تفسير سورة النبأ

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة النبأ مكية، وآيها أربعون أو إحدى وأربعون.

عَمَّ
أصله عَمَّا فحذفَ منه الألفُ إمَّا فرقاً بينَ ما الاستفهاميةِ وغيرِها أو قصداً للخفةِ لكثرةِ استعمالِها وقد قُرِىءَ على الأصلِ وما فيهَا منَ الابهام للايذان بفخامة شأن المسؤل عنْهُ وهولِهِ وخروجِه عنْ حدودِ الأجناسِ المعهودةِ أيْ عنْ أيِّ شيءٍ عظيمٍ الشأنِ
يَتَسَاءلُونَ
أيْ أهلُ مكةَ وكانُوا يتساءلونَ عن البعثِ فيما بينهم ويخوضونَ فيه إنكاراً واستهزاءً لكنْ لا على طريقةِ التساؤلِ عن حقيقتِه ومسمَّاهُ بلْ عن وقوعِه الذي هو حالٌ من أحوالِه ووصفٌ من أوصافِه فإنَّ مَا وإنْ وضعتْ لطلبِ حقائقِ الأشياءِ ومسمياتِ أسمائِها كما في قولك ما الملَكُ وما الروحُ لكنَّها قد يُطلب بها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيدٌ فيقال عالمٌ أو طبيبٌ وقيل كانُوا يسألونَ عنه الرسولَ ﷺ والمؤمنينَ استهزاءً كقولِهم يتداعونهم اي يدعونهم وتحقيقُه أنَّ صيغةَ التفاعلِ في الأفعالِ المتعديةِ موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولا معاً لكنَّه يرفعُ بإسنادِ الفعلِ إليه ترجيحاً لجانبِ فاعليتِه ويحالُ بمفعوليتِه على دلالةِ العقلِ كما في قولك تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ وقد تجردَ عن المعنى الثاني فيراد بها مجردُ صدورِ الفعلِ عن المتعددِ عارياً عن اعتبارِ وقوعِه عليهِ فيُذْكر للفعلِ حينئذٍ مفعولٌ متعدد كمَا في المثالِ المذكورِ أو واحد كما في قولِك تراءوا الهلالَ وقد يحذفُ لظهورهِ كما فيما نحن فيه فالمَعْنى عن أيِّ شيءٍ يسألُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ ﷺ والمؤمنينَ وربَّما تجردَ عن صدور الفعل عن المتعدد أيضاً فيرادُ بها تعددُه باعتبارِ تعددِ متعلَّقِه مع وحدةِ الفاعلِ كما في قولِه تعالَى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى وقولُه تعالى
عَنِ النبإ العظيم
بيانٌ لشأن المسؤل عنه اثر تفخيمه بابهام أمرِه وتوجيِه أذهانِ السامعينَ نحوَه وتنزيلِهم منزلَه المستفهمينَ فان ايراده على طريقةِ الاستفهامِ من علاَّمِ الغيوبِ للتنبيهِ على أنَّه لانقطاعِ قرينِه وانعدامِ نظيرِه خارجٌ عن دائرةِ علومِ الخلقِ خليقٌ بأنْ يُعتنى بمعرفتِه ويُسألَ عنْهُ كأنَّه قيلَ عنْ أيِّ شيءٍ يتساءلُون هلْ أُخبرِكُم بِه ثمَّ قيلَ بطريقِ الجوابِ عن النبأِ العظيمِ على منهاجِ قولِه تعالى لّمَنِ الملك اليوم
84
٧٨ سورة النبأ (٣ ٤)
لِلَّهِ الواحد القهار فعنْ متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ المذكورُ من مضمرٍ حقُّه أنْ يقدرَ بعدَها مسارعةً إلى البيانِ ومراعاةً لترتيبِ السؤالِ هذا هو الحقيقُ بالجزالةِ التنزيليةِ وقد قيلَ هي متعلقةٌ بالمذكورِ وعمَّ متعلقٌ بمضمرٍ مفسرٍ بهِ وأيَّد ذلكَ بأنَّه قُرىء عَمَّه والأظهرُ أنَّه مبنيٌّ على إجراءِ الوصل مْجرى الوقفِ وقيل عن الأُولى للتعليل كأنَّه قيلَ لمَ يتساءلون عن النبأ العظيم وقيل قبل عن الثانية استفهام مضمر كأنه قيل عم يتساءلون أعن النبأ العظيم والنبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ وقد وصفَ بقولِه تعالى
85
الذى هم فيه مختلفون
بعد وصفِه بالعظيم تأكيداً لخطره إثرَ تأكيدٍ وإشعاراً بمدار التساؤلِ عنه وفيهِ متعلقٌ بمختلفونَ قدم عليه اهتماماً به ورعايةً للفواصلِ وجعلُ الصلةِ جملةً اسميةً للدلالةِ على الثباتِ أي هُم راسخونَ في الاختلافِ فيهِ فمِن جازمٍ باستحالته يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وشاكَ يقول ما ندري ما الساعة إن نظن إلاَّ ظنا وما نحن بمستقينين وقيلَ منهُم من ينكرُ المعادَينِ معاً كهؤلاءِ ومنهُم مَنْ ينكرُ المعادَ الجسمانيَّ فقطَّ كجمهور النَّصارى وقد حُملَ الاختلافُ على الاختلافِ في كيفيةِ الإنكارِ فمنْهُم مَنْ ينكرُه لإنكارِه الصانعَ المختارَ ومنهُم مَنْ يُنكرهُ بناء على استحالة اعادة المعدومِ بعينه وحملُه على الاختلاف بالنَّفي والإثباتِ بناءً على تعميم التساؤلِ لفريَقيْ المسلمينَ والكافرينَ على أنَّ سؤالَ الأولينَ ليزدادُوا خشيةً واستعداداً وسؤالَ الآخرينَ ليزدادُوا كُفراً وعناداً يردُّه قولُه تعالى
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ المرادَ اختلافُ الجاهلينَ بهِ المنكرينَ له إذْ عليه يدورُ الردعُ والوعيدُ لا على خلاف المؤمنينَ لهم وتخصيصُهما بالكفرة بناءً على تخصيص ضميرِ سيعلمونَ بهم مع عموم الضميرينِ السابقينِ للكلِّ ممَّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه هَذا ما أدَّى إليه جليلُ النظرِ والذي يقتضيِه التحقيقُ ويستدعيهِ النظرُ الدقيقُ أنْ يحملَ اختلافُهم على مخالفتِهم للنبيِّ عليه الصلاة والسلام بأن يُعتبرَ في الاختلافِ محضُ صدور الفعل عن المتعدد حسبَما ذُكرَ في التساؤلِ فإنَّ الافتعالَ والتفاعلَ صيغتانِ مُتآخيتانِ كالاستباقِ والتسابقِ والانتضالِ والتناضلِ إلى غيرِ ذلكَ يجري في كل منهما ما يَجْري في الأُخرى لا على مخالفةِ بعضهِم لبعضٍ من الجانبينِ لأنَّ الكُلَّ وإنِ استحقَ الردعَ والوعيدَ لكنَّ استحقاقَ كلِّ جانبٍ لهُما ليسَ لمخالفتِه للجانب الآخر اذ لاحقية في شيء منها حتَّى يستحقَّ مَن يخالفُه المؤاخذة بل لمخالفته له عليه الصلاة والسلام فكَلاَّ ردعٌ لهم عن التساؤلِ والاختلافِ بالمعنيينِ المذكورينِ وسيعلمونَ وعيدٌ لهم بطريقِ الاستئنافِ وتعليلٌ للردعِ والسينُ للتقريبِ والتأكيدِ وليسَ مفعولُه ما يني عنه المقامُ من وقوعِ ما يتساءلونَ عنه ووقوعِ ما يختلفونَ فيهِ كما في قولِه تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ إلى قولِه تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ الآيةَ فإنَّ ذلكَ عارٍ عن صريحِ الوعيدِ بلْ هُو عبارةٌ عمَّا يلاقونَهُ من فنونِ الدَّواهِي والعقوباتِ والتعبيرُ عن لقائِها بالعلمِ
85
٧٨ سورة النبأ (٥ ١٠)
لوقوعِه في معرضِ التساؤلِ والاختلافِ والمَعْنى ليرتدعُوا عمَّا هُم عليهِ فإنَّهم سيعلمونَ عمَّا قليل حقيقةَ الحالِ إذا حلَّ بهم العذابُ والنكالُ وقولُه تعالى
86
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
تكريرٌ للردعِ والوعيدُ للمبالغةِ في التأكيدِ والتشديدِ وثمَّ للدَّلالة على أنَّ الوعيدَ الثَّاني أبلغُ وأشدُّ وقيلَ الأولُ عند النزعِ والثانِي في القيامةِ وقيلَ الأولُ للبعثِ والثاني للجزاءِ وقُرِىءَ ستعلمونَ بالتاءِ على نهجِ الالتفاتِ الى الخطاب المواقف لما بعده من الخطاباتِ تشديداً للردعِ والوعيدِ لا على تقديرِ قُل لهم كما تُوُهم فإنَّ فيهِ من الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريم مالا يَخْفى وقولُه تعالَى
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا
والجبال أَوْتَاداً
الخ استئنافٌ مسوق لتحقيق النبأ المستاءل عنُهُ بتعدادِ بعضِ الشواهدِ الناطقة بحقيقه إثرَ ما نبَّه عليها بما ذُكرَ من الردع والوعيدِ ومنْ ههُنا اتضحَ أنَّ المتساءَلَ عنه هو البعثُ لا القرآنُ أو نبوةُ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ كما قيلَ والهمزةُ للتقريرِ والالتفاتُ إلى الخطابِ على القراءةِ المشهورةِ للمبالغة في الإلزام والتبكيتِ والمِهادُ البساطُ والفراشُ وقُرِىءَ مَهْداً على تشبيهها بمهدِ الصبيِّ وهو ما يُمهدُ له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدرِ وجعَلُ الجبالِ أوتاداً لها إرساؤُها بها كما يُرسي البيتُ بالأوتادِ
وخلقناكم
عطف على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه فإنَّه في قوةِ أمَا جعلَنا الخ أو على ما يقتضيهِ الإنكارُ التقريريُّ فإنَّه في قوَّةِ أنْ يقالَ قد جعلَنا الخ
أزواجا
اصنافا ذكرا وأنثى ليسكنَ كلٌّ من الصنفينِ إلى الآخرِ وينتظمَ أمرُ المعاشرةِ والمعاشِ ويتسنَّى التناسلُ
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
أي موتاً لأنَّه أحدُ التوفيينِ لَما بينهُمَا من المشاركةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا وقيلَ قطعاً عنِ الإحساسِ والحركةِ لإراحةِ القُوى الحيوانيةِ وازاحة كلاهما والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ كما ستعرفه
وجعلنا الليل
الذي فيهِ يقعُ النومُ غالباً
لِبَاساً
يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللباسُ ولعلَّ المرادَ به ما يستر به عندَ النومِ من اللحافِ ونحوِه فإنَّ شبهَ الليلِ به أكملُ واعتبارَهُ في تحقيقِ المقصدِ أدخلُ فهو جعلَ الليلَ محلاً للنومِ الذي جْعلَ موتاً كما جعلَ النَّهارَ محلاً لليقظة
86
٧٨ سورة النبأ (١١ ١٤)
المعبرِ عنها بالحياةِ في قولِه تعالى
87
وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً
أي وقتَ حياةٍ تُبعثونَ فيهِ من نومكم الذي هُو أخوُ الموتِ كَما في قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً وجعلُ كونِ الليلِ لباساً عبارةٌ عن تره عن العيونِ لمنْ أرادَ هرباً منْ عدوَ أو بياتاً له أو نحوِ ذلكَ ممَّا لا مناسبةَ له بالمقامِ وكذا جعلُ النهارِ وقتَ التقلبِ في تحصيلِ المعايشِ والحوايجِ
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
أي سبعَ سمواتٍ قويةِ الخلقِ محكمةِ البناءِ لا يُؤثر فيها مرُّ الدهورِ وكرُّ العصورِ والتعبيرُ عن خلقها بالبناء مبنيٌّ على تنزيلِها منزلةَ القبابِ المضروبةِ على الخلقِ وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ ليسَ لمراعاةِ الفواصلِ فقطْ بلْ للتشويقِ إليهِ فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له فإذا وردَ عليها تمكّنَ عندَها فضلُ تمكنٍ
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
هذا الجعلُ بمعنى الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أنه مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كَما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ الخ وقولِه تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا وأياما كانَ ففيهِ إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأنْ يكونَ فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله تعالى وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً الآيةَ فإن كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً ايا ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجمل متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنَّه عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً والوهَّاجُ الوقَّادُ المتلألىءُ من وهجتِ النارُ إذا أضاءتْ أو البالغُ في الحرارةِ من الوهجِ والمرادُ به الشمسُ والتعبيرُ عنها بالسراجِ من روادفِ التعبيرِ عن خلقِ السمواتِ بالبناءِ
وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات
هي السحائبُ إذا أَعْصرتْ أي شَارفتْ أنْ تعصُرَها الرياحُ فتمطرَ كما في أحصدَ الزرعُ إذا حانَ له أنْ يُحصدَ ومنه أعصرتِ الجاريةُ إذا دنتْ أنْ تحيضَ أو الرياحُ التي حانَ لها أن تعصُرَ السحابَ وقُرِىءَ بالمعصرات ووجهُ ذلكَ أنَّ الإنزالَ حيثُ كانَ من المعصراتِ سواء أريدَ بها السحائبَ أو الرياحَ فقد كانَ بها كما يقالُ أعطاهُ من يدِه وبيدِه وقد فسرتِ المعصراتُ بالرياحِ ذواتِ الأعاصيرِ ووجههُ أنَّ الرياحَ هي التي
87
٧٨ سورة النبأ (١٥ ١٧)
تنشيء السحاب وتدر أخلافَه فصلحتْ أنْ تجعلَ مبتدأً للإنزالِ
مَآءً ثَجَّاجاً
أي مُنصبَّاً بكثرةٍ يقالُ ثجَّ الماءُ أي سالَ بكثرةٍ وثجَّه أيْ أسالَه ومنه قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام افضل الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ أي رفعُ الصوتِ بالتلبيةِ وصبُّ دماء الهدي وقرىء ثجاجا بالحاءِ بعدَ الجيمِ قالُوا مثاجحُ الماءِ مصابُّه
88
لِّنُخْرِجَ بِهِ
بذلك الماءِ
حَبّاً
يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما
وَنَبَاتاً
يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ
وجنات
الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جَنَّه إذا سترَهُ تُطلق على المخل والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه قالَ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى... كأنَّ عيني في غَربي مقتلة... منَ النواضِحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً... وعَلَى الأرضِ ذاتُ الشجرِ قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفِردوسُ ما فيه الكَرْم والأولُ هو المرادُ وقولُه تعالَى
أَلْفَافاً
أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ وقيلَ الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ وقيلَ هو جمعُ اف جمع لفَّاءَ كخضر وخضراءَ وقيلَ جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ واعلم أنَّ فيما ذكر من أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ الأولُ باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدَر على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى الثَّانِي باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدة الى الخلق يتسحيل ان ينفيها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً والثالثُ باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ يعاينوه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً وقولُه تعالَى
إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا
شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متى هذا الوعد إِن كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل حداً توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حدا للخلائق ينتهون فيهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الاولى
88
٧٨ سورة النبأ (١٨ ١٩)
وقوله تعالى
89
يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور
أي نفخةً ثانيةً بدلٌ من يومِ الفصلِ أو عطفُ بيانٍ له مفيد لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ ومباديه وآثارُه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عنْ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله ﷺ قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرش متى يؤمر بهِ فينفخُ فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفخُ نفخَّة لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والفاء في قوله تعالى
فَتَأْتُونَ
فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقةً بدلالهِ الحالِ عليها وإيذانا بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ إلى الموقفِ عَقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلا
افواجا
اي أمماً كلُّ أمةٍ معَ إمامِها كما في قولِه تعالى يوم ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها عن معاذٍ رضيَ الله عنه أنَّه سأل رسول الله ﷺ فقال ﷺ يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ ثم أرسلَ عينيهِ وقالَ تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ وبعضُهم صمٌّ بكم وبعضهم يمضغون ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذين على صورة الخنازير فأهلُ السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ البكم فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ
وَفُتِحَتِ السماء
عطفٌ على ينفخُ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ وقُرِىءَ فُتِّحتْ بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى
فَكَانَتْ أبوابا
أي كثرت ابوابها المفتح لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً
89
٧٨ سورة النبأ (٢٠ ٢٢)
كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ وهو المرادُ بقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله أي أمرُه وبأسه فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمامِ والملائكةِ وقيلَ الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشط فينتفح مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ
90
وسُيرتِ الجبالُ
أي في الجوِّ على هيآتها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً في أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في غايةِ السرعةِ لا سيمَّا من بعيدٍ وعليهِ قولُ مَنْ قالَ بأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ وقد أُدمج في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش يبدلُ الله تعالى الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قولُه تعالى
فَكَانَتْ سَرَاباً
أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقولِه تعالى وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هباء منبثا أي غُباراً مُنتشراً وهيَ وان اندكت ونصدعت عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينفسها رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات وبرزوا الله الواحد الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليهِ السَّلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليوم اثر بيان هو له ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها
للطاغين
متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لمرصاداً أي كائناً للطاغينَ وقولُه تعالَى
مآبا
بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ مآبا قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ مآبا على أنَّها مرصادٌ للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد قيلَ إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآب للطاغين
90
٧٨ سورة النبأ (٢٣ ٢٩) وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ يشذَّ منُهم أحدٌ وقرىء أنَّ بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ
91
لابثين فِيهَا حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في للطاغينَ وقُرىءَ لبثينَ وقوله تعالى
أَحْقَاباً ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو سبعونَ ألفَ سنةٍ وقولُه تعالى
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ولا شرابا إلا حميم وَغَسَّاقاً جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنهم بأنهم لا يذوقون فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حر النار ولا شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً وقيلَ البردُ النومُ وقرىء غساقا بالتخفيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:وقولُه تعالى :﴿ لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ﴾ جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنُهم بأنَّهم لا يذوقونَ فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حرَّ النَّارِ ولا من شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً، وقيلَ : البردُ النومُ وقُرِئَ غَسَاقاً بالتفخيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم.
جَزَاء أي جُوزوا بذلكَ جزاءً
وفاقا ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها وِفاقاً وقُرِىءَ وَفَاقاً على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي لاقَهُ
إنهم كانوا الا يَرْجُونَ حِسَاباً تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ يُحاسبُوا بأعمالهم
وكذبوا يآياتنا الناطقةِ بذلكَ
كِذَّاباً أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ الفصحاء وقرىء بالتخفيف وهو مصدرُ كذبَ قالَ فَصدَقتُها وَكذَبتُها والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه وانتصابُه إمَّا بفعلِه المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما بنفس كذبوا لتضمينه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ بالحقِّ فهو كاذبٌ وقُرِىءَ كُذَّاباً وهو جَمعُ كاذبَ فانتصابُه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً لمصدرِ كذبوا أي تكذيبا كذابا مُفرطاً كذبُه
وَكُلَّ شىْء من الأشياءِ التي منْ جُملتِها أعمالُهم وانتصابُه بمضمرٍ يفسرُه
أحصيناه أي حفظناهُ وضبطناهُ وقُرِىءَ
91
٧٩ سورة النبأ (٣٠ ٣٦) بالرفعِ على الابتداءِ
كتابا مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ أو في صحفِ الحفظةِ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى
92
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً مسببٌ عن كفرِهم بالحسابِ وتكذيبِهم بالآياتِ وفي الالتفاتِ المنبىءِ عن التشديدِ في التهديدِ وإيرادِ لَنْ المفيدةِ لكونِ تركِ الزيادةِ من قبيل مالا يدخلُ تحتَ الصحةِ من الدلالةِ على تبالُغِ الغضبِ مالا يخفى وقد روى النبي عليه الصلاةَ والسلام أنَّ هذهِ الآيةِ أشدُّ ما في القرآنِ على أهلِ النَّارِ
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانِ سوءِ أحوالِ الكفرةِ أي إنَّ للذينَ يتقونَ الكفرَ وسائرَ قبائحِ أعمالِ الكفرةِ فوزاً وظفراً بمباغيهم أو موضعَ فوزٍ وقيلَ نجاةً ممَّا فيه أولئكَ أو موضعَ نجاةٍ وقولُه تعالى
حَدَائِقَ وأعنابا أيْ بساتينَ فيها أنواعٌ الأشجارِ المثمرةِ وكروماً بدلٌ منْ مفازاً
وَكَوَاعِبَ أي نساءٌ فلكتْ ثُديهنَّ وهُنَّ النَّواهدُ
أَتْرَاباً أي لداتٍ
وَكَأْساً دِهَاقاً أي مُترعةً يقال أدهقَ الحوضَ أي ملأه
لايسمعون فِيهَا أي في الجنةِ وقيل في الكأسِ
لَغْواً ولا كذابا أي لا ينطقونَ بلغوٍ ولا يكذب بعضاً وقُرِىءَ كِذاباً بالتخفيفِ أي لا يكذبُه أو لا يكاذبُه
جَزَاء مّن رَّبّكَ مصدرٌ مؤكدٌ منصوبٌ بمعنى أنَّ للمتقينَ مفازاً فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ جازَى المتقينَ بمفازٍ جزاءً كائناً من ربِّك والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مزيدُ تشريف له صلى الله عليه وسلم
عطاء أي تفيضلا وإحساناً منه تعالَى إذْ لا يجبُ عليهِ شيءٌ وهو بدلٌ من جزاءً
حساب صفةٌ لعطاءً بمعنى كافياً على مصدرٌ أقيمَ مقامَ الوصفِ أو بُولغَ فيه من أحسبهُ الشيءُ إذا كفاهُ حتَّى قال حَسْبي وقيلَ على حسبِ أعمالِهم وقُرىءَ حِسَّاباً بالتشديدِ على أنَّه بمعنى المتحسب كالدراك بمعنى المدرك
92
٧٩ سورة النبأ (٣٧ ٣٨)
93
رب السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بدلٌ من ربِّك وقولُه تعالَى
الرحمن صفةٌ له وقيلَ صفةٌ للأولِ وأيا ما كان ففي ذكرِ ربوبيتِه تعالى للكلِّ ورحمتِه الواسعةِ إشعارٌ بمدارِ الجزاءِ المذكورِ وقوله تعالى
لايملكون مِنْهُ خِطَاباً استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الربوبيةُ العامةُ من غايةِ العظمةِ والكبرياءِ وإستقلاله تعالى بما ذُكر من الجزاءِ والعطاءِ من غير أن يكون لأحدٍ قدرةٌ عليهِ وقُرِىءَ برفعِهما فقيلَ على أنَّهما خبرانِ لمبتدأٍ مضمرٍ وقيلَ الثَّانِي نعتٌ للأولِ وقيلَ الأَولُ مبتدأٌ والثاني خبرُهُ ولا يملكونَ خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والرحمنُ صفةٌ للأولِ وقيلَ لا يملكونَ حالٌ لازمةٌ وقيلَ الأولُ مبتدأٌ والرحمنُ مبتدأٌ ثان ولايملكون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولِ وحصلَ الربطَ بتكريرِ المبتدأِ بمعناهُ على رأي مَنْ يقولُ بهِ والأوجهُ أنْ يكونَ كلاهُما مرفوعاً على المدحِ أو يكونَ الثانِي نعتاً للأولِ ولا يملكونَ استئنافاً على حالِه ففيهِ ما ذُكر من الإشعارِ بمدار الجزاء والعطاءِ كما في البدليةِ لما أنَّ المرفوعَ أو المنصوبَ مدحاً تابعٌ لما قبله معنى إن كان مَنقطعاً عنه إعراباً كما فُصِّل في قولِه تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ وقُرىء بجرِّ الأَولِ على البدليةِ ورفعِ الثانِي على الابتداءِ والخبرُ ما بعدَهُ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وما بعدَهُ استئنافٌ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ وضميرُ لا يملكونَ لأهلِ السمواتِ والأرضِ أي لا يملكون أنْ يخاطبُوه تعالَى من تلقاءِ أنفسِهم كما ينبىءُ عنه لفظُ الملكِ خطاباً مَا في شيءٍ مَا والمرادُ نفيُ قدرتِهم على أنْ يخاطبُوه تعالَى بشيءٍ من نقص العذابِ أو زيادةِ الثوابِ من غيرِ إذنِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيلَ ليسَ في أيديهم ممَّا يخاطب الله به يأمر به في أمرِ الثوابِ والعقابُ خطابٌ واحدٌ يتصرفونَ فيه تصرفَ الملاَّكِ فيزيدونَ فيهِ أو ينقصونَ منْهُ
يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً قيلَ الروحُ خلقٌ أعظمُ من الملائكةِ وأشرفُ منهم وأقربُ من ربِّ العالمين وقيل هم مَلكٌ ما خلقِ الله عزَّ وجلَّ بعدَ العرشِ خلقاً أعظمَ منْهُ عنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّه إذا كانَ يومُ القيامةِ قامَ هو وحدَهُ صَفّاً والملائكةُ كلُّهم صفاً وعنْهُ عنِ النبيِّ ﷺ أنه قالَ الروحُ جندٌ من جنودِ الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيدٍ وأرجلٌ يأكلونَ الطعامَ ثُمَّ قرأَ يومَ يقومُ الروحُ الآيةَ وهذَا قولُ أبي صالحٍ ومجاهدٍ قالُوا ما ينزلُ من السماءِ ملكٌ إلا ومعه واحدٌ منُهم نقلَهُ البغويُّ وقيل هم أشرافُ الملائكةُ وقيلَ هم حفظة على الملائكة وقيلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وصفَّا حالٌ أي مصطفينَ قيلَ هما صفَّانِ الروحُ صفٌّ واحدٌ أو متعددٌ والملائكةُ صفٌّ وقيلَ صفوفٌ وهو الأفق لقولِه تعالى والملك صَفّاً صَفّاً وقيلَ يقومُ الكُلُّ صفّاً وَاحِداً ويومَ ظرفٌ لقولِه تعالى
لاَّ يَتَكَلَّمُونَ وقوله تعالى
إِلاَّ مِن أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً بدلٌ من ضميرِ لا يتكلمونَ العائدِ إلى أهلِ السمواتِ والأرضِ الذينَ من جُملتهم الروحُ والملائكةُ وذكرُ قيامِهم واصطفافِهم لتحقيق عظمةِ سلطانِه وكبرياءِ ربوبيتِه وتهويلِ يومِ البعثِ الذي عليهِ مدارُ الكلامِ من
93
٧٩ سورة النبأ (٣٩ ٤٠) مطلعِ السُّورةِ الكريمةِ إلى مقطعِها والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على مَعْنى أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ إذَا لم يقدرُوا يومئذٍ على أنْ يتكلمُوا بشيءٍ من جنسِ الكلامِ إلاَّ مَنْ أذنَ الله تعالى له منُهم في التلكم وقال ذلكَ المأذونُ له قولاً صواباً أي حقّاً فكيفَ يملكون خطابَ ربِّ العزةِ مع كونه أخصَّ من مطلق الكلامُ وأعزَّ منه مراماً لا على مَعْنى أنَّ الروحَ والملائكةَ مع كونِهم أفضلَ الخلائقِ وأقربَهم من الله تعالى إذَا لم يقدرُوا أنْ يتكلمُوا بما هُو صوابٌ من الشفاعة لمن ارتضَى إلا بإذنه فكيف يكلمه غيرُهم كما قيلَ فإنَّه مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزالِ فمن سلكَهُ مع تجويزه أنْ يكونَ يومَ ظرفاً للايملكونَ فقد اشتبَه عليهِ الشؤن واختلطَ به الظنونُ وقيلَ إلا من أذنَ الخ منصوبٌ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يتكلمونَ إلا في حقِّ شخصٍ أَذِنَ لَهُ الرحمنُ وَقَالَ ذلكَ الشخصُ صواباً أي حقَّاً هُو التوحيدُ وإظهارُ الرحمنِ في موضعِ الإضمارِ للإيذانِ بأنَّ مناطَ الإذنِ هو الرحمةُ البالغةُ لا أنَّ أحداً يستحقُّه عليهِ سبحانَه وتعالَى
94
ذلك إشارةٌ إلى يوم قيامِهم على الوجه المذكورِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان بعلو درجتِه وبُعد منزلتِه في الهولِ والفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدَهُ أي ذلكَ اليومُ العظيمُ الذي يقومُ فيه روح والملائكةُ مصطفينَ غيرَ قادرينَ هُم وغيرُهم على التكلمِ من الهيبةِ والجلالِ
اليوم الحق أي الثابتُ المتحققُ لا محالة من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءُ في قولِه تعالى
فَمَن شَاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تصفح عن شرطٍ محذوفٍ ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقِه بها حسبَ القاعدةِ المستمرةِ وإلى ربِّه متعلقٌ بمآباً قدم عليه اهتماما به ورعايةً للفواصلِ كأنَّه قيلَ وإذا كان الأمر كما ذُكرَ منْ تحققِ اليومِ المذكورِ لا محالةَ فمن شاءَ أن يتخذَ مرجعاً إلى ثوابِ ربِّه الذي ذُكِرَ شأنُه العظيمُ فعلَ ذلكَ بالإيمانِ والطاعةِ وقالَ قَتَادةُ مآباً أي سبيلاً وتعلق الجارية لما فيه من معنى الإفضاءِ والإيصالِ كما مرَّ في قوله تعالى مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً
إِنَّا أنذرناكم أيْ بمَا ذُكرَ في السورةِ من الآيات الناطقةِ بالبعث وبمَا بعدَهُ من الدَّواهي أو بها بسائر القوارعِ الواردةِ في القرآن
عَذَاباً قَرِيباً هو عذابُ الآخرة وقربه لتحقيق إتيانِه حَتْماً ولأنَّه قريبٌ بالنسبة إليه تعالى وإنْ رَأَوْه بعيداً وسيرونَهُ قريباً لقولِه تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها وعن قَتَادَةَ هو عقوبةُ الدُّنيا لأنَّه أقربُ العذابينِ وعن مقاتلٍ هو قتلُ قريشٍ يوم بدر وقوله تعالى
يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فإنَّه إما بدلٌ من عذاباً أو ظرفٌ لمضمرٍ هو صفةٌ له أي عذاباً كائناً يومَ ينظرُ المرءُ أي يشاهد
94
٧٩ سورة النازعات (١ ٥) ما قدمَهُ من خيرٍ أو شرَ على أنَّ مَا موصولةٌ منصوبةٌ بينظرُ والعائدُ محذوفٌ أو ينظرُ أيَّ شيءٍ قدمتْ يداهُ على أنَّها استفهاميةٌ منصوبةٌ بقدمتْ وقيلَ المرءُ عبارةٌ عن الكافر وما في قوله تعالى
وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ ترابا ظاهرٌ وُضع موضعَ الضميرِ لزيادةِ الذمِّ قيلَ معنى تمنيهِ ليتني كنتُ تراباً في الدُّنيا فلم أخلق ولم ولم أُكلَّف أو ليتني كنتُ تُراباً في هذا اليومِ فلم أُبعثْ وقيلَ يحشرُ الله تعالى الحيوانَ فيقتصُّ للجمَّاءِ من القرناءِ ثم يردُّه تراباً فيودُّ الكافرُ حالَه وقيلَ الكافرُ إبليسُ يَرَى آدمَ وولدَهُ وثوابَهُم فيتمنَّى أنْ يكونَ الشيءَ الذي احتقرَهُ حينَ قالَ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ من طينٍ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عَمَّ يتساءلونَ سقاهُ الله تعالى بردَ الشرابِ يومَ القيامةِ والحمدُ لله وحده سورة النازعات مكية آياتها ست وأربعون
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
95
Icon