تفسير سورة الشعراء

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الشعراء
مكية كلها إلا آيات أربع من قوله تعالى: «يتبعهم الغاوون» إلى آخر السورة، وعدد آياتها مائتان وسبع وعشرون آية.
موقف المشركين من الدعوة الإسلامية [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
المفردات:
طسم تقرأ طا. سين. ميم. مع إدغام نون سين في الميم التي تليها باخِعٌ البخع أن يبلغ بالذابح النخاع، وذلك أقصى حد الذابح والمراد قاتلها ومهلكها أَعْناقُهُمْ قادتهم ورؤساؤهم زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ حسن جميل.
742
وهذا بدء لسورة الشعراء، وهي سورة مكية، افتتحت بأحرف هجائية فيها ما قلناه في أول سورة البقرة، وما خلاصته أن الله أعلم به ونحن نقف عند هذا الحد، وهو كالشفرة بين الله- جل جلاله- ورسوله الأعظم إذ هو مخاطب به فلا بد أن يعرف معناه، وقال البعض: لا بد أن نفهم له معنى وسرا، والظاهر أنه أتى به للتحدى بالقرآن الذي هو مكون من حروف المعجم العربية التي ينطق بها كل عربي، ومع هذا عجزوا عجزا ظاهرا.
وهكذا جاءت السورة بذلك الطابع حيث تكلمت عن القرآن الكريم وموقف المشركين منه، ثم تعرضت لقصص بعض الأنبياء- عليهم السلام-، ثم ختمت بالكلام على القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم.
المعنى:
هذه الآيات- الإشارة إلى آيات هذه السورة- آيات من الكتاب أى: القرآن الكريم المبين عن أغراضه ومقاصده وأحكامه وإعجازه، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وهذه الإبانة في الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن عقيدة الكفار.
نعم أنزل عليك يا محمد كتاب أحكمت آياته، وفصلت من لدن حكيم خبير، فيه الهدى والنور لك ولأمتك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإذا كان هذا القرآن كذلك، ولم يؤمنوا به، فليس لنقص فيه. ولكن الله أراد ذلك، وعلى هذا فلا تبالغ في الحزن والأسف على عدم إيمانهم لأنك إن بالغت فيه كنت كمن يقتل نفسه، ويبالغ في ذبحها، ثم لا ينتفع بذلك أبدا، فنحن مشفقون عليك أيها الرسول إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.
واعلم أن الله على كل شيء قدير، وهو قادر على أن ينزل آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه، وهم يذلون لها ويخضعون وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «١». وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «٢» وكانت حكمته أن جعل الناس أحرارا، وجعل لهم اختيارا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقد قامت الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم مبشرين ومنذرين، ولهذا أثابهم وعاقبهم.
(١) سورة يونس الآية ٩٩.
(٢) سورة هود الآية ١١٨.
743
ولكن كلما جاء أمة رسولها كذبوه، وأعرض أكثرهم فهم لا يؤمنون، وها هم أولاء كفار مكة ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا كانوا عنه معرضين، والقرآن الكريم نزل على النبي صلّى الله عليه وسلم منجما تبعا للحوادث، وتلاه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية فالقرآن أى الحروف والأصوات حادث بهذا المعنى.
والله- سبحانه- يقول لهم ما معناه: إن الله قادر على أن ينزل آية تخضع لها أعناقهم وتذل، ومع هذا فهو ينزل القرآن آية بعد آية رحمة بهم لعلهم يهتدون ويتذكرون ولكنهم أبدا لا يتعظون ولا يؤمنون، بل هم معرضون ومكذبون ومستهزئون، وإذا كانوا هم بهذا الوضع فلا ينفع معهم إلا الزجر الشديد، والوعيد الذي يهز القلوب وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ «١» ولقد صدق الله حيث يقول فيهم:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «٢» نعم سيرون هذا بنزول العذاب عليهم في الدنيا، ونصرة محمد وصحبه الضعاف عليهم، أو سيرون ذلك يوم القيامة.
وقد بين الله- سبحانه- أنه مع إنزال القرآن آية بعد آية، وحالا بعد حال قد أظهر أدلة كونية في كتاب الوجود لا تخفى على أحد ممن يعقل فقال.
أعموا ولم يروا إلى الأرض وعجائبها؟ التي تنطق بأن لهذا الكون إلها قويا قادرا عليما خبيرا، لا يمكن أن يقاس بتلك الأصنام والأحجار، أو لم يروا إلى الأرض كثيرا ما أنبتنا فيها من كل زوج وصنف كريم، ولا شك أن كل نبات في الأرض كريم أى له فوائد، وإن خفيت على بعض الناس.
إن في ذلك الإنبات لآية بليغة معجزة قوية وأى آية؟!! وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز يعز أولياءه وينصر أحبابه، القوى الذي يهزم أعداءه، ويهلكهم حيث يستحقون ذلك، الرحيم بالعباد جميعا ففي نعمه ونقمه رحمة بالخلق وقد نفى القرآن عنهم الرؤية مع أنهم يرون، ولكنهم كالبهائم التي ترى ولا تعقل، والرؤية المنفية عنهم هي رؤية الروح والقلب التي بها العظة والعبرة والذكرى لا رؤية العين فإنها موجودة.
(١) سورة ص الآية ٨٨.
(٢) سورة الشعراء الآيتان ٥ و ٦.
744
ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌﰍ ﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳ ﰿ ﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍ
قصة موسى مع فرعون وملئه [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ٦٨]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
745
المفردات:
كَلَّا كلمة زجر وردع والمراد: اتق الله وانزجر عن خوفك منهم بِآياتِنا المراد هنا معجزاتنا فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين لا ضَيْرَ لا ضرر فيما يلحقنا من عذاب الدنيا أَسْرِ بِعِبادِي أى سربهم ليلا لَشِرْذِمَةٌ لجميع قليل محتقر لَغائِظُونَ أى: غاظونا بخروجهم من غير إذن حاشِرِينَ جامعين لأفراد الجيش مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق تَراءَا الْجَمْعانِ المراد التقى الجيشان فِرْقٍ الفرق القطعة من البحر كَالطَّوْدِ الجبل الشامخ وَأَزْلَفْنا وقربنا هناك قوم فرعون حاذِرُونَ آخذون حذرهم وأهبتهم.
747
هذه هي قصة موسى مع فرعون وملئه، وقد ذكرت في سور هي البقرة.
والأعراف. ويونس. وهود. وطه. والشعراء. والنمل. والقصص. وغافر.
والسجدة. والنازعات، ولكن بأساليب مختلفة.
وقصة موسى مع فرعون تشتمل على عناصر وقد ذكرت في مواضع سنلخصها بما يأتى:
ولادته وإرضاعه: في سورة القصص من آية ٧ إلى ١٣ في سورة طه من آية ٢٧ إلى ٤٠ تربيته في بيت فرعون:
في سورة الشعراء من آية ١٨ خروج موسى من مصر إلى أرض مدين: في سورة طه من آية ٤٠ في سورة القصص من آية ١٥ إلى ٢١ أرض مدين ونزوله بها: في سورة القصص من آية ٢٢ إلى ٢٥ قضاء موسى مدة استئجاره: في سورة القصص من آية ٢٦ إلى ٢٨ موسى بالوادي: في سورة طه من آية ٩ إلى ٢٣ في سورة القصص من آية ٤٤ إلى ٤٦ في سورة القصص من آية ٢٩ إلى ٣٢ في سورة النمل من آية ٧ إلى ١٢ بعثته عليه السلام: في سورة طه من آية ٢٤ إلى ٣٦ في سورة طه من آية ٤٢ إلى ٤٧ في سورة الشعراء من آية ١٠ إلى ١٦ في سورة النازعات من آية ١٥ إلى ١٩ عودة موسى إلى مصر ودعوته لفرعون: في سورة الأعراف من آية ١٠٤ إلى ١٠٥ في سورة الشعراء من آية ١٧ إلى ٢٢ موسى يحاج فرعون في ربوبية الله في سورة طه من آية ٤٨ إلى ٥٥ في سورة الشعراء من آية ٢٣ إلى ٥٥ فرعون يتجاهل الله ويدعى الألوهية في سورة القصص من آية ٢٨ في سورة غافر من آية ٣٦ إلى ٣٧
748
معجزة العصا واليد: في سورة الأعراف من آية ١٠٦ إلى ١٢٦ في سورة يونس من آية ٧٩ إلى ٨٩ في سورة طه من آية ٥٧ إلى ٧٦ في سورة الشعراء من آية ٢٩ إلى ٥٢ تمادى فرعون في الكفر وإيذاء بنى إسرائيل: في سورة الأعراف من آية ١٢٧ إلى ١٢٩ في سورة غافر من آية ٢٥ إلى ٥٢ الائتمار بموسى لقتله: في سورة غافر من آية ٢٨ إلى ٤٦ آيات الله على فرعون: في سورة الأعراف من آية ١٣٠ إلى ١٣٥ في سورة الإسراء من آية ١٠١ إلى ١٠٢ في سورة النمل من آية ١٣ إلى ١٤ في سورة القصص من آية ٣٦ إلى ٣٧ في سورة الزخرف من آية ٤٦ إلى ٥٠ في سورة النازعات من آية ٢٠ إلى ٢١ انطلاق بنى إسرائيل وغرق فرق فرعون: في سورة الأعراف من آية ١٣٦ إلى ١٣٧ في سورة يونس من آية ٩٠ إلى ٩٢ في سورة الإسراء من آية ١٠٣ إلى ١٠٤ في سورة طه من آية ٧٧ إلى ٧٩ في سورة الشعراء من آية ٥٢ إلى ٦٨ في سورة الدخان من آية ١٧ إلى ٣١ نرى أن تلك القصة التي عنى بها القرآن الكريم، وجاء بالقول الفصل فيها. ذكرت في عدة مواضع، وبأساليب مختلفة في الإجمال والتفصيل، وكل سورة ذكر فيها شيء عن القصة، وبعض السور اشتركت في بعض العناصر المهمة- وقد عرفنا أن كل موضع في القرآن ذكر فيه شيء عن موسى أو غيره فالمذكور مناسب تماما لسياق الآيات السابق واللاحق، والقصة هنا ذكرت آية على قدرة الله، وأنه ينصر أولياءه ويهلك أعداءه الذين كذبوا رسله مهما كان لهم من حول وطول وملك وسنسوق المعنى الإجمالى للآيات المذكورة هنا بعون الله
749
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن نادى ربك موسى، وهو بالوادي المقدس طوى والمراد ذكر ما حصل في الوقت من عجائب وأحوال، ولقد ناداه ربك بكلام هو أعلم بكيفيته، والمهم أن موسى عرف ما ناداه به ربه، وقام بما كلفه خير قيام، ناداه، وقال له: أئت القوم الظالمين، قوم فرعون فإنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وظلموا بنى إسرائيل حيث أذاقوهم العذاب الأليم، ألا يتقون هؤلاء الناس؟ ألا يخافون بطش العزيز الجبار؟!! يوم لا ينفع مال ولا بنون.
قال موسى: يا رب إنى أخاف أن يكذبوني ويضيق صدري بما يعملون، ولقد عشت بعيدا عن مصر مدة من الزمن فضعفت لهجتى المصرية، فلا ينطلق لساني بها، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا، وأقوى بيانا، ولهم على ذنب، فإنى قد قتلت قبطيا قبل خروجي من مصر، لهذا وذاك فإنى أخاف أن يقتلوني، قال الله- سبحانه وتعالى- كَلَّا لن يصيبك شيء أبدا، فالله معك، وناصرك أنت وأخيك، فاذهبا إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا، إنا معكم، ولن نترككم لحظة، فالله سميع بصير، لا تخفى عليه خافية.
فأتيا فرعون. فقولا له: إنا رسولا رب العالمين لك ولقومك، فأرسل معنا بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، ولا تعذبهم يا فرعون... قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى.
طلب موسى من فرعون، أن يرسل معه بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى فلسطين قال له فرعون: يا موسى: كيف تجيء بدين يخالف ديننا، وتأتى بأمور على غير رغبتنا؟! ألم نربك فينا وليدا؟ وقد لبثت بين يدينا في بيت الملك مدة من الزمن نحتضنك ونربيك؟ فكيف يصدر هذا منك؟، ومتى كان هذا الذي تدعيه؟ والمراد قر واعترف بأنا ربيناك، ومكثت عندنا وفي بيتنا عددا من السنين، ثم ذكره بفعلة فعلها قبل خروجه من مصر فقال له: قر واعترف بأنك فعلت فعلتك التي فعلتها، وهي قتل القبطي، فعلتها وأنت من الكافرين بقتل نفس بغير حق.
ومن كان هذا وصفه بأن ربي في بيت فرعون، وكان الأليق به ألا يأتى بشيء على غير رغبته ردّا للجميل، ومن قتل قبطيّا، وارتكب مثل هذا الذنب لا يضيف
750
إلى ذنبه ذنبا آخر هو ترك عبادة الآلهة إلى ديانة غير معروفة وعبادة غير مألوفة، ولذا يرد موسى- عليه السلام- بقوله: أما قتل القبطي فقد فعلت فعلتى هذه، وأنا من الضالين الجاهلين الذين لم يعرفوا الحق فيتبعوه، فليس على فيما فعلته توبيخ، وقد خرجت من دياركم، وفررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي من عنده حكما وعلما، وجعلني من الأنبياء، والمرسلين، فليس هذا موضع غرابة وتعجب وإنكار منكم على، وتلك نعمة تمنها على، وهي تربيتي في بيتك؟ وقد استعبدت بنى إسرائيل قومي، والمعنى ما كان لك أن تمن على بأن ربيتني في بيتك، في حال إنك عذبت بنى إسرائيل وأذقتهم سوء العذاب.
محاجة موسى لفرعون في شأن ربه: لما ألحّ موسى في طلب إخراج بنى إسرائيل من مصر إلى فلسطين، وطلب من فرعون وملئه أن يعبدوا ربهم الذي خلقهم، ولم يجد معه التلطف والتذكير بالنعم وخلق هذا العالم قال له فرعون: وما رب العالمين؟
قال موسى: هو رب السموات والأرض وما بينهما، خلق ذلك وابتدعه على أحسن صورة وأكمل نظام، إن كنتم موفقين فاعلموا ذلك، فالتفت فرعون إلى من حوله من ملئه مظهرا العجب قائلا. ألا تسمعون لهذا التخريف، واستمر موسى في كلامه قائلا: هو ربكم ورب آبائكم الأولين، لفت نظرهم إلى شيء هام، وهو أن الرب الحقيقي الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، فأنتم محدثون. كنتم بعد العدم، وآباؤكم ذهبوا وماتوا بعد أن كانوا موجودين، وفرعون أمره كذلك كان بعد العدم، وسيفنى بعد الوجود، وأما الإله فهو الباقي بعد فناء خلقه، القديم الذي لا أول لوجوده...
فما كان من فرعون إلا أن قال لقومه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون لأنه جاءنا بشيء لا نعرفه.
وأما موسى فقال: هو الله رب المشرق والمغرب، ورب الكون كله وصاحب الأمر فيه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزه عن الشبيه والولد والوالد، فهو الإله الحق، لا ما أنتم فيه، إن كنتم تعقلون.
وفي سورة (طه) تتميم لهذا الموقف إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) إلى آخر الآيات.
751
يا فرعون: إنى رسول رب العالمين، ولما أنكر فرعون ذلك قال له موسى: أتنكر ولو جئتك بشيء مبين من المعجزات والآيات الدالة على صدقى؟!! فقال له فرعون. إن كنت من الصادقين فائت بآية تشهد لك، فألقى موسى عصاه من يده، فإذا هي ثعبان ظاهر، لا شك فيه، يتحرك ويسعى، ووضع يده في جيب قميصه ثم نزعها فإذا هي بيضاء للناظرين.
ولما رأى فرعون وقومه تلك الآيتين الحسيتين اللتين تشهدان لموسى بالصدق قالوا هذا سحر مبين، وهذا ساحر ماهر يموه علينا، ويقلب الحقائق، فهو كبقية السحرة، وليس رسولا لرب العالمين كما يدعى، هذا الذي يريد أن يخرجكم من أرضكم ويتغلب عليكم بسحره، ويأخذ بنى إسرائيل من تحت أيديكم... وتشاوروا فيما بينهم: ماذا يفعلون؟ قال بعضهم لفرعون: الرأى أننا نرجئ أمر موسى وأخيه إلى موعد نضربه معهما، ونجمع السحرة المهرة من كل مكان في الدولة، وهؤلاء السحرة ستأتى في مشهد من الناس بأفعال كفعله وأقوى، فتكون النتيجة أنه كباقي السحرة في المدينة، وليس له فضل، ولا حق فيما يدعيه، وكان هذا هو الرأى...
أرسل فرعون في المدائن حاشرين يجمعون له السحرة من كل حدب وصوب، وكان السحرة في القديم هم الطبقة المثقفة، ولهم مكانتهم عند الملوك والجبابرة وجاءوا مدلين واثقين من أنفسهم وتغلبهم على موسى، وطالبوا بأجرهم فقال فرعون. نعم لكم ما تطلبون، وإنكم إذ تغلبون لمن المقربين.
فلما اجتمع القوم، التقى السحرة بموسى قال لهم: ألقوا ما أنتم ملقون به، من العصى والحبال، وذلك بعد ما عرضوا على موسى أن يلقى هو أولا... فألقوا حبالهم وعصيهم، فامتلأ المكان حيات وثعابين، وخيل إلى الكل حتى موسى أنها تسعى وقالوا إنا بعزة فرعون لغالبون.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وقومه، وأيقنوا أن السحرة غلبوا، وأن موسى لن يستطيع أن يغلبهم في شيء إذ معه عصاه، وستكون حية واحدة بين آلاف الحيات.
وعند ذلك أوجس موسى في نفسه خيفة، فأمره الله أن يلقى عصاه فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تبلع حيات السحرة وتتلقفها بسرعة فائقة!! الآن ظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، ودهش آل فرعون والملأ من قومه، وعلم السحرة أن السحر لا
752
يفعل مثل ذلك، إذ غايته أنه يخيل إلى الناس أشياء في الظاهر. أما الحقائق فتبقى كما هي من غير تغيير، وعصى موسى قد غيرت الحقائق، بل ابتلعت كل ما كانوا يفعلون من العصى والحبال.
علم السحرة أن السحر لا يفعل ذلك، إنما هي القوة الإلهية التي صنعت ذلك، القوة القادرة التي هي فوق قوى البشر جميعا، فخروا ساجدين لله بلا شعور ولا نظام ولا ترتيب وآمنوا برب موسى وهارون، مفضلين الحق على الباطل، رامين بقول فرعون وأجره وباطله وجبروته عرض الحائط، غير عابثين بما يترتب على ذلك من نتائج.
لما رأى فرعون ذلك تحير ماذا يفعل في هذا الحدث الخطير الذي شاع وانتشر بين الشعب جميعه، وكان في طلبه الناس ليشهدوا الحفل، وجمعه السحرة ليعجزوا موسى، كان في هذا كله كالساعي لحتفه بظلفه.
ثم التفت إلى السحرة الذين خذلوه في وقت هو في أشد الحاجة إلى أن ينصروه، وقال لهم متوعدا: آمنتم له، وصدقتم برسالته عن ربه قبل أن آذن لكم؟!! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة، وهو تدبير اتفقتم عليه سابقا، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر قديما، قال هذا وهو يعلم أنه ربي في بيته ثم هاجر إلى مدين، وعاد منها رسولا، فلم يجتمع بالسحرة أبدا، ولم يدبر معهم أمرا، ولا علمهم علما، ولكنه المغلوب يتخبط تخبط الأعمى.
ثم هددهم بالعذاب المادي فقال لهم: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم جميعا في جذوع النخل، ولتعلمن بعد هذا: أينا أشد عذابا وأقوى؟! قال السحرة مقالة المؤمن الواثق، المؤمن الفاهم، المؤمن العالم بحقائق الأشياء قالوا:
لا ضير علينا، ولا ضرر، فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فعذابك ساعة نصبر عليها، ونلقى الله مؤمنين، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وماذا يفعل عذابك؟ إنه لن ينال إلا الجسد الفاني، والمادة الزائلة، أما نحن فيستحيل علينا أن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والهدى، والنور الذي قذفه في قلوبنا ربنا، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا لأن كنا أول المؤمنين، إنا نطمع فيه أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، واعلم أن الله خير وأبقى.
هكذا أيها الأخ المسلم قديما وحديثا كان العذاب والإيلام لأخيك المؤمن الذي قال
753
الحق، واتبع الحق، وآمن بالحق، وصدق برسول الحق، ولقد صدق الله حيث يقول وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [سورة الأعراف آية ١٢٦].
فصبرا ثم صبرا لكل من عذب في سبيل الله والدعوة لدين الله، فعسى أن يكون هذا تطهيرا لنفوسنا وإصلاحا لقلوبنا أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت آية ٢].
انطلاق بنى إسرائيل وخروجهم من مصر وغرق فرعون: أوحى الله إلى موسى بعد هذا كله: أن أسر بعبادي، واخرج بهم ليلا، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون سيتبعه، وكان كذلك فلما علم فرعون بخروجهم أرسل في المدائن من يجمع له الجند الكثيف والجيش الكثير ليردهم إلى العبودية، وقال: إن هؤلاء، أى: بنى إسرائيل جماعة قليلة إذا قيست بالمصريين، وإنهم لنا لغائظون، حيث سفهوا أحلامنا، وجاءوا لنا بدين لم نألفه، وشرع لم نعرفه، إنا لجمع حاشد، ومعنا جيش منظم مستعد كامل العدد والعدد، قد اتخذ أهبته وحمل سلاحه.
فلحقوهم عند شروق الشمس صباحا على خليج السويس، فلما رأى بنو إسرائيل فرعون وجنده أيقنوا بالهلاك، ولكن موسى النبي الملهم سكن روعهم، وهدأ نفوسهم وبشرهم بالنصر العاجل، والهلاك الماحق لفرعون ومن حوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل، ووقف الماء بينهم كالطود العظيم، فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا.
وأما فرعون وقومه فتبعوا بنى إسرائيل، وصاروا خلفهم حتى إذا ما توسطوا الماء وقد نجا بنو إسرائيل، وجاوزوا البحر، انطبق البحر على فرعون وجنوده وعاد كما كان أولا، ولم يفلت منهم أحد، وهذا معنى قوله تعالى. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [سورة الشعراء الآيتان ٦٤ و ٦٥].
وهكذا نجى الله المؤمنين، وأهلك الظالمين الكافرين، وأخرجهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، هكذا أورثناها بنى إسرائيل حقبة من الزمن.
754
إن في ذلك لآية، ومعجزة لمن ينظر ويتعظ ولقد نصر الله عباده المؤمنين وهزم أعداءه وأحزاب الشياطين على كثرتهم، وهكذا سنة الله في خلقه، ولن تتخلف أبدا وحقا إن ربك لهو العزيز يعز أولياءه ويهزم أعداءه الرحيم بالخلق جميعا.
قصة إبراهيم [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ١٠٤]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
755
المفردات:
نَبَأَ النبأ الخبر المهم عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها خَطِيئَتِي ذنبي حُكْماً فهما وعلما، وحكمة، ومنه قولهم: الصمت حكم وقليل فاعله لِسانَ صِدْقٍ أى ثناء حسنا. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ قربت وأدنيت ليدخلوها وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ المراد ظهرت جهنم فَكُبْكِبُوا فِيها ألقوا فيها، والكبكبة الإلقاء على الوجه مرة بعد مرة كَرَّةً رجعة إلى الدنيا.
وتتلخص القصة التي ذكرت في هذه السورة:
(أ) في محاجة إبراهيم لأبيه وقومه في عبادة الأصنام وترك عبادة الواحد القهار.
(ب) ما ينتظره المؤمنون والكافرون يوم القيامة من أحوال.
(ج) العبرة من القصة.
756
المعنى:
واتل يا محمد على كفار مكة وعلى غيرهم نبأ إبراهيم، وخبره المهم ليعرف المشركون خصوصا أهل مكة ما كان عليه أبوهم إبراهيم، وكيف كانت مواقفه مع قومه وبخاصة أبيه، وفي ذلك عبرة لأولى الألباب.
واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون؟ سألهم عن عبادتهم وهو بها أعرف ليلفت نظرهم إلى ما يعبدون.. قالوا: يا إبراهيم: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، وعلى عبادتها مقيمين.. قال إبراهيم مناقشا لهم: عجبا لكم! هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون؟ وهل ينفعونكم في شيء أو يضرون؟.. قالوا مجيبين له على سؤاله واعتراضه: بل وجدنا آباءنا لها عابدين يا عجبا؟ يلفت إبراهيم نظرهم إلى هذه الأصنام التي لا تسمع دعاء، ولا يكون منها نفع ولا ضرر مقصود، يعنى ليس لهم حجة أبدا في عبادتها وتقديسها، وهم لا يرون لهم حجة أبدا إلا التقليد الأعمى فيقولون حجتنا: أنا وجدنا آباءنا لها عابدين، وإنا على آثارهم مقتدون. قال إبراهيم: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ والمعنى أخبرونى عن حال ما كنتم تعبدون.
هل هم يستحقون العبادة أم لا؟ وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، أخبرونى عن حالهم إن كانت لهم قوة حتى أحتاط لنفسي لأنهم أعداء لي.
لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو وليي في الدنيا والآخرة، وهو الذي خلقني، فهو يهديني إلى خيرى الدنيا والآخرة، ولقد صدق الله إذ يقول سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [سورة الأعلى الآيات ١- ٣].
وهو الذي يطعمنى ويسقيني أليس هو ربي وربكم الذي خلق ما في الكون وسخره- للإنسان، يأكل منه ويشرب، ويلبس ويتمتع رزقا للعبادا. ومتاعا لكم ولأنعامكم؟
وإذا مرضت فهو ربي الذي يشفيني إن كان في العمر بقية، وانظر إلى أدب النبوة العالي حيث نسب المرض إلى نفسه والشفاء لله مع أن الكل منه وإليه، وهذا لا يمنع من اتخاذ الأسباب والعمل بها. كالمتوكل على الله بعد الأخذ بها.
والذي يميتني إذا انقضى أجلى، ثم يحييني للحساب والثواب، والموت وما بعده من حياة نعم من نعم الله على عبده.
757
والذي أطمع وأرجو أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين والحساب، وهل لإبراهيم خطيئة وذنب؟ إنه من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمخالفة الأولى من هؤلاء ذنب، وإن كان منا ليس ذنبا.
هذا هو الثناء على الحق جل جلاله بما يليق ثم أتبعه بالدعاء لنعلم أن من وسائل الاستجابة الثناء والتضرع والعبادة الخالصة ثم الدعاء، فإن دعونا بدون ذلك فقد جانبنا أدب الدعاء.
رب هب لي حكما وحكمة، وعلما وفضلا يا واسع الفضل، وألحقنى بالصالحين في الدنيا والآخرة كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى»
وإذا كان دعاء إبراهيم- عليه السلام- وهو أبو الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- أن يلحقه ربه مع الصالحين فما بالنا نحن؟ وبماذا ندعو الله؟!!!.
يقول إبراهيم داعيا ربه: واجعل لي لسان صدق في الآخرين أى ذكرا جميلا، وثناء حسنا أذكر به، ولهذا كانت كل أمة تحبه وتتولاه، وتؤمن به وتدعى أنها على طريقته، وقيل معنى الآية: واجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين يجدد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه، من التوحيد الخالص والإيمان بالبعث وبيوم القيامة. وصاحب هذا اللسان الصادق هو محمد صلّى الله عليه وسلم.
واجعلنى من ورثة جنة النعيم الذين يعطونها ويستحقونها بعملهم كاستحقاق الوارث من مال مورثه، واغفر لأبى إنه كان من الضالين الذين لم يعرفوا طريق الحق وهذا الدعاء قبل أن يتبين له أنه عدو لله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة آية ١١٤].
ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فإنه لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى نفسه بملء الأرض ذهبا، ولا يقيه بنوه، ولو افتدى بمن في الأرض جميعا، ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله، والإخلاص له والبعد عما يغضبه من المعاصي والشرك، ولهذا قال الله: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم من دنس الشرك والمعاصي سليم من الشك والنفاق إذ هي أمراض القلوب فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [التوبة ١٢٥].
هذا حال إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه يحاجهم ويناقشهم، وهذا حاله مع ربه يثنى
758
عليه الثناء الجميل، ويدعو بلسان رطب لسان مشغول بذكره تعالى لا ينساه، أما حال الناس فلا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كافرين، ولذا تعرض القرآن لهاتين الحالتين فقال:
وأزلفت الجنة للمتقين، نعم، وقدمت لهم مجلوة كالعروس تملأ العين بهجة والقلب رواء، فلم يبحثوا عنها، ولم يتعبوا يوم القيامة في طلبها، وبرزت الجحيم للغاوين، وظهرت لهم تملأ قلوبهم حسرة، ونفوسهم حزنا وكدرة على ما فرط منهم من جهل وضلال في الدنيا، وقيل لهم تأنيبا: أين ما كنتم تعبدون؟ أين أولياؤكم من دون الله؟
هل ينفعونكم اليوم؟ هل ينصرونكم ويمنعونكم من العذاب؟ وهل ينصرون هم من عذاب الله؟.. لا هذا ولا ذاك ولكنهم جميعا العابد والمعبود يلقون في النار على وجوههم، وسيلقى الله بعض الكفار على بعض إلقاء مكررا حتى يهوون في قعر جهنم جزاء بما كانوا يعملون.
فكبكبوا فيها هم والغاوون لهم من شياطين الإنس والجن وجنود إبليس وأعوانه أجمعون.
قالوا أى بعضهم لبعض- وهم في جنهم يختصمون- تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر إذ نسويكم برب العالمين، ونجعل أمركم كأمره، وطاعتكم كطاعته، وفي الحق ما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين يشفعون لنا، وما لنا من صديق حميم يدافع عنا أى ليس لنا هذا ولا ذاك إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [سورة ص آية ٦٤].
فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا مرة ثانية ليعملوا ولكن كما قال لهم الله وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة المؤمنون آية ٧٥] إنها قلوب عميت وضلت ولن تهتدى أبدا.
إن في ذلك لآية وعبرة، نعم إن في محاجة إبراهيم لقومه، وتغلبه عليهم، وإقامة الحجة عليهم في التوحيد لآية وعبرة لأولى الألباب، وإن في موقف إبراهيم من أبيه وقومه لما يثبت قلب النبي ويهدئ روعه فلا يحزن على كفر قومه وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز المنتقم الجبار لمن عصاه، الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين...
759
قصة نوح مع قومه [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
المفردات:
الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل. والمراد السفلة وأصحاب الحرف الوضيعة، وقيل هم الفقراء فَتْحاً احكم حكما الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان.
760
المعنى:
هذه هي قصة نوح الذي عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله، وترك الشرك وعبادة الأوثان، ومع ذلك كذبه قومه فقال الله فيهم: كذبت قوم نوح المرسلين، فإن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل لأن الرسول يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية ٢٨٥].
كذبوا إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون! أتدعون صنما وتذرون أحسن الخالقين، والله ربكم ورب آبائكم الأولين، إنى يا قوم لكم رسول أمين في رسالتي صادق في دعواي أنى رسول رب العالمين، فاتقوا الله، وأطيعونى، وإنى لا أرى سببا لعصياني وتكذيبي وأنا أخوكم تعرفون عنى ما تعرفون من شرف النسب وكرم الخلق وصدق الحديث، وأنا لا أطلب بدعوتي مالا ولا جاها ولا ملكا، وما أجرى إلا على ربي، وليس جزائي إلا عنده فما لكم تكفرون؟ فيا قوم اتقوا الله وأطيعونى.
قالوا يا نوح: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ لم يجدوا حجة تؤيدهم في ترك الإيمان إلا أنه قد اتبعه ضعاف الناس وفقراء القوم.
يا للعجب! الحياة يوم مكرر، فقديما وحديثا منع الناس من الإيمان ذلك الفهم السيئ، وذلك الغرور الكاذب الذي أوقع إبليس في العصيان لأنه اغتر وقال: أأسجد لآدم، وأنا خير منه خلقتني يا رب من نار وخلقته من طين، ومنع أشراف قريش من الإيمان بمحمد لأنه آمن به بلال وصهيب وغيرهم من عامة الناس.
وهؤلاء أتباع نوح يقولون: أنؤمن لك ونصدق بك وقد اتبعك الأرذلون أصحاب الحرف الوضيعة. لا يمكن، نحن أشراف القوم! فيقول لهم نوح: وما علمي بما كانوا يعملون، لم أكلف العلم بأعمالهم وأحسابهم وأنسابهم. إنما كلفت بدعواهم للإيمان برب العالمين فاستجابوا لي، وآمنوا بي بعد إيمانهم بالله وملائكته واليوم الآخر، وأما أعمالهم فحسابهم على ربي لا علىّ، يا ليتكم تشعرون بذلك، لو تشعرون وتعلمون أن حسابهم على ربهم لما عاتبتمونى بصنائعهم، وما أنا بطارد المؤمنين مهما كانوا من فقر أو ضعف أو رقة حال فالكل سواء، ولا فضل لأحد إلا بالعمل الصالح، وما أنا إلا نذير مبين.
761
لم ينفعهم هذا الكلام، ولم يرضهم هذا الأسلوب بل عدوه إهانة لهم وسبأ لآلهتهم، وقالوا: لئن لم تنته يا نوح عن سب آلهتنا وتسفيه أحلامنا لتكونن من المرجومين بالحجارة المقتولين شر قتله.
فلما ضاق بهم ذرعا، واستعصى عليه أمرهم دعا ربه وقال: رب إن قومي كذبوني فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا، ونجنى ومن معى من المؤمنين.
فكان الحكم العدل والقضاء، الذي لا يرد: أن الله أنجاه ومن معه من المؤمنين أنجاه في الفلك المشحون بالخلق، وقد مضى ذكرها والكلام عليها في سورة [هود والمؤمنون].
ثم أغرق الله الكافرين مطلقا.
إن في ذلك لآية وأى آية أبلغ من تلك لو كنتم تعلمون يا كفار قريش فهذا نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمنوا به، بل وقالوا: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، وها أنتم أولاء يدعوكم نبيكم الصادق الأمين فلم تؤمنوا، وقلتم أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [سورة الأنعام آية ٥٣]. وقلتم إن أردت أن نؤمن لك فلا تجلس مع هؤلاء العبيد والخدم.
اتعظوا أيها القوم بما حل بالمشركين قبلكم حينما غضب عليهم نبيهم فقد غرقوا، ولم ينج إلا نوح والمؤمنون معه، وابنه لأنه لم يؤمن قد غرق كذلك، وأما أنت يا محمد فلا تحزن ولا تيئس فالنصر للمؤمنين والهلاك للكافرين، ونوح دعا قومه مدة من الزمن ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
قصة هود مع قومه [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
762
المفردات:
رِيعٍ جمع ريعة. المرتفع من الأرض، وقيل الطريق آيَةً علامة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا كاللعب مَصانِعَ جمع مصنعة وهي الحوض أو البركة، وقيل هي القصور والمدائن بَطَشْتُمْ البطش السطوة والأخذ بعنف خُلُقُ عادة وطبع وقرئ خلق بمعنى اختلاق وكذب.
المعنى:
أرسل الله هودا إلى قومه عاد، وكانوا قوما أولى بأس وشدة ورخاء ونعيم فقال لهم: اعبدوا الله وحده فما لكم من إله غيره ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إنى لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله وأطيعونى، يصلح لكم أعمالكم، ويحفظ عليكم نعمكم، وأنا لا أسألكم على ذلك أجرا ولا مالا، ولا أبغى
763
بذلك سلطانا ولا جاها إن أجرى إلا على ربي لو كنتم تعلمون، ولكنهم كذبوه إذ قال لهم هذا، ورموه بالسفاهة، والجنون.
وقال لهم هود: يا قوم أتبنون بكل مرتفع من الأرض أو بكل طريق بناء كالعلامة التي يهتدى بها حالة كونكم تعبثون؟ وتلعبون بهذا البناء، ولم تنتفعوا به فيما ينفعكم، وقيل أنتم في هذا البناء تسخرون، وتهزءون بغيركم حينما يمرون عليكم؟ وتتخذون مصانع تجمعون فيها الماء كالأحواض والبرك والسدود، أو تتخذون مصانع من المدائن والقصور الشامخات، والتاريخ يحدثنا بأنهم كانوا أصحاب سدود وأحواض لجمع المياه، وأصحاب قصور شامخات لعلكم بذلك كله تخلدون، والمراد فعلتم هذا راجين الخلود في الدنيا منكرين البعث وإذا بطشتم بأحد بطشتم جبارين، وقد كانت تلك القبيلة ذات بأس وقوة وشدة، وقد زادهم الله بسطة في الجسم والخلق، وبوأهم أرضا تدر عليهم من الخير الكثير، لهذا كانوا إذا سطوا أو حاربوا بطشوا بعنف وشدة.
وقد وصفهم الله بصفات ثلاثة كلها تدل على أنهم يريدون علوا في الأرض واستكبارا، فهم يبنون بكل ريع بناء ضخما حالة كونهم به يستهزئون ويعبثون، وهم قد اتخذوا المصانع والمنازل كأنهم مخلدون، وإذا بطشوا بالغير بطشوا جبارين، وهذه صفات تتنافى مع الإيمان والتصديق بالرسل الكرام، لذا تجدهم كذبوا هودا وتحدوه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
مع أن هودا كان يدعوهم بالحسنى ويذكرهم بالنعمى، لعلهم يثوبون ويرجعون فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ واتقوا يا قوم الذي خلقكم وأمدكم بما تعلمون من النعم، أمدكم بأنعام منها تأكلون، وعليها تحملون، ومن أوبارها وأشعارها تلبسون، وأمدكم ببنين أولى بأس وقوة، وأمدكم بجنات وعيون، وهل بعد هذا نعمة؟ أعطاهم أنعاما ورجالا، وجنات وأنهارا أفليس هذا مما يدعو إلى الشكر وامتثال الأمر، ولذا قال هود لهم: يا قوم. إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم في الدنيا والآخرة.
ولكنهم قوم مغرورون، لم يستجيبوا لنبيهم بل قالوا له: يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرعوى لوعظك، ولا نسمع لكلامك والسبب في هذا. أن الذي خوفتنا به ما هو إلا خلق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، وعلى قراءة (خلق) يكون المعنى إن هذا الذي نحن عليه من بناء الصروح والقوة في
764
الحروب إلا عادة آبائنا الأولين ورثناها عنهم، وما نحن بمعذبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول.
وكانت النتيجة أنهم كذبوه في كل ما أتى به، فأهلكناهم بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال، وثمانية أيام حسوما. فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية.
إن في ذلك لآية: وأى آية أقوى وأشد أثرا وأبعد مغزى من هذه؟
فمنها نعرف الموقف النبيل الذي وقفه هود من قومه حينما رموه بالسفاهة والجنون فقال لهم: يا قوم ليس بي سفاهة، ولست أنا مجنونا.
ومنها نعرف كيف يتلطف الداعي فيذكر النعم التي منّ الله بها والتي تقتضي الشكر لله، والإيمان به.
وفي هذه القصة نرى كيف أهلك الله من عصى رسوله ولم يؤمن به فاحذروا يا آل مكة من عصيانكم وتكذيبكم، وها أنت يا محمد- وأنت الرسول الصادق الأمين- ترى ما فعله أخوك، وما حل بالقوم الكافرين، ومع هذا كله فما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الذي لا يغلبه أحد، الرحيم بمن آمن به...
قصة صالح مع قومه ثمود [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
765
المفردات:
طَلْعُها أول ما يطلع من ثمرة النخل، وهو كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو هَضِيمٌ لين متكسر من هضم الغلام يهضم خمص بطنه ولطف كشحه فهو أهضم وهضماء وهضيم. أما هضم يهضم فمعناه كسر أو ظلم فارِهِينَ بطرين أو أشرين أو حاذقين مأخوذ من الفراهة وهي النشاط الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم شِرْبٌ نصيب من الماء تشربه فَعَقَرُوها ذبحوها.
المعنى:
أرسل الله إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا، فقال لهم: ألا تتقون. دعاهم إلى عبادة الله وترك الأصنام، وقال لهم: إنى لكم رسول أمين، فاتقوا الله حق تقواه، وأطيعونى حيث إنى رسول رب العالمين إليكم وما أسألكم على ذلك أجرا، ولا أطلب منكم مالا، ولا أريد جاها ولا رئاسة.
766
بآية دالة على صدقه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ من سورة الأعراف، وقال لهم صالح: أتتركون في ما ها هنا آمنين؟ أى أتتركون في دنياكم هذه آمنين تتقلبون في النعيم آمنين من العذاب؟ والمعنى لا تظنوا ذلك، ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون على هذه الحال. أتتركون في ما ها هنا آمنين، في جنات وعيون، ونخل طلعها هضيم؟ لا يعقل أن تتركوا على ما أنتم عليه من الشرك والكفر والظلم المبين، وأنتم تمرحون في بحبوحة من النعيم، وتتمتعون بالجنان والأنهار والزرع والثمار، والنخيل ذات الطلع اللين الجميل.
أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين؟ الاستفهام هنا للإنكار، والإنكار منصب على قوله فارهين، على معنى لا تنحتوا من الجبال بيوتا وأنتم فرحون فرح بطر وأشر، مع السرعة والنشاط فإن هذه المعاني تفيد الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها مع عدم الإيمان بيوم القيامة. فاتقوا الله أيها القوم، ولا تطيعوا المسرفين على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا، لا تطيعوهم في أمر من الأمور، فإنهم هم الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون أبدا في وقت من الأوقات، وهؤلاء هم أشراف القوم والملأ أما ضعاف الناس فآمنوا بصالح ورسالته قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) من سورة الأعراف وقال الذين استكبروا أيضا يا صالح: إنا لفي شك مما تدعونا إليه بالرسالة منك فإنا ذو جاه ومال، وإن كنت رسولا فائت بآية تدل على صدقك، وأغلب الظن أنك رجل سحرت حتى ضاع عقلك فادعيت ما تدعيه، قال صالح: هذه ناقة الله، وهي آية ومعجزة دالة على صدقى، ولها شرب ولكم شرب يوم معلوم، والذي
روى أنها ناقة خرجت من صخرة، وكانت تشرب الماء كله في يوم ثم تعطيهم بدله لبنا منها، ولهم ولأنعامهم وزروعهم شرب في يوم آخر
، ويظهر- والله أعلم- أن ذلك عنوان كون الناقة آية، وإلا لو كانت ناقة عادية فكيف تكون دالة على صدق صالح، وطالبهم بأنهم لا يمسوها بسوء بل يتركونها تشرب في يومها، وترعى حيث تشاء، ولا يمسوها بسوء أبدا، وحذرهم أنهم إن تعرضوا لها فسيصيبهم عذاب شديد.
767
فعقرها واحد منهم قيل: إن اسمه (قدار)، ولكنهم راضون عن فعله، ولذا نسب العقر إليهم جميعا، فعقروها فأصبحوا نادمين ندما بلا توبة، ولكنه ندم من تيقن نزول العذاب، ولا مناص، وكان أن أخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.
إن في ذلك لآية، وأى آية أعظم من هذا، فهم قوم طغوا وبغوا واغتروا بمالهم وجاههم فلم ينفعهم ذلك، وهم قوم لم يؤمنوا برسولهم مع أن معه آية شاهدة بصدقه فلما ظلوا على هذا نزل بهم العذاب.
وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
قصة لوط مع قومه [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
768
المفردات:
الذُّكْرانَ الذكور وَتَذَرُونَ وتتركون عادُونَ متجاوزون الحد الْقالِينَ المبغضين الْغابِرِينَ الباقين الماكثين.
المعنى:
لوط بن هارون- أخ إبراهيم- عليه السلام- آمن بعمه ورحل معه واهتدى بهديه، ثم أرسله الله إلى أهل سدوم في قطاع الأردن، وكانوا قوما ذوى خلق سيئ، وشرك بالله فقال لهم: ألا تتقون، إنى لكم رسول آمين فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين، يا قوم: أتأتون الذكران في أدبارهم، وتتركون ما أحله الله وأعده لذلك وهو فروج أزواجكم فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [سورة البقرة آية ٢٢٢] بل أنتم قوم عادون ومتجاوزون الحدود المعقولة.
قالوا يا لوط. كيف تنهانا عن عملنا هذا؟ لئن لم تنته يا لوط عن هذا لتكونن من المخرجين من قريتنا، قال لهم: إنى لعملكم هذا من القالين المبغضين، فإنه عمل يتنافى مع الإنسانية، بل ترتفع عنه الحيوانات البهيمية.
فلما استمروا على عملهم، ونفد صبره معهم، ولم تنفعهم مواعظه دعا عليهم، وقال: رب نجنى وأهلى مما يعملون، فإن عمل هؤلاء مدعاة لسخطك، ومباءة لعقابك.
فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين، وهي امرأته لم تكن مؤمنة معه، وكانت تحب القوم الكافرين، وتنقل إليهم الأخبار، ولذا كانت من الهالكين، ثم دمرنا وأهلكنا القوم الآخرين الذين فعلوا المنكرات، وكفروا بالذي خلقهم، ولم يؤمنوا برسله، وأمطرنا عليهم مطرا، فبئس مطر المنذرين المهلكين.
إن في ذلك لآية وعبرة حيث أهلك العصاة المذنبين، ونجى المؤمنين الصالحين، ولم ينفع امرأة لوط قربها وصلتها به بل كل امرئ بما كسب رهين، وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
769
قصة شعيب مع أصحاب الأيكة [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
المفردات:
الْأَيْكَةِ الشجر الكثيف الملتف وقرئ أصحاب ليكة وأصله الأيكة فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت فاستغنى عن همزة الوصل وصارت الكلمة
770
ليكة بِالْقِسْطاسِ بالميزان المستقيم أى العادي وَلا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا من الناس شيئا وَلا تَعْثَوْا يقال عثا في الأرض أفسد فيها وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ الجبلة الخلق الكثير من الناس كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة والجانب الْمُسَحَّرِينَ المسحورين مرارا حتى فسدت عقولهم الظُّلَّةِ أصل الظلة ما يظل الإنسان، والمراد العذاب الذي أهلكهم، وكان على شكل ظلة لهم.
المعنى:
أرسل الله شعيبا إلى قبيلته مدين وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً وإلى أصحاب الأيكة، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر، ولذا يقول الله هنا إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل أخوهم لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة وإن أرسل لهم.
قال شعيب لهم: ألا تتقون إنى لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين.. كما قال أخوه نوح. وهود. وصالح لاتفاقهم جميعا على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة، وعلى تحملهم المشاق والصعاب رجاء مثوبة رب العالمين لهم يوم القيامة، وهكذا أصحاب الدعوات لا يرجون بعملهم جزاء ولا شكورا من العبد، ولا يبغون بها مالا ولا جاها ولا رئاسة كاذبة، وإلا كانوا كعلماء اليهود اشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا الباقية بالفانية.
اتفق جميع الأنبياء في الأمور العامة للرسالات، ثم أخذ كل نبي يعالج المرض الشائع عند قومه، ولذا رأينا هودا يقول منكرا على قومه إنهم يعبثون ببنائهم، وأنهم طامعون في الدنيا حتى كأنهم مخلدون، وإنهم يبطشون بطش الجبارين وقال صالح: منكرا على قومه: أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين؟! وقال لوط: أتأتون الذكور من الناس وتتركون النساء من الأزواج؟ وقال شعيب هنا منكرا عليهم التطفيف في الكيل آمرا لهم أن يوفوا الكيل ويعطوه حقا كاملا بلا زيادة ولا نقصان، أن يزنوا بميزان العدل، ولا يخسروا الميزان وألا يبخسوا الناس أشياءهم، وألا يفسدوا في الأرض بالبهتان.
وأن يتقوا الله، ويخافوا عقابه فقد خلقهم، وخلق آباءهم والجبلة الأولين، ومن
771
كان صاحب تلك النعم، كانت عبادته من أوجب الواجبات... ولكنهم قوم معاندون لم يسمعوا لشعيب بل قالوا: إنما أنت رجل سحرت مرارا حتى فسد عقلك، وضاع لبك، على أنك بشر مثلنا، فكيف تأتيك الرسالة دوننا، ونحن لا نظنك إلا من الكاذبين وإن كنت صادقا حقا، وأننا سنعذب لو لم نطعك فأسقط علينا قطعة من السماء تكون دليلا على أنك رسول من قبل الله ولكن الله يعلم ما عندهم، وقد حكاه بقوله وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور ٤٤].
وقد طمأن شعيب نفسه وقال: لست مكلفا بإدخال الإيمان في قلوبكم، ولست مكلفا بحسابكم على أعمالكم، إن على إلا البلاغ، وربي وربكم يعلم ما تفعلون، وسيجازيكم على أعمالكم.
وكانت النتيجة أنهم كذبوه وعصوه فأخذهم عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، روى عن ابن عباس: أنه أصابهم حر شديد فأرسل الله- سبحانه- سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا جميعا وكان هذا من أعظم أيام في الدنيا عذابا.
إن في ذلك لآية يا كفار مكة لو كنتم تعلمون، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الذي يعز أولياءه، وينصرهم، ويذل أعداءه، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهو الرحيم بالخلق جميعا إن عاقب أو أثاب، ولا يتغير قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الآية تكريرا لأنها سيقت عقب كل قصة، وفي كل قصة آية وعبرة لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ٢١٣]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
772
المفردات:
الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل الأمين على الرسالة زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كتب الأولين جمع زبور وهو الكتاب. يقال: زبر الكتاب يزبره أى: كتبه يكتبه الْأَعْجَمِينَ العجمي هو من كان من أصل فارسي وإن كان فصيحا في كلامه والأعجمي هو من كان غير فصيح وإن كان عربيا سَلَكْناهُ أدخلناه بَغْتَةً فجأة مُنْظَرُونَ من الإنظار وهو التأجيل لَمَعْزُولُونَ لممنوعون.
وهذا رجوع إلى المقصود الأول في السورة، وهو الكلام على القرآن الكريم، والدعوة المحمدية، وموقف المشركين منها، وكانت القصص التي ذكرت آية، وعبرة لمن يعتبر وحجة دامغة، ودليلا صادقا على نبوة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، حيث قص قصص
773
الأولين الذين لم بعاصرهم، ولم يدرس أخبارهم، على معلم أو أستاذ، وهو النبي الأمى الذي لم يقرأ كتابا، ولم يخط حرفا.
وقد ساق الله هنا الأدلة على أن القرآن من عند الله، وليس من عند محمد بعد هذا.
المعنى:
وإن القرآن الذي أنزل عليك يا محمد لتنزيل رب العالمين، وقد نزل به جبريل- عليه السلام-، الأمين على الرسالات، وخادم الآيات المنزلات، نزل به على قلبك فوعاه، وكان هذا الفضل من عند الله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
«١» وكان ذكر القلب لأنه أمير الجسم، ومركز الحواس الخاصة. الحواس الروحية. ولذا وصف القرآن دائما الكفار بأن قلوبهم مغلقة فقال أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «٢» فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٣» وفي ذكر القلب إشارة إلى أن القرآن نزل على النبي، فوعاه، وحفظه، ليكون من المنذرين وانظر إلى قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ مع تحدى القرآن للعرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة فعجزوا هم وشركاؤهم وأعوانهم، أليس في هذا دليل على أن القرآن من عند الله لا من عند محمد، إذ هو واحد منهم، فكيف يأتى بما عجز عنه قومه مجتمعين مع التحدي والاستهزاء بهم.
ثم انظر إلى الدليل الثالث على أن القرآن من عند الله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ حقا إن القرآن ذكر في الكتب السابقة التي نزلت على الأنبياء بمعنى أنها بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها، ويهيمن عليها وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة آية ٨٩].
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «٤» أعموا وضلوا ولم يكن لكفار مكة في أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ويقولون لهم إن
(١) سورة القيامة الآيات ١٦- ١٨.
(٢) سورة محمد الآية ٢٤.
(٣) سورة الحج الآية ٤٦.
(٤) سورة المائدة الآية ٤٨.
774
هذا حق، وهذا هو النبي المبشر به عندنا، أو لم يكن لهم في هذا آية ودليل؟ هذه أدلة أوضح من الشمس على أن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في دعواه، ولكن العناد والكفر يأبى عليهم الخضوع للحق، ولو أنزل هذا القرآن على بعض الأعاجم، فقرأ عليهم ما كانوا به مؤمنين أبدا خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «١» مثل إدخالنا التكذيب في قلوبهم لو قرأه عليهم أعجمى، أدخلناه في قلوب المجرمين كفار مكة المشركين.
فهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، فما هو أشد منه، وهو لحوق العذاب بهم فجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم الإنظار من القطع بامتناعه ومعنى الكلام:
لا يؤمنون بالقرآن حتى يأتيهم العذاب فجأة، وهم لا يشعرون به فيرونه فيقولوا:
هل نحن منظرون ومؤخرون عن الهلاك ولو طرفة عين لنؤمن؟ فيقال لهم اخسئوا في جهنم، ولا تكلمون، وعلى هذا فالفاء التي في الآية ليست للترتيب الزمانى بل للترتيب الرتبى.
ومع هذا فهم يقولون: متى هذا العذاب؟ استبطاء له واستهزاء بالنبي أفبعذابنا يستعجلون؟!! إن هذا لعجيب، ولكنهم قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٢» فبدل أن يقولوا: إن كان هذا الحق فاهدنا إليه قالوا تلك المقالة، فلا عجب أن يستعجلوا العذاب، إن عذاب الله له أجل محدود، ونظام معلوم، ولكل أجل كتاب أيظنون أن الله يهمل! لا. ولكنه يمهل فقط.
أفرأيت أيها المخاطب إن متعناهم سنين بتأخير العذاب عنهم ثم جاء العذاب فجأة، وهو ما وعدوا به أى إغناء عنهم ما كانوا يمتعون به؟ أعنى لو أخر العذاب، وكان الإنسان متمتعا استدراجا له ثم حل به العذاب فكان انجعافه وهلاكه مرة واحدة أى فائدة استفادوها من النعم؟ لم يستفيدوا شيئا، ولم يغن عنهم متاعهم شيئا، وإنما كان استدراجا لهم وتنكيلا بهم حتى يكون هلاكهم شديدا وعبرة وعظة ونكالا لمن يأتى بعدهم. وما قصص فرعون وعاد وثمود وقوم لوط عنكم ببعيد...
وهكذا سنة الله مع الأمم قديما وحديثا وما أهلكنا من قرية إلا كان لها رسل منذرون تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الصراط المستقيم بشتى الأساليب وبمنتهى الحكمة
(١) سورة البقرة الآية ٧.
(٢) سورة الأنفال الآية ٣٢.
775
والموعظة الحسنة فإن أبوا وكفروا حاق بهم سوء العذاب، ونجى الله المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار فسنة الله لا تتغير وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الفتح آية ٢٣].
وهاكم الدليل الأخير على أن القرآن من عند الله: ذكر بعد مناقشة المشركين السابقة التي سيقت وسط الأدلة.
وكانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن القرآن كهانة تلقيها الشياطين على محمد كما تلقى على غيره فقال الله: وما نزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم، وما يستطيعون إنهم عن سمع مثل هذا القرآن لممنوعون، نعم لقد قص التاريخ أن الكهانة والكهان كانوا موجودين قبل البعثة المحمدية، وكان الشياطين يسترقون السمع وأخبار السماء المتعلقة ببعض الأحداث الجارية في الجزيرة، ثم يلقون بهذا إلى الكهان أمثال (شق وسطيح).
ولكن الله- سبحانه- قبيل البعثة منع هذا بالمرة حتى ضجت الجن، وأخذوا يبحثون عن السبب وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [سورة الجن الآيات ٨- ١٠].
وإذا ثبت هذا كله، وأظنه ثابتا في ميزان العقلاء الموفقين إذا كان هذا فلا تدع مع الله إلها آخر، فتكون من المعذبين المهلكين..
نصائح ربانية [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٤ الى ٢٢٠]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
776
اعلم يا أخى- وفقك الله للخير- أنه- سبحانه وتعالى- أرشد رسوله إلى ترك الأسف والحزن على عدم إيمان أكثر الناس، ثم ساق القصص مؤيدا ذلك ومسليا، ثم أقام الحجة والبرهان على صدق الرسول في دعواه، وناقش المشركين في شبههم الواهية، وبعد ذلك كله نهى الرسول عن اتخاذ الشريك للباري في كل صورة متوعدا من يفعل ذلك بالعذاب الشديد، والمراد من ذلك نهى غير النبي عن الشرك.
نفهم من نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشرك فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. ثم أمره صلّى الله عليه وسلّم بأن يدعو الأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته. يمكن أن نفهم من هذا كله، أن المراد نفى الشك والطعن عن الدعوة المحمدية لأن الإنسان جبل على حب الخير له ولأهله.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة قال: لما نزلت آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: «يا بنى كعب ابن لؤي أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النّار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد المطّلب أنقذوا أنفسكم من النّار، يا فاطمة أنقذى نفسك من النّار، فإنّى لا أملك لكم من الله شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها
أى أصلكم في الدنيا، ولا أغنى عنكم من الله شيئا يوم القيامة.
وهذه نصائح غالية تنفع الدعاة والمرشدين إلى الحق والخير حيث تبدأ بدعوتك أقرب الناس إليك. فهم الذين يعرفونك، ويثقون فيك، فإذا أضفت مع هذا لين الجانب وحسن الخلق، وطيب العشرة لمن اتبعك وسار على طريقك، كان لكلامك وقع ولشخصك مكانة في القلوب، ولسلوكك في الناس تأثير وأى تأثير؟ ولذا يقول الله لرسوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن لم تتبعك عشيرتك وقرابتك وعصوك فقل لهم: إنى برىء مما تعملون، وتوكل على الله، وسلّم أمرك إليه، وفوض أمرك لربك إنه هو العزيز يعز أولياءه، ويقهر أعداءه، وينصرك عليهم برحمته، فإنه يراك، ويلحظك حين تقوم في أى عمل من الأعمال، وحين تتقلب مع الراكعين الساجدين العابدين القانتين، إنه هو السميع لكل قول، العليم بكل فعل.
777
الرد على من يصف النبي بأنه كاهن أو شاعر [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
المفردات:
أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ فاجر وادٍ المراد فنون القول وطرقه يَهِيمُونَ الهيام: أن يذهب المرء على وجهه لا يلوى على شيء من عشق أو غيره مُنْقَلَبٍ مصير ومرجع.
المعنى:
كان للقرآن وقع في نفوس العرب كبير، وكان لجرسه هزة في أسماعهم وكان له أثر السحر فيهم أو أشد، أرأيت إلى الوليد بن المغيرة حين سمع جزءا منه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، وإلى العربي الذي سمع قارئا يقرأ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فسجد فقيل له:
لم؟ قال سجدت لبلاغته، وأظنك لا تنسى قصة إسلام عمر حين سمع أول سورة (طه) وهو في أشد عنفوانه، وأقوى عدائه للمسلمين.
هذا القرآن حار فيه المشركون بماذا يؤولون هذا السحر الذي فيه، الذي يفرق بين المرء وأبيه، وأمه وأخيه!! فقالوا: إنه سحر، وأخرى إنه كهانة. وثالثة إنه شعر أى له تأثير الشعر، ويرد الله عليهم هنا بأنه ليس كهانة ولا شعرا.
778
وللكهانة عند العرب في أيام الجاهلية تأثير كبير، ولكهانتهم مركز ملحوظ يقطع بهم النزاع، ويحكمون في المعضلات والمشكلات من الأمور، وكتب الأدب العربي مليئة بأخبارهم وقصصهم. فهند بنت عتبة- أم معاوية بن أبى سفيان- مع زوجها الفاكه بن المغيرة المخرومى لها قصة: حيث رماها زوجها بالزنا فذهب أبوها إلى الكاهن فقال لها انهضى يا هند غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكا اسمه معاوية: فالتفتت هند إلى زوجها الفاكه وقالت من غيرك وتزوجت أبا سفيان وولدت معاوية.
ومن أشهرهم فاطمة الخثعمية وكانت بمكة، ولها قصة مع عبد الله بن عبد المطلب قبل زواجه بآمنة أم الرسول... ومن أشهرهم شق أنمار، وسطيح الذئبى.
ويرجع فيما أعلم صدق بعض كلامهم إلى قوة الفراسة، وبعد النظر، وإلى استراق السمع من السماء بواسطة الشياطين، وكان لهم قدرة على ذلك قبل البعثة كما قدمنا، وكثيرا ما كذبوا في أخبارهم.
ومن هنا يدفع الله عن النبي وعن القرآن وصمة الكهانة بقوله: هل أخبركم أيها الناس على من تنزل الشياطين. إنها تنزل على كل كذاب، أفاك. أثيم فاجر. تلقى الشياطين عليه ما سمعته، وأكثرهم كاذبون يضمون إلى ما سمعوه أكاذيب أخرى كثيرة.
فهل أنتم ترون النبي صلّى الله عليه وسلّم من هؤلاء الكهان؟
أما الشعر، وما أدراك ما الشعر، فله تأثير السحر، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم ليس بالشاعر، ولا ينبغي له أن يقول لسمو مكانته وشخصيته عن قرضه.
والشعراء يتبعهم الغاوون البعيدون عن الحق، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم يتبعه الهداة المهتدون، ألم تر إلى الشعراء في كل واد من القول وفن فيه وغرض من أغراضه كالغزل والهجاء المقذع. والمدح بالباطل بل مدح الشخص وذمه والإجادة في الناحيتين يهيمون ويسيرون على وجوههم. لا يلوون على شيء، وذلك أن عماد الشعر الخيال والخيال لا يجده حد، ولا يقف دونه شيء، فكلما كان الشاعر واسع الخيال قوى العاطفة كان شعره جيدا قويا، والشعر لا يعتمد على الصدق بل على المبالغة والتجوز ولذا قيل: أعذب الشعر أكذبه، والشعراء قوم خياليون عاطفيون يقولون ما لا يفعلون، لهذا كله ما كان ينبغي للنبي أن يقول الشعر والشعر نوع من الكلام فيه الحسن والرديء، والمقبول والمردود، ومن هنا يمكن أن نوفق بين
قول النبي صلّى الله عليه وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم
779
قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ جوفه شعرا»
يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن يمتلئ الجوف قيحا يأكله خير من أن يمتلئ جوفه شعرا، وبين
قوله صلّى الله عليه وسلم «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة»
فالشاعر الذي وقف نفسه على نصرة الحق والدفاع عن الوطن، والذود عنه، وعلى مدح من يستحق المدح كمن مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم قديما وحديثا، ومن تكلم فأجاد من المواقف الوطنية التي تربى النفوس، وتهذب العقول، وتوحد الصفوف، وليس كالشاعر الذي يتكلم في الغزل، ويتشبب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان كلامه تحفة فنية في باب الأدب، الأول ممدوح شرعا، والثاني مذموم.
ولهذا استثنى القرآن بقوله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ودفعوا عن النبي ودينه كحسان بن ثابت وابن رواحه الذي
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في شعره «خلّ عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم- أى قريش- من نضح النّبل»
وما شعر حسان بن ثابت وشعر البوصيرى، وشعر شوقي عنك ببعيد.
ثم ختمت السورة بهذا التهديد الشديد: وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم أى منقلب ينقلبون.
780
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وما أجرى إلا على رب العالمين ومن الواضح أن صالحا كغيره أيدت دعواه