تفسير سورة النساء

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النساء من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة النساء
مدنية، مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية وثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفاً.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ بسم الله ﴾ الظاهر الملك العلام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم عباده بالأنعام ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ولايته بدار السلام.

وقوله تعالى :
﴿ يا أيها الناس ﴾ خطاب يعم المكلفين من أولاد آدم من الذكور والإناث الموجودين منهم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من العرب وغيرهم، وقيل : يختص بالعرب منهم لقوله تعالى :﴿ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ﴾ إذ المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون : أنشدك بالله وبالرحم، وأجيب بأنّ خصوص آخر الآية لا يمنع عموم أوّلها ﴿ اتقوا ربكم ﴾ أي : عذابه بأن تطيعوه ﴿ الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ أي : فرّعكم من أصل واحد، وهو نفس آدم أبيكم.
وقوله تعالى :﴿ وخلق منها زوجها ﴾ معطوف على «خلقكم » أي : خلقكم من شخص واحد هو آدم، وخلق منها أمكم حوّاء بالمدّ من ضلع من أضلاعه اليسرى، أو معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها وابتدأها وخلق منها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء، وهو تقرير لخلقكم من نفس واحدة، وقوله تعالى :﴿ وبث منهما ﴾ أي : من آدم وحوّاء ﴿ رجالاً كثيراً ونساء ﴾ أي : كثيراً بيان لكيفية تولدهم منهما.
والمعنى : وبث أي : نشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة، وذكر كثيراً حملاً على الجمع ولا تكرار في الآية ؛ لأن خلقكم من نفس واحدة مغاير لخلق حوّاء منها ؛ لأنها خلقت من ضلعه وهم من مائهما ولبث الرجال والنساء ؛ لأنه بين به أن خلقهم من نفس واحدة معناه من نفس آدم وحوّاء مع زيادة التصريح بالرجال والنساء ﴿ واتقوا الله الذي تساءلون ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في السين أي : تتساءلون ﴿ به ﴾ فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض : أسألك بالله، وأنشدك بالله.
فإن قيل : الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبعث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها ؟ أجيب : بأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على ذلك كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدّي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ؛ ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف السين والباقون بتشديدها ﴿ و ﴾ اتقوا ﴿ الأرحام ﴾ أي : بأن تصلوها ولا تقطعوها، وكانوا يتناشدون بالرحم، وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكان منه تعالى.
روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال :( الرحم معلقة بالعرش تقول : ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى )، وقرأ غير حمزة بالنصب عطفاً على الله تعالى فالعامل فيه اتقوا كما قدرته أو معطوف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمراً، وأما حمزة فقرأه بالجر عطفاً على الضمير المجرور، وقول البيضاوي : وهو ضعيف أي : كما هو مذهب البصريين ممنوع، والحق أنه ليس بضعيف فقد جوّزه الكوفيون، وكيف يكون ضعيفاً والقراءة به متواترة ؟ فيجب أن يضعف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين، وتعليلهم عدم الجواز بكونه كبعض كلمة لا يقتضي إلحاقه به في عدم جواز العطف إذ حذف الشيء مع القرينة جائز ومنه :
رسم دار وقفت في طلله***
أي : ورب رسم دار وقول الشاعر :
اذهب فما بك والأيام من عجب***
﴿ إنّ الله كان عليكم رقيباً ﴾ أي : حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها أي : لم يزل متصفاً بذلك.
﴿ وآتوا اليتامى ﴾ أي : بعد البلوغ والرشد ﴿ أموالهم ﴾ وسموا اليتامى بعد البلوغ مع أنّ اليتيم في عرف الشرع صغير لا أب له على معنى أنهم كانوا يتامى، وإن كان اليُتْيم في اللغة الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة، وقيل : اليتيم في الإناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطير من قبلهما، والخطاب للأولياء والأوصياء.
روي أنّ رجلاً كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال من عمه فمنعه فترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحله داره ) أي : جنته، وسيأتي تفسير الحوب الكبير، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( ثبت الأجر وبقي الوزر ) فقالوا : يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟ فقال :( ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ) أي : ولعله كان لا يخرج زكاته ﴿ ولا تتبدلوا الخبيث ﴾ أي : الحرام ﴿ بالطيب ﴾ أي : الحلال أي : لا تأخذوه بدله كما تفعلون في أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه.
قال الزمخشريّ : وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل، قال التفتازانيّ : لأن معنى تبدلت هذا بذاك أنك أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت ؛ لأنّ معنى بدلت هذا بذاك أخذت ذاك وأعطيت هذا قال تعالى :﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان ﴾ ( البقرة، ١٠٨ ).
فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد فقد أعطى الخبيث وأخذ الطيب كما لو أخذ الخبيث وترك الطيب ؛ ليكون تبدل الخبيث بالطيب، فالحاصل أنّ في التبدل ما دخلته الباء متروك، وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ وفي التبديل بالعكس اه. وقد أوضحت ذلك في «شرح المنهاج » ﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى ﴾ أي : مع ﴿ أموالكم ﴾ كقوله تعالى :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾ ( آل عمران، ٥٢ ).
أي : مع الله، أي : لا تنفقوهما معاً، ولا تسووا بينهما، فأكلكم أموالكم حلال لكم، وأكلكم أموالهم حرام عليكم، فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم.
فإن قيل : قد حرم الله عليهم أكل مال اليتيم وحده ومع أموالهم فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ أجيب : بأنهم كانوا يفعلون كذلك فأنكر عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم ؛ ولأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم مع ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق ﴿ إنه ﴾ أي : أكلها ﴿ كان حوباً ﴾ أي : ذنباً ﴿ كبيراً ﴾ أي : عظيماً ولما نزلت هذه الآية في اليتامى، وما كان في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك العدل في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست ولا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهنّ نزل.
﴿ وإن خفتم ﴾ أي : خشيتم ﴿ أن لا تقسطوا ﴾ أي : تعدلوا ﴿ في اليتامى ﴾ فتحرّجتم من أمورهم فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات ﴿ فانكحوا ما طاب ﴾ أي : حلّ ﴿ لكم من النساء ﴾ ؛ لأنّ منهنّ ما حرم كاللاتي في آية التحريم ﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ أي : تزوّجوا اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ؛ لأنّ من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ؛ لأنه إنما وجب أن يتحرّج من الذنب ويتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب وإنما عبر عنهنّ بما ومن يعقل إنما يعبر عنه بمن ذاهباً إلى الصفة ؛ لأنه إنما يفرق بين من وما في الذوات لا في الصفات أو أجراهنّ مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهنّ، وقيل : كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى، فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تجولوا حول المحرّمات، وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال فيتزوّجها ضناً أي : بخلاً بها فربما يجتمع عنده منهنّ عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ.
فإن قيل : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع حتى إنّ بعض الرافضة قال : للشخص أن يتزوّج بثمانية عشر ؟ أجيب : بأنّ الخطاب للجمع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قيل : لم جاء العطف بالواو دون أو حتى قال بعض الرافضة : إنّ له أن يتزوج بتسعة ؟ أجيب : بأنه لو عطف بأو لذهب معنى تجويز أنواع الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليها الواو ﴿ فإن خفتم أن لا تعدلوا ﴾ بين هذه الأعداد أيضاً بالقسم والنفقة ﴿ فواحدة ﴾ أي : فانكحوا واحدة وذروا الجمع ﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ أي : اقتصروا على ذلك سواء بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري ؛ لخفة مؤنتهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ.
تنبيه : هذا في حق الحر أما من فيه رق فلا يتزوّج أكثر من ثنتين بإجماع الصحابة وقد يعرض للحر عوارض لا يزاد فيها على واحدة كجنون أو سفه ﴿ ذلك ﴾ أي : نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري ﴿ أدنى ﴾ أقرب إلى ﴿ أن لا تعولوا ﴾ أي : تجوروا، يقال : عال الحاكم في حكمه إذا جار.
وروي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول علي وقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أن لا تعولوا، أن لا تجوروا )، وحكي عن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنه فسر «أن لا تعولوا » بأن لا تكثروا عيالكم قال البغويّ : وما قاله أحد إنما يقال : من كثرة العيال أعال يعيل إعالة إذا كثرت عياله، وقال الزمخشريّ : ووجهه أن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، ثم قال : وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. وكان الشافعيّ رحمه الله تعالى أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا اه.
﴿ وآتوا ﴾ أي : أعطوا ﴿ النساء صدقاتهنّ ﴾ جمع صدقة أي : مهورهنّ ﴿ نحلة ﴾ أي : عطية يقال : نحله كذا نحلة أي : أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض، ونصبها على المصدر ؛ لأنّ النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل : وأنحلوا النساء صدقاتهنّ نحلة، قال الكلبيّ وجماعة : والخطاب للأولياء، وذلك أنّ وليّ المرأة كان إذا زوّجها، فإن كان معهم في العشيرة فلم يعطها من مهرها شيئاً، وإن زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطوها من مهرها غير ذلك، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله ﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه ﴾ أي : الصداق وقوله تعالى :﴿ نفساً ﴾ محوّل عن الفاعل أي : إن طابت نفسهنّ لكم عن شيء من الصداق فوهبنه لكم ﴿ فكلوه ﴾ أي : فخذوه وأنفقوه ﴿ هنيئاً ﴾ أي : طيباً ﴿ مريئاً ﴾ أي : محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة.
روي أنّ ناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته، فقال الله تعالى : إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً.
قال الزمخشريّ وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس فقيل :«فإن طبن »، ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن إعلاماً بأنّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وعن الشعبي : إنّ رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح : ردّ عليها، فقال الرجل : أليس الله تعالى قد قال :﴿ فإن طبن لكم ﴾ ؟ قال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وحكي أنّ رجلاً من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبث شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل : أعطتني طيبة بها نفسها فقال عبد الملك : فأين الآية التي بعدها ﴿ ولا تأخذوا منه شيئاً ﴾ أردد عليها. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.
﴿ ولا تؤتوا ﴾ أيها الأولياء ﴿ السفهاء ﴾ أي : المبذرين من الرجال والنساء ﴿ أموالكم ﴾ أي : أموالهم وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء ؛ لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وقيل : نهي إلى كل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى ما في أيديهم وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً لجعلهم قوّاماً وهذا أوفق لقوله تعالى :﴿ التي جعل الله لكم قياماً ﴾ أي : تقوم بمصالحكم ومصالح أولادكم فيضعوها في غير وجهها، وعلى القول الأولّ يؤوّل بأنّ أموال السفهاء التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً، وسمى الله ما به القيام قياماً للمبالغة.
وقرأ نافع وابن عامر «قيماً » بغير ألف بعد الياء والقيم جمع قيمة ما يقوّم به الأمتعة، والباقون بالألف مصدر قام و﴿ وارزقوهم ﴾ أي : أطعموهم ﴿ فيها واكسوهم ﴾ فيها، وإنما قال تعالى :«فيها » لجعله الأموال ظروفاً للرزق، فيكون الإنفاق من الربح لا من الأموال التي هي الظروف بأن يتجروا فيها ويحصلوا من ربحها ما يحتاجون إليه، ولو قيل : منها لكان الإنفاق من نفس الأموال ﴿ وقولوا لهم قولاً معروفاً ﴾ أي : عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته ونفرت منه لقبحه فهو منكر، وعن عطاء : إذا ربحت أعطيتك وإذا غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً، وقيل : إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل له : عافانا الله وإياك بارك الله فيك. وقيل : لا يختص ذلك بالأولياء بل هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء قريب أو أجنبيّ رجل أو امرأة يعلم أنه يضيعه فيما لا ينبغي ويفسده.
﴿ وابتلوا ﴾ أي : اختبروا ﴿ اليتامى ﴾ في دينهم وتصرفهم بأن تختبروا ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوّام بها، والمرأة فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرّة ونحوها وحفظ متاع البيت، وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدّة في خبز وماء ولحم ونحوها، كل ذلك على العادة في مثله، ويشترط تكرار الاختبار مرّتين أو أكثر بحيث يفيد غلبة الظنّ برشده، ووقت الاختبار قبل البلوغ ولا يصح عقده بل يمتحن في المماكسة فإذا أراد العقد عقد الوليّ ﴿ حتى إذا بلغوا النكاح ﴾ أي : صاروا أهلاً له إمّا بالسنّ وهو استكمال خمس عشرة سنة تحديدية لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنه :( عرضت على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت )، رواه ابن حبان وأصله في الصحيحين وابتداؤها من انفصال جميع الولد، قيل : عرض عليه صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة فلم يجزهم وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم.
وإما بخروج المنيّ في وقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تحديدية سواء أخرج في نوم أم يقظة بجماع أو غيره وتزيد المرأة على هذين الأمرين الحيض لوقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تقريبية فيغتفر فيها زمن لا يسع حيضاً وطهراً، والولادة لأنها يسبقها الإنزال ويحكم بالبلوغ قبلها بستة أشهر وشيء وإنبات شعر العانة الخشن دليل للبلوغ في حق الكفار لا في حق المسلمين ولا عبرة بإنبات شعر الإبط واللحية.
﴿ فإن آنستم ﴾ أي : أبصرتم ﴿ منهم رشداً ﴾ وهو صلاح الدين والمال، أما صلاح الدين فلا يرتكب محرّماً يسقط العدالة من كبيرة أو إصرار على صغيرة ويعتبر في رشد الكافر دينه، وأما صلاح المال فلا يضيعه بإلقائه في بحر أو يصرفه في محرم، أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملة ونحوها، وليس صرفه في الخير بتبذير ولا صرفه في الثياب والأطعمة النفيسة وشراء الجواري والاستمتاع بهنّ ؛ لأنّ المال يتخذ لينتفع به، نعم إن صرفه في ذلك بطريق الاقتراض له حرم عليه ﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ من غير تأخير ﴿ ولا تأكلوها ﴾ أيها الأولياء وقوله تعالى :﴿ إسرافاً ﴾ أي : بغير حق ﴿ وبداراً ﴾ حالان أي : مسرفين ومبادرين إلى إنفاقها مخافة ﴿ أن يكبروا ﴾ رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم ﴿ ومن كان ﴾ من الأولياء ﴿ غنياً فليستعفف ﴾ أي : يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله ﴿ ومن كان فقيراً فليأكل ﴾ منه ﴿ بالمعروف ﴾ أي : بقدر الأقلّ من حاجته وأجرة سعيه كما مرّ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الوليّ له حق في مال الصبي.
وروى النسائيّ وغيره أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ في حجري يتيماً أفآكل من ماله ؟ قال :«بالمعروف ).
تنبيه : إيراد هذا التقسيم بعد قوله :﴿ ولا تأكلوها ﴾ يدل على أنه نهي للأغنياء منهم أن لا يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى شيئاً، وللفقراء منهم أن لا يأخذوا منها شيئاً بغير المعروف، كما أنّ قوله :﴿ ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ﴾ يدل على أنه نهي للفريقين عن أكلها إسرافاً ومبادرة لكبرهم ﴿ فإذا دفعتم إليهم ﴾ أي : اليتامى ﴿ أموالهم فأشهدوا ﴾ ندباً ﴿ عليهم ﴾ بأنهم قبضوها، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة وهو مذهب الشافعيّ ومالك خلافاً لأبي حنيفة ﴿ وكفى بالله حسيباً ﴾ أي : حافظاً الأعمال خلقه ومحاسبتهم.
﴿ للرجال ﴾ أي : الذكور ﴿ نصيب ﴾ أي : حظ ﴿ مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ أي : المتوفون ﴿ وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه ﴾ أي : المال ﴿ أو كثر ﴾ جعله الله ﴿ نصيباً مفروضاً ﴾ أي : مقطوعاً بتسليمه إليهم.
روي أن أوس بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه توفي وترك امرأته أم كحة بضمّ الكاف والحاء المشدّدة وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصغار وإن كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرجال ويقولون : لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فجاءت أمّ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ وهو بالضاد والخاء المعجمتين، موضع بالمدينة، قيل : لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة ؛ لأنهم كانوا يرضخون فيه النوى فشكت إليه فقالت : يا رسول الله إنّ أوس بن ثابت مات وترك علي ثلاث بنات، وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهنّ وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة لم يعطياني ولا بناته شيئاً، وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكي عدوّاً، فنزلت هذه الآية، فأثبتت لهنّ الميراث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تقربا من مال أوس شيئاً فإنّ الله جعل لبناته نصيباً مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهنّ ) فأنزل الله تعالى ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ فأعطى صلى الله عليه وسلم أمّ كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العمّ ) وهذا دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب.
﴿ وإذا حضر القسمة ﴾ للميراث ﴿ أولو القربى ﴾ أي : ذوو القرابة ممن لا يرث ﴿ واليتامى والمساكين فارزقوهم ﴾ أي : أعطوهم ﴿ منه ﴾ أي : المقسوم شيئاً قبل القسمة تطييباً لقلوبهم وتصدّقاً عليهم، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة، وقيل : أمر وجوب.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم : هي منسوخة بآية المواريث كالوصية، وعن سعيد بن جبير : إنّ ناساً يقولون : نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها الناس ﴿ وقولوا لهم قولاً معروفاً ﴾ وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي : أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين يعنيان الذهب والورق فإذا قسم الذهب والورق وصارت القسمة إلى الأقربين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولاً معروفاً كأن يقولون : بورك فيكم.
﴿ وليخش ﴾ أي : وليخف على اليتامى ﴿ الذين لو تركوا ﴾ أي : قاربوا أن يتركوا ﴿ من خلفهم ﴾ أي : بعد موتهم ﴿ ذرّية ضعافاً ﴾ أي : أولاداً صغاراً ﴿ خافوا عليهم ﴾ أي : الضياع ﴿ فليتقوا الله ﴾ في أمر اليتامى وغيرهم، وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم ﴿ وليقولوا ﴾ أي : للمريض ﴿ قولاً سديداً ﴾ أي : عدلاً وصواباً بأن يأمروه أن يتصدّق بدون ثلثه، ويترك الباقي لورثته، ولا يتركهم عالة، وذلك أنه كان إذا حضر أحدهم الموت يقول له من بحضرته : انظر لنفسك فإنّ أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً قدّم لنفسك أعتق وتصدّق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا حتى يأتي على عامة ماله، فنهاهم الله عز وجل وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده، ولا يزيد في وصيته على الثلث، ولا يجحف بورثته.
﴿ إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ﴾ أي : بغير حق ﴿ إنما يأكلون في بطونهم ناراً ﴾ أي : ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه. قال الشاعر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا***
ومعنى يأكلون ناراً يأكلون ما يجرّ إلى النار، فكأنه نار في الحقيقة.
روي ( أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت ليلة أسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما. . . . على منخريه والأخرى على بطنه وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ). ﴿ وسيصلون سعيراً ﴾ أي : ناراً شديدة يحترقون فيها، وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الياء والباقون بالفتح.
﴿ يوصيكم الله ﴾ أي : يأمركم ﴿ في أولادكم ﴾ أي : في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة، وهذا إجمال تفصيله ﴿ للذكر ﴾ منهم ﴿ مثل حظ ﴾ أي : نصيب ﴿ الأنثيين ﴾ إذا اجتمعتا معه فله نصف المال ولهما النصف، فإن كان معه واحدة فلها الثلث وله الثلثان وإنما فضل الذكر على الأنثى لاختصاصه بلزوم ما لا يلزم الأنثى من الجهاد وتحمل الدية وغيرهما، وله حاجتان : حاجة لنفسه وحاجة لزوجته، والأنثى حاجة واحدة لنفسها بل هي غالباً مستغنية بالتزويج عن الإنفاق من مالها، ولكن لما علم الله تعالى احتياجها إلى النفقة وأنّ الرغبة تقل فيها إذا لم يكن لها مال جعل لها حظاً من الإرث وأبطل حرمان الجاهلية لها.
فإن قيل : هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر ؟ أجيب : بأنه إنما بدأ ببيان حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ؛ ولأنّ قوله ﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ قصد إلى بيان فضل الذكر وقولك : للأنثيين مثل حظ الذكر قصد إلى بيان نقص الأنثى وما كان قصداً إلى بيان فضله كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ؛ ولأنهم كانوا يورّثون الرجال دون النساء والصبيان، وكان في ابتداء الإسلام بالمحالفة قال تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ ( النساء، ٣٣ ).
ثم صارت الوراثة بالهجرة قال الله تعالى :﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء ﴾ ( الأنفال، ٧٢ ).
ثم نسخ ذلك كله بالآية الكريمة، واختلف في سبب نزولها، فعن جابر أنه قال :( جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت فقلت : يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة ) فنزلت، وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أمّ كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته. وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد، وترك امرأة وبنتين وأخاً، فأخذ الأخ المال، فأتت امرأة سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت : يا رسول الله إنّ هاتين ابنتا سعد وإن سعداً قتل يوم أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما، ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم :( ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك ) فنزلت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال :( أعط ابنتي سعد الثلثين وأمّهما الثمن وما بقي فهو لك ) فهذا أوّل ميراث قسم في الإسلام، وكأنه قيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، ولا يضارون في حظهنّ حتى يحرمن مع إدلائهنّ مع القرابة مثل ما يدلون به.
فإن قيل : حظ الأنثيين الثلثان فكأنه قيل للذكر الثلثان ؟ أجيب : بأنّ المراد حالة الاجتماع كما مرّ أما في حالة الانفراد فالابن يأخذ المال كله، والبنتان يأخذان الثلثين والدليل على أنّ الغرض حكم الاجتماع أنه اتبعه حكم الانفراد بقوله تعالى :﴿ فإن كنّ ﴾ أي : إن كان الأولاد ﴿ نساء ﴾ خلصاً ليس معهنّ ذكر، وأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات وقوله تعالى :﴿ فوق اثنتين ﴾ خبر ثان أو صفة لنساء أي : نساء زائدات على اثنتين.
فإن قيل : قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف صح أن يردف قوله :﴿ فإن كن نساء ﴾ وهو لبيان حظ الإناث ؟ أجيب : بأنه وإن كان مسوقاً لبيان حظ الذكر إلا أنه لما علم منه حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوق للأمرين جميعاً فلذلك صح أن يقال : فإن كنّ نساء ﴿ فلهن ثلثا ما ترك ﴾ أي : المتوفى منكم ويدل عليه المعنى ﴿ وإن كانت ﴾ أي : المولودة ﴿ واحدة فلها النصف ﴾ وقرأ نافع واحدة بالرفع على كان التامّة، والباقون بالنصب على كان الناقصة.
واختلف في ميراث الأنثيين فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : حكمهما حكم الواحدة ؛ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما، وقال الباقون : حكمهما حكم ما فوقهما ؛ لأنه تعالى لما بين أنّ حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى، وهو الثلثان، اقتضى ذلك أنّ فرضهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد ردّ ذلك بقوله تعالى :﴿ فإن كنّ نساء فوق اثنتين ﴾ ويؤيد ذلك أنّ البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالأولى والأحرى أن تستحقه مع أخت مثلها، ويؤيده أيضاً إنّ البنتين أمسّ رحماً من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله :﴿ فلهما الثلثان مما ترك ﴾ وقيل : فوق صلة وقيل : لدفع توهم زيادة النصيب بزيادة العدد لما أفهم استحقاق البنتين من جعل الثلث للواحدة مع الذكر ﴿ ولأبويه ﴾ أي : الميت وقوله تعالى :﴿ لكل واحد منهما السدس مما ترك ﴾ بدل بعض من كل فالسدس مبتدأ ولأبويه خبر وفائدة البدل دفع توهم أن يكون للأب ضعف ما للأم أخذاً من قوله تعالى :﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ وبهذا اندفع كما قال التفتازاني إنّ البدل ينبغي أن يكون بحيث لو أسقط استقام الكلام معنى، وهنا لو قيل : لأبويه السدس لم يستقم هذا ﴿ إن كان له ﴾ أي : الميت ﴿ ولد ﴾ ذكر أو غيره وألحق بالولد ولد الابن وبالأب الجدّ ﴿ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ﴾ أي : فقط بقرينة المقام ﴿ فلأمه الثلث ﴾ مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب ؛ لأنه لما فرض أنّ الوارث أبواه فقط، وعين نصيب الأمّ علم أنّ الباقي للأب، وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثاً، ولو كان معهما أحد الزوجين كان لها ثلث ما بقي بعد فرضه كما قال الجمهور لا ثلث المال كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب، وهو كما قال البيضاوي خلاف وضع الشرع ﴿ فإن كان له إخوة ﴾ أي : اثنان فصاعداً ذكور أو إناث كما عليه الجمهور ﴿ فلأمّه السدس ﴾ والباقي للأب ولا شيء للإخوة.
وقال ابن عباس : لا يحجب الأمّ من الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة ذكور، أخذاً بظاهر اللفظ، وإطلاق اللفظ يدلّ على أنّ الإخوة يردّونها من الثلث إلى السدس وإن كانوا لا يرثون مع الأب شيئاً، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأمّ.
وقرأ حمزة والكسائي في الوصل فلأمّه بكسر الهمزة فراراً من ضمة إلى كسرة لثقله في الموضعين، والباقون بضمها، وقوله تعالى :﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ متعلق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلها أي : هذه الأنصباء للورثة من بعد وصية أو وفاء دين، وإنما عبر بأو دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدّمان على القسمة مجموعين ومفردين.
فإن قيل : لم قدّمت الوصية في الذكر على الدين مع أنها متأخرة في حكم الشرع عنه ؟ أجيب : بأنها لما كانت شاقة على الورثة لكونها مأخوذة بلا عوض وهي مستحبة لكل مكلف بخلاف الدين فإنه : لا يكون على كل مكلف فقدّمت لذلك، وقرأ ابن كثير وابن عامر وشعبة ( يوصى ) بفتح الصاد ووافقهم حفص على فتح الصاد في الحرف الثاني، والباقون بكسر الصاد فيهما، وقوله تعالى :﴿ آباؤكم وأبناؤكم ﴾ مبتدأ خبره ﴿ لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ﴾ أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فمنكم من يظنّ أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له، ومنكم من يظنّ أنّ الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وإنما العالم بذلك هو الله تعالى، وقد دبر أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه، وقال ابن عباس : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، والله يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده، وإن كان الولد أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل الله أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته ﴿ فريضة ﴾ أي : ما قدر من المواريث فرض فريضة ﴿ من الله إنّ الله كان عليماً ﴾ بأمور عباده ﴿ حكيماً ﴾ فيما قضى وقدّر أي : لم يزل متصفاً بذلك.
﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد ﴾ ذكر أو غيره منكم أو من غيركم ﴿ فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ﴾ وولد الابن في ذلك كالولد إجماعاً ﴿ ولهنّ ﴾ أي : الزوجات تعددن أو لا ﴿ الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد ﴾ منهنّ أو من غيرهنّ ﴿ فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ﴾ وولد الابن كالولد في ذلك إجماعاً، فقد فرض للرجل بحق العقد الصحيح ضعف ما للمرأة كما في النسب وهكذا قياس كل رجل وامرأة وارثين اشتركا في الجهة والقرب من الميت ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة ﴿ وإن كان رجل ﴾ أي : الميت ﴿ يورث ﴾ أي : منه من ورث، صفة رجل وخبر كان ﴿ كلالة، ﴾ أو يورث خبر كان وكلالة حال من الضمير في يورث واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أنها من لا ولد له ولا والد، قال الشعبي : سئل أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن الكلالة فقال : إني سأقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد، والولد فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر.
وذهب طاوس أنّ الكلالة من لا ولد له وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس وأحد القولين عن عبد الله بن عمر، وسأل رجل عقبة عن الكلالة فقال : ألا تعجبون من هذا ؟ سألني وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ثلاث لأن يكون النبيّ بينهنّ لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة وأبواب الربا. وقال سعيد بن أبي طلحة : خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ فيه حتى طعن بإصبعه في صدري وقال :( يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن ) وقوله :«ألا يكفيك آية الصيف » أراد أنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أوّل سورة النساء، والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء، فلذلك أحاله عليها.
وقوله تعالى :﴿ أو امرأة ﴾ عطف على رجل أي : أو امرأة تورث كلالة ﴿ وله ﴾ أي : الرجل ﴿ أخ أو أخت ﴾ واكتفى بحكم الرجل عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه، ويصح أن يعود الضمير على الموروث الكلالة فيشمل الرجل والمرأة ﴿ فلكل واحد منهما السدس ﴾ وقد أجمعوا على أنّ المراد به الأخ والأخت من الأم ﴿ فإن كانوا ﴾ أي : الأخت والأخوات من الأم ﴿ أكثر من ذلك ﴾ أي : من واحد ﴿ فهم شركاء في الثلث ﴾ يستوي فيه ذكورهم وإناثهم ؛ لأنّ الإدلاء بمحض الأنوثة ﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ وقوله تعالى :﴿ غير مضارّ ﴾ حال من ضمير يوصي أي : غير مدخل الضرر على الورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث، وعن قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه.
وعن الحسن المضارّة في الدين أن يوصي بدين ليس عليه، ومعناه الإقرار، وقوله تعالى :﴿ وصية من الله ﴾ مصدر مؤكد ليوصيكم أي : يوصيكم بذلك وصية كقوله :﴿ فريضة من الله ﴾ ( النساء، ١١ ).
﴿ والله عليم ﴾ بما دبره لخلقه من الفرائض ﴿ حليم ﴾ بتأخير العقوبة عمن خالفه.
تنبيه : خصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق.
﴿ تلك ﴾ أي : الأحكام المذكورة في أمر اليتامى والوصايا والمواريث ﴿ حدود الله ﴾ أي : شرائعه التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدّوها ﴿ ومن يطع الله ورسوله ﴾ فيما حكما به ﴿ يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ وقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ حال مقدرة كقولك : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً ﴿ وذلك الفوز العظيم ﴾.
﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده ﴾ أي : الله ﴿ يدخله ناراً ﴾ وقوله تعالى :﴿ خالداً فيها ﴾ حال كما مرّ، ولا يجوز أن يكون ( خالدين ) و( خالداً ) صفتين لجنات ونار ؛ لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بدّ من الضمير وهو قولك : خالدين هم فيها وخالداً هو فيها هذا على مذهب البصريين، أما على مذهب الكوفيين فهو جائز عندهم عند أمن اللبس كما هنا، وهو الراجح كما جرى عليه ابن مالك وغيره ﴿ وله عذاب مهين ﴾ أي : ذو إهانة، وروعي في الضمائر في الآيتين لفظ من وفي خالدين معناها. وقرأ نافع وابن عامر ( ندخله جنات ) و( ندخله ناراً ) بالنون فيهما على الالتفات، والباقون بالياء.
﴿ واللاتي يأتين الفاحشة ﴾ أي : الزنا ﴿ من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم ﴾ أي : من رجال المسلمين، وهذا خطاب للحكام أي : فاطلبوا عليهنّ أربعة من الشهود، وفيه بيان أنّ الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود ﴿ فإن شهدوا ﴾ عليهنّ بها ﴿ فأمسكوهنّ ﴾ أي : احبسوهنّ ﴿ في البيوت ﴾ واجعلوها سجناً لهنّ وامنعوهنّ عن مخالطة الناس، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضمّ الباء والباقون بكسرها ﴿ حتى يتوفاهنّ الموت ﴾ أي : ملائكته ﴿ أو ﴾ إلى أن ﴿ يجعل الله لهنّ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً إلى الخروج منها أمروا بذلك أوّل الإسلام، ثم جعل لهنّ سبيلاً بجلد البكر مئة وتغريبها عاماً ورجم المحصنة، وفي الحديث، لما بين الحدّ قال :( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً ). رواه مسلم.
﴿ واللذان ﴾ أي : الزاني والزانية، وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف ﴿ يأتيانها ﴾ أي : فاحشة الزنا ﴿ منكم ﴾ أي : الرجال ﴿ فآذوهما ﴾ بالسب والضرب بالنعال ﴿ فإن تابا ﴾ أي : منها ﴿ وأصلحا ﴾ أي : العمل ﴿ فأعرضوا عنهما ﴾ ولا تؤذوهما ﴿ إنّ الله كان توّاباً ﴾ على من تاب ﴿ رحيماً ﴾ به، وهو علة الأمر بالإعراض وترك المذمة وهذا منسوخ بالحدّ.
روى ابن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر وكان أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مئة وتغريب سنة وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فردّ عليك ) وجلد ابنه مئة وغرّبه عاماً. أي : لأنه كان غير محصن وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها.
وروى ابن عباس عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إنّ الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ورعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الاعتراف. وجملة حد الزنا أنّ الزاني إذا كان محصناً وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل والبلوغ والحرّية والإصابة بالنكاح الصحيح، فحدّه الرجم مسلماً كان أو ذميّاً، وعند أبي حنيفة أنّ الإسلام من شرائط الإحصان فلا يرجم عنده الذميّ، ويردّه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا ) وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ أو مجنوناً فلا حد عليه وإن كان حرّاً عاقلاً بالغاً غير أنه لم يصب بنكاح صحيح فعليه جلد مئة وتغريب عام وإن كان رقيقاً فعليه جلد خمسين وتغريب نصف عام. ومثل الزنا اللواط عند الشافعيّ رضي الله تعالى عنه لكن المفعول به لا رجم عليه وإن كان محصناً بل يجلد ويغرّب، وقيل : نزلت آية ﴿ واللاتي يأتين الفاحشة ﴾ في المساحقات وآية ﴿ واللذان يأتيانها منكم ﴾ في اللواطين.
﴿ إنما التوبة على الله ﴾ أي : إن قبول التوبة كالمحتوم على الله تفضلاً منه بمقتضى وعد ؛ لأنه تعالى وعد بقبول التوبة فإذا وعد شيئاً لا بدّ أن ينجز وعده ؛ لأن الخلف في وعده سبحانه وتعالى محال ﴿ للذين يعملون السوء ﴾ أي : المعصية وقوله تعالى :﴿ بجهالة ﴾ في موضع الحال أي : يعملون السوء جاهلين أي : سفهاً فإن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه السفه والشهوة لا ما تدعو إليه الحكمة والعقل، وعن مجاهد : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع أي : يخرج من جهالته، وقال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى الله تعالى فهو جاهل ﴿ ثم يتوبون من ﴾ زمن ﴿ قريب ﴾ أي : قبل أن يغرغروا لقوله تعالى :﴿ حتى إذا حضر أحدهم الموت ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم :( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه الترمذي وحسنه. وعن عطاء ولو قبل موته بفواق ناقة، وعن الحسن إن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده فقال : وعزتي وجلالي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. والغرغرة تردّد الروح في الحلق.
تنبيه : معنى ( من ) في قوله تعالى ﴿ من قريب ﴾ التبعيض أي : يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمناً قريباً ؛ لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى :﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾ ( النساء، ٧٧ ).
ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد ﴿ فأولئك يتوب الله عليهم ﴾ أي : يقبل توبتهم.
فإن قيل : ما فائدة ذلك بعد قوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله ﴾ ؟ أجيب : بأنّ ذلك وعد بالوفاء بما وعد به وكتبه على نفسه كما يعد العبد الوفاء بما عليه ﴿ وكان الله عليماً ﴾ بخلقه ﴿ حكيماً ﴾ في صنعه بهم.
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيآت ﴾ أي : الذنوب ﴿ حتى إذا حضر أحدهم الموت ﴾ أي : أخذ في النزع ﴿ قال ﴾ عند مشاهدة ما هو فيه ﴿ إني تبت الآن ﴾ حين لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة قال تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ﴾ ( غافر، ٨٥ ).
ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق ﴿ ولا الذين يموتون وهم كفار ﴾ أي : إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا ينفعهم ذلك، ولا تقبل توبتهم، فسوى سبحانه وتعالى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضور الموت وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم ؛ لأنّ حضور الموت أوّل أحوال الآخرة، فكما أن المصرين على الكفر قد فاتتهم التوبة على اليقين فكذلك المسوف إلى حضور الموت لمجاوزة كل منهما أوان التكليف والاختيار وقوله تعالى :﴿ أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ﴾ أي : مؤلماً تأكيد لعدم قبول توبتهم وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة، وقيل : أصله أعددنا أبدلت الدال الأولى تاء.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء ﴾ أي : ذواتهنّ ﴿ كرهاً ﴾ نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية، وفي أوّل الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وللرجل عصبة وألقى ثوبه على امرأة الميت أو على خبائها صار أحق بها من نفسها ومن غيره، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها عصبة الميت ثوبه فهي أحق بنفسها، وكانوا على هذا حتى توفي أبو القيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفدي نفسها منه، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله ) فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الكاف، والباقون بفتحها قال الكسائي : وهما لغتان، وقال الفرّاء : الكره بالفتح ما أكره عليه، وبالضم المشقة، وقوله تعالى :﴿ ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ﴾ عطف على ( أن ترثوا ) أي : لا تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهنّ ولا رغبة لكم فيهنّ ضراراً لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر، وقيل : هذا خطاب لأولياء الميت، والصحيح كما قال البغوي : إنه خطاب للأزواج، قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون له المرأة وهو كاره صحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله تعالى عن ذلك.
قال الزمخشريّ : والعضل الحبس والضيق ومنه عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ كالزنا والنشوز وسوء العشرة، فحينئذٍ يحل لكم إضرارهنّ ليفتدين منكم قال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود، وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء المثناة تحت والباقون بالكسر وقوله تعالى :﴿ وعاشروهنّ بالمعروف ﴾ قال الحسن : رجع إلى أوّل الكلام يعني وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة وعاشروهنّ بالمعروف وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ﴿ فإن كرهتموهنّ ﴾ فاصبروا ولا تفارقوهنّ ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ﴾ أي : فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير وأحبت ما هو بضدّ ذلك وليكن نظركم ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير فلعل أن يرزقكم الله تعالى منهنّ ولداً صالحاً أو يعطفكم الله عليهنّ وقد بينت الآية جواز إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبهت على معنيين :
أحدهما : أنّ الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح :
والثاني : أنّ الإنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب وأنشدوا في هذا المعنى :
ومن لم يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عائب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب
ولما كان الرجل إذا طمحت عينه إلى استظراف امرأة بهت بالتي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى زوج غيرها نزل.
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ﴾ أي : أخذها بدلها بأن طلّقتموها﴿ و ﴾ قد ﴿ آتيتم إحداهنّ ﴾ أي : الزوجات ﴿ قنطاراً ﴾ أي : مالاً كثيراً صداقاً ﴿ فلا تأخذوا منه ﴾ أي : القنطار ﴿ شيئاً ﴾ وقوله تعالى :﴿ أتأخذونه بهتاناً ﴾ أي : ظلماً ﴿ وإثماً مبيناً ﴾ أي : بيناً حال أي : أتأخذونه باهتين وآثمين، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قام خطيباً فقال : أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت له : يا أمير المؤمنين لِمَ تمنعنا حقاً جعله الله لنا والله تعالى يقول :﴿ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً ﴾ فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه : تسمعونني أقول مثل هذا القول ولا تنكرونه عليّ حتى تردّ عليّ امرأة ليست من أعلم النساء.
وقوله تعالى :
﴿ وكيف تأخذونه ﴾ استفهام توبيخ وإنكار أي : تأخذونه بأي وجه ﴿ وقد أفضى ﴾ أي : وصل ﴿ بعضكم إلى بعض ﴾ بالجماع المقرّر للمهر وكنى الله تعالى عن الجماع بالإفضاء وهو الوصول إلى الشيء من غير واسطة تعليماً لعباده ؛ لأنه مما يستحيا منه ﴿ وأخذن منكم ميثاقاً ﴾ أي : عهداً ﴿ غليظاً ﴾ أي : شديداً وهو ما أخذه الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ). وقد قيل : صحبة عشرين يوماً قرابة فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج. ولما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه وكان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم فقالت : إني أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته وأخبرته بذلك فنزل.
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ﴾ وإنما عبر بما دون من ؛ لأنه أريد به صفة ذات معينة وهي كونهنّ منكوحات الآباء، وقيل : ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر وقوله تعالى :﴿ إلا ما قد سلف ﴾ استثناء من المعنى اللازم للنهي فكأنه قيل : تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف أو من اللفظ للمبالغة في التحريم، والمعنى : لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوه ولا يمكن ذلك والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته كما يعلق بالمحال في التأبيد في نحو قوله تعالى :﴿ حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ ( الأعراف، ٤٠ ).
أو منقطع أي : لكن ما قد سلف من فعلكم ذلك فإنه معفو عنه وقوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : نكاحهنّ ﴿ كان فاحشة ومقتاً ﴾ علة للنهي أي : إنه فاحشة فكان مزيدة أي : قبيحاً عند الله تعالى ما رخص فيه لأمّة من الأمم ممقوتاً عند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه : المقتى ويسمي به الرجل المذكور أيضاً قال في «القاموس » : نكاح المقت أن يتزوّج امرأة أبيه بعده فالمقتى ذلك المتزوّج أو ولده أي : ومن ثم قيل : ومقتاً كأنه قيل : هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين ﴿ وساء ﴾ أي : بئس ﴿ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً ذلك، روي عن البراء بن عازب أنه قال :( مرّ بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوّج امرأة أبيه آتيه برأسه ).
واعلم أن أسباب التحريم المؤبد ثلاثة : قرابة ورضاع ومصاهرة وضابط المحرمات بالنسب والرضاع أن يقال : محرم نساء القرابة إلا من دخلت تحت ولد العمومة أو ولد الخؤولة وقد بدأ الله بالسبب الأوّل وهو القرابة فقال :
﴿ حرّمت عليكم أمهاتكم ﴾ أي : العقد عليهنّ وكذلك يقدّر في الباقي ؛ لأن تحريم نكاحهنّ هو الذي يفهم من تحريمهنّ كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله.
والأمّهات جمع أمّ وأصلها أمّهة، قاله الجوهريّ. وضابط الأمّ هي كل من ولدتك فهي أمّك حقيقة أو ولدت من ولدك ذكراً كان أو أنثى كأم الأب وإن علت وأمّ الأمّ كذلك فهي أمّك مجازاً، وإن شئت قلت : هي كل أنثى ينتهي إليها نسبك ﴿ وبناتكم ﴾ جمع بنت وضابطها هو كل من ولدتها فهي بنتك حقيقة أو ولدت من ولدها ذكراً كان أو أنثى كبنت ابن وإن نزل وبنت بنت وإن نزلت فبنتك مجازاً وإن شئت قلت : كل أنثى ينتهي إليك نسبها، وخرج بالبنت المخلوقة من ماء زنا الرجل فإنها تحل له ؛ لأنها أجنبية عنه بدليل منع الإرث بالإجماع فلا تتبعض الأحكام ويحرم على المرأة ولدها من زنا بالإجماع كما أجمعوا على أنه يرثها.
والفرق أن الابن كالعضو منها وانفصل منها إنساناً ولا كذلك النطفة التي خلقت منها البنت بالنسبة للأب ﴿ وأخواتكم ﴾ جمع أخت وضابطها هو كل من ولدها أبواك أو أحدهما فهي أختك ﴿ وعماتكم ﴾ جمع عمة، وضابطها : هو كل من هي أخت ذكر ولدك بلا واسطة فعمتك حقيقة أو بواسطة كعمة أبيك فعمتك مجازاً وقد تكون العمة من جهة الأمّ كأخت أبي الأمّ ﴿ وخالاتكم ﴾ جمع خالة وضابطها هو كل من هي أخت أنثى ولدتك بلا واسطة فخالتك حقيقة، أو بواسطة كخالة أمّك فخالتك مجازاً، وقد تكون الخالة من جهة الأب كأخت أمّ الأب ﴿ وبنات الأخ وبنات الأخت ﴾ من جميع الجهات وبنات أولادهم وإن سفلن.
ثم ثنى بالسبب الثاني وهو الرضاع فقال :﴿ وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم ﴾ وضابط أمّك من الرضاع هو : كل من أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك أو صاحب اللبن أو أرضعت من ولدك بواسطة أو غيرها أو ولدت مرضعتك بواسطة أو غيرها أو صاحب لبنها وهو الفحل بواسطة أو غيرها فأمّ رضاع ﴿ وأخواتكم من الرضاعة ﴾ وضابط أخت الرضاع هو كل من أرضعتها أمّك أو ارتضعت بلبن أبيك أو ولدتها مرضعتك أو ولدها الفحل ويلحق بذلك بالسنة باقي السبع لخبر الصحيحين :( يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة )، وفي رواية :( حرموا من الرضاعة ما يحرم من الولادة )، وفي رواية :( حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب ).
وضابط بنت الرضاع هو كل أنثى ارتضعت لبنك أو لبن من ولدته بواسطة أو غيرها أو أرضعتها امرأة ولدتها بواسطة أو غيرها وكذا بناتها من نسب أو رضاع وإن سفلن، وضابط عمة الرضاع هو كل أخت للفحل أو أخت ذكر ولد الفحل بواسطة أو غيرها من نسب أو رضاع.
وضابط خالة الرضاع هو كل أخت للمرضعة أو أخت أنثى ولدت المرضعة بواسطة أو غيرها من نسب أو رضاع، وضابط بنات الإخوة وبنات الأخوات من الرضاع : كل أنثى من بنات أولاد المرضعة والفحل من الرضاع والنسب، وكذا كل أنثى أرضعتها أختك أو ارتضعت بلبن أخيك وبناتها وبنات أولادها من نسب أو رضاع، وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين :
أحدهما : أن يكون قبل استكمال المولود حولين لقوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ﴾ ( البقرة، ٢٣٣ ).
ولقوله صلى الله عليه وسلم :( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء )، وعن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :( لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم ) وإنما يكون هذا في حال الصغر، وعند أبي حنيفة مدّة الرضاع ثلاثون شهراً لقوله تعالى :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ﴾ ( الأحقاف، ١٥ ).
وهي عند الأكثرين لأقل مدّة الحمل وأكثر مدّة الرضاع وأقل مدّة الحمل ستة أشهر وابتداء الحولين من تمام انفصاله. والشرط الثاني : أن توجد خمس رضعات متفرّقات، لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن أي : يقرؤهنّ من لم يبلغه نسخهنّ فقد نسخت تلاوتهنّ وبقي حكمهنّ، وهذا ما ذهب إليه الشافعي، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب، وإليه ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة، ويقوي الأوّل قوله صلى الله عليه وسلم :( لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان ).
ثم ثلث بالسبب الثالث وهو النكاح فقال تعالى :﴿ وأمّهات نسائكم ﴾ أي : بواسطة أو بغيرها من نسب أو رضاع سواء أدخل بزوجته أم لا لإطلاق الآية ﴿ وربائبكم ﴾ جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره وسميت ربيبة ؛ لأنه يربيها كما يربي ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه وسميت بذلك وإن لم يربها وقوله تعالى :﴿ اللاتي في حجوركم ﴾ أي : تربونها صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها ﴿ من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ ﴾ أي : جامعتموهنّ سواء أكان ذلك بعقد صحيح أم فاسد لإطلاق الآية ﴿ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم ﴾ أي : في نكاح بناتهنّ إذا فارقتموهن.
فإن قيل : لم أعيد الوصف إلى الجملة الثانية ولم يعد إلى الجملة الأولى وهي ﴿ وأمّهات نسائكم ﴾ مع أنّ الصفات عقب الجمل تعود إلى الجميع ؟ أجيب : بأنّ نساءكم الثاني مجرور بحرف الجرّ، ونساءكم الأول مجرور بالإضافة، وإذا اختلف العامل لم يجز الإتباع وتعين القطع واعترض بأنّ المعمول الجرّ وهو واحد.
تنبيه : قضية كلام الشيخ أبي حامد وغيره أنه يعتبر في الدخول أن يقع في حياة الأمّ فلو ماتت قبل الدخول ووطئها بعد موتها لم تحرم بنتها ؛ لأنّ ذلك لا يسمى دخولاً وإن تردّد فيه الروياني.
فإن قيل : لِمَ لم يعتبر الدخول في تحريم أصول البنت واعتبر في تحريمها الدخول ؟ أجيب : بأنّ الرجل يبتلى عادة بمكالمة أمّها عقب العقد لترتيب أموره فحرمت بالعقد ليسهل ذلك عليه بخلاف بنتها واستدخال الماء المحترم يثبت المصاهرة كالوطء، وتحرم البنت المنفية باللعان وإن لم يدخل بأمّها ؛ لأنها لا تنتفي عنه قطعاً ﴿ وحلائل ﴾ أي : أزواج ﴿ أبنائكم ﴾ واحدتها حليلة والذكر حليل سميا بذلك ؛ لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه، وقيل : سميا بذلك ؛ لأن كل واحد يحلّ إزار صاحبه من الحل وهو ضدّ العقد وقوله تعالى :﴿ الذين من أصلابكم ﴾ احتراز عن حليلة المتبنى فإنها لا تحرم على الرجل الذي تبناه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج امرأة زيد بن حارثة وكان تبناه صلى الله عليه وسلم لا عن حليلة ولده من الرضاع فإنها تحرم عليه، ولا عن حلائل أبناء الولد وإن سفلوا.
تنبيه : كل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين والوطء بشبهة النكاح، فإذا وطئ امرأة بشبهة أو جارية بملك اليمين حرم على الواطئ أمّها وبنتها، وتحرم الموطوءة على أبي الواطئ وابنه، ولو زنى بامرأة لم تحرم أمّها ولا بنتها على الزاني ولا تحرم الزانية على أبي الزاني وابنه كما قاله ابن عباس، وإليه ذهب مالك والشافعيّ، وذهب قوم إلى التحريم.
يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وهو قول أصحاب الرأي. وهل المباشرة بشهوة كلمس وقبلة كالوطء في تحريم الربيبة ؟ فيه قولان :
أحدهما : وهو الأصح من مذهب الشافعيّ لا ؛ لأنّ ذلك لا يوجب العدّة، فكذا لا يوجب الحرمة.
والثاني : نعم ؛ لأنّ ذلك كالوطء بجامع التلذذ بالمرأة ؛ ولأنه استمتاع يوجب الفدية على المحرم فكان كالوطء وبهذا قال جمهور العلماء.
ثم ذكر سبحانه وتعالى تحريم الجمع بقوله تعالى :﴿ وأن تجمعوا بين الأختين ﴾ أي : ولا يجوز للرجل أن يجمع بين أختين في نكاح سواء كانتا من نسب أم رضاع سواء أنكحهما معاً أم مترتباً، فإذا نكح امرأة، ثم طلقها بائناً جاز له نكاح أختها، وخرج بالجمع في النكاح الجمع بملك اليمين، فإنه جائز لكن لا يجوز أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطئ إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرّم الأولى على نفسه، ويلحق بالأختين بالسنة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من نسب أو رضاع ولو بواسطة، قال صلى الله عليه وسلم :( لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى )، رواه الترمذي وغيره وصححوه ؛ ولما فيه من قطيعة الرحم، وإن رضيت بذلك، فإن الطبع يتغير وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في خبر النهي عن ذلك بقوله :( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهنّ ). كما رواه ابن حبان وغيره، وضابط تحريم الجمع ابتداء ودواماً هو كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع ولو فرضت إحداهما ذكراً حرم الجمع بينهما بنكاح أو وطء بملك اليمين، وقوله تعالى :﴿ إلا ما قد سلف ﴾ استثناء عن لازم المعنى وهو المؤاخذة، فكأنه قال تعالى : تؤاخذون بذلك إلا ما قد سلف قبل النهي فلا تؤاخذون به أو منقطع أي : لكن ما قد سلف من نكاح بعض ما ذكر فإنه مغفور لكم ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ إنّ الله كان غفوراً ﴾ لما سلف منكم قبل النهي ﴿ رحيماً ﴾ بكم في ذلك، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر من رواية ابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند السين والباقون بالإدغام.
﴿ و ﴾ حرمت ﴿ المحصنات ﴾ أي : ذوات الأزواج ﴿ من النساء ﴾ أن تنكحوهنّ قبل مفارقة أزواجهنّ سواء أكن حرائر أم لا، مسلمات أم لا، قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كنّ هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج، فتزوّجهن بعض المسلمين، ثم قدم أزواجهن مهاجرين، فنهى الله المسلمين عن نكاحهنّ، ثم استثنى فقال :﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ أي : من الإماء بالسبي فلكم وطؤهنّ وإن كان لهنّ أزواج في دار الحرب بعد الاستبراء ؛ لأنّ بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها، قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين، فكرهوا غشيانهنّ وتحرجوا فأنزل الله هذه الآية.
فائدة : قرأ الكسائي جميع ما في القرآن من لفظ المحصنات ومحصنات بكسر الصاد إلا هذا الحرف فإنه فتح الصاد موافقة للجميع، ووجه تسميتهنّ بذلك ؛ لأنهنّ أحصن فروجهنّ بالتزويج فهنّ محصنات، ومحصنات بالكسرة في غير هذه الآية وقوله تعالى :﴿ كتاب الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي قبله وهي حرمت عليكم الخ. . أي : كتب الله ﴿ عليكم ﴾ تحريم هؤلاء كتاباً وقوله تعالى :﴿ وأحل لكم ﴾ عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله إذا قرئ بالبناء للفاعل كما قرأه غير حفص وحمزة والكسائي، وأمّا هم فقرؤوه بالبناء للمفعول عطفاً على حرمت ﴿ ما وراء ذلكم ﴾ أي : سوى ما حرم عليكم من النساء وقوله تعالى :﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ﴾ مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلك إرادة أن تبتغوا أي : تطلبوا النساء بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم محصنين أي : متزوّجين غير مسافحين أي : زانين ؛ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
والإحصان : العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام والمسافح الزاني من السفح وهو صبّ المني، وكان الفاجر يقول للفاجرة : سافحيني ماذيني من المذي. والأموال المهور وما يخرج في المناكح.
تنبيه : يجوز أن يكون مفعول تبتغوا مقدراً وهو النساء كما قدّرته لك، قال الزمخشري : والأجود أن لا يقدر وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم ويجوز أن يكون أن تبتغوا بدلاً مما وراء ذلكم بدل اشتمال ؛ لأنّ المبدل منه ذات والمبدل معنى والذات مشتملة عليه ﴿ فما ﴾ أي : فمن ﴿ استمتعتم ﴾ أي : تمتعتم ﴿ به منهنّ ﴾ أي : ممن تزوجتم بالوطء ﴿ فآتوهنّ أجورهنّ ﴾ أي : مهورهنّ، فإنّ المهر في مقابلة الاستمتاع، وقوله تعالى :﴿ فريضة ﴾ حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي : إيتاء مفروضاً أو مصدر مؤكد ﴿ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم ﴾ أنتم وهنّ ﴿ به من بعد الفريضة ﴾ فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق.
وقيل : نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخت كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أباحها ثم أصبح يقول :( يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا أنّ الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة ). وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال :( لا أوتى برجل تزوّج بامرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة ). وعن ابن عباس أنه قال : هي محكمة أي : تنسخ وكان يقرأ : فما استمتعتم به إلى أجل مسمى، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال : اللهمّ إني أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقيل : إنها أبيحت مرّتين وحرمت مرّتين ﴿ إنّ الله كان عليماً ﴾ بخلقه ﴿ حكيماً ﴾ فيما دبره لهم.
﴿ ومن لم يستطع منكم طولاً ﴾ أي : غنى وأصل الطول الفضل يقال : لفلان على فلان طول أي : زيادة فضل وقد طاله طولاً فهو طائل كما قال القائل :
لقد زادني حباً لنفسي أنني بغيض إلى كل امرئ غير طائل
ومنه قولهم : هذا أمر ما تحته طائل أي : شيء يعتد به مما له فضل وخطر، ومنه الطول في الجسم ؛ لأنه زيادة فيه كما أنّ القصر قصور فيه ونقصان، والمعنى : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة ﴿ أن ينكح المحصنات ﴾ أي : الحرائر وقوله تعالى :﴿ المؤمنات ﴾ جرى على الغالب، فلا مفهوم له فإن الحرائر الكتابيات كذلك ﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ أي : إمائكم المؤمنات أي : ومن لم يقدر على مهر الحرّة المؤمنة أي : أو الكتابية كما مرّ فليتزوّج الأمة المؤمنة، وظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرّة ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقاً، وأوّل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه طول المحصنات بأن يملك فراشهنّ على أنّ النكاح هو الوطء وحمل قوله :( من فتياتكم المؤمنات ) على الأفضل كما حمل عليه قوله :( المحصنات المؤمنات ).
ومن أصحابنا من حمله أيضاً على التقييد وجوّز نكاح الأمة لمن قدر على الحرّة والكتابية دون المؤمنة حذراً من مخالطة الكفار وموالاتهم، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد ؛ ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين، وأمّا وطؤها بملك اليمين فجائز باتفاق.
فائدة : قوله تعالى :﴿ فمن ما ملكت ﴾ من مقطوعة عن ما ﴿ والله أعلم بإيمانكم ﴾ أي : بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه فإنه العالم بالسرائر ﴿ بعضكم من بعض ﴾ أي : أنتم وإماؤكم سواء في النسب والدين نسبكم من آدم ودينكم الإسلام فلا تستنكفوا من نكاحهنّ ﴿ فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ ﴾ أي : مواليهنّ ﴿ وآتوهنّ أجورهنّ ﴾ أي : أدوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ فحذف بإذن لتقدّم ذكره، أو أدوا إلى مواليهنّ فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد ؛ لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدّى إليه، وقال مالك : المهر للأمة ذاهباً إلى ظاهر الآية ﴿ بالمعروف ﴾ أي : من غير مطل ولا ضرار وقوله تعالى :﴿ محصنات ﴾ أي : عفيفات حال من ضمير فانكحوهنّ وهو محمول على الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني ﴿ غير مسافحات ﴾ أي : زانيات جهراً ﴿ ولا متخذات أخدان ﴾ أي : أخلاء يزنون بها سراً جمع خدن وهو الصديق في السر، وقيل : المسافحات اللاتي يزنين مع أي رجل، وذوات الأخدان اللاتي يزنين مع معين وذلك بحسب ما كان في الجاهلية.
﴿ فإذا أحصن ﴾ قرأ شعبة وحمزة والكسائي أحصن بفتح الهمزة والصاد على البناء للفاعل أي : تزوّجن والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول أي : زوّجن، ﴿ فإن أتين بفاحشة ﴾ أي : زنا ﴿ فعليهنّ نصف ما على المحصنات ﴾ أي : الحرائر الأبكار إذا زنين ﴿ من العذاب ﴾ أي : الحدّ فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهنّ العبد.
فإن قيل : ما فائدة وجوب تنصيف الحدّ عليهنّ بتقييده بتزوّجهنّ إذ تنصيف العذاب لازم للأمة الزانية تزوّجت أم لا ؟ أجيب : بأنّ فائدة ذلك بيان أن لا رجم عليهنّ أصلاً وبأنه إنما ذكر لبيان جواب سؤال إذ الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوا مقدار حد الأمة قبل التزوّج دون مقداره بعده، فسألوا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوّج من المماليك إذا زنا أخذاً بظاهر الآية.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحدّ ولا يثربن عليها ثم إن عادت فليجلدها الحد ولا يثربن عليها، فإن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر ) ﴿ ذلك ﴾ أي : نكاح الإماء عند عدم الطول ﴿ لمن خشي ﴾ أي : خاف ﴿ العنت ﴾ أي : الزنا، وأصله المشقة سمي به الزنا ؛ لأنه سببها بالحدّ في الدنيا أو العقوبة في الأخرى ﴿ منكم ﴾ أيها الأحرار بخلاف من لم يخفه أمّا العبيد فيجوز لهم نكاح الإماء مطلقاً لكن إن كان العبد مسلماً فلا بد أن تكون الأمة مسلمة ﴿ وإن تصبروا ﴾ عن نكاح الإماء متعففين ﴿ خير لكم ﴾ لئلا يصير الولد رقيقاً، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم ( الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت ) ﴿ والله غفور ﴾ لمن لم يصبر ﴿ رحيم ﴾ بأن وسع له في ذلك.
﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ شرائع دينكم ومصالح أموركم ﴿ ويهديكم ﴾ أي : يرشدكم ﴿ سنن ﴾ أي : شرائع ﴿ الذين من قبلكم ﴾ من الأنبياء في التحريم والتحليل فتتبعوهم ﴿ ويتوب عليكم ﴾ أي : ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ﴿ والله عليم ﴾ بكم ﴿ حكيم ﴾ فيما دبره لكم.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ إن وقع منكم تقصير في دينه ﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات ﴾ قال السدي : هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم : هم المجوس ؛ لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت فلما حرمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنات الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت، وقال مجاهد : هم الزناة ﴿ أن تميلوا ﴾ أي : تعدلوا عن الحق ﴿ ميلاً عظيماً ﴾ بارتكاب ما حرم عليكم فتكونوا مثلهم.
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ أي : يسهل عليكم أحكام الشرع، وقد سهل كما قال تعالى :﴿ ويضع عنهم إصرهم ﴾ ( الأعراف، ١٥٧ ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ) أي : السهلة ﴿ وخلق الإنسان ضعيفاً ﴾ لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات، وعن سعيد بن المسيب : ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ثمان آيات في سورة النساء خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس وغربت، ( يريد الله ليبين لكم ) ( والله يريد أن يتوب عليكم ) ( يريد الله أن يخفف عنكم ) ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم ) ( إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك ) ( إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ) ( ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ) ( ما يفعل الله بعذابكم ).
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ أي : بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار والربا، وقوله تعالى :﴿ إلا أن تكون تجارة ﴾ استثناء منقطع أي : لكن أن تقع تجارة على قراءة الرفع وهي قراءة غير عاصم وحمزة والكسائي وأمّا هؤلاء فقرؤوا بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي : إلا أن تكون الأموال تجارة ﴿ عن تراض منكم ﴾ أي : فلكم أن تأكلوها ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ أي : بارتكاب ما يؤدّي إلى هلاكها في الدنيا والآخرة، وقال الحسن : يعني إخوانكم أي : لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة.
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ).
وروي أنّ الله تعالى يقول :( بادرني عبدي بنفسه فحرّمت عليه الجنة ).
وعن عمرو بن العاص أنه تأوّله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ﴿ إنّ الله كان بكم ﴾ يا أمّة محمد ﴿ رحيماً ﴾ حيث أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.
﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي : ما نهى عنه من قتل النفس وغيره من المحرمات، وقوله تعالى :﴿ عدواناً ﴾ حال أي : متجاوزاً للحلال وقوله تعالى :﴿ وظلماً ﴾ تأكيد وقيل : أراد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم ظلم الشخص نفسه بتعريضها للعقاب ﴿ فسوف نصليه ﴾ أي : ندخله ﴿ ناراً ﴾ يحترق فيها ﴿ وكان ذلك على الله يسيراً ﴾ أي : هيناً لا عسر عليه فيه.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ أي : كلاً منها وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جماعة : هي المعصية الموجبة للحدّ، والأوّل أولى ؛ لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها، وقال الإمام : هي كل جريمة تؤذن أي : تعلم بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وقال سفيان الثوري : الكبائر ما كان بينك وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم :( ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة : يا أمّة محمد إنّ الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي ).
وهي أشياء كثيرة، قال ابن عباس : هي إلى السبعين أقرب، وقال سعيد بن جبير : هي إلى السبعمائة أقرب أي : باعتبار أصناف أنواعها ﴿ نكفر عنكم سيآتكم ﴾ أي : الصغائر وهي ما عدا الكبائر أي : نكفر بفعل الطاعات كالصلاة والصوم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر ).
ولا بأس بذكر شيء من النوعين فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن، واليأس من رحمة الله وأمن مكره تعالى، والقتل عمداً أو شبه عمد، والكفر، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا، واللواط، وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة، والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والنميمة، وأمّا الغيبة فإن كانت في أهل العلم أو حملة القرآن فهي من الكبائر، وإلا فهي صغيرة، ومن الصغائر النظر المحرم، وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات إلا إن راعى حق الشرع فيها، والضحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان يغلب تنجيسهم ونجاسة المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، وقيل : الكبائر الشرك وما عداه من الصغائر قال الله تعالى :﴿ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( النساء، ٤٨ ١١٦ ).
﴿ وندخلكم مدخلاً ﴾ قرأ نافع بفتح الميم أي : موضعاً ﴿ كريماً ﴾ أي : حسناً وهو الجنة، وقرأ الباقون بضمها على المصدر بمعنى الإدخال مع الكرامة.
﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ من جهة الدنيا والدين ؛ لئلا يؤدّي إلى التحاسد والتباغض ؛ لأنّ ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق وقبض ﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ﴾ ( الشورى، ٢٧ ).
فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأنّ ما قسم له هو المصلحة ولو كان خلافه لكان مفسدة له ولا يحسد أخاه على حظه.
قال مجاهد : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله إنّ الرجال يغزون ولا نغزو ولهم ضعف ما لنا من الميراث فلو كنا رجالاً غزونا وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا فنزلت هذه الآية، وقيل : لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث قالت النساء : نحن أحوج إلى الزيادة من الرجال، فإنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر في طلب المعاش منا فنزلت.
وقال قتادة والسديّ : لما أنزل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهنّ في الميراث فأنزل الله تعالى ﴿ للرجال نصيب ﴾ أي : ثواب ﴿ مما اكتسبوا ﴾ أي : بسبب ما عملوا من الجهاد ﴿ وللنساء نصيب ما اكتسبن ﴾ أي : من حفظ فروجهنّ وطاعة الله وطاعة أزواجهنّ، فالرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء، وذلك أنّ الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي في ذلك الرجال والنساء، وفضل الرجال على النساء إنما هو في الدنيا ﴿ واسألوا الله من فضله ﴾ أي : لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله ما احتجتم إليه يعطكم من خزائنه التي لا تنفد، فنهى الله عن التمني لما فيه من دواعي الحسد والحسد، أن يتمنى الشخص زوال النعمة عن صاحبها سواء تمناها لنفسه أم لا، والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز، قال صلى الله عليه وسلم :( لا حسد أي : لا غبطة إلا في اثنتين ) الحديث ﴿ إنّ الله كان بكلّ شيء عليماً ﴾ فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان.
﴿ ولكل ﴾ من الرجال والنساء ﴿ جعلنا موالي ﴾ أي : عصبة يعطون ﴿ مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ لهم من المال فالوالدان والأقربون هم المورثون، وقيل : معناه ولكل جعلنا موالي أي : ورثة مما ترك أي : من الذين تركهم فتكون ما بمعنى من، ثم فسر الموالي فقال : الوالدان والأقربون أي : هم الوالدان والأقربون، فعلى هذا القول الوالدان هم الوارثون ﴿ والذين عاقدت أيمانكم ﴾ والمعاقدة المعاهدة والمحالفة، والأيمان جمع يمين بمعنى القسم أو اليد وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد، ومحالفتهم أنّ الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف وكان ذلك ثابتاً في ابتداء الإسلام، فذلك قوله تعالى :﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾ ( النساء، ٣٣ ).
أي : أعطوهم حظهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ ( الأنفال، ٧٥. وسورة الأحزاب، ٦ ).
وقال مجاهد : أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والرفد ولا ميراث، وعلى هذا الآية غير منسوخة لقوله تعالى :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ( المائدة، ١ ).
وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة :( لا تحدثوا حلفاً في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلا شدّة ) قال الزمخشريّ : وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح عنده وورث بحق الموالاة خلافاً للشافعيّ رحمه الله تعالى اه.
وقرأ غير عاصم وحمزة والكسائي : عاقدت بألف بين العين والقاف، وأمّا هؤلاء الثلاثة فقرأوا :( عقدت ) بغير ألف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، ثم حذف كما حذف في القراءة الأولى ﴿ إنّ الله كان على كل شيء شهيداً ﴾ أي : مطلعاً فخافوه.
﴿ الرجال قوّامون على النساء ﴾ أي : يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين : أحدهما وهبيّ والآخر كسبيّ، وقد ذكر الأوّل بقوله تعالى :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ أي : بسبب تفضيله الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوّة والأمانة والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد، والجمعة، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى :﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ في نكاحهنّ كالمهر والنفقة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ).
وروي أنّ سعيد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال :«لتقتص منه » فنزلت فقال :( أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ) ورفع القصاص ﴿ فالصالحات ﴾ منهنّ ﴿ قانتات ﴾ أي : مطيعات لأزواجهنّ ﴿ حافظات للغيب ﴾ أي : لما يجب عليهنّ حفظه في حال غيبة أزواجهنّ من الفروج والبيوت والأموال، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) ﴿ بما حفظ الله ﴾ أي : بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«استوصوا بالنساء خيراً » أو بما حفظهنّ الله وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة ﴿ واللاتي تخافون ﴾ أي : تعلمون ﴿ نشوزهنّ ﴾ كما في قوله تعالى :﴿ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ﴾ ( البقرة، ١٨٢ ).
﴿ فعظوهنّ ﴾ أي : خوفوهنّ كأن يقول لزوجته : اتقي الله في الحق الواجب لي عليك واحذري العقوبة ويبيّن لها أنّ النشوز يسقط النفقة والقسم ﴿ واهجروهنّ في المضاجع ﴾ أي : اعتزلوهنّ في الفراش ﴿ واضربوهنّ ﴾ وإن لم يتكرّر النشوز إن أفاد الضرب وإلا فلا يضرب كما لا يضرب ضرباً مبرّحاً ولا وجهاً ولا مهالك ومع ذلك فالأولى له العفو، وخرج بالعلم بالنشوز ما إذا ظهرت أماراته فقط إما بقول كأن صارت تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين، وإما بفعل كأن يجد منها إعراضاً وعبوساً بعد تلطف وطلاقة وجه، فإنه يعظها بلا هجر وبلا ضرب لعلها تبدي عذراً أو تتوب عما وقع منها بغير عذر، وخرج بالمضجع الهجر بالكلام، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام ويجوز فيها للخبر الصحيح :( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) إن قصد بهجرها ردّها لحظ نفسه فإن قصد به ردّها عن المعصية وإصلاح دينها فلا تحريم إذ النشوز حينئذ عذر شرعيّ، والهجر له في الكلام جائز مطلقاً، ومنه هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه الصحابة عن كلامهم ﴿ فإن أطعنكم ﴾ فيما يراد منهنّ ﴿ فلا تبغوا ﴾ أي : لا تطلبوا ﴿ عليهنّ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً إلى ضربهنّ ظلماً واجعلوا ما كان بينهنّ كأن لم يكن، ( فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، رواه الطبرانيّ وابن ماجة وغيرهما ﴿ إنّ الله كان علياً كبيراً ﴾ فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهنّ فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم.
﴿ وإن خفتم ﴾ أي : علمتم ﴿ شقاق ﴾ أي : خلاف ﴿ بينهما ﴾ أي : بين المرء وزوجه وذكرهما بضميرهما وإن لم يجر ذكرهما لجري ما يدلّ عليهما وهو الرجال والنساء، وإضافة الشقاق إلى الظرف إمّا لإجرائه مجرى المفعول به كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار، أو الفاعل كقولهم نهارك صائم ﴿ فابعثوا ﴾ أي : أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما إليهما لكن برضاهما ﴿ حكماً من أهله ﴾ أي : أقاربه ﴿ وحكماً ﴾ آخر ﴿ من أهلها ﴾ أي : أقاربها لينظرا في أمرهما بعد اختلاء حكمه به وحكمها بها ومعرفة ما عندهما في ذلك ويصلحا بينهما، أو يفرّقا إن عسر الإصلاح على ما يأتي، فإنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح.
تنبيه : بعث الحكمين على سبيل الوجوب، وكونهما من الأقارب على سبيل الندب وهما وكيلان لهما فاشترط رضاهما لا حكمان من جهة الحاكم ؛ لأنّ الحال يؤدّي إلى الفراق، والبضع حق الزوج، والمال حق الزوجة، وهما رشيدان فلا يولي عليهما في حقهما، فيوكل هو حكمه بطلاق أو خلع، وتوكل هي حكمها ببذل عوض وقبول طلاق، ويشترط فيهما إسلام وحرية وعدالة واهتداء إلى المقصود من بعثهما، له وإنما اشترط فيهما ذلك مع أنهما وكيلان لتعلق وكالتهما بنظر الحاكم كما في أمينه، ويسنّ كونهما ذكرين ولا يكفي حكم واحد ﴿ إن يريدا ﴾ أي : الحكمان ﴿ إصلاحاً يوفق الله بينهما ﴾ أي : الزوجين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى بورك في وساطتهما وأوقع الله بطيب أنفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والإلفة، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة، وقيل : الضمير الأوّل للزوجين، والثاني للحكمين أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين اختلافهما حتى يعملا بالصلاح، وقيل : الضميران للحكمين أي : إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما، وقيل : للزوجين أي : إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق : أوقع الله بينهما الإلفة والوفاق، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيته فيما يتحرّاه أصلح الله تعالى مبتغاه، وإن لم يرضيا ببعثهما ولم يتفقا على شيء أدب الحاكم الظالم واستوفى للمظلوم حقه ﴿ إنّ الله كان عليماً ﴾ بكل شيء ﴿ خبيراً ﴾ بالبواطن كالظواهر، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق قال تعالى :﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم ﴾ ( الأنفال، ٦٣ ).
﴿ واعبدوا الله ﴾ أي : وحدوه وأطيعوه ﴿ ولا تشركوا به شيئاً ﴾ أي : شيئاً من الإشراك جلياً كان أو خفياً، وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس ؟ ) قال : قلت الله ورسوله أعلم، قال :( حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله تعالى إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم قال :( فإنّ حق الناس على الله أن لا يعذبهم ) قال قلت : يا رسول الله ألا أبشر الناس ؟ قال :( دعهم يعملون ) ﴿ و ﴾ أحسنوا ﴿ بالوالدين إحساناً ﴾ أي : برّاً ولين جانب ﴿ وبذي القربى ﴾ أي : صاحب القرابة ﴿ واليتامى والمساكين ﴾ ويدخل في المساكين الفقراء.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( أنا وكافل اليتيم في الجنة ) وفي رواية :( من مسح رأس يتيم ولم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمرّ عليها يداه حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه ) ﴿ والجار ذي القربى ﴾ أي : القريب منك في النسب أو الجوار ﴿ والجار الجنب ﴾ أي : البعيد عنك في النسب أو الجوار.
روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال :( إلى أقربهما منك باباً ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر :( لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورّثه ). ﴿ والصاحب بالجنب ﴾ أي : الرفيق في السفر كما قاله ابن عباس ومجاهد، أو المرأة تكون معه إلى جنبه كما قاله علي والنخعي، أو الذي يصحبك رجاء نفعك في تعلم علم أو حرفة أو نحو ذلك كما قاله ابن جريج وابن زيد ﴿ وابن السبيل ﴾ أي : المسافر ؛ لأنه يلازم السبيل، أو الضيف كما عليه الأكثر.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ). وفي رواية :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة )، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحلّ له أن يثوي عنده حتى يخرجه ﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ أي : من الأرقاء من عبيد وإماء.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه )، وفيه رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه :«الصلاة وما ملكت أيمانكم » فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه ﴿ إنّ الله لا يحبّ من كان مختالاً ﴾ أي : متكبراً على الناس من أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم ولا يلتفت إليهم ﴿ فخوراً ﴾ أي : يتفاخر عليهم بما آتاه الله.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ). وفي رواية :( لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء ).
وقوله تعالى :﴿ الذين ﴾ مبتدأ ﴿ يبخلون ﴾ أي : بما يجب عليهم ﴿ ويأمرون الناس بالبخل ﴾ بذلك ﴿ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾ من العلم والمال وهم اليهود بخلوا ببيان صفته صلى الله عليه وسلم وكتموها وكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويخالطونهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وخبر المبتدأ محذوف تقديره لهم وعيد شديد ويصح أن يكون ( الذين ) بدلاً من قوله : من كان، أو منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه أي : هم الذين، وقرأ حمزة والكسائي ( بالبخل ) بفتح الباء والخاء، والباقون بضمّ الباء وسكون الخاء ﴿ وأعتدنا للكافرين ﴾ بذلك وبغيره ﴿ عذاباً مهيناً ﴾ أي : ذا إهانة وضع الظاهر فيه موضع المضمر إظهاراً بأنّ من هذا شأنه فهو كافر بالله لكتمانه صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وكافر بنعمة الله عليه.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا أنعم الله على عبد نعمة أحبّ أن ترى نعمته على عبده ). وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به عنده فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إنّ الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه.
وقوله تعالى :
﴿ والذين ﴾ عطف على الذين قبله ﴿ ينفقون أموالهم رئاء الناس ﴾ أي : مرائين لهم ﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ أي : كالمنافقين ومشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ومن يكن الشيطان له قريناً ﴾ أي : صاحباً يعمل بأمره كهؤلاء ﴿ فساء ﴾ أي : فبئس ﴿ قريناً ﴾ هو حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر وزينه لهم كقوله تعالى :﴿ إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ ( الإسراء، ٢٧ ).
والمراد : إبليس وأعوانه الداخلة في باطن الإنسان والخارجة عنه، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار.
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ﴾ أي : أيّ ضرر عليهم في ذلك والاستفهام للإنكار، ولو مصدرية أي : لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه وقوله تعالى :﴿ وكان الله بهم عليماً ﴾ وعيد لهم فيجازيهم بما عملوا.
﴿ إنّ الله لا يظلم ﴾ أحداً ﴿ مثقال ﴾ أي : وزن ﴿ ذرّة ﴾ وهي أصغر نملة، ويقال : لكل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة، أي : لا ينقص قدر ذلك من حسناته ولا يزيده في سيئاته كما قال تعالى :﴿ إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ﴾ ( يونس، ٤٤ )، وفي ذكر المثقال إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعها ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة ﴿ وإن تك حسنة ﴾ أي : وإن يك المثقال حسنة ﴿ يضاعفها ﴾ أي : ثوابها من عشر إلى أكثر من سبعمائة، وعن أبي عثمان النهدي أنه قال لأبي هريرة : بلغني عنك أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنّ الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) قال أبو هريرة : لا بل سمعته يقول ( إنّ الله يعطيه ألفي ألف حسنة ). ثم تلا هذه الآية.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزيه بها في الآخرة ) قال : وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً. وفي رواية :( إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال : يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار قال : فيقول اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتون فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى ركبتيه فيخرجونهم فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا قال : ثم يقول : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان في قلبه مثقال ذرّة، قال أبو سعيد : فمن لم يصدّق فليقرأ هذه ﴿ إنّ الله ﴾ الخ. . قال :( فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق أحد في النار فيه خير ثم يقول الله عز وجل : شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفعت المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال : فيقبض قبضة من النار أو قال قبضتين ناساً لم يعملوا خيراً حتى احترقوا حتى صاروا حمماً فيؤتى بهم إلى ماء يقال له : ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل وهي بكسر الحاء المهملة وتجمع على حبب قال : فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم عتقاء الله فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم قال : فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين قال : فيقول الله تعالى : فإنّ لكم عندي أفضل منه فيقولون : ربنا وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً ).
فإن قيل : لم أنث الضمير مع أنه راجع للمثقال وهو مذكر ؟ أجيب : بأنه أنثه لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث، وقيل : إنّ الضمير راجع إلى ذرّة وهي مؤنثة لا إلى مثقال وحذفت النون تشبيهاً بحروف العلة، وقرأ نافع وابن كثير : حسنة برفع التاء على كان التامّة والباقون بنصبها على كان الناقصة، وقرأ ابن كثير وابن عامر ( يضعفها ) بتشديد العين ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف العين وألف قبلها ﴿ ويؤت ﴾ أي : يعط صاحب الحسنة ﴿ من لدنه ﴾ أي : من عند الله على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل ﴿ أجراً عظيماً ﴾ أي : عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً ؛ لأنه تابع للأجر مزيد عليه لا يثبت إلا بثباته.
﴿ فكيف ﴾ حال الكفار ؟ ﴿ إذا جئنا من كل أمّة بشهيد ﴾ يشهد عليها بعملها وهو نبيها لقوله تعالى :﴿ وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ﴾ ( المائدة، ١١٧ ).
﴿ وجئنا بك ﴾ يا محمد ﴿ على هؤلاء ﴾ الشهداء ﴿ شهيداً ﴾ أي : شاهداً تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك على مجامع قواعدهم، وقيل : هؤلاء إشارة إلى المؤمنين لقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ ( البقرة، ١٤٣ ).
وقيل : إلى الكافرين المستفهم عن حالهم.
وعن ابن مسعود أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله :﴿ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :( حسبك ).
﴿ يومئذٍ ﴾ أي : المجيء وهو يوم القيامة ﴿ يودّ ﴾ أي : يتمنى ﴿ الذين كفروا وعصوا الرسول لو ﴾ أي : أن ﴿ تسوّى بهم الأرض ﴾ كالموتى أو لم يبعثوا أو لم يخلفوا وكانوا هم والأرض سواء، وقال الكلبيّ يقول الله عز وجلّ للبهائم والوحوش والطيور والسباع : كونوا تراباً فتسوّى بهنّ الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أنه لو كان تراباً كما قال تعالى :﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ﴾ ( النبأ، ٤٠ ).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : تسوّى بضم التاء للبناء للمفعول، والباقون بالفتح بالبناء للفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل، وشدّد السين نافع وابن عامر، وخففها الباقون.
﴿ ولا يكتمون الله حديثاً ﴾ أي : مما عملوه ؛ لأنّ جوارحهم تشهد عليهم، وقال الحسن : إنها مواطن ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون : ما كنا مشركين وما كنا نعمل من سوء، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم وهو قوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثاً ﴾ وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن شيئاً يختلف عليّ فقال : هات ما اختلف عليك قال : قال الله تعالى :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون ﴾ ( المؤمنون، ١٠١ ).
وقال تعالى :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ( الطور، ٢٥ ).
وقال تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثاً ﴾ ( النساء، ٤٢ ) قال :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ ( الأنعام، ٢٣ ).
فقد كتموا، وقال تعالى :﴿ أم السماء بناها ﴾ إلى قوله :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ ( النازعات، ٣٠ ).
فذلك خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال :﴿ أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ﴾ إلى ﴿ طائعين ﴾ ( فصلت، ١١ ).
فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال تعالى :﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾ ( الفتح، ١٤ ).
وقال :﴿ كان الله عزيزاً حكيماً ﴾ ( الفتح، ١٩ ).
فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون في النفخة الأولى قال :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ﴾ ( الزمر، ٦٨ ) ﴿ فلا أنساب ﴾ ( المؤمنون : ١٠١ ) عند ذلك ﴿ ولا يتساءلون ﴾ ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون في النفخة الآخرة ﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ( الصافات، ١٠١ )
وأمّا قوله : والله ربنا ما كنا مشركين، ولا يكتمون الله حديثاً، فإنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا نقل : لم نك مشركين، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يكتم حديثاً، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهنّ في يومين آخرين، ثم دحا الأرض في يومين ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فقال : خلق الأرض في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين، وكان الله غفوراً رحيماً أي : لم يزل كذلك، فلا يختلف عليك القرآن فإنّ كلاً من عند الله.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة ﴾ أي : لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها ﴿ وأنتم سكارى ﴾ من الشراب ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ بأن تصحوا منه كقوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا ﴾ ( الإسراء، ٣٢ )
﴿ ولا تقربوا الفواحش ﴾ ( الأنعام، ١٥١ ).
روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الخمر مباحاً فأكلوا وشربوا فلما سكروا جاء وقت صلاة المغرب فقدّموا أحدهم يصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا هكذا إلى آخر السورة فنزلت، فكانوا لا يشربونها في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، ثم نزل تحريمها.
وقيل : أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد. وقيل : أراد بالسكر سكر النوم ونهى عن الصلاة عند غلبة النوم قال صلى الله عليه وسلم :( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنّ أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ).
وقوله تعالى :﴿ ولا جنباً ﴾ منصوب على الحال أي : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب بإيلاج أو إنزال، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ورجال ونساء جنب ؛ لأنه يجري مجرى المصدر لا أنه مصدر بل هو اسم مصدر ؛ لأنه لم يستوف حروف الفعل ؛ لأنّ فعله أجنب فمصدره إجناباً لا جنباً، وأصل الجنابة البعد وسمي جنباً ؛ لأنه يجتنب موضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل ﴿ إلا عابري ﴾ أي : مجتازي ﴿ سبيل ﴾ أي : طريق أو مسافرين ﴿ حتى تغتسلوا ﴾ أي : فلكم أن تصلوا، واستثناء المسافر له حكم آخر سيأتي.
وفي هذا دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث ؛ لأنه غياه بقوله :( حتى تغتسلوا ) ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها وجوّز للجنب عبور المسجد، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة : لا يجوز له المرور إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق إلى الماء ﴿ وإن كنتم مرضى ﴾ أي : مرضاً يخاف معه من استعمال الماء فإنّ الواجد كالفاقد ﴿ أو على سفر ﴾ أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾ أي : أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين، والغائط المكان المطمئن من الأرض تقضي فيه الحاجة سمي باسمه الخارج للمجاورة ﴿ أو لامستم النساء ﴾، قرأ حمزة والكسائيّ بغير ألف بين اللام والميم والباقون بألف، واختلف في معنى اللمس والملامسة فقال قوم : هما التقاء البشرتين سواء أكان بجماع أم بغيره، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وبه استدلّ الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ اللمس ينقض الوضوء، وقال قوم : هما المجامعة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة كني باللمس عن الجماع ؛ لأنّ باللمس يوصل إلى الجماع ﴿ فلم تجدوا ماء ﴾ تطهرون به للصلاة بعد الطلب ؛ لأنه لا يسمى غير واجد إلا بعد الطلب وهذا راجع إلى ما عدا المرض ﴿ فتيمموا ﴾ أي : بعد دخول الوقت ﴿ صعيداً طيباً ﴾ أي : تراباً طاهراً أي : طهوراً أمّا المرضى فيتيممون مع حضور الماء ؛ لأنّ وجوده بالنسبة إليهم كالعدم ﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ مع المرفقين منه بضربتين كما ثبت في الحديث وقال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأجاب عن قوله تعالى في آية المائدة :﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ﴾ ( المائدة، ٦ ) أي : بعضه وهو لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه بأنّ من لابتداء الغاية، قال الزمخشريّ : وقولهم : إنها لابتداء الغاية فيه تعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسي من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض، قال : والإذعان للحق أحق من المراء، والتيمم من خصائص هذه الأمّة.
روي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) وكان بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ماء وليس معهم ماء ؟ فعاتبني أبو بكر وقال : ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرّك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، فقالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته ).
وفي رواية أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة، وقوله تعالى :﴿ إنّ الله كان عفوّاً غفوراً ﴾ كناية عن الترخيص والتيسير ؛ لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم آثر ما كان ميسوراً غير معسر.
﴿ ألم تر ﴾ أي : تنظر ﴿ إلى الذين أوتوا نصيباً ﴾ أي : حظاً يسيراً ﴿ من الكتاب ﴾ أي : من علم التوراة وهم أحبار اليهود ﴿ يشترون ﴾ أي : يختارون ﴿ الضلالة ﴾ على الهدى ﴿ ويريدون أن تضلوا ﴾ أيها المؤمنون ﴿ السبيل ﴾ أي : تخطئون طريق الحق لتكونوا مثلهم.
﴿ والله أعلم ﴾ منكم ﴿ بأعدائكم ﴾ فيخبركم بهم لتجتنبوهم ولا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم ﴿ وكفى بالله ولياً ﴾ أي : حافظاً ﴿ وكفى بالله نصيراً ﴾ أي : مانعاً لكم من كيدهم.
وقوله تعالى :
﴿ من الذين هادوا ﴾ بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب ؛ لأنهم يهود ونصارى وقوله تعالى :﴿ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً ﴾ جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً أي : ينصركم من الذين هادوا كقوله تعالى :﴿ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ﴾ ( الأنبياء، ٧٧ ).
أو خبر مبتدأ محذوف صفته ﴿ يحرّفون الكلم عن مواضعه ﴾ أي : ومن الذين هادوا قوم يحرّفون أي : يغيرون الكلم الذي أنزل في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم عن مواضعه التي وضع عليها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها، وفي المائدة ﴿ من بعد مواضعه ﴾ ( المائدة، ٤١ ).
والمعنيان متقاربان، قال ابن عباس : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم ويرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه ﴿ ويقولون ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم ﴿ سمعنا ﴾ قولك ﴿ وعصينا ﴾ أمرك ﴿ واسمع غير مسمع ﴾ بمعنى الدعاء أي : لا سمعت بصمم أو بموت، أو بمعنى اسمع منا ولا نسمع منك، أو بمعنى اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه ﴿ و ﴾ يقولون له :﴿ راعنا ﴾ يريدون به النسبة إلى الرعونة وقد نهى عن خطابه صلى الله عليه وسلم بها وهي كلمة سب بلغتهم ﴿ لياً ﴾ أي : تحريفاً ﴿ بألسنتهم ﴾ أي : يحرفون ما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير نفاقاً ﴿ وطعناً ﴾ أي : قدحاً ﴿ في الدين ﴾ أي : الإسلام ﴿ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا ﴾ بدل وعصينا ﴿ واسمع ﴾ أي : فقط ﴿ وانظرنا ﴾ أي : انظر إلينا بدل راعنا ﴿ لكان خيراً لهم ﴾ مما قالوه ﴿ وأقوم ﴾ أي : أعدل وأصوب ﴿ ولكن لعنهم الله ﴾ أي : أبعدهم عن رحمته ﴿ بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً ﴾ أي : إيماناً قليلاً لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ويجوز أن يراد بالقلة العدم أو إلا نفراً قليلاً منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ﴾ يخاطب اليهود ﴿ آمنوا بما نزلنا ﴾ أي : القرآن ﴿ مصدّقاً لما معكم ﴾ أي : التوراة وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وأصحابه وكعب بن أسد وقال :( يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق ) قالوا : ما نعرف ذلك وانصرفوا على الكفر فنزلت ﴿ من قبل أن نطمس وجوهاً ﴾ أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ﴿ فنردّها على أدبارها ﴾ أي : فنجعلها كالأقفاء مطموسة مثلها أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة.
روي أنّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحوّل وجهي في قفاي وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية.
فإن قيل : قد أوعدهم الله بالطمس إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟ أجيب : بأنّ هذا الوعيد باق ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة، أو أنّ هذا كان وعيداً بشرط فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك عن الباقين، وقيل : أراد به في القيامة، وقال مجاهد : أراد بقوله : نطمس وجوهاً أي : نتركهم في الضلالة، فيكون المراد طمس وجه القلب والردّ عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة ﴿ أو نلعنهم ﴾ أي : نمسخهم قردة وخنازير ﴿ كما لعنا ﴾ أي : مسخنا ﴿ أصحاب السبت ﴾ منهم قردة وخنازير ﴿ وكان أمر الله ﴾ أي : قضاؤه ﴿ مفعولاً ﴾ أي : نافذاً وكائناً فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ أي : لا يغفر الإشراك به، قال عمر رضي الله تعالى عنهما : لما نزل ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً ﴾ ( الزمر، ٥٣ ).
قالوا : يا رسول الله والشرك فنزلت. ولما أخبر بعدله أخبر تعالى بفضله فقال :﴿ ويغفر ما دون ذلك ﴾ الأمر الكبير العظيم من كل معصية سواء أكانت صغيرة أم كبيرة سواء أتاب فاعلها أم لا، ورهب بقوله : إعلاماً بأنه مختار لا يجب عليه شيء { لمن يشاء ).
وقال الكلبيّ : نزلت هذه الآية في وحشي بن حرب وأصحابه وذلك أنه لما قتل حمزة وذهب إلى مكة ندم هو وأصحابه وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ﴾ ( الفرقان، ٦٨ ).
الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله قتلها وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً ﴾ ( مريم، ٦٠ ).
الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما قرؤوهما كتبوا إليه : إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فنزلت :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ فبعث بها إليهم فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ ( الزمر، ٥٣ ).
الآية فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ثم قال لوحشيّ «أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ » فلما أخبره قال :«ويحك غيب وجهك عني » فلحق وحشيّ بالشأم فكان بها إلى أن مات ﴿ ومن يشرك با فقد افترى ﴾ أي : ارتكب ﴿ إثماً عظيماً ﴾ أي : كبيراً فالافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذا الاختلاق.
روي أن رجلاً قال : يا رسول الله ما الموجبات ؟ قال :( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار ).
وروى أبو ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ) قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال :( وإن زنى وإن سرق ) قلت : وإن زنى وإن سرق قال :«وإن زنى وإن سرق » قلت :«وإن زنى وإن سرق ؟ قال :( وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر ) وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر.
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ قال الحسن وقتادة : نزلت في اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ﴿ وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ﴾ ( البقرة، ١١١ )، وقال الكلبيّ : نزلت في رجال من اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب ؟ قال :«لا » قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار.
ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله إلا إذا كان لغرض صحيح وطابق الواقع كقول سيدنا يوسف صلى الله عليه وسلم :﴿ اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم ﴾ ( يوسف، ٥٥ )، وقوله صلى الله عليه وسلم :( إني أمين في السماء أمين في الأرض ) حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، ولكن شتان بين من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم ﴿ بل الله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ يزكي من يشاء ﴾ أي : بماله من العلم التامّ والقدرة الشاملة والحكمة البالغة، وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً ﴿ ولا يظلمون ﴾ أي : ينقصون من أعمالهم ﴿ فتيلاً ﴾ أي : قدر ما يكون في شق النواة قاله عكرمة عن ابن عباس، فهو اسم لما في شق النواة، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة، والنقير اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة، وقيل : الفتيل من الفتل وهو ما يحصل بين الإصبعين من الوسخ عند الفتل.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنّ التزكية إنما هي إليه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ انظر ﴾ متعجباً ﴿ كيف يفترون ﴾ أي : يتعمدون ﴿ على الله ﴾ الذي لا يخفى عليه شيء ولا بعجزه شيء ﴿ الكذب ﴾ من غير خوف منهم لذلك عاقبة ذلك ﴿ وكفى به ﴾ أي : بهذا الكذب ﴿ إثماً مبيناً ﴾ أي : بيناً واضحاً.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ وهما صنمان بمكة لقريش وذلك أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت ؛ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا، ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أمّيون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً نحن أم محمد ؟ قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم فقال أبو سفيان : نحن ولاة البيت نسقي الحجاج الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد فأنزل الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً ﴾ أي : حظاً من الكتاب وهم كعب بن الأشرف وأصحابه يؤمنون بالجبت والطاغوت إي الصنمين ﴿ ويقولون للذين كفروا ﴾ وهم أبو سفيان وأصحابه ﴿ هؤلاء ﴾ أي : أنتم ﴿ أهدى من الذين آمنوا ﴾ وهم محمد وأصحابه ﴿ سبيلاً ﴾ أي : أقوم ديناً وأرشد طريقاً.
تنبيه : في ﴿ هؤلاء أهدى ﴾ همزتان من كلمتين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء خالصة، والباقون بالتحقيق.
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ أي : طردهم وأبعدهم من رحمته ﴿ ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً ﴾ أي : مانعاً يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها.
﴿ أم ﴾ منقطعة أي : بل ﴿ لهم نصيب ﴾ أي : حظ ﴿ من الملك ﴾ ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم شيء من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير لهم ولو كان لهم نصيب منه ﴿ فإذاً ﴾ أي : فيتسبب عن ذلك أنهم ﴿ لا يؤتون الناس ﴾ أي : واحداً منهم ﴿ نقيراً ﴾ ومرّ أنه النقرة في ظهر النواة، وهو مثل في القلة كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك الدنيا وإما ملك الله كقوله تعالى :﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق ﴾ ( الإسراء، ١٠٠ ) وهذا مبالغة في شحهم فإنهم بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا أذلاء منقادين ويصح أن يكون معنى الهمزة في أم لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك وإنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً.
﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ يحسدون الناس ﴾ أي : محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس الأوّلين والآخرين ﴿ على ما آتاهم الله من فضله ﴾ أي : من النبوّة والكتاب والنصرة والإعزاز وكثرة النساء أي : يتمنون زواله عنه ويقولون : لو كان نبياً لاشتغل عن النساء ﴿ فقد آتينا آل إبراهيم ﴾ وهو جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آل إبراهيم موسى وداود وسليمان ﴿ الكتاب ﴾ أي : ما أنزل إليهم ﴿ والحكمة ﴾ أي : النبوّة ﴿ وآتيناهم ملكاً عظيماً ﴾ فلا يبعد أن يؤتيه الله تعالى مثل ما آتاهم فكان لداود تسع وتسعون امرأة وكان لسليمان ألف وثلاثمائة حرّة وسبعمائة سريّة.
وقيل : المراد بالناس الناس جميعاً، وقيل : العرب. وحسدوهم لأنّ النبيّ الموعود منهم وقيل : النبيّ وأصحابه لأنّ من حسد على النبوّة فكأنما حسد الناس كلهم على كمالهم ورشدهم.
﴿ فمنهم ﴾ أي : اليهود ﴿ من آمن به ﴾ أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ ومنهم من صدّ ﴾ أي : أعرض ﴿ عنه ﴾ فلم يؤمن به ﴿ وكفى بجهنم سعيراً ﴾ أي : عذاباً لمن لم يؤمن.
وقوله تعالى :
﴿ إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ﴾ أي : ندخلهم ﴿ ناراً ﴾ كالبيان والتقرير لذلك ﴿ كلما نضجت ﴾ أي : احترقت ﴿ جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ﴾ بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى.
روي أنّ هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال عمر للقارئ : أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ : عندي تفسيرها : يبدله الله تعالى في ساعة مائة مرّة قال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرّة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فيعودون كما كانوا.
فإن قيل : كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص ؟ أجيب : بأن المعاد إنما هو الجلد الأوّل وإنما قال : جلوداً غيرها لتبدل صفتها كما تقول : صنعت من خاتمي خاتماً غيره فالخاتم الثاني هو الأوّل لا أنّ الصناعة والصفة تبدلت.
روي أنّ ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع.
وروي أنّ ضرسه أو نابه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث ﴿ ليذوقوا العذاب ﴾ أي : ليقاسوا شدّته، وقيل : يخلق مكان ذلك الجلد جلد آخر والمعذب في الحقيقة على كل حال هي النفس العاصية القائمة بالبدن ؛ لأنها المدركة دونه ﴿ إنّ الله كان ﴾ ولم يزل ﴿ عزيزاً ﴾ أي : لا يعجزه شيء ﴿ حكيماً ﴾ في خلقه يعاقب على وفق حكمته.
﴿ والذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ وعملوا الصالحات سندخلهم ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف كما في الكافرين أنهم أقصر الأمم مدّة أو أنهم أقصرهم أعماراً راحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف ﴿ جنات ﴾ أي : بساتين ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي : إنّ أرضها في غاية الري كل موضع صالح لأن يجري منه نهر.
ولما ذكر قيامها وما به دوامها أتبعه بما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال ﴿ خالدين فيها أبداً ﴾ وإنما قدّم تعالى ذكر الكفار ووعيدهم ؛ على ذكر المؤمنين ووعدهم لأنّ الكلام فيهم وذكر المؤمنين بالعرض، ولما وصف تعالى حسن الدار ذكر حسن الجار فقال تعالى :﴿ لهم فيها أزواج مطهرة ﴾ أي : من الحيض والقذر.
فإن قيل : المطرد في وصف جمع القلة لمن يعقل أن يكون بالألف والتاء فيقال مطهرات، أجيب : بأنه عدل عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهنّ لشدّة الموافقة في الطهر كذات واحدة ﴿ وندخلهم ﴾ أي : فيها ﴿ ظلاً ﴾ عظيماً وأكده تعالى بقوله :﴿ ظليلاً ﴾ أي : متصلاً لا فرج فيه منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما لا حرّ فيه ولا برد بل هو في غاية الاعتدال، وهو ظل الجنة، جعلنا الله تعالى ومن يحبنا ونحبه من أهلها السابقين مع النبيين والصدّيقين.
وقوله تعالى :
﴿ إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ خطاب يعم المكلفين، والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ليدخلها فأبى وقال : لو علمت أنه رسول لم أمنعه المفتاح فلوى عليّ رضي الله تعالى عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر ففعل ذلك وقال : هاك خالدة تالدة، فعجب من ذلك وقال عثمان : أكرهت وأذيت، ثم جئت ترفق ؟ فقال : قد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة تكون في أولاد عثمان أبداً فلما مات عثمان دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أيديهم إلى اليوم وإلى يوم القيامة، فالآية، وإن وردت في سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع ﴿ وإذا حكمتم بين الناس ﴾ أي : قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم ﴿ أن تحكموا بالعدل ﴾ أي : بالسواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له فإنّ ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل )، الحديث.
وروي :( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذاباً إمام جائر ). ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله :﴿ إنّ الله نعما ﴾ فيه إدغام ميم نعم في ما النكرة الموصوفة أي : نعم شيئاً ﴿ يعظكم به ﴾ وهو تأدية الأمانة والحكم بالعدل، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون، وكسرها الباقون، واختلس كسر العين قالون وأبو عمرو وشعبة ﴿ إنّ الله كان ﴾ أي : ولم يزل ولا يزال ﴿ سميعاً ﴾ لكل ما يقال ﴿ بصيراً ﴾ بكلّ ما يفعل.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بالإيمان، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال :﴿ أطيعوا الله ﴾ أي : فيما أمركم به ﴿ وأطيعوا الرسول ﴾ أي : فيما بينه لكم ﴿ و ﴾ أطيعوا ﴿ أولي ﴾ أي : أصحاب ﴿ الأمر ﴾ أي : الولاة ﴿ منكم ﴾ أي : إذا أمروكم بإطاعة الله ورسوله، وسواء كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بعده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال :( اتقوا الله وصلوا رحمكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم ). وقيل :( المراد بأولي الأمر أبو بكر وعمر لقوله صلى الله عليه وسلم :( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) وقال عطاء هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى :﴿ والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ ( التوبة، ١٠٠ ).
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( مثل أصحابي وأمّتي كالملح في الطعام ولا يصلح الطعام إلا بالملح )، قال الحسن : فقد ذهب ملحنا فكيف نصلح وقيل : المراد علماء الشرع لقوله تعالى :﴿ ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ ( النساء، ٨٣ ).
﴿ فإن تنازعتم ﴾ أي : اختلفتم ﴿ في شيء فردوه إلى الله ﴾ أي : كتابه ﴿ والرسول ﴾ أي : مدّة حياته وبعد وفاته إلى سنته أي : اكشفوا عليه منهما والردّ إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما، فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد. وقيل : الرد إلى الله والرسول أن يقول لما لا يعلم : الله ورسوله أعلم ﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ أي : فإن الإيمان يوجب هذا ﴿ ذلك ﴾ أي : من الردّ إليهما ﴿ خير ﴾ لكم من التنازع والقول بالرأي ﴿ وأحسن تأويلاً ﴾ أي : تأويلكم بلا رد أو عاقبة.
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا ﴾ أي : أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم ﴿ بما أنزل إليك ﴾ أي : القرآن ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ أي : التوراة والإنجيل، قال الأصبهاني : ولا يستعمل أي : الزعم في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق يقال : زعم فلان كذا إذا شك فيه فلا يعرف كذبه أو صدقه ﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾ أي : الباطل المغرق في البطلان، وقيل : هو كعب بن الأشرف.
روي عن ابن عباس أنّ بشراً المنافق خاصم يهودياً فقال اليهودي : ننطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : انطلق بنا إلى عمر رضي الله تعالى عنه فأتيا عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ فقال : نعم فقال لهما عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام : إنّ عمر فرق بين الحق والباطل فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :( أنت الفاروق ).
والطاغوت على هذا هو كعب بن الأشرف سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبيهه بالشيطان، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه ﴿ وقد ﴾ أي : والحال إنهم قد ﴿ أمروا ﴾ ممن له الأمر في كل ما أنزل إليك من كتاب ما قبله ﴿ أن يكفروا به ﴾ أي : بالشيطان فمتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين كافرين بالله وهو معنى قوله :﴿ ويريد الشيطان ﴾ أي : بإرادتهم ذلك التحاكم إليه ﴿ أن يضلهم ﴾ أي : المتحاكم إليه ﴿ ضلالاً بعيداً ﴾ أي : بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى.
ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي : من أي قائل كان، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بالكسر وتقدّم ذكر الإدغام لأبي عمرو ﴿ تعالوا ﴾ أي : أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم ﴿ إلى ما أنزل الله ﴾ أي : الذي عنده كل شيء ﴿ وإلى الرسول ﴾ أي : الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع إنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة ﴿ رأيت المنافقين يصدون ﴾ أي : يعرضون ﴿ عنك ﴾ إلى غيرك وأكد ذلك بقوله :﴿ صدوداً ﴾ أي : هو أعلى طبقات الصدود.
﴿ فكيف ﴾ يكون حالهم ﴿ إذا أصابتهم مصيبة ﴾ أي : عقوبة كقتل عمر رضي الله تعالى عنه المنافق ﴿ بما قدّمت أيديهم ﴾ أي : من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضا بحكمك من الكفر بغير ذلك أي : أيقدرون على الإعراض والفرار منها ؟ لا وتم الكلام ههنا، وقوله تعالى :﴿ ثم جاؤوك ﴾ أي : حين يصابون للاعتذار معطوف على يصدون وما بينهما اعتراض ﴿ يحلفون بالله إن ﴾ أي : ما ﴿ أردنا ﴾ أي : بالمحاكمة إلى غيرك ﴿ إلا إحساناً ﴾ أي : صلحاً ﴿ وتوفيقاً ﴾ أي : تأليفاً بين الخصمين ولم نرد مخالفتك، وقيل : جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا : ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه بالتقريب في الحكم دون الحمل على مرّ الحق.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ أي : من النفاق والبغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه وكذبهم في حلفهم وعذرهم ﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي : عن عتابهم بالصفح ؛ لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب ﴿ و ﴾ لكن ﴿ عظهم ﴾ أي : خوّفهم الله القادر على استئصالهم ﴿ وقل لهم في أنفسهم ﴾ أي : في شأنها أو خالياً بهم فإن النصح في السر أنجع ﴿ قولاً بليغاً ﴾ أي : مؤثراً فيهم أي : ازجرهم ليرجعوا عن كفرهم، وقيل : هذا منسوخ بآية القتال.
ولما أمر الله تعالى بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذم من حاكم إلى غيره وهدده وختم تهديده بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه والوعظ له، فكان التقدير فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا للرفق بالأمّة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة عطف عليه قوله :
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ﴾ أي : فيما يأمر به ويحكم ؛ لأن منصبه الشريف يقتضي ذلك ﴿ بإذن الله ﴾ أي : بإرادته من أنه يطاع فلا يعصى ولا يخالف ﴿ ولو أنهم إذ ﴾ أي : حين ﴿ ظلموا أنفسهم ﴾ أي : بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره ﴿ جاؤوك ﴾ أي : تائبين ﴿ فاستغفروا الله ﴾ بالتوبة والإخلاص ﴿ واستغفر ﴾ أي : شفع ﴿ لهم الرسول ﴾ أي : اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعاً، وإنما عدل عن الخطاب تفخيماً لشأنه ﴿ لوجدوا الله توّاباً ﴾ عليهم ﴿ رحيماً ﴾ بهم، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام بخلاف عنه.
﴿ فلا وربك ﴾ أي : فوربك ولا مزيدة لتأكيد القسم ﴿ لا يؤمنون ﴾ أي : يوجدون هذا الوصف ويجدونه ﴿ حتى يحكموك ﴾ أي : يجعلوك حكماً ﴿ فيما شجر ﴾ أي : اختلف واختلط ﴿ بينهم ﴾ من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجرة في التداخل والتضايق ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ﴾ أي : نوعاً من الضيق ﴿ مما قضيت ﴾ به عليهم ﴿ ويسلموا تسليماً ﴾ أي : وينقادوا لك انقياداً بظواهرهم وبواطنهم، وفي الصحيح : إنّ الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار وقد شهد بدراً في شراج من الحرة كانا يستقيان بها النخل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير :( اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك ) فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله : أن كان ابن عمتك ؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :( اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك ) وقيل : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ﴾ كما أمرنا بني إسرائيل، أو تعرّضوا بها للقتل بالجهاد، وإن مصدرية أو مفسرة ؛ لأنّ ( كتبنا ) في معنى أمرنا، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر النون في الوصل، والباقون بالضم ﴿ أو اخرجوا من دياركم ﴾ أي : التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم توبة لربكم ﴿ ما فعلوه ﴾ أي : المكتوب عليهم أي : إنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الله ورسوله والرضا بحكمه ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار ما كان يفعله ﴿ إلا قليل منهم ﴾ قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية، قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهم القليل والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال :( إنّ من أمّتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي )، وقرأ ابن عامر قليلاً بالنصب على الاستثناء والباقون بالرفع على البدل ﴿ ولو أنهم ﴾ أي : هؤلاء المنافقين ﴿ فعلوا ما يوعظون به ﴾ من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ لكان خيراً لهم ﴾ في عاجلهم وآجلهم مما اختاروه لأنفسهم ﴿ وأشدّ تثبيتاً ﴾ أي : تحقيقاً لإيمانهم ).
﴿ وإذاً ﴾ أي : لو ثبتوا ﴿ لآتيناهم من لدنا ﴾ أي : من عندنا ﴿ أجراً عظيماً ﴾ وهو الجنة.
﴿ ولهديناهم صراطاً مستقيماً ﴾ يصلون بسلوكه جنات القدس وتفتح لهم أبواب الغيب قال صلى الله عليه وسلم :( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ) رواه أبو نعيم في حليته.
روي أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف الحزن في وجهه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما غير لونك ؟ » فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك ؛ لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً فأنزل الله تعالى.
﴿ ومن يطع الله ﴾ في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره ﴿ والرسول ﴾ أي : في كل ما أراده فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك لا سيما من بلغ نهايتها ﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ﴾ أي : معدود من حزبهم، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليهم بسهولة، وقوله تعالى :﴿ من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ﴾ بيان للذين حال منه أو من ضميره، قسمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حدّ الكمال إلى درجة التكميل، ثم الصدّيقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليه، ثم الشهداء الذين أدّى بهم الحرص على الطاعة والجدّ في إظهار الحق حتى بذلوا مهجتهم في إعلاء كلمة الله تعالى، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته ﴿ وحسن ﴾ أي : وما أحسن ﴿ أولئك ﴾ أي : العالون الأخلاق السابقون ﴿ رفيقاً ﴾ من الرفق وهو لين الجانب ولطافة الفعل، وهو مما يستوي واحده وجمعه أي : رفيقاً في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم ورؤيا ربهم والحضور معهم وإن كان مقرّهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم.
روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله الرجل يحب قوماً ولم يلحق بهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( المرء مع من أحب ).
وروي أيضاً أن رجلاً قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال :( وما أعددت لها ؟ ) فلم يذكر كثيراً إلا أنه يحب الله ورسوله قال :( فأنت مع من أحببت ).
وقوله تعالى :
﴿ ذلك ﴾ أي : كونهم مع من ذكر مبتدأ خبره ﴿ الفضل من الله ﴾ أي : تفضل به عليهم لا إنهم نالوه بطاعتهم ﴿ وكفى بالله عليماً ﴾ أي : بجزاء من أطاعه أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( قاربوا وسدّدوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ).
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ خذوا حذركم ﴾ من عدوّكم أي : احترزوا منه، وتيقظوا له والحذر الحذر كالأثر الأثر ﴿ فانفروا ﴾ أي : اخرجوا إلى قتاله مسرعين ﴿ ثبات ﴾ أي : جماعات متفرّقين سرية في أثر سرية جمع ثبة، وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة ﴿ أو انفروا جميعاً ﴾ أي : مجتمعين كوكبة واحدة، قال البيضاوي : والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات.
﴿ وإنّ منكم ﴾ الخطاب لعسكر النبيّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين ﴿ لمن ليبطئن ﴾ أي : ليتأخرن وليتثاقلن عن القتال وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه، وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإسلام لا في حقيقة الإيمان ﴿ فإن أصابتكم مصيبة ﴾ كقتل وهزيمة ﴿ قال ﴾ هذا المتبطئ جهلاً منه وغلظة ﴿ قد أنعم الله عليّ إذ ﴾ أي : حين ﴿ لم أكن معهم شهيداً ﴾ أي : حاضراً فأصاب.
﴿ ولئن ﴾ لام قسم ﴿ أصابكم فضل ﴾ أي : فتح وظفر وغنيمة ﴿ من الله ﴾ الذي كل شيء بيده ﴿ ليقولنّ ﴾ نادماً على ما فاته من الأغراض الدنيوية، وأكده تنبيهاً على فرط تحسره وقوله تعالى :﴿ كأن ﴾ مخففة واسمها محذوف أي : كأنه ﴿ لم تكن بينكم وبينه مودّة ﴾ أي : معرفة وصداقة رجع إلى قوله :﴿ قد أنعم الله عليّ ﴾ اعتراض بين القول ومقوله وهو ﴿ يا ﴾ للتنبيه ﴿ ليتني كنت معهم فأفوز ﴾ أي : بمشاركتهم في ذلك ﴿ فوزاً عظيماً ﴾ أي : آخذ حظاً وافراً من الغنيمة، وقرأ ابن كثير وحفص بالتاء في تكن على التأنيث والباقون بالياء على التذكير.
ولما بين أن محط رحال القاعد عن الجهاد الدنيا علم أن قصد المجاهد الآخرة فقال تعالى :
﴿ فليقاتل في سبيل الله ﴾ أي : لإعلاء دينه ﴿ الذين يشرون ﴾ أي : يبيعون برغبة ﴿ الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ وهم المؤمنون، والمعنى : إن تباطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المجاهدون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ويشرون أي : يأخذون وهم المتباطئون فيختارونها على الآخرة، والمعنى : حثهم على ترك ما حكي عنهم، وفي هذا استعمال للمشترك في مدلوليه ﴿ ومن يقاتل في سبيل الله ﴾ لإعلاء دينه ﴿ فيقتل ﴾ أي : يستشهد ﴿ أو يغلب ﴾ أي : يظفر بعدوّه ﴿ فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ﴾ أي : ثواباً جزيلاً، وإنما وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ترغيباً في القتال وتكذيباً لقول المتبطئ ﴿ قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ﴾ وإنما قال : فيقتل أو يغلب تنبيهاً على أنّ المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعدّ نفسه بالشهادة أو الدين بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل بل إلى إعلاء كلمة الحق وإظهار الدين.
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجعه الله إلى أهله إنما يرجعه من غنيمة وأجر أو يتوفاه فيدخله الجنة ).
وقوله تعالى :
﴿ وما لكم لا تقاتلون ﴾ استفهام توبيخ أي : لا مانع لكم من القتال ﴿ في سبيل الله ﴾ لإعلاء دينه وقوله تعالى :﴿ والمستضعفين ﴾ عطف على اسم الله أي : وفي سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدوّ وقوله تعالى :﴿ من الرجال والنساء والولدان ﴾ بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم قال ابن عباس : كنت أنا وأمي منهم وإنما ذكر الوالدان مبالغة في الحث وتنبيهاً على تناهي المشركين بحيث بلغ أذاهم الولدان وإن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. وقيل : المراد بهم العبيد والإماء وهم جمع وليد ﴿ الذين يقولون ﴾ أي : داعين يا ﴿ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ﴾ أي : بالكفر ﴿ واجعل لنا من لدنك ﴾ أي : من عندك ﴿ ولياً ﴾ يتولى أمرنا ﴿ واجعل لنا من لدنك نصيراً ﴾ يمنعنا منهم وقد استجاب الله تعالى دعاءهم فيسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة له صلى الله عليه وسلم فتولاهم ونصرهم، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وكان حينئذ ابن ثمان عشرة سنة، والقرية مكة، والظالم صفتها، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه، فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه.
﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ﴾ أي : في طاعته الله ﴿ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ أي : في طاعة الشيطان ﴿ فقاتلوا ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أولياء الشيطان ﴾ أي : حزبه وجنوده وهم الكفار ﴿ إن كيد الشيطان ﴾ أي : مكره بالمؤمنين ﴿ كان ضعيفاً ﴾ بالإضافة إلى كيد الله تعالى بالكافرين لا يعتدّ به، فلا تخافوا أولياءه فإن اعتمادهم على أضعف شيء أوهنه كما فعل الشيطان يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن تأخذه فهرب وخذلهم.
﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ﴾ أي : عن قتال الكفار، وهم جماعة من الصحابة كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً قبل أن يهاجروا ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم ) ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾. فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم كما قال تعالى :﴿ فلما كتب ﴾ أي : فرض ﴿ عليهم القتال ﴾ قرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم في الوصل، وأمّا الوقف فالجميع يسكنون الميم، وحمزة بضم الهاء على أصله، وكسرها الباقون ﴿ إذا فريق منهم يخشون ﴾ أي : يخافون ﴿ الناس كخشية الله ﴾ أي : كخشيتهم من الله ﴿ أو أشدّ خشية ﴾ من خشيتهم له.
تنبيه : نصب أشدّ على الحال، وجواب لما دل عليه إذا وما بعدها أي : فاجاءتهم الخشية ﴿ وقالوا ﴾ جزعاً من الموت ﴿ ربنا لم كتبت علينا القتال لولا ﴾ أي : هلا ﴿ أخرتنا إلى أجل قريب ﴾ وهو الموت أي : هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك فقيل : قاله قوم من المنافقين ؛ لأن قوله :﴿ لم كتبت علينا القتال ﴾ لا يليق بالمؤمنين ؟ وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفاً وجبناً لا اعتقاداً، ثم تابوا، وأهل الإيمان يتفاضلون فيه، وقيل : هم قوم كانوا مؤمنين فلما كتب عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد، وقرأ البزي في الوقف ( لمه ) بهاء بعد الميم بخلف عنه، والباقون بالميم بغير هاء والهاء ساقطة في الوصل للجميع ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ متاع الدنيا ﴾ أي : ما يتمتع به فيها والاستمتاع بها ﴿ قليل ﴾ أي : آيل إلى الزوال ﴿ والآخرة ﴾ أي : ثوابها وهو الجنة والنظر إلى الله تعالى ﴿ خير لمن اتقى ﴾ عقاب الله بترك معاصيه.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) ﴿ ولا تظلمون ﴾ أي : تنقصون من أعمالكم ﴿ فتيلاً ﴾ أي : قدر ما يكون في شق النواة كما مرّ عن عكرمة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب، ونزل في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد ﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾ ( آل عمران، ١٥٦ ).
﴿ أينما تكونوا ﴾ أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم ﴿ يدرككم الموت ﴾ أي : فإنه طالب لا يفوته هارب.
واختلف كتاب المصاحف في رسم أينما هنا فمنهم من كتب ما مقطوعة من أين ومنهم من وصلها ﴿ ولو كنتم في بروج ﴾ أي : حصون برج داخل برج أو كل واحد منكم داخل برج ﴿ مشيدة ﴾ أي : مرتفعة كل واحد منها شاهق في الهواء منيع فلا تخشوا القتال خوف الموت.
ونزل في اليهود لما قالوا حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه ﴿ وإن تصبهم ﴾ أي : اليهود ﴿ حسنة ﴾ أي : خصب ورخص في السعر ﴿ يقولون هذه من عند الله ﴾ لنا لا مدخل لك فيها ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ أي : جدب وغلاء في الأسعار ﴿ يقولون هذه من عندك ﴾ أي : من شؤم محمد وأصحابه وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة القتل والهزيمة يوم أحد، يقولون : هذه من عندك أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا قول المنافقين ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ كل ﴾ أي : الحسنة والسيئة ﴿ من عند الله ﴾ ثم عيرهم بالجهل فقال :﴿ فما لهؤلاء القوم ﴾ أي : اليهود أو المنافقين ﴿ لا يكادون يفقهون ﴾ أي : لا يقاربون أن يفهموا ﴿ حديثاً ﴾ يوعظون به وهو القرآن ؛ لأنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أنّ الكل من عند الله، أو حديثاً ما يلقى إليهم كبهائم لا أفهام لهم، وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
﴿ ما أصابك ﴾ أي : أيها الإنسان ﴿ من حسنة ﴾ أي : نعمة دنيوية أو أخروية ﴿ فمن الله ﴾ أتتك تفضلاً منه والإيمان أحسن المحسنات، قال الإمام : إنهم اتفقوا على أنّ قوله :﴿ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ﴾ ( فصلت، ٣٣ ).
المراد به كلمة الشهادة ﴿ وما أصابك من سيئة ﴾ أي : بلية وأمر تكرهه ﴿ فمن نفسك ﴾ أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى :﴿ قل كل من عند الله ﴾ وبين قوله ﴿ فمن نفسك ﴾ ؟ أجيب : بأنّ قوله :﴿ قل كل من عند الله ﴾ أي : الخصب والجذب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله :﴿ فمن نفسك ﴾ أي : ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ ( الشورى، ٣٠ )، وقيل : إنّ هذه الآية متصلة بما قبلها، والقول فيه مضمر تقديره : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً يقولون :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله ﴾ ﴿ وأرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ للناس ﴾ أي : كافة وقوله تعالى :﴿ رسولاً ﴾ حال قصد بها التأكيد ﴿ وكفى با شهيداً ﴾ على إرسالك بنصب المعجزات، ولما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله ) فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن تتخذوه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ) نزل.
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ لأنه في الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى ﴿ ومن تولى ﴾ أي : أعرض عن طاعتك فلا يهمنك ﴿ فما أرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ عليهم حفيظاً ﴾ أي : حافظاً لأعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
﴿ ويقولون ﴾ أي : المنافقون إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك ﴿ طاعة ﴾ أي : أمرنا وشأننا طاعة أي : نطيعك فيما تأمرنا به ﴿ فإذا برزوا ﴾ أي : خرجوا ﴿ من عندك بيت طائفة منهم ﴾ أي : أضمرت ﴿ غير الذي تقول ﴾ لك في حضورك من الطاعة أي : عصتك، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الطاء فإنها عندهما ساكنة أي : التاء فإذا سكنت التاء قبل الطاء وجب إدغامها فيها، والباقون بالإظهار فإن التاء عندهم مفتوحة ﴿ والله يكتب ﴾ أي : يأمر بكتب ﴿ ما يبيتون ﴾ أي : ما يسرون من النفاق في صحائفهم ليجازوا عليها ﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي : قلل المبالاة بهم ﴿ وتوكل على الله ﴾ أي : ثق به فإنه كافيك معرتهم وينتقم لك منهم ﴿ وكفى بالله وكيلاً ﴾ أي : مفوّضاً إليه.
﴿ أفلا يتدبرون ﴾ أي : يتأمّلون ﴿ القرآن ﴾ وما فيه من المعاني البديعة ﴿ ولو كان من عند غير الله ﴾ أي : ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار ﴿ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ﴾ أي : تناقضاً في معانيه وتبايناً في نظمه، فكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وتخلفاً عن الصدق في الإخبار عن الغيب بما كان وما يكون، أفلا يتفكرون فيه ؟ فيعرفون عدم التناقض فيه وصدق ما يخبرهم به إنه كلام الله ولأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف، والمراد من التقييد بالكثير المبالغة في إثبات الملازمة أي : لو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلاً عن القليل لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل.
﴿ وإذا جاءهم ﴾ أي : المنافقين ﴿ أمر ﴾ أي : خبر عن سرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ من الأمن ﴾ أي : الغنيمة ﴿ أو الخوف ﴾ أي : القتل والهزيمة ﴿ أذاعوا به ﴾ أي : أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة، والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدّث، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيفشونه ويتحدّثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين ويتأذى النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ولو ردّوه ﴾ أي : ذلك الخبر ﴿ إلى الرسول ﴾ أي : لم يحدثوا به حتى يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ﴿ وإلى أولي الأمر منهم ﴾ أي : ذوي الرأي من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم ﴿ لعلمه ﴾ على أي : وجه يذكر أي :﴿ الذين يستنبطونه منهم ﴾ أي : يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم هل ينبغي أن يكتم أو يفشى ﴿ ولولا فضل الله عليكم ﴾ بالإسلام ﴿ ورحمته ﴾ لكم بإرسال الرسل وإنزال القرآن ﴿ لاتبعتم الشيطان ﴾ فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي ﴿ إلا قليلاً ﴾ أي : منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله بما وهبهم الله من صحيح العقل، والعصمة تقال في حق غير الأنبياء أيضاً ؛ لأنها المنع من المعصية ولكن الشائع أن يقال في حق النبيّ معصوم، وفي حق غيره محفوظ.
﴿ فقاتل ﴾ يا محمد ﴿ في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾ فلا تهتم بتخلفهم عنك أي : قاتل ولو وحدك فإنك موعود بالنصر من الله وليس النصر إلا بيده وما كان ليأمرك بشيء إلا وأنت كفؤ، فأنت كفؤ لمقاتلة الكفار وإن كانوا أهل الأرض كلهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد ودعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية.
تنبيه : الفاء في قوله تعالى :﴿ فقاتل في سبيل الله ﴾ قال البغوي : جواب عن قوله تعالى :﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ﴾ فتأمّل انتهى.
﴿ وحرّض المؤمنين ﴾ أي : حثهم على القتال ورغبهم فيه إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض ﴿ عسى الله أن يكف بأس ﴾ أي : حرب ﴿ الذين كفروا ﴾ وعسى في كلام الله وعد واجب الوقوع بخلافها في كلام المخلوق ﴿ والله أشدّ بأساً ﴾ أي : صولة منهم ﴿ وأشدّ تنكيلاً ﴾ أي : عقوبة منهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ) فخرج بسبعين راكباً إلى بدر الصغرى فكف الله بأس الذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم ومنع أبا سفيان من الخروج كما تقدّم في سورة آل عمران.
﴿ من يشفع شفاعة حسنة ﴾ راعى بها حق مسلم بأن دفع عنه بها ضرراً أو جلب إليه نفعاً ابتغاء وجه الله، ومنها الدعاء للمسلم قال صلى الله عليه وسلم :( من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك : ولك مثله ) أي : مثل ذلك أي : ودعاء الملك لا يردّ ﴿ يكن له نصيب ﴾ أي : أجر ﴿ منها ﴾ أي : بسببها قال أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ جاءه رجل يسأل أو يطلب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال : اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء ) ﴿ ومن يشفع شفاعة سيئة ﴾ مخالفة للشرع ﴿ يكن له كفل ﴾ أي : نصيب من الوزر ﴿ منها ﴾ أي : بسببها ﴿ وكان الله على كل شيء مقيتاً ﴾ قال ابن عباس مقتدراً مجازياً قال الشاعر :
وذي ضغن ( أي : رب صاحب حقد ) كففت الضغن عنه
وكنت على إساءته ( أي : إساءتي لذي الضغن ) مقيتاً
أي : مقتدراً وقال مجاهد : شاهداً وقال قتادة : حفيظاً، وقيل : معناه على كل حيوان مقيتاً أي : يوصل القوت إليه، وجاء في الحديث :( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ).
﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ﴾ التحية هي دعاء الحياة، ولكن جمهور المفسرين على أن ذلك في السلام أي : إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم فإذا قال : السلام عليكم، فيزيد الرادّ : ورحمة الله، فإذا قال : ورحمة الله، فيزيد الرادّ : وبركاته ﴿ أو ردّوها ﴾ أي : بأن تردّ عليه بمثل ما سلم.
روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك فقال :«وعليك السلام ورحمة الله » وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله فقال :«وعليك السلام ورحمة الله وبركاته » وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال :«وعليك أي : السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل : نقصتني أي : الفضل على سلامي، فأين ما قال الله أي : من الفضل ؟ وتلا الآية فقال :«لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله » لأنّ ذلك هو النهاية لاستجماعه أقسام المطالب وهي السلامة من المضار وحصول المنافع وثبوتها، وظاهر الآية إنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به إنه لا يكفي، وظاهر كلام الفقهاء إنه يكفي، وتحمل الآية على أنه الأكمل وابتداء السلام على المسلم سنة عين من المنفرد وكفاية من الجماعة، وردّه فرض عين إذا كان المسلم عليه واحداً، وكفاية من الجماعة، ويشترط في الردّ الفور، والجوب مستفاد من الأمر، والفور من الفاء، وأمّا كونه كفاية فلخبر أبي داود ( يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم ) والراد منهم هو المختص بالثواب ويسقط الحرج عن الباقين، وإن أجابوا كلهم كانوا مؤدّين للفرض سواء أكانوا مجتمعين أم متفرّقين كصلاة الجنازة، ولا يسقط الفرض بردّ الصبيّ المميز.
فإن قيل : قد سقط به فرض الصلاة عن الجنازة، أجيب : بأن المقصود من الصلاة الدعاء والصبيّ أقرب إلى الإجابة والمقصود من السلام الأمان والصبيّ ليس من أهله، ولا يسقط أيضاً بردّ من لم يسمع، ولو سلم على امرأة إن كان يباح له النظر إليها كمحرمة وزوجته يسنّ له السلام عليها، ووجب عليها الردّ وإلا كره له ابتداء وردّاً وحرم عليها ابتداء وردّ هذا إذا كانت مشتهاة، فإن كانت عجوزاً أو جماعة نسوة لم يكره، ويجب الردّ لانتفاء خوف الفتنة، ولا يسنّ ابتداؤه على قاضي حاجة ولا على آكل ولا على من في حمام ولا على مصلّ ومؤذن وخطيب وملب ومستغرق القلب بالدعاء، ولا يجب الجواب عليهم، ويحرم ابتداؤه على الكافر، ويرد عليه إذا سلم بعليك فقط، وهذا باب طويل قد بينته السنة وقد أكثرت منه في شرح المنهاج ﴿ إنّ الله كان ﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿ على كل شيء حسيباً ﴾ أي : محاسباً فيجازي عليه، وقال مجاهد : حفيظاً، وقال أبو عبيدة : كافياً، يقال : حسبي هذا أي : كفاني.
وقوله تعالى :
﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ مبتدأ وخبر وقوله تعالى :﴿ ليجمعنكم ﴾ اللام لام القسم أي : والله ليجمعنكم الله من قبوركم ﴿ إلى ﴾ في ﴿ يوم القيامة ﴾ وسميت بذلك ؛ لأنّ الناس يقومون من قبورهم قال تعالى :﴿ يوم يخرجون من الأجداث سراعاً ﴾ ( المعارج، ٤٣ ).
وقيل : لقيامهم إلى الحساب قال تعالى :﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين ﴾ ( المطففين، ٦ ).
﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيه ﴾ أي : في ذلك اليوم أو في الجمع ﴿ ومن أصدق من الله حديثاً ﴾ أي : قولاً.
فإن قيل : الصدق لا يتفاوت كالعلم إذ لا يقال : هذا الصدق أصدق من هذا الصدق كما لا يقال : هذا العلم أعلم من هذا المعلم، أجيب : بأنّ الصدق صفة للقائل لا صفة للحديث أي : لا أحد غير الله أصدق منه ؛ لأنّ غيره يتطرّق إلى خبره الكذب، وذلك مستحيل في حقه تعالى، والأنبياء مخبرون عن الله تعالى، وقرأ حمزة والكسائيّ بإشمام الصاد أي : بحرف متولد بين الصاد والزاي.
﴿ فما لكم ﴾ أي : فما شأنكم صرتم ﴿ في المنافقين ﴾ أي : في أمرهم ﴿ فئتين ﴾ أي : فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم وذلك أن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا المشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم، وقال مجاهد : هم قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا، ثم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة، واختلف المسلمون فيهم فقائل يقول : هم منافقون، وقائل يقول : هم مؤمنون، وقال قوم : في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين، فلما رجعوا قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلهم فإنهم منافقون، وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام.
﴿ والله أركسهم ﴾ أي : نكسهم بأن صيرهم إلى النار أو ردّهم إلى حكم الكفرة ﴿ بما كسبوا ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿ أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ﴾ أي : أتعدّونهم من جملة المهتدين والاستفهام في الموضعين للإنكار ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : ومن يضله الله ﴿ فلن تجد له سبيلاً ﴾ أي : طريقاً إلى الهدى.
﴿ ودّوا ﴾ أي : تمنوا ﴿ لو تكفرون كما كفروا فتكونون ﴾ أنتم وهم ﴿ سواء ﴾ في الكفر.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ فتكونون ﴾ لم يرد به جواب التمني ؛ لأنّ جوابه بالفاء منصوب وإنما أراد النسق أي : ودّوا لو تكفرون وودّوا لو تكونون سواء مثل قوله :﴿ ودّوا لو تدهن فيدهنون ﴾ ( القلم، ٩ ).
أي : ودّوا لو تدهن وودّوا لو يدهنون ﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء ﴾ أي : فلا توالوهم وإن أظهروا الإيمان ﴿ حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ معكم هجرة صحيحة تحقق إيمانهم، قال عكرمة : هي هجرة أخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه : هجرة المؤمنين في أوّل الإسلام وهي قوله تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ وقوله تعالى :﴿ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ﴾ ( النساء، ١٠٠ ).
ونحوهما من الآيات، وهجرة المنافقين وهي خروج الشخص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً لا لأغراض الدنيا وهي المرادة ههنا، وهجرة عن جميع المعاصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).
﴿ فإن تولوا ﴾ أي : أعرضوا عن التوحيد والهجرة وأقاموا على ما هم عليه ﴿ فخذوهم ﴾ أي : بالأسر ﴿ واقتلوهم حيث وجدتموهم ﴾ أي : في حلّ أو في حرم كسائر الكفرة ﴿ ولا تتخذوا منهم ولياً ﴾ توالونه ﴿ ولا نصيراً ﴾ تنتصرون به على عدوّكم أي : بل جانبوهم مجانبة كلية.
وقوله تعالى :﴿ إلا الذين يصلون ﴾ استثناء من قوله :﴿ فخذوهم واقتلوهم ﴾ أي : إلا الذين يصلون أي : ينتهون ﴿ إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ أي : عهد بالأمان لهم ولمن وصل إليهم كما عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وقت خروجه إلى مكة هلال بن عمير الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل ما له، وقوله تعالى :﴿ أو جاؤوكم ﴾ عطف على الصلة أي : أو الذين جاؤوكم.
وقوله تعالى :﴿ حصرت ﴾ أي : ضاقت حال بإضمار قد، أي : وقد ضاقت ﴿ صدورهم أن يقاتلوكم ﴾ أي : عن قتالكم مع قومهم ﴿ أو يقاتلوا قومهم ﴾ معكم أي : ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرّضوا لهم بأخذ ولا قتل، وهذا وما بعده منسوخ بآية القتال.
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار تاء تأنيث حصرت عند الصاد وأدغمها الباقون ﴿ ولو شاء الله ﴾ تسليطهم عليكم ﴿ لسلطهم عليكم ﴾ بأن يقوّي قلوبهم ويبسط صدورهم ويزيل الرعب ﴿ فلقاتلوكم ﴾ ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب ﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ﴾ أي : بأن لم يتعرّضوا لكم ﴿ وألقوا إليكم السلم ﴾ أي : الاستسلام والانقياد ﴿ فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ﴾ أي : طريقاً بالأخذ أو القتل.
﴿ ستجدون ﴾ أي : عن قريب بوعد لا شك فيه ﴿ آخرين ﴾ أي : من المنافقين. روي عن ابن عباس أنه قال : هم أسد وغطفان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه : بماذا أسلمت ؟ فيقول : آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، وإذا لقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين كما قال تعالى :﴿ يريدون أن يأمنوكم ﴾ بإظهار الإيمان عندكم ﴿ ويأمنوا قومهم ﴾ بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم ﴿ كلما ردّوا ﴾ أي : دعوا ﴿ إلى الفتنة ﴾ أي : الكفر ﴿ اركسوا ﴾ أي : انقلبوا منكوسين ﴿ فيها ﴾ أي : الفتنة أقبح قلب ﴿ فإن لم يعزلوكم ﴾ أي : بترك قتالكم ﴿ ويلقوا ﴾ أي : ولم يلقوا ﴿ إليكم السلم ويكفوا ﴾ أي : ولم يكفوا ﴿ أيديهم ﴾ عن قتالكم ﴿ فخذوهم ﴾ أي : بالأسر ﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي : وجدتموهم ﴿ وأولئكم ﴾ أي : أهل هذه الصفة ﴿ جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً ﴾ أي : حجة واضحة في التعرّض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم.
﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً ﴾ أي : ما ينبغي أن يصدر منه قتل له بغير حق ﴿ إلا خطأ ﴾ أي : مخطئاً في قتله من غير قصد، نزلت في عياش بن ربيعة، وذلك إنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وأسلم ثم خاف أن يظهر الإسلام لأهله فخرج هارباً إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها فجزعت أمّه لذلك جزعاً شديداً وقالت لابنيها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخواه لأمّه : والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيا به، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد حتى أتوا المدينة فأتوا عياشاً وهو في الأطم وقالوا له : انزل فإنّ أمّك لم يأوها سقف بيت بعدك وقد حلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها، ولك والله علينا عهد أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له ذلك أي : جزع أمّه وأوثقوه بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه وجلده كل واحد منهم مئة جلدة ثم قدموا به إلى أمّه فلما أتاها قالت له : والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثوقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي أنت عليه ؟ فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال : والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك، ثم إنّ عياشاً بعد ذلك أسلم وهاجر، ثم أسلم الحارث بن زيد بعده، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضراً يومئذٍ ولم يشعر بإسلامه فبينما عياش بظهر قباء إذ لقي الحارث، فقتله، فقال الناس : ويحك أي شيء صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ إلا خطأ ﴾ إمّا منصوب على الحال أي : وليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً في حالة من الأحوال إلا حال الخطأ، وإما مفعول لأجله أي : لا يقتله لعلة إلا للخطأ، وقيل : إلا بمعنى ولا، أي : ليس له قتله في حال من الأحوال ولا خطأ نظير قوله تعالى :﴿ إني لا يخاف لديّ المرسلون ١٠ إلا من ظلم ﴾ ( النمل، ١٠ ١١ ).
وقوله :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة إلا الذين ظلموا منهم ﴾ ( النساء، ١٦٥ ).
﴿ ومن قتل مؤمناً خطأً ﴾ كأن قصد رمي غيره كصيد أو شجر فأصابه ﴿ فتحرير رقبة ﴾ أي : فعليه أي : فواجبه تحرير رقبة كاملة الرق فلا يجزئ مكاتب كتابة صحيحة ولا أم ولد والتحرير الإعتاق ويعبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس ﴿ مؤمنة ﴾ أي : محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ولو كان إسلامها بتبعية الدار أو السابي سليمة عما يخلّ بالعمل ﴿ ودية مسلمة ﴾ أي : مؤدّاة ﴿ إلى أهله ﴾ أي : ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث ﴿ إلا أن يصدّقوا ﴾ أي : يتصدّقوا بها عليه بأن يعفوا عنها، وسمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله، قال صلى الله عليه وسلم :( كل معروف صدقة ).
وبينت السنة أنّ ديّة الخطأ مئة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة، وإن عاقلة القاتل تتحملها عنه وهم عصبيته لا أصله وفرعه موزعة عليهم على ثلاث سنين على الغني منهم نصف دينار والمتوسط ربع دينار كل سنة فإن لم يفوا فمن بيت المال، فإن تعذر فعلى الجاني ﴿ فإن كان ﴾ أي : المقتول :﴿ من قوم عدوّ لكم ﴾ أي : محاربين ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه ﴿ مؤمن ﴾ أي : ولم يعلم القاتل إيمانه ﴿ فتحرير ﴾ أي : فالواجب على القاتل تحرير ﴿ رقبة مؤمنة ﴾ ولا دية تسلم إلى أهله إذ لا وراثة بينه وبينهم ؛ لأنهم محاربون ﴿ وإن كان ﴾ أي : المقتول ﴿ من قوم ﴾ أي : كفرة أيضاً عدوّ لكم ﴿ بينكم وبينهم ميثاق ﴾ أي : عهد كأهل الذمّة وهو كافر مثلهم ﴿ فدية ﴾ أي : فالواجب فيه دية ﴿ مسلمة ﴾ أي : مؤدّاة ﴿ إلى أهله ﴾ وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانياً أو يهودياً تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسياً أو كتابياً لا تحلّ مناكحته ﴿ وتحرير رقبة مؤمنة ﴾ على قاتله ﴿ فمن لم يجد ﴾ أي : الرقبة بأن فقدها وما يحصلها به ﴿ فصيام ﴾ أي : فالواجب عليه صيام ﴿ شهرين متتابعين ﴾ حتى لو أفطر يوماً واحداً لغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، ولم يذكر تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه في أصح قوليه وقوله تعالى :﴿ توبة من الله ﴾ نصب على المصدر أي : وتاب عليكم توبة، أو على المفعول له أي : وشرع لكم ذلك توبة مأخوذة من تاب الله عليه إذا قبل توبته ﴿ وكان الله ﴾ أي : ولم يزل ﴿ عليماً ﴾ أي : بأحوالكم وبما يصلحكم في الدنيا والآخرة ﴿ حكيماً ﴾ فيما دبره لكم من نصب الزواجر بالكفارات أو غيرها فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.
﴿ ومن يقتل مؤمناً متعمداً ﴾ بأن يقصد قتله بما يقتل غالباً عالماً بإيمانه ﴿ فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه ﴾ أي : أبعده من رحمته ﴿ وأعدّ له عذاباً عظيماً ﴾ في النار وهذا مخصوص بالمستحلّ له كما قاله عكرمة وغيره، ويؤيده أنّ الآية نزلت في نفيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدّاً والمراد من الآية التغليظ كقوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين ﴾ ( آل عمران، ٩٧ ).
تفسير من كفر بمن لم يحج، وكقوله صلى الله عليه وسلم للمقداد :( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن تقول الكلمة التي قال ) أو إنّ هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله تعالى :﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( النساء، ٤٨ ).
أو المراد بالخلود المكث الطويل فإنّ الدلائل متظاهرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم ولهذا لم يذكر في الآية أبداً، وما روي عن ابن عباس أنه قال :«لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً » كما رواه الشيخان أراد به التشديد كما قاله البيضاويّ إذ روي عنه خلافه رواه البيهقي في سننه، وبينت آية البقرة إن قاتل العمد يقتل به وإنّ عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أنّ بين العمد والخطأ قتلاً يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتله غالباً، فلا قصاص فيه بل فيه دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو أي : العمد أولى بالكفارة من الخطأ.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ﴾ أي : سافرتم للجهاد ﴿ في سبيل الله فتبينوا ﴾
روي أنّ سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي رجل يقال له : مرداس، لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير علم إنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه فنزلت،
م رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قتلتموه إرادة ما معه » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي فقال :«وكيف بلا إله إلا الله ؟ » قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرّرها عليّ حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي ثلاث مرّات وقال : أعتق رقبة، وقال عكرمة عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم قالوا : ما سلم عليكم إلا ليعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة وبالباء الموحدة مكان الياء المثناة تحت وبالتاء المثناة فوق مكان النون فهو من التثبت والباقون من البيان ﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ﴾ أي : لمن حياكم بتحية الإسلام، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة بغير ألف بعد اللام من السلام أي : الاستسلام والانقياد والباقون بالألف ﴿ لست مؤمناً ﴾ وإنما فعلت ذلك متعوّذاً ﴿ تبتغون عرض الحياة الدنيا ﴾ أي : تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاد ﴿ فعند الله مغانم كثيرة ﴾ تغنيكم عن قتل مثله لماله.
﴿ كذلك كنتم من قبل ﴾ أي : أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمة الشهادة فحصنتم بها أموالكم ودماءكم من غير أن تعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم ﴿ فمنّ الله عليكم ﴾ أي : بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين ﴿ فتبينوا ﴾ أي : وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً إنهم دخلوا اتقاءً وخوفاً، فإن بقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر بالتبيين وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم ﴿ إنّ الله كان ﴾ ولم يزل ﴿ بما تعملون خبيراً ﴾ أي : عالماً به وبالغرض منه فيجازيكم به فلا تتساهلوا في القتل واحتاطوا فيه.
﴿ لا يستوي القاعدون ﴾ أي : عن الجهاد حال كونهم ﴿ من المؤمنين ﴾ روي أن زيد بن ثابت أخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي أي : تكسر ثم سرّي عنه أي : أزيل وكشف ما به من برحاء الوحي ﴿ غير أولي الضرر ﴾ أي : من زمانة أو عمى أو نحوه فقال : اكتب ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر )، وقرأ نافع وابن عامر والكسائيّ بنصب الراء على الحال من القاعدين أو الاستثناء، والباقون بالرفع صفة للقاعدين ؛ لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم بل أراد به الجنس كما في قوله :
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولقد أمر على اللئيم يسبني***
فصح جعل غير صفة للقاعدين ﴿ والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي : لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة.
تنبيه : فائدة ذكر قوله تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون ﴾ الخ.. تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته واتقاء عن انحطاط منزلته.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال :( إنّ في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه ) قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة قال :( نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ﴾ لضرر ﴿ درجة ﴾ أي : فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة ﴿ وكلاً ﴾ من القاعدين لضرر والمجاهدين ﴿ وعد الله الحسنى ﴾ أي : الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب ﴿ وفضل الله المجاهدين على القاعدين ﴾ لغير ضرر ﴿ أجراً عظيماً ﴾ ويبدل منه.

﴿ درجات منه ﴾ أي : منازل بعضها فوق بعض من الكرامة، وقوله تعالى :﴿ ومغفرة ورحمة ﴾ منصوبان بفعلهما المقدر ﴿ وكان الله ﴾ أي : ولم يزل ﴿ غفوراً ﴾ لأوليائه ﴿ رحيماً ﴾ بأهل طاعته.
وروى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يا أبا سعيد من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة ) قال : فعجب بها أبو سعيد فقال : أعدها يا رسول الله ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) فقال : وما هي يا رسول الله قال :«الجهاد في سبيل الله »
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها ) قالوا : يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك ؟ فقال :( إنّ في الجنة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتموه فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) وإنما يجب الجهاد على كل مسلم مكلف حرّ ذكر مستطيع له وهو فرض كفاية للآية المتقدّمة إذا كان الكفار ببلادهم ويجب على الإمام أن يغزوهم في كل عام مرّة بنفسه أو بنائبه أو بشحن الثغور بما يقاوم العدوّ، وأمّا إذا دخلوا بلادنا والعياذ بالله تعالى تعين على أهل البلدة وعلى من دون مسافة القصر حتى على فقير وولد ومدين ورقيق بلا إذن، ويجب على من هو في مسافة القصر بقدر الكفاية وإن أسروا مسلماً لزمنا النهوض لخلاصه إن رجى وإن لم يدخلوا بلادنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولقد أمر على اللئيم يسبني***
فصح جعل غير صفة للقاعدين ﴿ والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي : لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة.
تنبيه : فائدة ذكر قوله تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون ﴾ الخ.. تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته واتقاء عن انحطاط منزلته.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال :( إنّ في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه ) قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة قال :( نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ﴾ لضرر ﴿ درجة ﴾ أي : فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة ﴿ وكلاً ﴾ من القاعدين لضرر والمجاهدين ﴿ وعد الله الحسنى ﴾ أي : الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب ﴿ وفضل الله المجاهدين على القاعدين ﴾ لغير ضرر ﴿ أجراً عظيماً ﴾ ويبدل منه.


ونزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا فلما خرجوا إلى بدر رجعوا معهم فقتلوا مع الكفار.
﴿ إنّ الذين توفّاهم الملائكة ﴾ أي : ملك الموت وأعوانه أو ملك الموت وحده كما قال تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ﴾ ( السجدة، ١١ )
والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع ﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ أي : في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة بالمقام في دار الشرك فإنّ الهجرة كانت واجبة قبل فتح مكة ثم نسخ الوجوب بعد فتحها فقال صلى الله عليه وسلم :«لا هجرة بعد الفتح » وقرأ البزيّ بتشديد التاء المثناة فوق من توفاهم في الوصل، والباقون بالتخفيف، وأدغم أبو عمرو التاء في الظاء بخلاف عنه، والباقون بغير إدغام ﴿ قالوا ﴾ أي : الملائكة لهم ﴿ فيم كنتم ﴾ أي : في أي شيء كنتم من أمر دينكم، وقرأ البزيّ ( فيمه ) بالهاء بعد الميم في الوقف بخلاف عنه ﴿ قالوا ﴾ معتذرين مما وبخوا به ﴿ كنا مستضعفين ﴾ أي : عاجزين عن إظهار الدين وإعلاء كلمته ﴿ في الأرض ﴾ أي : في أرض مكة ﴿ قالوا ﴾ أي : الملائكة تكذيباً لهم وتوبيخاً ﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ من أرض الكفر إلى بلد أخرى كما فعل غيركم من المهاجرين إلى المدينة والحبشة، قال تعالى :﴿ فأولئك مأواهم جهنم ﴾ أي : لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار ﴿ وساءت مصيراً ﴾ أي : جهنم، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :( من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان ما بينهما شبراً استوجبت ) أي : وجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم استثنى أهل العذر منهم فقال :
﴿ إلا المستضعفين ﴾ أي : الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعدّوا ضعفاء وتقوّى عليهم غيرهم ﴿ من الرجال والنساء والولدان ﴾ ثم بين ضعفهم بقوله :﴿ لا يستطيعون حيلة ﴾ أي : لا قوّة لهم على الهجرة ولا نفقة لهم ﴿ ولا يهتدون سبيلاً ﴾ أي : طريقاً إلى أرض الهجرة.
﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو ﴾ أي : يتجاوز ﴿ عنهم ﴾ وعسى من الله واجب للإطماع والله تعالى إذا أطمع عبده بشيء أوصله إليه ولكن في ذكر الإطماع والعفو إيذان بأن أمر الهجرة مضيق لا توسعة فيه حتى أنّ المضطرّ البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني فكيف بغيره ﴿ وكان الله عفوّاً غفوراً ﴾ قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عذر الله أي : من المستضعفين وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في كل صلاة، قال أبو هريرة : كان إذا قال : سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قنت يقول :( اللهمّ أنج عياش بن ربيعة اللهمّ أنج الوليد بن الوليد اللهمّ أنج سلمة بن هشام اللهمّ أنج المستضعفين من المسلمين، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ).
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً ﴾ أي : متحوّلاً يتحوّل إليه، وقيل : طريقاً يراغم بسلوكه قومه أي : يفارقهم على رغم أنوفهم مأخوذ من الرغام، والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك ﴿ و ﴾ يجد ﴿ سعة ﴾ في الرزق كما قال صلى الله عليه وسلم :( صوموا تصحوا وسافروا تغنموا ) أخرجه الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه ( واغزوا تغنموا وهاجروا تفلحوا ) ولما سمع هذه الآية رجل من بني قيس يقال له : جندب بن ضمرة قال : ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة اخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهمّ هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما يبايعك عليه رسول فمات، قال التفتازانيّ : الظاهر أنّ هذه إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى بل على سبيل التصوير وتمثيل مبايعة الله تعالى على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقيل : إشارة إلى البيعة والصفقة، والمعنى : أن بيعته كبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيعة كبيعة الناس فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لو وافى المدينة كان أتمّ وأوفى أجراً وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك هذا ما طلب فنزل ﴿ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت ﴾ أي : في الطريق قبل مقصده ﴿ فقد وقع أجره على الله ﴾ أي : ثبت أجره عنده تعالى ثبوت الأجر الواجب تفضلاً منه ورحمة ﴿ وكان الله غفوراً ﴾ لتقصيره إن كان ﴿ رحيماً ﴾ يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب الله السفر للجهاد والهجرة وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله تعالى :
﴿ وإذا ضربتم ﴾ أي : سافرتم ﴿ في الأرض ﴾ سفراً طويلاً لغير معصية، والطويل عند الشافعيّ رحمه الله تعالى أربعة برد وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالنسبة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل ومشي الأقدام على القصد، وقوله تعالى :﴿ فليس عليكم جناح ﴾ أي : إثم وميل في ﴿ أن تقصروا من الصلاة ﴾ أي : من أربع إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء يدل على جواز القصر دون وجوبه، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال :( أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ ) رواه الدارقطني وحسنه البيهقيّ وصححه، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه : يتم ويقصر، وأوجب القصر أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، رواه النسائيّ وابن ماجه، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها :( أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر ) رواه الشيخان.
فإن قيل : ظاهرهما يخالف الآية ؟ أجيب : بأنّ الأوّل مؤوّل بأنّ القصر كالتمام في الصحة والإجزاء، ومعنى الثاني لمن أراد الاقتصار عليهما جمعاً بين الأدلة، وقوله تعالى :﴿ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ أي : ينالوكم بمكروه بيان باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا مفهوم له، قال يعلى بن أمية : قلت لعمر : إنما قال الله تعالى :﴿ إن خفتم ﴾ وقد أمن الناس قال : قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) رواه مسلم ﴿ إنّ الكافرين كانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ لكم عدوّاً مبيناً ﴾ أي : بين العداوة وقوله تعالى :
﴿ وإذا كنت ﴾ أي : يا محمد حاضراً ﴿ فيهم ﴾ أي : وأنتم تخافون العدوّ ﴿ فأقمت لهم الصلاة ﴾ تمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعامّة الفقهاء على أنه تعالى علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليقتدي به الأئمة بعده فإنهم نوّاب عنه فيكون حضورهم كحضوره.
روي أنّ المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف وإنّ الله يقول :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ﴾ فعلمه صلاة الخوف وهي أنواع :
الأوّل : إذا كان العدو في جهة القبلة وسائر والمسلمون كثيرون فيصلي بهم الإمام ثم يسجد بصف أوّل ويحرس صف ثانٍ، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه بعد تقدّمه وتأخر الأوّل بلا كثرة أفعال في الركعة الثانية، وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد جلس الآخرون وتشهد وسلم بالجميع، روى هذا النوع مسلم، وقد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وهي قرية على مرحلتين من مكة بقرب خليص سميت بذلك لعسف السيول فيها وجاز عكس هذه الكيفية.
والنوع الثاني : إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها، وثم ساتر، فيصلي الإمام بهم ركعتين مرّتين كلّ مرة بفرقة كما قال تعالى :﴿ فلتقم طائفة منهم معك ﴾ أي : وتتأخر طائفة ﴿ وليأخذوا ﴾ أي : الطائفة التي قامت معك ﴿ أسلحتهم ﴾ معهم ﴿ فإذا سجدوا ﴾ أي : صلوا ﴿ فليكونوا ﴾ أي : هذه الطائفة الأخرى ﴿ من ورائكم ﴾ يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة الأخرى تحرس ﴿ ولتأت طائفة أخرى ﴾ تحرس ﴿ لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾ معهم إلى أن يقضوا الصلاة «وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ببطن نخل »، رواه الشيخان وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف سنت فيه عند كثرة المسلمين، وقلة عدوّهم، وخوف هجومهم عليهم في الصلاة.
فإن قيل : أخذ الحذر وهو الخوف مع التحفظ مجاز، وأخذ الأسلحة حقيقة، فلا يجمع بينهما أجيب : بأنّ أخذ الحذر حقيقة أيضاً تنزيلاً له منزلة الآلة على سبيل الاستعارة بالكناية، فالجمع إنما هو بين حقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقة، والمجاز جائز كما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه.
فإن قيل : لم ذكر أخذ الحذر في الثانية دون الأولى ؟ أجيب : بأنّ الكفار يتنبهون للثانية ما لا يتنبهون للأولى.
والنوع الثالث : صلاة ذات الرقاع رواها الشيخان أيضاً، وهي والعدوّ في غير جهة القبلة أو فيها، وثم ساتر أن تقف فرقة في وجه العدوّ، ويصلي الإمام بفرقة ركعة، ثم عند قيامه للثانية تفارقه وتتم بقية صلاتها، وتقف في وجه العدوّ، وتجيء تلك والإمام ينتظر لها فيصلي بها ثانية، فإذا جلس للتشهد قامت وأتت بركعة وتلحقه، ويسلم بها ويصلي الثلاثية بفرقة ركعتين وبالثانية ركعة، وهو أفضل من عكسه ويصلي الرباعية بكل فرقة ركعتين.
وبقي نوع رابع : تقدّم عند قوله تعالى :﴿ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ﴾ ( البقرة، ٢٣٩ ).
﴿ ود ﴾ أي : تمنى ﴿ الذين كفروا لو تغفلون ﴾ إذا قمتم إلى الصلاة ﴿ عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾ بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم وهذه علة الأمر بأخذ السلاح.
ولما كان الله تعالى قد تفضل على هذه الأمة ورفع عنها الحرج وكان المطر والمرض يشقان قال :﴿ ولا جناح ﴾ أي : حرج ﴿ عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ﴾ ؛ لأنّ حمل السلاح في المطر يكون سبباً لبله، وفي المرض يزيد حملها المريض وهناً، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولي الشافعي، والثاني : أنه سنة ورجح بشرط أن لا يؤذي ولا يحصل بترك حمله خطر ولا يمنع صحة الصلاة، فإن أذى كرمح وسط الصف كره حمله بل إن غلب على ظنه ذلك حرم، وإن حصل بتركه خطر وجب حمله ويمكن حمل الآية على هذه الحالة وكحمله وضعه بين يديه إن سهل مدّ يده إليه بل يتعين إن منع حمله الصحة من نجس أو غيره ﴿ وخذوا حذركم ﴾ من العدوّ أي : احترزوا منه ما استطعتم كيلا يهجم عليكم.
فإن قيل : كيف طابق الأمر بالحذر قوله تعالى :﴿ إنّ الله أعدّ للكافرين عذاباً ﴾ أي : قتلاً وأسراً ونهباً في الدنيا ﴿ مهيناً ﴾ أي : ذا إهانة ؟ أجيب : بأنّ الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبته واغتراره فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله تعالى يهين عدوّهم ويخذله وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ويعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك وإنما هو تعبد من الله تعالى كما قال تعالى :﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ ( البقرة، ١٩٥ ).
ولما أعلمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف اتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرّد الذكر فقال مشيراً إلى تعقيبه.
﴿ فإذا قضيتم الصلاة ﴾ أي : فرغتم من فعلها وأدّيتموها على حالة الخوف أو غيرها ﴿ فاذكروا الله ﴾ أي : بالتهليل والتسبيح والتحميد والتمجيد ﴿ قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ﴾ أي : مضطجعين أي : اذكروه في كل حال، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) وقيل : صلوا قياماً في حال الصحة وقعوداً في حال المرض وعلى جنوبكم عند الحرج والزمانة ﴿ فإذا اطمأننتم ﴾ أي : أمنتم بما كنتم فيه من الخوف ﴿ فأقيموا الصلاة ﴾ أي : أدّوها بحقوقها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف ﴿ إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً ﴾ أي : مكتوباً أي : مفروضاً ﴿ موقوتاً ﴾ أي : مقدّراً وقتها لا تؤخر عنه ولا تقدّم عليه، قال صلى الله عليه وسلم :( أمني جبريل عند البيت مرّتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، والعصر حين كان ظله أي الشيء مثله، والمغرب حين أفطر الصائم أي : دخل وقت إفطاره، والعشاء حين غاب الشفق الأحمر، والفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله والعصر حين كان ظله مثله، والمغرب حين أفطر الصائم والعشاء إلى ثلث الليل، والفجر فأسفر وقال : هذا وقت الأنبياء من قبلك )، رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم «فصلى الظهر حين صار ظله مثله » أي : فرغ منها حينئذٍ كما شرع في العصر في اليوم الأوّل حينئذٍ قاله الشافعيّ رضي الله تعالى عنه نافياً به إشتراكهما في وقت ويدل له خبر مسلم وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر.
ونزل لما بعث صلى الله عليه وسلم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فشكوا الجراحات :
﴿ ولا تهنوا ﴾ أي : تضعفوا ﴿ في ابتغاء القوم ﴾ أي : في طلب أبي سفيان وأصحابه ﴿ إن تكونوا تألمون ﴾ أي : تتوجعون من ألم الجراح ﴿ فإنهم يألمون ﴾ أي : يتوجعون من الجراح ﴿ كما تألمون ﴾ ولم يجبنوا عن قتالكم فلا تجبنوا عن قتالهم ﴿ وترجون ﴾ أنتم ﴿ من الله ﴾ من النصر والثواب على جهادكم ﴿ ما لا يرجون ﴾ هم فأنتم تزيدون عليهم بذلك فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها ﴿ وكان الله عليماً ﴾ بأعمالكم وضمائركم ﴿ حكيماً ﴾ أي : فيما يأمر وينهى.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾ أي : القرآن وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ متعلق بأنزل ﴿ لتحكم بين الناس بما أراك ﴾ الله أي : عرفك وأوحى به إليك وليس أرى من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل، وعن عمر رضي الله تعالى عنه لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ولكن ليجتهد رأيه ؛ لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ؛ لأن الله تعالى كان يريه إياه وهو منا الظن والتكليف.
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بكسر الطاء وفتحها، والأوّل أفصح ابن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له : قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه حتى انتهى إلى الدار، ثم أخبأها عند رجل من اليهود يقال له : زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسألوه أن يجادل عن صاحبهم فقالوا : إن لم تفعل افتضح صاحبنا فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ؛ لأنه بريء بحلفه وأن يعاقب اليهودي لثبوت المال عنده، وقيل : همّ أن يقطع يده فقال تعالى :﴿ ولا تكن للخائنين ﴾ كطعمة ﴿ خصيماً ﴾ أي : مخاصماً مدافعاً عنهم.
﴿ واستغفر الله ﴾ أي : مما هممت به أي : من الذب عنه وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك معصوم، ولكن عن مقام عال سام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم ﴿ إنّ الله كان غفوراً رحيماً ﴾ لمن يستغفره.
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ أي : يخونونها بالمعاصي ؛ لأنّ وبال خيانتهم عليهم.
فإن قيل : لم قال ﴿ للخائنين ﴾ و﴿ يختانون ﴾ أنفسهم والخائن واحد فقط ؟ أجيب : بأنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته أو ليتناوله وقومه فإنهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته وخاصموا عنه، وقيل : إنّ هذا خطاب مع صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كقوله تعالى :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ﴾ ( يونس، ٩٤ ).
والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوّة على أحد وجوه ثلاثة : إمّا الذنب تقدّم على النبوّة، أو لذنوب أمّته، أو لمباح جاء الشرع بتحريمه، فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار يكون معناه السمع والطاعة لحكم الشرع ﴿ إنّ الله لا يحب ﴾ أي : يعاقب ﴿ من كان خوّاناً ﴾ أي : كثير الخيانة ﴿ أثيماً ﴾ أي : منهمكاً فيه.
روي أنّ طعمة هرب إلى مكة وارتدّ وثقب حائطاً ليسرق متاع أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
فإن قيل : لم قال خوّاناً أثيماً على المبالغة ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى كان عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المأثم، ومن كانت تلك خلقة أمره لم يشك في حاله، وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنّ لها أخوات، وعن عمر رضي الله تعالى عنه إنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمّه تبكي وتقول : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أوّل مرّة.
﴿ يستخفون ﴾ أي : طعمة وقومه يستترون ويستحيون ويخافون ﴿ من الناس ولا يستخفون ﴾ أي : ولا يستحيون ولا يخافون ﴿ من الله ﴾ وهو أحق أن يستحيا ويخاف منه ﴿ وهو معهم ﴾ بعلمه لا يخفى عليه سرهم ﴿ إذ يبيتون ﴾ أي : يدبرون ليلاً على طريق الإمعان في الكفر والإتقان للرأي ﴿ ما لا يرضى من القول ﴾ أي : من رمي اليهودي بالسرقة وشهادة الزور عليه والحلف الكاذب على نفيها.
فإن قيل : لم سمى التدبير قولاً، وإنما هو معنى في النفس ؟ أجيب : بأنه لما حدث بذلك نفسه سمي قولاً مجازاً. قال في الكشاف : ويجوز أن يراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيّنه ﴿ وكان الله بما يعملون محيطاً ﴾ أي : علماً وقدرة لا يفوت عنه شيء.
وقوله تعالى :
﴿ ها أنتم هؤلاء ﴾ خطاب لقوم طعمة أي : يا هؤلاء ﴿ جادلتم ﴾ أي : خاصمتم ﴿ عنهم ﴾ أي : عن طعمة وذويه ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ أي : بما جعل لكم من الأسباب ﴿ فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ﴾ إذا عذبهم ﴿ أم من يكون عليهم وكيلاً ﴾ يتولى أمرهم ويذب عنهم أي : لا أحد يفعل ذلك.
فائدة : اتفق كتاب المصاحف على قطع ( أم ) عن ( من ).
﴿ ومن يعمل سوءاً ﴾ أي : ذنباً يسوء به غيره كرمي طعمة اليهودي ﴿ أو يظلم نفسه ﴾ أي : يعمل ذنباً يختص به لا يتعدّاه، وقيل : المراد بالأوّل الصغيرة والثاني الكبيرة ﴿ ثم يستغفر الله ﴾ أي : يطلب من الله تعالى غفرانه بالتوبة بشروطها ﴿ يجد الله غفوراً ﴾ أي : محاء للزلات ﴿ رحيماً ﴾ أي : مبالغاً في إكرام من يقبل إليه كما في الحديث عن الله :( من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة )، وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه إنّ هذه الآية نسخت من ﴿ يعمل سوأً يجز به ﴾ ( النساء، ١٢٣ ).
﴿ ومن يكسب إثماً ﴾ أي : ذنباً ﴿ فإنما يكسبه على نفسه ﴾ أي : لأنّ وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد فهو مجازية عليه فلا يتعدّاه وباله قال تعالى :﴿ وإن أسأتم فلها ﴾ ( الإسراء، ٧ ).
﴿ وكان الله عليماً ﴾ بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله فلا يترك شيئاً منه ﴿ حكيماً ﴾ في صنعه فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه.
﴿ ومن يكسب خطيئة ﴾ أي : ذنباً صغيراً أو ما لا عمد فيه ﴿ أو إثماً ﴾ أي : كبيرة أو ما كان عن عمد ﴿ ثم يرم به بريئاً ﴾ أي : ينسبه إلى من لم يعمله كما فعل طعمة باليهودي ﴿ فقد احتمل ﴾ أي : تحمل ﴿ بهتاناً ﴾ أي : خطر كذب ببهت المرمي به ﴿ وإثماً ﴾ أي : ذنباً كبيراً ﴿ مبيناً ﴾ أي : بيناً يكسبه بسبب رمي البريء.
﴿ ولولا فضل الله عليك ﴾ يا محمد ﴿ ورحمته ﴾ بالعصمة ﴿ لهمت طائفة منهم ﴾ أي : من قوم طعمة أي : هماً مؤثراً عندك ﴿ أن يضلوك ﴾ أي : عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال بتلبيسهم عليك فلا ينافي ذلك أنهم قد هموا بذلك ؛ لأنّ الهم المؤثر لم يوجد ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ إذ وبال ذلك عليهم ﴿ وما يضرونك من شيء ﴾ فإنّ الله عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم.
تنبيه :( من شيء ) في موضع نصب على المصدر أي : شيئاً من الضر فمن مزيدة ﴿ وأنزل الله عليك الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي : السنة فإنها ليست قرآناً يتلى وفسرت أيضاً بأنها علم الشرائع وكل كلام وافق الحق ﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ أي : من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا ﴿ وكان فضل الله عليك عظيماً ﴾ أي : بهذا وبغيره من أمور لا تدخل تحت الحصر، وفي هذا دليل على أن العلم من أشرف الفضائل.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم ﴾ أي : الناس قوم طعمة فإنهم ناجوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه وكذا غيرهم ﴿ إلا ﴾ نجوى ﴿ من أمر بصدقة ﴾ واجبة أو مندوبة ﴿ أو معروف ﴾ أي : عمل بر، وقيل : المراد بالصدقة الواجبة، وبالمعروف صدقة التطوّع ﴿ أو إصلاح بين الناس ﴾ وسواء إصلاح ذات البين وغيرهم قال صلى الله عليه وسلم ( كلام ابن آدم كله عليه لا لهُ إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله )، وسمع سفيان رجلاً يقول : ما أشدّ هذا الحديث فقال : ألم تسمع الله يقول :﴿ لا خير في كثير من نجواهم ﴾ فهو هذا بعينه أو ما سمعته يقول :﴿ والعصر ١ إن الإنسان لفي خسر ﴾ ( العصر، ١- ٢ ) فهو هذا بعينه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ ) قلنا : بلى يا رسول الله قال :( إصلاح ذات البين، وإفساد ذات البين هي الحالقة ).
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ( ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال : خيراً أو أثنى خيراً ) ﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي : هذا المذكور ﴿ ابتغاء ﴾ أي : طلب ﴿ مرضاة الله ﴾ أي : لا غيره من أمور الدنيا ؛ لأنّ الأعمال بالنيات ﴿ فسوف يؤتيه ﴾ أي : الله في الآخرة بوعد لا خلف فيه ﴿ أجراً عظيماً ﴾ هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وفي هذه الآية دلالة على أنّ المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال الباطن في إخلاص النية وتصفية القلب من الالتفات إلى غرض دنيوي، وقرأ أبو عمرو وحمزة ( يؤتيه ) بالياء، والباقون بالنون.
﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ أي : يخالفه فيما جاء به مأخوذ من الشق، فإنّ كلاً من المتخالفين في شق غير شق الآخر ﴿ من بعدما تبين ﴾ أي : ظهر ﴿ له الهدى ﴾ أي : الدليل الذي هو سببه ﴿ ويتبع ﴾ طريقاً ﴿ غير سبيل المؤمنين ﴾ أي : طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يتبع غير دين الإسلام ﴿ نوله ما تولى ﴾ أي : نجعله والياً لما تولاه بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا ﴿ ونصله ﴾ أي : ندخله في الآخرة ﴿ جهنم ﴾ يحترق فيها ﴿ وساءت مصيراً ﴾ أي : مرجعاً هي، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة ( نوله ) و( نصله ) بسكون الهاء، واختلس كسرة الهاء قالون ولهشام وجهان : الإختلاس كقالون، وإشباع الحركة كباقي القرّاء.
فإن قيل : ما الحكمة في فك الإدغام في قوله تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ والإدغام في سورة الحشر في قوله :﴿ ومن يشاق الله ﴾ ( الحشر، ٤ ) ؟ أجيب : بأن أل في لفظ الجلالة لازم بخلافه في الرسول واللزوم يقتضي الثقل، فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول.
فإن قيل : يرد هذا قوله تعالى في سورة الأنفال :﴿ ومن يشاقق الله ورسوله ﴾ ( الأنفال، ١٣ ) أجيب : أنه لما انضم الرسول إلى الله صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ أي : وقوع الشرك به من أيّ شخص كان وبأي شيء كان ﴿ ويغفر ما ﴾ أي : كل شيء هو ﴿ دون ذلك ﴾ أي : من سائر المعاصي لكن ﴿ لمن يشاء ﴾ لأنّ جميع الأمور بمشيئته.
روي ( أنّ شيخاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين إني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله فنزلت ﴿ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ﴾ ) عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى ( فقد افترى ) ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم نوع افتراء، وهو دعوى التبني على الله.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ يدعون ﴾ أي : يعبد المشركون ﴿ من دونه ﴾ أي غير الله ﴿ إلا إناثاً ﴾ وهي اللات والعزى ومناة، وعن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ﴿ وإن ﴾ أي ما ﴿ يدعون ﴾ أي يعبدون بعبادتها ﴿ إلا شيطاناً مريداً ﴾ أي : خارجاً عن الطاعة وهو إبليس ؛ لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها، فكانت طاعته في ذلك عبادة له.
﴿ لعنه الله ﴾ أي أبعده عن رحمته ﴿ وقال ﴾ الشيطان المذكور ﴿ لأتخذنّ من عبادك نصيباً ﴾ أي : حظاً ﴿ مفروضاً ﴾ أي : مقطوعاً أدعوهم فيه إلى طاعتي قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار.
﴿ ولأضلنهم ﴾ أي عن طريقك السوي بما سلطتني به من الوسواس وتزيين الأباطيل ﴿ ولأمنينهم ﴾ أي بكل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث والحساب ولا جنة ولا نار وغيره، وألقي في قلوبهم طول الأعمار وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والحنو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة ﴿ ولآمرنهم فليبتكن ﴾ أي : يقطعن ﴿ آذان الأنعام ﴾ كما كانت العرب تفعله بالبحائر والسوائب التي حرّموها على أنفسهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وجاء الخامس ذكراً حرموا على أنفسهم الانتفاع بها ﴿ ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله ﴾ أي : فطرة الله التي هي دين الإسلام بالكفر وإحلال ما حرّم الله، وتحريم ما أحل الله، ويدخل في ذلك اللواط والسحر والوشم، وهو أن يغرز الجلد بإبرة ويحشى بنحو نيلة، والوشر وهو أن تحدّ المرأة أسنانها وترققها ونحو ذلك، وكالخصاء وهو حرام في بني آدم، قال الزمخشري : وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم ؛ لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم، وأمّا في البهائم فيجوز في المأكول الصغير ويحرم في غيره.
وقيل للحسن رحمه الله تعالى : إنّ عكرمة يقول : المراد هنا هو الخصاء فقال : كذب عكرمة هو دين الله وعن ابن مسعود هو الوشم ﴿ ومن يتخذ الشيطان ولياً ﴾ أي : يتولاه ويطيعه ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ فقد خسر خسراناً مبيناً ﴾ بيناً لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.
﴿ يعدهم ﴾ ما لا ينجزه بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل، إنه قريب الحصول فيسعون في تحصيله فيضيع عليهم في ذلك الزمان ويرتكبوا ما لا يحل من الأهوال والهوان ﴿ ويمنيهم ﴾ نيل الآمال في الدنيا ولا بعث ولا جزاء ﴿ وما ﴾ أي : والحال إنه ما ﴿ يعدهم الشيطان ﴾ بذلك ﴿ إلا غروراً ﴾ أي : باطلاً، وهو إظهار النفع فيما فيه الضر وهذا الوعد إمّا بالخواطر أو بلسان أوليائه.
﴿ أولئك ﴾ أي : الشيطان وأولياؤه ﴿ مأواهم ﴾ أي : مقرّهم ﴿ جهنّم ﴾ يحترقون فيها ﴿ ولا يجدون عنها محيصاً ﴾ أي : معدلاً ومهرباً.
ولما ذكر ما للكافر ترهيباً اتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال :
﴿ والذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ أي : الطاعات تصديقاً لإقرارهم ﴿ سندخلهم ﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي : لريّ أرضها فحيثما أجرى منها نهر جرى ﴿ خالدين فيها ﴾ ولما كان الخلود يطلق على المكث الطويل دفع ذلك بقوله تعالى :﴿ أبداً ﴾ أي : لا إلى آخر ﴿ وعد الله حقاً ﴾ أي : وعدهم الله ذلك وهو قوله تعالى : سندخلهم وحقه حقاً ﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أصدق من الله قيلاً ﴾ أي : قولاً، وأكثر سبحانه وتعالى من التأكيد هنا ؛ لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس، فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد.
ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فقال أهل الكتاب : نبيِّنا قبل نبيِّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نبيِّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى.
﴿ ليس ﴾ أي : الأمر منوطاً ﴿ بأمانيكم ﴾ أيها المسلمون ﴿ ولا أمانيّ أهل الكتاب ﴾ بل بالإيمان والعمل الصالح ﴿ من يعمل سوأً يجز به ﴾ قال ابن عباس لما نزلت هذه شقت على المسلمين وقالوا : يا رسول الله أينا لم يعمل سوأً غيرك فكيف الجزاء ؟ قال : منه ما يكون في الدنيا أي : بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث :( فمن يعمل حسنة فله عشر أمثالها ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقي له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره ) وأمّا ما كان جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطي الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه ﴿ من يعمل سوأً يجز به ﴾ ﴿ ولا يجد له من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ ولياً ﴾ أي : يحفظه ﴿ ولا نصيراً ﴾ أي : يمنعه منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت عليّ ؟ ) قلت : بلى يا رسول الله قال : فأقرأنيها قال : ولا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا بكر فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا ) أي : بالبلاء والمحن كما مرّ حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، ( وأمّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة ).
﴿ ومن يعمل ﴾ شيئاً ﴿ من الصالحات ﴾ فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها وقوله تعالى :﴿ من ذكر أو أنثى ﴾ في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات أي : كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء وقوله تعالى :﴿ وهو مؤمن ﴾ حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيهاً على أنه لا اعتداد بالعمل الصالح دون اقتران بها ﴿ فأولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ يدخلون ﴾ أي : ندخلهم ﴿ الجنة ﴾ أي : الموصوفة ﴿ ولا يظلمون نقيراً ﴾ قدر نقرة النواة من ثواب أعمالهم وإن لم ينقص ثواب المطيع فبالحري أن لا يزاد عقاب العاصي ؛ لأنّ المجازي هو أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقب الثواب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أحسن ديناً ممن أسلم وجهه ﴾ أي : انقاد وأخلص عمله ﴿ لله ﴾ فلا حركة ولا سكون إلا فيما يرضاه، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشرية ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه ﴿ محسن ﴾ أي : مؤمن مراقب آت بالحسنات تارك للسيآت، لأنه يعبد الله كأنه يراه، وقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذمّ الكامل لغيره ﴿ واتبع ملة إبراهيم ﴾ أي : الموافقة لملة الإسلام وقوله تعالى :﴿ حنيفاً ﴾ حال أي : مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم ﴿ واتخذ إبراهيم خليلاً ﴾ أي : صفياً خالص المحبة له، وإنما أعاد ذكره، ولم يضمره تفخيماً له، وتنصيصاً على أنه الممدوح، والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها، قال الزجاج : الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة الصداقة فسمي خليلاً ؛ لأن الله تعالى أحبه واصطفاه.
روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم يريده لنفسه لفعلت ولكن يريده للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدّة، فرجع غلمانه فمرّوا ببطحاء أي : بأرض ذات حصى فقالوا : لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحيي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة فملؤوا تلك الغرائر ثم أتوا إبراهيم فلما أخبروه بذلك وسارة نائمة ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت : سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا : بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حوّاري أي : وهو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، الدقيق الذي نخل مرّة بعد أخرى، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز فقال : من أين هذا لكم ؟ فقالت : من خليلك المصري فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل، فسماه الله خليلاً.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقاً وملكاً يفعل فيهما ما يشاء ﴿ وكان الله بكل شيء محيطاً ﴾ علماً وقدرة أي : ولم يزل متصفاً بذلك فمهما أراد كان في وعد وعيد للمطيع والعاصي لا يخفى عليه أحد منهم ولا يعجزه شيء.
﴿ ويستفتونك ﴾ أي : يطلبون منك الفتوى ﴿ في ﴾ شأن ﴿ النساء ﴾ أي : في شأن اليتامى ﴿ قل الله يفتيكم ﴾ أي : يبين لكم حكمه ﴿ فيهن ﴾ والإفتاء تبيين المبهم ﴿ و ﴾ يفتيكم أيضاً في ﴿ ما يتلى عليكم في الكتاب ﴾ أي : القرآن من آية الميراث ﴿ في يتامى النساء ﴾ أي : في شأن اليتامى ﴿ اللاتي لاتؤتونهن ما كتب ﴾ أي : فرض ﴿ لهن ﴾ أي : من الميراث ﴿ وترغبون ﴾ أيها الأولياء ﴿ أن ﴾ أي : في أن أو عن أن ﴿ تنكحوهن ﴾ لجمالهن أو دمامتهن، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها وإن كانت مرغوباً عنها في قلة المال والجمال تركها.
وفي رواية : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوّجها لدمامتها، ويكره أن يزوّجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ﴿ و ﴾ يفتيكم في ﴿ المستضعفين ﴾ أي : الصغار ﴿ من الولدان ﴾ أي : أن تعطوهم حقوقهم ؛ لأن العرب كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء وقوله تعالى :﴿ وأن تقوموا ﴾ في محل نصب بإضمار فعل أي : ويأمركم أن تقوموا ﴿ لليتامى ﴾ بالقسط أي : العدل من الميراث وغيره، والخطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقهم أو للقوّام بالنصفة في شأنهم ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ أي : في ذلك أو غيره ﴿ فإن الله كان به عليماً ﴾ أي : فيجازيكم عليه فإنه أكرم الأكرمين فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً، قال سعيد بن جبير : كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوّج غيرها فقالت له : لا تطلقني ودعني على ولدي واقسم لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال : إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى.
﴿ وإن امرأة ﴾ مرفوع بفعل يفسره ﴿ خافت ﴾ أي : توقعت ﴿ من بعلها ﴾ أي : زوجها ﴿ نشوزاً ﴾ أي : تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها كراهة لها ومنعاً لحقوقها ﴿ أو إعراضاً ﴾ بأن يقل محادثتها ومجالستها ﴿ فلا جناح عليهما ﴾ أي : الزوج والزوجة ﴿ أن يصلحا بينهما صلحاً ﴾ أي : في القسم والنفقة وهو أن يقول الزوج لها : إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوّج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسم ليلاً ونهاراً فإن رضيتي بهذا فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك، فإن رضيت كانت هي المحسنة، ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة، أو يسرحها بإحسان، فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهته فهو المحسن، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء وسكون الصاد ولا ألف من أصلح بين المتنازعين، والباقون بفتح الياء وفتح الصاد مع التشديد وألف بعدها وفتح اللام وفيه إدغام التاء في الأصل في الصاد، وغلظ ورش اللام من يصالحا بخلاف عنه ﴿ والصلح ﴾ بأن يترك كل منهما حقه أو بعض حقه ﴿ خير ﴾ من الفرقة والنشوز والإعراض.
كما ( يروى أن سودة كانت امرأة كبيرة أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفارقها فقالت : لا تطلقني وإنما بي أن أبعث في نسائك وقد جعلت نوبتي لعائشة فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة ) ثم بين سبحانه وتعالى ما جبل عليه الإنسان بقوله :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ أي : جبلت عليه فكأنها حاضرة لا تغيب عنه، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا بنفسه بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغي إذ الزوج لا يكاد يسمح بنفسه إذا كرهها وخصوصاً إذا أحب غيرها، والشح أقبح البخل وحقيقته الحرص على منع الخير ﴿ وإن تحسنوا ﴾ أي : في عشرة النساء وإن كنتم كارهين ﴿ وتتقوا ﴾ أي : النشوز والإعراض ونقص الحق ﴿ فإنّ الله كان ﴾ أزلاً وأبداً ﴿ بما تعملون ﴾ أي : من الإحسان والخصومة ﴿ خبيراً ﴾ أي : عليماً به وبالغرض منه فيجازيكم عليه.
﴿ ولن تستطيعوا ﴾ أي : توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة ﴿ إن تعدلوا ﴾ أي : تسووا بين ﴿ النساء ﴾ أي : في المحبة ؛ لأنّ العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول :( هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ) رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم ﴿ ولو حرصتم ﴾ على تحرّي ذلك وبالغتم فيه ﴿ فلا تميلوا ﴾ أي : إلى التي تحبونها ﴿ كل الميل ﴾ في القسم والنفقة فإنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله ﴿ فتذروها ﴾ أي : تتركوا المرأة الممال عنها ﴿ كالمعلقة ﴾ أي : التي لا هي أيم ولا ذات بعل.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :( من كان له امرأتان يميل إلى إحداهما جاء يوم القيامة وإحدى شقيه مائل ) رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم.
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه بعث إلى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بمال فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إلى كل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر مثل هذا قالوا : لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره فقالت : ارفع رأسك فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهنّ جميعاً، وكان لمعاذ رضي الله تعالى عنه امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد ﴿ وإن تصلحوا ﴾ أي : ما كنتم تفسدون من أمورهنّ ﴿ وتتقوا ﴾ فيما يستقبل ﴿ فإنّ الله كان غفوراً ﴾ أي : لما في قلوبكم من الميل ﴿ رحيماً ﴾ بكم في ذلك وغيره فإنه أرحم الراحمين.
﴿ وإن يتفرّقا ﴾ أي : يفترق كل من الزوجين من صاحبه بالطلاق ﴿ يغن الله كلاً ﴾ منهما عن الآخر ببدل بأن يرزقها زوجاً ويرزقه غيرها أو سلواً ﴿ من سعته ﴾ أي : من فضله وكرمه ﴿ وكان الله واسعاً ﴾ أي : واسع الفضل والرحمة بخلقه ﴿ حكيماً ﴾ أي : فيما دبره لهم.
وفي قوله تعالى :
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : ملكاً وعبيداً تنبيه على كمال سعته وقدرته ﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي : جنس الكتب ﴿ من قبلكم ﴾ أي : اليهود والنصارى ومن قبلهم وقوله تعالى :﴿ وإياكم ﴾ عطف على الذين وهو خطاب لأهل القرآن ﴿ أن اتقوا الله ﴾ أي : بأن اتقوا الله أي : خافوا عقابه بأن تطيعوه، وقوله تعالى :﴿ وإن تكفروا ﴾ أي : بما وصيتم به ﴿ فإنّ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ على إرادة القول. قال التفتازاني : لأنّ الجملة الشرطية لا تصح أن تقع بعد أن المصدرية فلا يصح عطفها على الواقع بعدها أي : وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإنّ الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم وإنما يوصيكم لرحمته لا لحاجته. ثم قرّر ذلك بقوله تعالى :﴿ وكان الله غنياً ﴾ عن الخلق وعبادتهم ﴿ حميداً ﴾ في ذاته حمد أو لم يحمد.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً ﴾ أي : شهيداً بأنّ ما فيهما له.
فإن قيل : ما فائدة تكرير لله ما في السماوات وما في الأرض ؟ أجيب : بأنّ لكل واحدة منها وجهاً أمّا الأوّل : فمعناه لله ما في السماوات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته، وأمّا الثاني : فمعناه لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً أي : هو الغنيّ المطلق فاطلبوا منه ما تطلبون فإنه لا ينفد ما عنده، وأمّا الثالث : فمعناه لله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً ولا تتوكلوا على غيره فذكرت كل مرّة دليلاً على شيء غير الذي قبله، وكررت ؛ لأنّ الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات يحسن أن يستدل به على كل واحد منها وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرّة واحدة ؛ لأنّ إعادته تحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل، وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أنّ هذا الدليل محتوٍ على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، فيجتهد السامع في التفكّر لإظهار الأسرار والاستدلال على صفات الكمال ؛ لأنّ الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفته سبحانه وتعالى، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده.
﴿ إن يشأ يذهبكم ﴾ أي : يفنكم ﴿ أيها الناس ﴾ كما أوجدكم ﴿ ويأت بآخرين ﴾ أي : ويوجد قوماً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين مكان الإنس ﴿ وكان الله على ذلك ﴾ أي : الإعدام والإيجاد ﴿ قديراً ﴾ أي : بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده. وقيل : هذا خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب إن يشأ يمتكم ويأت بناس آخرين يوالونه.
وروي أنه لما نزلت ﴿ إن يشأ يذهبكم ﴾ الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال :«إنهم قوم هذا » أي : سلمان وهم بنو فارس.
﴿ من كان يريد ثواب الدنيا ﴾ الخسيسة الفانية كالمجاهد يجاهد للغنيمة لقصور نظره على الخسيس الحاضر مع خسته كالبهائم ﴿ فعند الله ثواب الدنيا ﴾ الخسيسة الفانية ﴿ والآخرة ﴾ النفيسة الباقية لا عند غيره فما له يطلب الخسيس فليطلبهما منه كمن يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أو ليطلب الأشرف منهما فإنّ من غلب همته فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه جمع له سبحانه وتعالى بينهما كمن يجاهد لله خالصاً يجمع له بين الآخرة والمغنم ﴿ وكان الله سميعاً ﴾ أي : بالغ السمع لكل قول وإن خفي ﴿ بصيراً ﴾ أي : بالغ البصر لكل ما يبصر وإن خفي.
﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ﴾ أي : قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه ﴿ بالقسط ﴾ أي : بالعدل ﴿ شهداء لله ﴾ بالحق أي : تقيمون شهادتكم لوجه الله ﴿ ولو ﴾ كانت الشهادة ﴿ على أنفسكم ﴾ فاشهدوا عليها بأن تقرّوا بالحق ولا تكتموه ﴿ أو الوالدين والأقربين ﴾ أي : ولو كانت الشهادة على والديكم وأقاربكم ﴿ إن يكن ﴾ أي : المشهود عليه ﴿ غنياً ﴾ فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه ﴿ أو فقيراً ﴾ فلا تمنع ترحماً عليه ﴿ فالله أولى بهما ﴾ أي : الغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة لهما أو عليهما صلاحاً لما شرعها.
تنبيه : الضمير في ( بهما ) راجع إلى ما دلّ عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير لا إليهما وإلا لوحد الضمير لكون العطف بأو، فكأنه قال : فالله أولى بجنس الغني والفقير أي : بالأغنياء والفقراء ﴿ فلا تتبعوا الهوى ﴾ أي : في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه أو الفقير رحمة له ﴿ أن تعدلوا ﴾ أي : إرادة أن تعدلوا فقد بان لكم أن لا عدل في ذلك، أو لئلا تعدلوا أي : تميلوا عن الحق ﴿ وإن تلووا ﴾ أي : ألسنتكم لتحرفوا الشهادة ﴿ أو تعرضوا ﴾ أي : عن أدائها ﴿ فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً ﴾ فيجازيكم به. وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام وحذف الواو الأولى، والباقون بسكون اللام وواوين الأولى مضمومة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا ﴾ أي : داوموا على الإيمان ﴿ بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ﴿ والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ على الرسل بمعنى الكتب أي : آمنوا بجميع كتب الله المنزلة وقيل : إنّ الخطاب في ذلك لأهل الكتاب.
روي أنّ ابن سلام وأصحابه قالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم :( بل آمنوا بالله ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله ) فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم النون من ( نزل )، وضم الهمزة من ( أنزل ) وكسر الزاي فيهما، والباقون بفتح النون والهمزة وفتح الزاي فيهما ﴿ ومن يكفر با وملائكته وكتبه ﴾ التي أنزل على أنبيائه ﴿ ورسله ﴾ أي : من الملائكة والبشر ﴿ واليوم الآخر ﴾ أي : الذي أخبرت به رسله وهو يوم القيامة أي : ومن يكفر بشيء من ذلك ﴿ فقد ضل ضلالاً بعيداً ﴾ عن الحق بحيث لا يكاد يعود إليه، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام.
﴿ إن الذين آمنوا ﴾ أي : بموسى وهم اليهود ﴿ ثم كفروا ﴾ حين عبدوا العجل ﴿ ثم آمنوا ﴾ بعد عود موسى إليهم ﴿ ثم كفروا ﴾ بعيسى ﴿ ثم ازدادوا كفراً ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ أي : ما داموا على هذه الحالة ؛ لأنه لا يغفر أن يشرك به ﴿ ولا ليهديهم سبيلاً ﴾ أي : طريقاً إلى الحق
﴿ بشر المنافقين ﴾ يا محمد ﴿ بأنّ لهم عذاباً أليماً ﴾ أي : مؤلماً هو النار.
تنبيه : وضع بشر مكان أنذر تهكماً بهم.
وقوله تعالى :
﴿ الذين ﴾ بدل أو نعت للمنافقين ﴿ يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ لما يتوهمون فيهم من القوّة وقوله تعالى :﴿ أيبتغون ﴾ أي : أيطلبون ﴿ عندهم العزة ﴾ استفهام إنكاري أي : لا يجدونها عندهم ﴿ فإن العزة لله جميعاً ﴾ في الدنيا والآخرة ولا ينالهما إلا أولياؤه قال الله تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ ( المنافقون، ٨ ).
﴿ وقد ﴾ أي : تتخذونهم والحال أنه قد ﴿ نزل عليكم ﴾ أي : أيتها الأمّة الصادقين منكم والمنافقين ﴿ في الكتاب ﴾ أي : القرآن في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم ﴿ أن ﴾ أي : إنه فهي مخففة واسمها محذوف ﴿ إذا سمعتم آيات الله ﴾ أي : القرآن ﴿ يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم ﴾ أي : الكافرين والمستهزئين ﴿ حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ أي : حتى يأخذوا في حديث غير ذلك، قال الضحاك عن ابن عباس : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة، وقرأ عاصم :( نزل ) بفتح النون والزاي، والباقون بضمّ النون وكسر الزاي ﴿ إنكم إذاً ﴾ أي : إن قعدتم معهم ﴿ مثلهم ﴾ أي : في الإثم ؛ لأنكم قادرون على الإعراض عنهم والإنكار عليهم أو الكفر إن رضيتم به، وقيل : كان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون فقيل لهم : إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ﴾ أي : القاعدين والمقعود معهم كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء.
وقوله تعالى :
﴿ الذين ﴾ إمّا بدل من الذين قبله، وإمّا صفة للمنافقين، وإمّا نصب على الذم منهم ﴿ يتربصون ﴾ أي : ينتظرون وقوع أمر ﴿ بكم فإن كان لكم فتح من الله ﴾ أي : ظفر وغنيمة ﴿ قالوا ﴾ لكم ﴿ ألم نكن معكم ﴾ أي : في الدين والجهاد فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة ﴿ وإن كان للكافرين نصيب ﴾ أي : من الظفر، فإنّ الحرب سجال، وعبر بنصيب تحقيراً لظفرهم بالنسبة لما حصل للمسلمين من الفتح ﴿ قالوا ﴾ لهم ﴿ ألم تستحوذ ﴾ أي : نستول ﴿ عليكم ﴾ ونقدر على أخذكم وقتلكم فأبقينا عليكم ﴿ ونمنعكم من المؤمنين ﴾ أي : من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرعبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد لتصديقهم لنا لإظهارنا الإيمان، ومراد المنافقين بذلك إظهار المنة على الكافرين ﴿ فا يحكم بينكم ﴾ وبينهم ﴿ يوم القيامة ﴾ بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار ﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ﴾ أي : طريقاً بالاستئصال، واحتج أصحابنا بهذه الآية عدلى فساد شراء الكافر العبد المسلم.
﴿ إن المنافقين يخادعون الله ﴾ أي : بإظهارهم خلاف ما يبطنونه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامهم الدنيوية ﴿ وهو خادعهم ﴾ أي : مجازيهم على خداعهم فيفضحهم في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبهم في الآخرة ﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة ﴾ مع المؤمنين ﴿ قاموا كسالى ﴾ أي : متثاقلين كالمكرهين على الفعل ﴿ يراؤن الناس ﴾ بصلاتهم ليظنوهم مؤمنين ﴿ ولا يذكرون الله ﴾ أي : ولا يصلون ﴿ إلا قليلاً ﴾ أي : حين يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ولا يصلون غائبين قط عن عيون الناس وما يجهرون به أيضاً إلا قليلاً ؛ لأنهم ما وجدوا مندوحة عن تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ويجوز أن يراد بالقلة العدم.
فإن قيل : أما معنى المراآة وهي مفاعلة من الرؤية ؟ أجيب : بأنّ المرائي يريهم عمله وهم يرون استحسانه.
وقوله تعالى :
﴿ مذبذبين ﴾ حال من واو يراؤون أي : مترددين ﴿ بين ذلك ﴾ أي : الكفر والإيمان ﴿ لا ﴾ منسوبين ﴿ إلى هؤلاء ﴾ أي : الكفار ﴿ ولا إلى هؤلاء ﴾ أي : المؤمنين ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : يضله ﴿ فلن تجد له سبيلاً ﴾ أي : طريقاً إلى الهدى ونظيره قوله تعالى :﴿ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ﴾ ( النور، ٤٠ ).
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين ﴾ أي : المجاهرين بالكفر ﴿ أولياء من دون المؤمنين ﴾ فإنه صنيع المنافقين وديدنهم فلا تتشبهوا بهم ﴿ أتريدون أن تجعلوا عليكم ﴾ أي : بموالاتهم ﴿ سلطاناً ﴾ أي : دليلاً على كفركم باتباعهم غير سبيل المؤمنين ﴿ مبيناً ﴾ أي : واضحاً على نفاقكم.
﴿ إنّ المنافقين في الدرك ﴾ أي : البطن ﴿ الأسفل من النار ﴾ أي : لأنّ ذلك أخفى ما في النار وأستره وأخبثه كما أنّ كفرهم أخفى الكفر وأخبثه وأستره وسميت طبقات النار دركات ؛ لأنها متداركة متتابعة إلى أسفل كما إنّ الدرج متراقية إلى فوق.
فإن قيل : لم كان المنافق أشدّ عذاباً من الكافر ؟ أجيب : بأنِه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الراء والباقون بفتحها ﴿ ولن تجد لهم نصيراً ﴾ أي : مانعاً يمنعهم من عذاب الله تعالى فيخرجهم.
﴿ إلا الذين تابوا ﴾ أي : رجعوا عما كانوا عليه من النفاق ﴿ وأصلحوا ﴾ أي : أعمالهم ﴿ واعتصموا ﴾ أي : وثقوا ﴿ با وأخلصوا دينهم ﴾ من الرياء فلا يريدون بطاعتهم إلا وجهه تعالى ﴿ فأولئك مع المؤمنين ﴾ في الجنة ﴿ وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً ﴾ فيشاركونهم ويساهمونهم.
فإن قيل : من المنافق ؟ أجيب : بأنه في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ كقوله صلى الله عليه وسلم :( من ترك الصلاة متعمّداً فهو كافر ) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) وقيل لحذيفة رضي الله تعالى عنه : من المنافق ؟ قال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وقيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال : كنا نعده من النفاق.
فائدة : اتفق كتاب المصاحف على حذف الياء من ﴿ يؤت الله ﴾ ولا سبب لحذفها.
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ﴾ نعماءه ﴿ وآمنتم به ﴾ أي : لينفي به غيظاً أو يدفع ضراً أو يستجلب به نفعاً، وهو الغنيّ المطلق المتعالي عن النفع والضرّ، والاستفهام بمعنى النفي أي : لا يعذبكم.
فإن قيل : لم قدم الشكر على الإيمان مع أنه لا ينفع مع عدم الإيمان ؟ أجيب : بأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلاً فيشكر شكراً مبهماً فإذا انتهى إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدّماً على الإيمان، وكأنه أصل التكليف ومداره فيؤمن به، والشكر ضدّ الكفر، فالكفر ستر النعمة، والشكر إظهارها ﴿ وكان الله شاكراً ﴾ لأعمال المؤمنين بالإثابة يقبل اليسير ويعطي الجزيل ﴿ عليماً ﴾ بخلقه.
﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء ﴾ أي : القبيح ﴿ من القول ﴾ من أحد أي : يعاقب عليه ﴿ إلا من ﴾ أي : جهر من ﴿ ظلم ﴾ وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما هو فيه من السوء فلا يؤاخذ به قال الله تعالى :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ ( الشورى، ٤١ ).
قال الحسن البصري : دعاؤه عليه أن يقول : اللهمّ أعني عليه اللهمّ استخرج حقي منه، وقيل : إن شئتم أجاز له أن يشتم بمثله لا يزيد عليه، وقال مجاهد : هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به.
روي أنّ رجلاً أضاف قوماً أي : نزل بهم ضيفاً فلم يطعموه فأصبح شاكياً فعوتب على الشكاية فنزلت، وعن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى ؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ) ﴿ وكان الله سميعاً ﴾ لكل ما يقال ومنه دعاء المظلوم ﴿ عليماً ﴾ بكل ما يفعل ومنه فعل الظالم.
﴿ إن تبدوا ﴾ أي : تظهروا ﴿ خيراً ﴾ من أعمال البرّ ﴿ أو تخفوه ﴾ أي : تعملوه سراً ﴿ أو تعفوا عن سوء ﴾ أي : عن مظلمة ﴿ فإن الله كان ﴾ أي : دائماً أزلاً وأبداً ﴿ عفوّاً قديراً ﴾ أي : يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك وهو حث للمظلوم على تمهيد العفو بعدما رخص له في الانتصار حملاً على مكارم الأخلاق.
وقوله تعالى :
﴿ إنّ الذين يكفرون بالله ورسله ﴾ نزل في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ﴿ ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ﴾ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله ﴿ ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ﴾ أي : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم ﴿ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ﴾ أي : طريقاً وسطاً بين اليهودية والإسلام، ولا واسطة إذ الحق لا يختلف، فإنّ الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً وإجمالاً، والكفر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال قال تعالى :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ ( يونس، ٣٢ ).
﴿ أولئك هم الكافرون ﴾ أي : الكاملون في الكفر وقوله تعالى :﴿ حقاً ﴾ مصدر مؤكداً لمضمون الجملة قبله ﴿ وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ﴾ أي : ذا إهانة وهو عذاب النار.
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعده للكافرين بين ما أعده للمؤمنين بقوله تعالى :
﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ﴾ كلهم ﴿ ولم يفرّقوا بين أحد منهم ﴾ بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض كما فعل الأشقياء منهم وإنما أدخل بين على أحد وهو يقتضي متعدّداً لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي ﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة في رتب السعادة ﴿ سوف نؤتيهم ﴾ بوعد لا خلف فيه وإن تأخر ﴿ أجورهم ﴾ الموعودة لهم بإيمانهم بالله وكتبه ورسله، وقرأ حفص بالياء على الغيبة، والباقون بالنون ﴿ وكان الله غفوراً ﴾ لما يريد من الزلات ﴿ رحيماً ﴾ أي : لمن يريد إسعاده بالجنات.
ونزل لما قال أحبار اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى.
﴿ يسألك ﴾ يا محمد ﴿ أهل الكتاب ﴾ أي : أحبار اليهود ﴿ أن تنزل عليهم كتاباً من السماء ﴾ جملة كما أنزل على موسى وقيل : كتاباً محرزاً أي : مجلداً مصوناً بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة، وقيل : كتاباً نعاينه حين ينزل أو كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسول الله قالوا ذلك تعنتاً، قال الحسن : لو سألوا لكي يتبينوا الحق لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية. وقوله تعالى :﴿ فقد سألوا ﴾ أي : آباؤهم ﴿ موسى ﴾ جواب شرط مقدّر معناه : إنك إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى ﴿ أكبر ﴾ أي : أعظم ﴿ من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ أي : عياناً وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه الصلاة والسلام وهم النقباء السبعون ؛ لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ أي : عقب هذا السؤال، وهي نار جاءت من السماء فأهلكتهم ﴿ بظلمهم ﴾ أي : بسببه وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقاً ﴿ ثم ﴾ بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة ﴿ اتخذوا العجل ﴾ أي : تكلفوا أخذه وجعلوه إلهاً ﴿ من بعدما جاءتهم البينات ﴾ المعجزات على وحدانية الله تعالى، وليس المراد التوراة ؛ لأنها لم تأتهم فيما مضى بل أتتهم بعد ﴿ فعفونا عن ذلك ﴾ أي : الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصالهم ﴿ وآتينا موسى سلطاناً ﴾ تسليطاً واستيلاءً ﴿ مبيناً ﴾ أي : ظاهراً، فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل فبادروا إلى الامتثال.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور ﴾ أي : الجبل العظيم ﴿ بميثاقهم ﴾ أي : بسبب أخذ الميثاق عليهم ليخافوا فيقبلوه ﴿ وقلنا لهم ﴾ على لسان موسى صلى الله عليه وسلم والطور مظلل عليهم ﴿ ادخلوا الباب ﴾ أي : الذي لبيت المقدس ﴿ سجداً ﴾ أي : سجود انحناء ﴿ وقلنا لهم ﴾ أي : على لسان داود ﴿ لا تعدوا ﴾ أي : لا تتجاوزوا ما حددناه لكم ﴿ في السبت ﴾ أي : لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً ؛ لأنّ العامل للشيء يكون لشدّة إقباله عليه كأنه يعدو، ويحتمل أن يكون ذلك على لسان موسى حين ظلل عليهم الجبل، فإنه شرع السبت أي : ترك العمل فيه ولكن كان الاعتداء في السبت، والمسخ به في زمن داود. وقرأ ورش بفتح العين مع تشديد الدال وقرأ قالون باختلاس حركة العين مع تشديد الدال، والباقون بسكون العين وتخفيف الدال، ﴿ وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ﴾ على ذلك وهو قولهم سمعناه وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يقيموا عليه.
نقضوه بعد، كما قال تعالى :
﴿ فيما نقضهم ﴾ أي : فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي : لعناهم بسبب نقضهم ﴿ ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ﴾ أي : القرآن أو بما في كتابهم ﴿ وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ فإنهم معصومون من كل نقيصة ومبرؤون من كل ريبة لا يتوجه عليهم حق ﴿ وقولهم قلوبنا غلف ﴾ أي : أوعية للعلوم أو في أكنة مما تدعونا إليه فلا نعي كلامك ﴿ بل طبع الله ﴾ أي : ختم ﴿ عليها بكفرهم ﴾ فلا تعي وعظاً ﴿ فلا يؤمنون إلا قليلاً ﴾ منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه أو إيماناً قليلاً لا عبرة به بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض.
وقوله تعالى :
﴿ وبكفرهم ﴾ معطوف على ( فبما نقضهم ) ويجوز عطفه على ( بكفرهم ) وقد تكرر منهم الكفر ؛ لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه ﴿ وقولهم على مريم ﴾ أي : بعدما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات ﴿ بهتاناً عظيماً ﴾ وهو نسبتها إلى الزنا.
فإن قيل : كان مقتضى الظاهر أن يقول : في مريم. أجيب : بأنه ضمن القول معنى الافتراء وهو يتعدّى بعلى.
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ﴾ أي : بمجموع ذلك عذبناهم.
فإن قيل : كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر بن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فكيف قالوا : إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ؟ أجيب : بأنهم قالوه بزعم عيسى عندهم أو إنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون :﴿ إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ﴾ ( الشعراء، ٢٧ ).
قال الزمخشري : ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه الصلاة والسلام عما كانوا يذكرونه به اه.
قال الله تعالى تكذيباً لهم في قتله ﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾ أي : المقتول والمصلوب.
روى النسائي عن ابن عباس :( أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى الله عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب ). وقيل : كان رجلاً ينافق عيسى أي : يظهر له الإسلام ويخفي الكفر فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه فدخل في بيت عيسى فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام، وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى.
وقيل : إنهم حبسوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بيت وجعلوا عليه رقيباً فألقى الله شبه عيسى على الرقيب فقتلوه، ﴿ وإنّ الذين اختلفوا فيه ﴾ أي : في شأن عيسى، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود : إنه كان كاذباً فقتلناه حقاً، وتردد آخرون، وقال بعضهم : إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا ؟ وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وكان الله ألقى شبه وجه عيسى عليه ولم يلق على جسده، وقال : من سمع من عيسى إنّ الله يرفعني إلى السماء إنه رفعه إلى السماء : وقال قوم : صلب الناسوت أي : الإنسانية وصعد اللاهوت أي : الألوهية ﴿ لفي شك منه ﴾ أي : من قتله ﴿ ما لهم به ﴾ أي : بقتله ﴿ من علم ﴾ وقوله تعالى :﴿ إلا إتباع الظن ﴾ استثناء منقطع أي : لكن يتبعون فيه الظنّ الذي تخيلوه.
فإن قيل : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟ أجيب : بأنّ الشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردّد وعلى ما يقابل العلم فيشمل الاعتقاد ﴿ وما قتلوه ﴾ أي : انتفى قتلهم له انتفاء ﴿ يقيناً ﴾ أي : انتفاؤه على سبيل القطع ويجوز أن يكون حالاً من واو قتلوه أي : ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام بل فعلوه شاكين، فيه والحق إنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى عليه شبهه.
م*
قال البقاعي : والوجه الأوّل أولى لقوله تعالى :
﴿ بل رفعه الله إليه ﴾ أي : إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي،
م١٥٧
وعن وهب : إنه أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، فكانت رسالته ثلاث سنين ﴿ وكان الله عزيزاً ﴾ أي : في ملكه لا يغلب عما يريد ﴿ حكيماً ﴾ في صنعه لا يطمع أحد في نقص شيء منه.
﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ أي : وما من أهل الكتاب أحد ﴿ إلا ليؤمنن به ﴾ أي : بعيسى عليه الصلاة والسلام هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم ﴿ قبل موته ﴾ اختلف في عود هذا الضمير، فقال عكرمة ومجاهد والضحاك : يعود للكتابي أي : إنّ الكتابي يؤمن بعيسى حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة، فقيل لابن عباس : أرأيت من خرّ من فوق بيت ؟ فقال : يتكلم به في الهوي، فقيل : أرأيت إن ضرب عنق أحدهم ؟ قال : يتلجلج بها لسانه، وذهب قوم إلى عود الضمير إلى عيسى أي : وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ).
قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم ﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ الآية ثم أعادها أبو هريرة ثلاث مرّات ولا يعارض هذا ما في مسلم في قصة الدجال إنّ الله يبعث عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ؛ لأنّ قوله : ثم يلبث الناس بعده أي : بعد موته فلا معارضة، أو لأنّ السبع محمول على مدّة إقامته بعد نزوله ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور.
وروى عكرمة : إن الهاء في قوله تعالى :﴿ ليؤمنن به ﴾ كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول : لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الهاء راجعة إلى الله عز وجل يقول : وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه ﴿ ويوم القيامة يكون ﴾ أي : عيسى على القول الأوّل ﴿ عليهم شهيداً ﴾ إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبراً عنه :﴿ وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ﴾ ( المائدة، ١١٧ ). وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ ( النساء، ٤١ ).
﴿ فيظلم من الذين هادوا ﴾ وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم، وقولهم :﴿ إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم ﴾ ( النساء، ١٥٧ ).
﴿ حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ أي : كان وقع إحلالها لهم في التوراة، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ﴾ ( الأنعام، ١٤٦ ).
الآية ﴿ وبصدّهم ﴾ أي : الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : دينه، وقوله تعالى :﴿ كثيراً ﴾ صفة مصدر محذوف أي : صدّاً كثيراً بالإضلال عن الطريق، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
﴿ وأخذهم الربا وقد ﴾ أي : والحال إنهم قد ﴿ نهوا عنه ﴾ في التوراة، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا ؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه، وفي الآية دليل على أنّ النهي للتحريم ﴿ وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾ أي : من الرشا في الحكم والمآكل أي : التي كانوا يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالاً لهم قال تعالى :﴿ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ﴾ ( الأنعام، ١٤٦ ).
﴿ وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً ﴾ أي : مؤلماً دون من تاب وآمن.
ولما بين سبحانه وتعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب بين ما لنيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال :
﴿ لكن الراسخون ﴾ أي : الثابتون المتمكنون ﴿ في العلم منهم ﴾ أي : من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ والمؤمنون ﴾ أي : من المهاجرين والأنصار ﴿ يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ أي : القرآن ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ أي : من سائر الكتب المنزلة وقوله تعالى :﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ نصب على المدح ؛ لأنّ الصلاة لما كانت أعظم دعائم الدين ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها.
وحكي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأبان بن عثمان أنّ ذلك غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ﴾ وقوله تعالى :﴿ إنّ هذان لساحران ﴾ ( طه، ٦٣ ).
قالا : ذلك خطأ من الكاتب، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له : ألا تغيره فقال : دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وعامّة الصحابة وأهل العلم على إنه صحيح كما قدّمناه، وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة، وقوله تعالى :﴿ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ رجوع إلى النسق الأوّل ﴿ أولئك سنؤتيهم ﴾ بوعد لا خلف فيه على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح ﴿ أجراً عظيماً ﴾ وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.
وقوله تعالى :
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا، وبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين ﴾ ( الصافات، ٧٧ ) ؛ ولأنه أوّل نبيّ من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأوّل من عذبت أمته لردهم دعوته، وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أطول الأنبياء عمراً، وجعلت معجزته في نفسه ؛ لأنه عمر ألف سنة فلم ينقص له سن ولم يشب له شعرة ولم تنقص له قوّة ولم يصبر أحد على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره ﴿ و ﴾ كما ﴿ أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ﴾ بني إبراهيم ﴿ ويعقوب ﴾ بن إسحق ﴿ والأسباط ﴾ أولاد يعقوب وظاهر هذا أنهم كلهم أنبياء وهو أحد قوليه، والقول الآخر : أن يوسف هو النبي فقط وعلى هذا فالمراد المجموع ﴿ وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا ﴾ أباه ﴿ داود زبوراً ﴾ قرأ حمزة بضم الزاي مصدر بمعنى مزبوراً أي : مكتوباً، والباقون بالنصب على إنه اسم للكتاب المؤتى، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجلّ.
كان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل، فيقومون خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، ويقوم الجن خلف الناس الأعظم فالأعظم، والشياطين خلف الجن، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجباً لما يسمعن منه، والطير ترفرف على رؤوسهم، فلما قارف الذنب لم ير ذلك فقيل له : ذاك أنس الطاعة وهذا وحشة المعصية، قال السيوطي في شرح التنبيه : إنّ الزبور مئة وخمسون سورة ما بين قصار وطوال، والطويلة منها قدر ربع حزب، والقصيرة قدر سورة النصر اه.
وعن أبي موسى قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو رأيتني البارحة وأنا أسمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير داود ). وكان عمر إذا رآه قال : ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده، وإنما خص هؤلاء بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيماً لهم.
وقوله تعالى :﴿ ورسلاً ﴾ أي : غير هؤلاء نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك مثل أرسلنا ﴿ قد قصصناهم ﴾ أي : تلونا ذكرهم ﴿ عليك من قبل ﴾ أي : قبل إنزال هذه السورة أو هذه الآية ﴿ ورسلاً لم نقصصهم عليك ﴾ أي : إلى الآن.
روي أنه سبحانه وتعالى بعث ثمانية آلاف نبيّ : أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس، قاله الجلال المحلي في سورة غافر، وقوله تعالى :﴿ وكلم الله موسى تكليماً ﴾ هو منتهى مراتب الوحي أي : كلمه على التدريج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح بغير واسطة ملك، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة وخص به موسى من بين سائر الأنبياء غير نبينا، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد فضله الله بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم.
وقوله تعالى :
﴿ رسلاً ﴾ بدل من رسلاً قبله ﴿ مبشرين ﴾ أي : بالثواب من آمن ﴿ ومنذرين ﴾ أي : مخوّفين بالعذاب من كفر وقوله تعالى :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة ﴾ متعلق بأرسلنا أو بمبشرين ومنذرين أي : حجة فقال :﴿ بعد ﴾ إرسال ﴿ الرسل ﴾ فيقولوا : ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين، فبعثناهم لقطع عذرهم.
فإن قيل : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها يوصل إلى المعرفة ؟ أجيب : بأنّ الرسل ينبهون عن الغفلة وباعثون على النظر في الأدلة فإرسالهم ضروري ﴿ وكان الله عزيزاً ﴾ في ملكه لا يغلب فيما يريده ﴿ حكيماً ﴾ في صنعه.
روي أن سعد بن عبادة قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحبّ إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد بالجنة ).
قال ابن عباس : إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنهم لا يعرفونك، ودخل عليهم جماعة من اليهود فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم :( والله إنكم لتعلمون أني رسول الله ) فقالوا : والله ما نعلم ذلك أنزل الله عز وجل :
﴿ لكن الله يشهد ﴾ أي : يبيّن نبوّتك ﴿ بما أنزل إليك ﴾ أي : من القرآن المعجز الدال على نبوّتك إن جحدوك وكذبوك ﴿ أنزله ﴾ متلبساً ﴿ بعلمه ﴾ الخاص به وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ.
وروي أنه لما نزل ﴿ إنا أوحينا إليك ﴾ قالوا : ما نشهد لك فنزلت ﴿ والملائكة يشهدون ﴾ لك أيضاً ﴿ وكفى بالله شهيداً ﴾ على ذلك بما قام من الحجج على صحة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره.
﴿ إنّ الذين كفروا وصدوا ﴾ الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : دين الإسلام بكتمهم دين محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود ﴿ قد ضلوا ضلالاً بعيداً ﴾ عن الحق ؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأنّ المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.
﴿ إنّ الذين كفروا ﴾ بالله ﴿ وظلموا ﴾ نبيه بكتمان نعته ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ لكفرهم وظلمهم ﴿ ولا ليهديهم طريقاً ﴾ من الطرق.
﴿ إلا طريق جهنم ﴾ أي : الطريق المؤدي إليها ﴿ خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿ فيها ﴾ إذا دخلوها وأكد ذلك بقوله :﴿ أبداً ﴾ لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به ﴿ وكان ذلك على الله يسيراً ﴾ أي : هيّناً لا يصعب عليه ولا يستعظمه.
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بالحق من ربكم ﴾ لما قرّر من أمر النبوّة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد ﴿ فآمنوا ﴾ بالله وقوله تعالى :﴿ خيراً لكم ﴾ وكذلك قوله تعالى فيما يأتي ﴿ انتهوا خيراً لكم ﴾ ( النساء، ١٧١ ).
منصوب بمضمر وذلك إنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال خيراً لكم أي : اقصدوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث، وهو الإيمان والتوحيد، وقيل : تقديره يكن الإيمان خيراً لكم. قال البيضاوي : ومنعه البصريون ؛ لأنّ كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بدّ منه، ولأنه يؤدي إلى حذف الشرط وجوابه اه.
﴿ وإن تكفروا ﴾ بالله ﴿ فإنّ ما في السماوات والأرض ﴾ ملكاً وخلقاً، فهو غني عنكم فلا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم، ونبّه على غناه بقوله تعالى :﴿ ما في السماوات والأرض ﴾ وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه ﴿ وكان الله عليماً ﴾ بأحوالكم ﴿ حكيماً ﴾ أي : فيما دبره لهم.
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا ﴾ أي : تجاوزوا الحد ﴿ في دينكم ﴾ الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى حتى رموه بالزنا، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً، وقيل : للنصارى خاصة، والمراد بالكتاب الإنجيل، فإنه أوفق لقوله تعالى :﴿ ولا تقولوا على الله إلا ﴾ القول ﴿ الحق ﴾ أي : من تنزيهه عن الشريك والولد ﴿ إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها ﴾ أي : أوصلها ﴿ إلى مريم ﴾ وجعلها فيها ﴿ وروح ﴾ أي : ذو روح ﴿ منه ﴾ لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادّة له، وسمى عيسى كلمة الله وكلمة منه ؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة، وقيل له : روح الله وروح منه ؛ لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته بأن أمر جبريل، فنفخ في جيب درعها، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفاً له، وليس كما زعمتم أنه ابن الله، أو إله معه، أو ثالث ثلاثة ؛ لأنّ الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) ﴿ فآمنوا بالله ورسله ﴾ أي : عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض ﴿ ولا تقولوا ﴾ كما قالت النصارى : الآلهة ﴿ ثلاثة ﴾ الله وعيسى وأمه، قال تعالى :﴿ انتهوا ﴾ عن ذلك وائتوا ﴿ خيراً لكم ﴾ من ذلك وهو التوحيد ﴿ إنما الله إله واحد ﴾ أي : لا تعدّد فيه بوجه مّا ﴿ سبحانه ﴾ تنزيهاً له ﴿ أن ﴾ أي : عن أن ﴿ يكون له ولد ﴾ أي : كما قلتم أيها النصارى، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة، ثم علل ذلك بقوله :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقاً وملكاً، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما، ولا إلى شيء متحيّز فيهما، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءاً منه وولداً له ؛ لأنّ الملكية تنافي البنوة، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود ﴿ وكفى با وكيلاً ﴾ أي : يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء، فهو غني عن الولد، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه.
روي أنّ وفد نجران قالوا : يا رسول الله لم تعيب صاحبنا ؟ قال :( «ومن صاحبكم ؟ » قالوا : عيسى قال :«وأيّ شيء أقول ؟ » قالوا : تقول إنه عبد الله قال :«إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله » قالوا : بلى، فنزل قوله تعالى :
﴿ لن يستنكف ﴾ ) أي : يتكبر ويأنف ﴿ المسيح ﴾ أي : الذي زعمتم إنه إله ﴿ أن ﴾ أي : عن أن ﴿ يكون عبد الله ﴾ فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى :﴿ ولا الملائكة المقرّبون ﴾ أي : عند الله عطف على المسيح أي : ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلاً بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه.
قال الطيبي : وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي، قال : لأن الملائكة أعجب خلقاً من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً أو في القوّة ؛ لأنهم أقوى من عيسى ؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة ﴿ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ﴾ أي : يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب : الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه ﴿ فسيحشرهم ﴾ أي : المستكبرين وغيرهم ﴿ إليه جميعاً ﴾ في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم.
﴿ فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ تصديقاً لإقرارهم بالإيمان ﴿ فيوفيهم أجورهم ﴾ أي : ثواب أعمالهم ﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ أي : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿ وأما الذين استنكفوا واستكبروا ﴾ عن عبادته ﴿ فيعذبهم عذاباً أليماً ﴾ أي : مؤلماً هو عذاب النار بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر ﴿ ولا يجدون لهم ﴾ أي : حالاً ولا مآلاً ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ ولياً ﴾ يدفعه عنهم ﴿ ولا نصيراً ﴾ يمنعهم منه.
﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : كافة أهل الكتاب وغيرهم ﴿ قد جاءكم برهان من ربكم ﴾ أي : حجة نيرة واضحة مفيدة لليقين التام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها ﴿ وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ﴾ أي : واضحاً في نفسه موضحاً لغيره وهو القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه، فلم يبق لكم عذر ولا علة، وقيل : المراد بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن.
﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ في رحمة منه ﴾ أي : ثواب عظيم هو رحمته لهم لا بشيء استوجبوه ﴿ وفضل ﴾ أي : إحسان زائد عليه ﴿ ويهديهم ﴾ أي : في الدنيا والآخرة ﴿ إليه صراطاً مستقيماً ﴾ أي : طريقاً مستقيماً وهو الإسلام والطاعة في الدنيا والجنة في الآخرة.
﴿ يستفتونك ﴾ أي : في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه.
روي أن جابر بن عبد الله قال :( عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت وقلت : يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة ) فنزل :﴿ يستفتونك ﴾ ﴿ قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ وقد تقدّم معنى الكلالة وحكم الآية في أوّل السورة وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم أو للأب، وقوله تعالى :﴿ إنّ امرؤ ﴾ هو مرفوع بفعل يفسره ﴿ هلك ﴾ أي : مات ﴿ ليس له ولد ﴾ أي : ولا والد وهو الكلالة، قال الأصبهاني عن الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الكلالة فقال أبو بكر : هو ما عدا الوالد، وقال عمر : ما عدا الوالد والولد ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وقوله تعالى :﴿ وله أخت ﴾ يحتمل الحال والعطف والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة والذي لأم لا يكون عصبة والولد يشمل الذكر والأنثى فإنّ الأخت وإن ورثت مع البنت قد لا ترث النصف وذلك عند تعدد البنت ﴿ فلها نصف ما ترك وهو ﴾ أي : هذا الأخ للميت ﴿ يرثها ﴾ أي : إن ماتت هي وبقي هو جميع مالها ﴿ إن لم يكن لها ولد ﴾ فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ولو كانت الأخت أو الأخ من الأم ففرضه السدس كما مرّ أوّل السورة ﴿ فإن كانتا ﴾ أي : الأختان ﴿ اثنتين ﴾ أي : فصاعداً لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات ﴿ فلهما الثلثان مما ترك ﴾ أي : الأخ ﴿ وإن كانوا ﴾ أي : الورثة ﴿ إخوة رجالاً ونساءً فللذكر ﴾ منهم ﴿ مثل حظ الأنثيين يبيّن الله لكم ﴾ أي : ولم يكلكم في بيانه إلى بيان غيره، وقال مرغباً مرهباً ﴿ أن ﴾ أي : كراهة أن ﴿ تضلوا ﴾ وقيل : لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين، وقيل : يبيّن الله لكم ضلالكم أي : الذي من شأنكم أي : إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات ومنه الميراث.
روي عن البراء رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت قال السيوطي أي : من الفرائض خاتمة سورة النساء يستفتونك الآية.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن آخر آية نزلت آية الربا، وآخر سورة نزلت :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ ( النصر، ١ ).
وروي عنه آن آخر آية نزلت قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ ( البقرة ٢٨١ ).
وروي بعدما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها عاما، فنزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ثم نزل في طريق حجة الوداع ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ فسميت آية الصيف ثم نزل هو واقف بعرفة :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إحدى وثمانين يوما، ثم نزلت آية الربا، ثم نزلت :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ ( البقرة، ٢٨١ ) فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما، وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم :( من قرأ سورة فكأنما تصدق على كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ورث ميراثا، وأعطي من الأجر كمن اشترى محررا أي : رقيقا وحرره، وبرئ من الشرك، وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم )، حديث موضوع.
Icon