونه، ويفرُّون منه ﴿وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾ أي وليس له طعام إِلا صديد أهل النار، الذي يسيل من جراحاتهم ﴿لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون﴾ أي لا يأكله إِلا الآثمون المجرمون المرتكبون للخطايا والآثام قال المفسرون: ﴿الخاطئون﴾ جمع خاطىء وهو الذي يعتمد الذنب، والمخطىء الذي يفعل الشيء خطاأ دون قصد، ولهذا قال ﴿الخاطئون﴾ ولم يقل المخطئون.. ولما ذكر أحوال السعداء من أهل الجنة، ثم أحوال الأشقياء من أهل النار، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي فأقسم بالمشاهدات والمغيبات، أُقسم بما ترونه وما لا ترونه، مما هو واقعٌ تحت الأبصار، وما غاب وخفي عن الأنظار، و ﴿لا﴾ في قوله ﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾ لتأكيد القسم وليست نافية قال الإِمام الفخر: والآية تدل على العموم والشمول، لأنها لا تخرج عن قسمين: مبصرٍ وغير مبصر، فشملت الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإِنس والجن، والنعم الظاهرة والباطنة قال قتادة: هو عام في جميع مخلوقاته جلاَّ وعلا، وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ أي إن هذا القرآن لكلام الرحمن، يتلوه ويقرأه رسولٌ كريم، هو محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم قال القرطبي: والرسول ههنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونسب القول إِليه لأنه تاليه ومبلغه عن الله تعالى ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ أي وليس القرآن كلام شاعر كما تزعمون، لأنه مباين لأوزان الشعر كلها، فليس شعراً ولا نثراً ﴿قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ﴾ أي قلَّما تؤمنون بهذا القرآن قال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله، بمعنى لا يؤمنون به أصلاً، والعرب تقول: قلَّما يأتينا يريدون لا يأتينا ﴿وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾ أي وليس هو بقول كاهنٍ يدعي معرفة الغيب، لأن القرآن يغاير بأسلوبه سجع الكهان ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ أي قلَّما تتذكرون وتتعظون ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ أي هو تنزيلٌ من ربِّ العزة جل وعلا كقوله تعالى
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين
414
نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: ١٩٢١٩٥] والغرض من الآية تبرئة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما نسبه إِليه المشركون من دعوى السحر والكهانة، ثم أكَّد ذلك بأعظم برهان على أن القرآن من عند الله فقال ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل﴾ أي لو اختلق محمد الأقوال، ونسب إِلينا ما لم نقله ﴿لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ أي لانتقمنا منه بقوتنا وقدرتنا ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾ أي ثم لقطعنا نياط قلبه حتى يموت قال القرطبي: والويتنُ عرق يتعلق به القلب، إِذا انقطع مات صاحبه والغرض أنه تعالى يعاجله بالعقوبة ولا يمهله، لو نسب إِلى الله شيئاً ولو قليلاً، فإِن تسمية الأقوال بالأقاويل للتصغير والتحقير ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه، لو أردنا حينئذٍ عقوبته، ولا أن يدفع عنه عذابنا قال الخازن: المعنى إِن محمداً لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم، مع علمه أنه لو تكلم لعاقبناه، ولا يقدر أحدٌ على دفع عقوبتنا عنه ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي وإِن هذا القرآن لعظةٌ للمؤمنين والمتقين الذين يخشون الله، وخصَّ المتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ﴾ أي ونحن نعلم أن منكم من يكذب بهذا القرآن مع وضوح آياته، ويزعم أنه أساطير الأولين، وفي الآية وعيدٌ لمن كذب بالقرآن ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين﴾ أي وإِنه لحسرة عليهم في الآخرة، لأنهم يتأسفون إِذا رأوا ثواب من آمن به ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين﴾ أي وإِنه لحقٌ يقينيٌ لا يحوم حوله ريب، ولا يشك عاقل أنه كلام رب العالمين ﴿فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم﴾ أي فنزَّه ربك العظيم عن السوء والنقائص، واشكره على ما أعطاك من النعم العظيمة، التي من أعظمها نعمة القرآن.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الإِطناب بتكرار الاسم للتهويل والتعظيم ﴿الحاقة مَا الحآقة﴾ الخ.
٢ - التفصيل بعد الإِجمال زيادة في البيان ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة﴾ ثم فصله بقوله ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ﴾ الآية وفيه لفٌ ونشر مرتب.
٣ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه.
٤ - الاستعارة اللطيفة الفائقة ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء﴾ الطغيان من صفات الإِنسان، فشبه ارتفاع الماء وكثرته، بطغيان الإِنسان على الإِنسان بطريق الاستعارة.
٥ - جناس الاشتقاق مثل ﴿وَقَعَتِ الواقعة﴾ ومثل ﴿لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾.
٦ - المقابلة البديعة ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ قابلها بقوله ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ..﴾ الخ وهي من المحسنات البديعية.
415
٧ - طباق السلب ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ﴾.
٨ - الكناية ﴿لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ لفظ اليمين كناية عن القوة والقدرة.
٩ - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ ومثل ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾ ويسمى في علم البديع السجع والمرصَّع والله أعلم.
تنبيه: روى الحفاظ ابن كثير عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: خرجت أتعرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني الى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال فقلت في نفسي: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ﴾ فقلت: كاهن، فقرأ ﴿وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ الخ السورة، قال: فوقع في قلبي الإِسلام كل موقع، حتى هداني الله تعالى له.
416
Icon