تفسير سورة ق

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة ق من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة ق
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك وفي التحرير عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض ﴾ الآية فهي مدنية نزلت في اليهود وآيها خمس وأربعون بالأجماع ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة وفي رواية ابن ماجة وغيره عن قبطة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت : ما أخذت ﴿ ق والقرآن المجيد ﴾ إلا من في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا تعلموا ق والقرآن المجيد وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور.

سورة ق
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك، وفي التحرير عن ابن عباس. وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [ق: ٣٨] الآية فهي مدنية نزلت في اليهود، وآيها خمس وأربعون بالإجماع. ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم. وغيره عن جابر ابن سمرة، وفي رواية ابن ماجه. وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت،
وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت: «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: ١] الا من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس»
وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد»
وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور.
321
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: ٥٦] وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها، وقال الراغب: المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله، فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: ١] يجري هاهنا حتى أنه قيل: يجوز أن يكون ق أمرا من مفاعلة قفا أثره أي تبعه، والمعنى اتبع القرآن واعمل بما فيه، ولم يسمع مأثورا، ومثله ما قيل: إنه أمر بمعنى قف أي قف عند ما شرع لك ولا تجاوزه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ومن وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال: وذلك قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: ٢٧] وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات. وأبو الشيخ عنه أيضا أنه قال: خلق الله تعالى جبلا يقال له قاف محيطا بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة. والحاكم. وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية: قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضا قال: هو جبل محيط بالأرض، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال: ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه. وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال: «يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ان وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف إلى آخر ما تقدم، ثم قال: وكما يندفع بذلك قوله: لا وجود له يندفع قوله: ولا يجوز اعتقاد إلخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الامارة فهذه عليه أدلة أو الامارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان، وأمر الزلزلة لا يتوقف على
322
ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف والله تعالى أعلم.
واختلف في جواب القسم فقيل: محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل: والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذرا بالبعث ونحو ما قيل: هو إنك لمنذر وقيل: ما ردوا أمرك بحجة.
وقال الأخفش والمبرد والزجاج: تقديره لتبعثن، وقيل: هو مذكور، فعن الأخفش قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: ٤] وحذفت اللام لطول الكلام، وعنه أيضا. وعن ابن كيسان ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق: ١٨] وقيل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى [ق: ٣٧] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي، وقيل: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وما ذكر أولا هو المعول عليه، وبَلْ للإضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول، وقيل: التقدير إنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل: ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم، ونبه بقوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه.
قال في الكشف: وهو وجه حسن، وأَنْ جاءَهُمْ بتقدير لأن جاءهم، ومعنى مِنْهُمْ من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب، وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار، وقيل: عائد على الناس وليس بذاك.
وقوله تعالى: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب، وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم، وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضا، على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية، ودل عليه السياق أيضا لأنه دل على أن ثم منذرا به، ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه.
ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز وجل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا، وقوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار أو بيان لموضع تعجبهم، والعامل في إِذا مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ، وقوله سبحانه: ذلِكَ إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع رَجْعٌ بَعِيدٌ أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان، وقيل: الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها، والإشارة عليه إلى أَإِذا مِتْنا إلخ، والجملة من كلام الله تعالى، والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم، وناصب إِذا حينئذ ما ينبىء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا ترابا بعثنا، وقد يقال: إنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جوابا له فهو دليل أيضا على المقدر، فالقول بأنه إذا كان
323
الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب إِذا مندفع. نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان: إنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثاب والأعمش وابن عتبة عن ابن عامر «إذا» بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبرا، قال في البحر: وأضمر جواب إِذا أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا، وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقا إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة.
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد، وقيل: ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم، ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس. وقتادة، وقوله تعالى:
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير، والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه.
هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم وفي البعث لذلك بناء على أن أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط، وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والعوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملا عليه ويكون مرجحا للحكم المذكور ويندفع التحكم.
وحاصل الرد أن الله تعالى عليم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكمله. فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فلا يلزم التحكم، ويكون ذلك نظير انحفاظ وحدة الصورة الخيالية فينا بعد غيبة المحسوس عن الحس كما إذا رأينا شخصا فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانيا فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقا وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعا ولا ينكره إلا مكابر، وقال بعض الأشاعرة: إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد وهو الله تعالى، وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى، وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه.
وأيضا لا يتم عند القائلين بعدم رؤية الله سبحانه المعدومات مطلقا إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزا ذاتيا حال العدم فلا ترد عليهم الشبهة السابقة، وقد يقال: إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقا خاصا بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الامتياز ويندفع التحكم، ويقال على مذهب الحكماء: إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية
324
والسافلة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفا وربما يدعي الإسلامي المتفلسف في قوله تعالى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ رمزا إلى ذلك، وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام، ثم إن البعث لا يتوقف على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية، ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه: «أئذا متنا وكنا ترابا» إشارة إلى ذلك،
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة»
وليس نصا في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبقى على العظيمة وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب، ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وآخر ما يخلق بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا، وكون التكذيب المذكور أفظع قيل: من حيث إن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضا وهو البعث وغيره، وقيل: لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث، وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء، على أن من الجائز أن يكونوا قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة والسلام خاصة، وقيل: المراد بالحق الإخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم، وقيل: المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وجعل كبدل البداء من الإضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجيء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وإن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل. وقرأ الجحدري لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك: كتبه لخمس خلون مثلا، و (ما) مصدرية أي بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال، والإسناد مجازي كما فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه، وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبىء عنه قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وأنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة والسلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك أَفَلَمْ يَنْظُرُوا أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كل وقت، قيل: وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف. وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام: إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلا، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدا لمن وصل إليه، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها
325
ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائه ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون، بل قيل: إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره.
وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذ يؤولونها، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء، وأنا أقول: لا بأس بتأويل ظاهر تأويلا قريبا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية، وأرى الإنصاف من الدين، ورد القول احتقارا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين، هذا وحمل بعض السَّماءِ هاهنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا كَيْفَ بَنَيْناها أحكمناها ورفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من فتوق وشقوق، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابا. وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل.
وقيل هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء وفي موضع آخر أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الأعراف: ١٨٥] بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه، وجيء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادا لاستبعادهم فكأنه قيل:
النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام، واحتج بقوله سبحانه ما لَها مِنْ فُرُوجٍ للفلاسفة على امتناع الخرق، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه، على أنك قد سمعت المراد بذلك، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقيا لشيوعه وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى:
رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: ١٥، لقمان: ١٠] وهو ظاهر في عدم حركة الأرض، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن يبهج ويسر من نظر إليه تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها، وتَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال السابقة معنى وان انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا، وقال أبو حيان: منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى.
وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكرى» بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى، وقوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج، وهو عطف على أَنْبَتْنا وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجارا ذات ثمار وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، فالإضافة لما بينهما من الملابسة، والْحَصِيدِ بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات وَالنَّخْلَ عطف على جَنَّاتٍ وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجميع، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في
326
الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل، ونصبه على أنه حال مقدرة.
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «باصقات»
بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أوقاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسِقاتٍ على التداخل، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور وطَلْعٌ مرتفع به على الفاعلية، وقوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي ليرزقهم علة لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أَنْبَتْنا الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق، وجوز أن يكون رِزْقاً مصدرا من معنى أَنْبَتْنا لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسا، وأن يكون حالا بمعنى مرزوقا وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت أو أنبتت وتذكير مَيْتاً لأن البلدة بمعنى البلد والمكان، وقرأ أبو جعفر. وخالد «ميّتا» بالتثقيل كَذلِكَ الْخُرُوجُ جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء الْخُرُوجُ خبر، ونقل عن الزمخشري أنه قال: كَذلِكَ الخبر وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال: ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف واقع موقع مثل في قولك: مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف.
وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها، وفي ذلك أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهديد للكفرة، وَأَصْحابُ الرَّسِّ هو البئر التي لم تبن، وقيل: هو واد وأصحابه قيل: هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وقيل: قوم حنظلة ابن صفوان وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده، وهذا كما تسمى القبيلة تميما مثلا باسم أبيها وَإِخْوانُ لُوطٍ قيل: كانوا من أصهاره عليه السلام. فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل: هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغبطة فسموا بها وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري وكان مؤمنا وقومه كفرة ولذا لم يذم وهو ذم قومه، وقد سبق في الحجر. والدخان. والفرقان تمام الكلام فيما يتعلق بما في هذه الآية.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل، والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ٢٣] وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم، ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى
327
تكذيب وقومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبع.
فَحَقَّ وَعِيدِ أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة، والعي بالأمر العجز عنه لا التعب، قال الكسائي:
تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر، وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل: أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا من الإعادة، وجوز الإمام أن يكون المراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:
٣٣] ويؤيده قوله تعالى بعد: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وهو كما ترى، وعن الحسن «الخلق الأول» آدم عليه السلام وليس بالحسن، وقرأ ابن أبي عبلة. والوليد بن مسلم. والقورصي عن أبي جعفر والسمسار عن شيبة وأبو بحر عن نافع «أفعيّنا» بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال: عي في عي وحي في حي فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الإدغام فقال: عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت «نا» ضمير نصب فالعرب جميعهم على الإدغام نحو ردنا زيد بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لإنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيها على مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه: جَدِيدٍ وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ، والتعظيم ليس راجعا إلى الخلق من حيث هو.
هو- حتى يقال: إنه أهون من الخلق الأول بل إلى ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو- هو- وقال بعض المحققين: نكر لأنه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما، وجوز أن يكون التنكير للإبهام إشارة إلى أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس، وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الإعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبقى زمانين، ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني على القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي، وضمير بِهِ لما وهي موصولة والباء صلة تُوَسْوِسُ وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك، ويجوز أن تكون ما مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال، وحَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في فرط القرب كقولهم: مقعد القابلة ومعقد الإزار قال ذو الرمة على ما في الكشاف:
328
والموت أدنى لي من حبل الوريد والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الأراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء، والْوَرِيدِ عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا وفي الخنصر الأسلم.
والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقا يقال له وريد. ففي الكشاف الوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل، وقيل: هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب: الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح، وقال في الآية: أي نحن أقرب إليه من روحه، وحكي ذلك عن بعضهم أيضا إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة، وإِذْ قيل: ظرف. لا قرب. وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملا في غيرها فاعلا أو مفعولا به أي هو سبحانه أعلم بحال الإنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه عز وجل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الاشهاد، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله تعالى بعمله من زيادة لطف في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات، وجوز أن تكون إِذْ لتعليل القرب، وفيه أن تعليل قربه عز وجل العلمي باطلاع الحفظة الكتبة بعيد، واختار بعضهم كونها مفعولا به لأذكر مقدرا لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف والكلام مسوق لتقرير قدرته عز وجل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومنه قوله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطويّ رماني
وقال المبرد: إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه، والقعيد عليهما فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم، وذهب الفراء إلى أن قعيدا يدل على الاثنين والجمع، وقد أريد منه هنا الاثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير. واعترض بأن فعيلا يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول، واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل: هما على الناجذين،
فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعا «إن الله لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما»
وقيل: على العاتقين، وقيل: على طرفي الحنك عند العنفقة وفي البحر أنهم اختلفوا في ذلك ولا يصح فيه شيء، وأنا أقول أيضا لم يصح عندي أكثر مما أخبر الله تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان، وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر أن الكتب حقيقي:
علم ذلك مفوض إلى الله عز وجل، وأقول الظاهر إنهما في سائر أحوال الإنسان عن يمينه وعن شماله.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن عباس أنه قال: إن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فاحدهما أمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه خيرا كان أو شرا، وقرأ محمد بن أبي معدان «ما يلفظ» بفتح الفاء إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان
329
خيرا فهو صاحب اليمين وإن كان شرا فهو صاحب الشمال عَتِيدٌ معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك. وجماعة:
يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض، وفي شرح الجوهرة للقاني مما يجب اعتقاده أن لله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولا كانت أو عملا أو اعتقادا هما كانت أو عزما أو تقريرا اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئا فعلوه قصدا وتعمدا أو ذهولا ونسيانا صدر منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى. وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب، أخرج البيهقي في الشعب عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وإن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكما من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء، وقال بعضهم: يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محي منها المباحات وكتب ثانيا ماله ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: ٣٩] وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجها للجمع بين القولين القول بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحوه عن ابن عباس. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به. ما أخرجه ابن أبي شيبة. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلا كان على حمار فعثر به فقال: تعست فقال صاحب اليمين: ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فاكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال،
وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه. والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعا، وفيه «فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئا وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة»
ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر، وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضا ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ما له الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة.
وفي شرح الجوهرة الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام، قال اللقاني بعد نقله: ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكي عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: ٤] الحفظة على الملائكة، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل.
وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في
330
الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمنا.
أخرج أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكّلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان: أنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا.
وقال الحسن: الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه.
وقال بعضهم: إن ملك الحسنات يتبدل تنويها بشأن الطائع وملك السيئات لا يتبدل سترا على العاصي في الجملة، والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا: يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين، وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب،
أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في الإخلاص. وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة بن حبيب قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال: ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين»

وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول: يا رب انه لم يعمله فيقول: سبحانه وتعالى إنه نواه، وقد يقال: إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المئوية
جمعا بين الأخبار، وجاء أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات.
أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي»
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»
وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين، ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين، فعن عثمان أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كم ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا قاله المهدوي في الفيصل، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى:
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: ١١] غير الكاتبين بلا خلاف، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك، والله تعالى أعلم بصحة ذلك.
وروى ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال: وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلا ولا نهارا، وقوله تعالى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين
331
دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لا قوه فخذوا حذركم، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع، وسَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهما يصيب العقل بما يصيب، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا، وليس بذاك، والباء إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، وقيل: حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وقيل:
بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له، وإما للملابسة كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر، وقيل: بالحكمة والغاية الجميلة، وقرىء «سكرة الحق بالموت» والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن (الحق) من أسمائه عز وجل، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم. وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا، ويوافق ذلك ما
أخرج البخاري. والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات»
وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت»
ذلِكَ أي الحق ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتعدل، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقا والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة، وإنما جيء بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ إلخ يناسب خطاب هؤلاء، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى.
وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق: ٣١] الآيات، وقال بعض الأجلة: الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا.
وقال الطيبي: إن كان قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ متصلا بقوله سبحانه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: ٩] فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر، وإن كان متصلا بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ إلخ، وتفصيله بقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: ٢٤]. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وفيه ما يعلم مما قدمنا. وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر، ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا هو للبر والفاجر، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي. وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم
أخرج ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت:
يا عين فابكي الوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
332
وأخرج أحمد. وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال رضي الله تعالى عنه: بل جاءت سكرة الموت إلخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى النفخ المفهوم من نُفِخَ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الواقع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وجوز أن تكون الإشارة إلى الزمان المفهوم من نُفِخَ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء، لكن قيل عليه: إن الإشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له، وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للإنسان مطلقا مع أنه يوم الوعد أيضا بالنسبة إليه للتهويل.
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرة والفاجر كما هو الظاهر مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وإن اختلفت كيفية السوق
333
والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها، وروي ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى، وقيل: الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا، وعن ابن عباس. والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان، وتعقبه ابن عطية بقوله: وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ يعم الصالحين، وقيل: السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها، وقيل: السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه. وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد، وفيه أيضا ما تقدم آنفا عن ابن عطية، وقال أبو مسلم: السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف، وقال أبو حيان: الظاهران سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع،
وفي الحديث «لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة»
ومَعَها صفة نَفْسٍ أو كُلُّ وما بعده فاعل به لاعتماده أو مَعَها خبر مقدم وما بعده مبتدأ. والجملة في موضع الصفة، واختير كونها مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به. وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم.
وقال الزمخشري. محل مَعَها سائِقٌ النصب على الحال من كُلُّ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل: كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدل عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الإفرادي والمجموعي، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية، وقد قال عليه في البحر: إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها، وأيضا كُلُّ تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل. وقرأ طلحة «محا سائق» بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقلبتا حاء كما قالوا: ذهب محم يريدون معهم، وقوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا محكي بإضمار قول، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس. وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل: الجملة محكية بإضمار قول هو صفة- لنفس- أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها: لقد كنت، والمراد بالغفلة الذهول مطلقا سواء كان بعد العلم أم لا، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها، وجوز الاستئناف على عموم الخطاب أيضا. وقرأ الجحدري «لقد كنت» بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله: يا نفس إنك باللذات مسرور.
على تأويلها بالشخص، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكي كما لا يخفى.
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحجاب المغطي لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها، وجعل ذلك غطاء مجازا، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين، وعلى كليهما يصح قوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي نافذ لزوال المانع للإبصار، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما. وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى
334
كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون، ولعمري إنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق. وفي البحر وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث، وقرأ الجحدري. وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف عَنْكَ وما بعده على خطاب النفس، ولم ينقل صاحب اللوامح الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال:
لم أجد عنه في لَقَدْ كُنْتَ الكسر فإن كسر فيه أيضا فذاك وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ كُلُّ وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى نَفْسٍ وهو مثل قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة: ١١٢] وقوله سبحانه بعده وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: ١١٢] انتهى وَقالَ قَرِينُهُ أي شيطانه المقيض له في الدنيا كما قال مجاهد،
وفي الحديث «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي، ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي:
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأن هذا نظير قول الشيطان: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء: ١١٩] وقوله: وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم: ٢٢] وذاك نظير قوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: ٢٢].
وقال قتادة وابن زيد: قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيرا إليه: هذا ما لدي حاضر، وقال الحسن: هو كاتب سيئاته يقول مشيرا إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض، وقيل: قرينه هنا عمله قلبا وجوارح وليس بشيء، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أو موصولة والظرف صلتها وعَتِيدٌ خبر بعد خبر لاسم الإشارة أو خبر لمبتدأ محذوف، وجوز أن يكون بدلا من ما بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها، وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو إن ما الموصول لإبهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة، والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخصمين. وقرأ عبد الله «عتيدا» بالنصب على الحال أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد بناء على أنهما اثنان لا واحد جامع للوصفين أو للملكين من خزنة النار أو لواحد على أن الألف بدل من نون التوكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، وأيد بقراءة الحسن «ألقينّ» بنون التوكيد الخفيفة، وقيل: إن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين فكثر على ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا واسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، وما في الآية محمول على ذلك كما حكي عن الفراء أو على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل بأن يكون أصله ألق ألق ثم حذف الفعل الثاني وأبقى ضميره مع الفعل الأولى فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر كما في قوله:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وحكي ذلك عن المازني والمبرد، ولا يخفى بعده، ولينظر هل هو حقيقة أو مجاز والأظهر أنه خطاب لاثنين وهو المروي عن مجاهد. وجماعة، وأيا ما كان فالكلام على تقدير القول كما مر، والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح أي اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم والنعمة عَنِيدٍ مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، وقريب منه قول الحسن: جاحد متمرد، وقال قتادة: أي منحرف عن الطاعة يقال: عند عن الطريق عدل عنه، وقال السدي: المشاق من العند وهو عظم يعرض في الحلق، وقال ابن بحر: المعجب بما عنده
335
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع للمال عن حقوقه المفروضة، قال قتادة. ومجاهد. وعكرمة: يعني الزكاة، وقيل: المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه: من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بشيء ما عشت، والمبالغة باعتبار كثرة بني أخيه أو باعتبار تكرر منعه لهم.
وضعف بأنه لو كان المراد ذلك كان مقتضى الظاهر مناع عن الخير، وفي البحر الأحسن عموم الخير في المال وغيره مُعْتَدٍ ظالم متخط للحق متجاوز له مُرِيبٍ شاك في الله تعالى ودينه، وقيل: في البعث.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بتأويل فيقال في حقه ألقياه أو لكونه في معنى جواب الشرط لا يحتاج للتأويل أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ أو من كَفَّارٍ وقوله تعالى: فَأَلْقِياهُ تكرير للتوكيد فهو نظير فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران: ١٨٨] بعد قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران: ١٨٨] والفاء هاهنا للإشعار بأن الإلقاء للصفات المذكورة أو من باب وحقك ثم حقك ينزل التغاير بين المؤكد والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي، ولا يدعي التغاير الحقيقي لأن التأكيد يأباه، وقول أهل المعاني: أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف ليس على إطلاقه بسديد، والنحويون على خلافه، فقد قال ابن مالك في التسهيل: فصل الجملتين في التأكيد بثم أن أمن اللبس أجود من وصلهما، وذكر بعض النحاة الفاء والزمخشري في الجاثية الواو أيضا، وجعلوا ذلك من التأكيد الاصطلاحي، ولو جعل الْعَذابِ الشَّدِيدِ نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله فكان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: ٩٨] دون تكرير لكان كما قال صاحب الكشف حسنا.
وجوز أن يكون مفعولا بمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ وقال ابن عطية: أن يكون صفة كَفَّارٍ وجاز وصفه بالمعرفة لتخصصه بالأوصاف المذكورة. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز وصف النكرة بالمعرفة ولو وصفت بأوصاف كثيرة قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت هذه الجملة استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنها جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فإنه مبني على سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال: هو أطغاني فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه: وَلكِنْ كانَ هو بالذات فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير قسر ولا الجاء، فهو كما قدمنا نظير وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: ٢٢] إلخ قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال عز وجل: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطمعوا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، والجملة حال فيها تعليل للنهي ويلاحظ معنى العلم لتحصل المقارنة التي تقتضيها الحالية أي لا تختصموا لدي عالمين أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [ص: ٨٥] فاتبعتموه معرضين عن الحق والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم وهو لازم يعدى بالباء، وجوز أن يكون قَدَّمْتُ واقعا على قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ ويكون بِالْوَعِيدِ متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول قدم عليه أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي، والأظهر استئناف هذه الجملة. وفي لَدَيَّ على ما قال الإمام وجهان: الأول أن يكون متعلقا بالقول أي ما يبدل القول الذي عنده.
336
الثاني أن يكون متعلقا بالفعل قبل أي لا يقع التبديل عندي، قال: وعلى الأول في القول الذي لديه تعالى وجوه.
أحدها قوله تعالى: أَلْقِيا أرادوا باعتذارهم أن يبدل ويقول سبحانه: لا تلقيا فرد عليهم.
ثانيها قوله سبحانه لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ إلخ. ثالثها الإيعاد مطلقا. رابعها القول السابق يوم خلق العباد هذا سعيد وهذا شقي. وعلى الثاني في معنى الآية وجوه أيضا. أحدها لا يكذب لدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى فلا يفيد قولكم أطغاني شيطاني وقول الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ثانيها لو أردتم أن لا أقول: فَأَلْقِياهُ كنتم أبدلتم الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي. ثالثها لا يبدل القول الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم: ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله: ربنا ما أشركنا وقوله: ربنا آمنا. والمشهور أن لَدَيَّ متعلق بالفعل على أن المراد بالقول ما يشمل الوعد والوعيد.
واستدل به بعض من قال بعدم جواز تخلفهما مطلقا. وأجاب من قال بجواز العفو عن بعض المذنبين بأن ذلك العفو ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وقال بعض المحققين: المراد نفي أن يوقع أحد التبديل لديه تعالى أي في علمه سبحانه أو يبدل القول الذي علمه عز وجل، فإن ما عنده تبارك وتعالى هو ما في نفس الأمر وهو لا يقبل التبديل أصلا، وأكثر الوعيدات معلقة بشرط المشيئة على ما يقتضيه الكرم وإن لم يذكر على ما يقتضيه الترهيب، فمتى حصل العفو لعدم مشيئته التعذيب لم يكن هناك تبديل ما في نفس الأمر فتدبره فإنه دقيق وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه، وفيه إشارة إلى أن تعذيب من يعذب من العبيد إنما هو عن استحقاق في نفس الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في هذه الجملة فتذكر.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي اذكر أو أنذر يوم إلخ. فيوم. مفعول به لمقدر، وقيل: هو ظرف. لظلام، وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب. بنفخ. كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم، وعليه يشار بذلك إلى يَوْمَ نَقُولُ لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لا سيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل: ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد، ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ.
وهذا الوجه كما قال في الكشف: فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضا على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلا على سبيل فرضه ممتدا واقعا ذلك في جزء منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت.
وقال أبو حيان: هو بعيد جدا قد فصل عليه بين العامل والمعمول بجمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما، وكذا في نظير ذلك من اشتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا.
وقال الرماني: الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم، وليس بشيء.
وقال غير واحد: هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنّة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة، فالاستفهام للإنكار أي لا مزيد على امتلائها وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أو مجازا عن الاستكثار، وقيل: المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فالاستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها، وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم.
337
واستشكل دعوى أن فيها فراغا بأنه مناف لصريح قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية. وأجيب بأنه لا منافاة لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أن ذلك باعتبار حالين فالفراغ في أول الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلىء، هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتلىء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة».
وأخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله تعالى ينشىء لها خلقا»
وأول أهل التأويل ذلك، فقال النضر بن شميل: إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى: قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: ٢] وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ولعل في الأخبار ما ينافيه.
وقال ابن الأثير: قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى، ويبعده ما
في حديث أحمد. وعبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعا «فيلقى فيها، أي النار، أهلها فتقول: هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليه فتنزوي وتقول: قدني قدني»
وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد، والإضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك، وقيل: وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل: يأتيها أمر الله تعالى فيكفها من طلب المزيد.
وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية ان القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال، وقيل: أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر: تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أو تحت رجلي، وهذان القولان أولى مما تقدم والله تعالى أعلم. والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعلّ إعلال المبيع.
وقرأ الأعرج وشيبة ونافع وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش «يوم يقول» بياء الغيبة. وقرأ عبد الله.
والحسن. والأعمش أيضا «يقال». مبنيا للمفعول.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أخذ في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم وفيه مبالغة ليست في التخلية عن الظرف- فغير بعيد- صفة لظرف متعلق بأزلفت حذف فقام مقامه وانتصب انتصابه، ولذلك لم يقل غير بعيدة، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية والأصل وأزلفت إزلافا غير بعيد، قال الإمام: أي عن قدرتنا وإن يكون حالا من الجنة قصد به التوكيد كما تقول: عزيز غير ذليل لأن العزة تنافي الذل ونفي مضاد الشيء تأكيد إثباته، وفيه دفع توهم أن ثم تجوزا أو شوبا من الضد ولم يقل: غير بعيدة عليه قيل: لتأويل الجنة بالبستان، وقيل: لأن البعيد على
338
زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المؤنث والمذكر كالزئير والصليل فعومل معاملته وأجري مجراه، وقيل: لأن فعيلا بمعنى فاعل قد يجري مجرى فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الأمران، وللإمام في تقريب الجنة أوجه. منها طي المسافة التي بينها وبين المتقين مع بقاء كل في مكانه وعدم انتقاله عنه ولكرامة المتقين قيل: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ دون وأزلف المتقون للجنة، ومنها أن المراد تقريب حصولها والدخول فيها دون التقريب المكاني، وفيه ما فيه، ومنها أن التقريب على ظاهره والله عز وجل قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض أي إلى جهة السفل أو الأرض المعروفة بعد مدها، وقول بعض: إن المراد إظهارها قريبة منها على نحو إظهارها للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عرض حائط مسجده الشريف على ما فيه منزع صوفي هذا ما تُوعَدُونَ إشارة إلى الجنة، والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير قصد لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى:
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٨] وقوله سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: ٢٢] ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر، وقيل: هو إشارة إلى الثواب. وقيل: إلى مصدر أُزْلِفَتِ والجملة بتقدير قول وقع حالا من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون، أو اعتراض بين المبدل منه أعني لِلْمُتَّقِينَ والبدل أعني الجار والمجرور وفيه بعد.
وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة، والجملة على هذه القراءة قيل: اعتراض أو حال من الجنة وقال أبو حيان: هي اعتراض، والمراد هذا القول هو الذي وقع الوعد به وهو كما ترى، وقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار أو من لِلْمُتَّقِينَ على أن يكون الجار والمجرور بدلا من الجار والمجرور حَفِيظٍ حفظ ذنوبه حتى رجع عنها كما روي عن ابن عباس وسعيد بن سنان، وقريب منه ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله تعالى منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: أي حفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه ونعمته.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير كنا نعد الأواب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أن يقوم قال: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقيل: هو الحافظ لتوبته من النقض ولا ينافيه صيغة أَوَّابٍ كما لا يخفى. وقوله تعالى شأنه: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل من كل المبدل من المتقين أو بدل ثان من المتقين بناء على جواز تعدد البدل والمبدل منه واحد. وقول أبي حيان: تكرر البدل والمبدل منه واحد لا يجوز في غير بدل البداء، وسره أنه في نية الطرح فلا يبدل منه مرة أخرى غير مسلم، وقد جوزه ابن الحاجب في أماليه، ونقله الدماميني في أول شرحه للخزرجية وأطال فيه، وكون المبدل منه في نية الطرح ليس على ظاهره، أو بدل من موصوف أَوَّابٍ أي لكل شخص أواب بناء على جواز حذف المبدل منه، وقد جوزه ابن هشام في المغني لا سيما وقد قامت صفته مقامه حتى كأنه لم يحذف ولم يبدل من أَوَّابٍ نفسه لأن أوابا صفة لمحذوف كما سمعت فلو أبدل منه كان للبدل حكمه فيكون صفة مثله، و «من» اسم موصول والأسماء الموصولة لا يقع منها صفة إلا الذي على الأصح، وجوز بعض الوصف بمن أيضا لكنه قول ضعيف أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها بتأويل يقال لهم ادخلوها لمكان الإنشائية والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى بِالْغَيْبِ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خَشِيَ أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه سبحانه وهو غائب عنه أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد، وقيل: الياء للآلة، والمراد بالغيب القلب لأنه مستور أي من خشي الرحمن بقلبه دون جوارحه بأن يظهر الخشية ليس في قلبه منها شيء وليس بشيء.
339
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز وجل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهم بسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه، وقال الإمام: يجوز أن يكون لفظ الرَّحْمنَ إشارة إلى مقتضى الخشية لأن معنى الرحمن واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو سبحانه في الدنيا رحمن حيث أوجدنا ورحيم حيث أبقانا بالرزق فمن يكون منه الوجود ينبغي أن يكون هو المخشي وما تقدم أولى.
والباء في قوله تعالى: بِقَلْبٍ للمصاحبة، وجوز أن تكون للتعدية أي أحضر قلبا منيبا. ووصف القلب بالإنابة مع أنها يوصف بها صاحبه لما أن العبرة رجوعه إلى الله تعالى، وأغرب الإمام فجوز كون الباء للسببية فكأنه قيل: ما جاء إلا بسبب آثار العلم في قلبه أن لا مرجع إلا الله تعالى فجاء بسبب قلبه المنيب وهو كما ترى، وقوله تعالى:
بِسَلامٍ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادْخُلُوها والباء للملابسة، والسلام إما من السلام أو من التسليم أي ادخلوها ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بتسليم وتحية من الله تعالى وملائكته ذلِكَ إشارة إلى أن الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور يَوْمُ الْخُلُودِ البقاء الذي لا انتهاء له أبدا أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت السلام بتقدير مضاف أيضا أي ذلك يوم إعلام الخلود أي الإعلام به لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المطالب كائنا ما كان فِيها متعلق بيشاؤون، وقيل: بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومنه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة أن تمر السحابة بهم فتقول: ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم.
وأخرج البيهقي في الرؤية. والديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: «يتجلى لهم الرب عز وجل».
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن أنس أنه قال في ذلك أيضا: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة،
وجاء في حديث أخرجه الشافعي في الأم وغيره أن يوم الجمعة يدعى يوم المزيد
، وقيل: المزيد أزواج من الحور العين عليهن تيجان أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب وعلى كل سبعون حلة وان الناظر لينفذ بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وقيل: هو مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي كثيرا أهلكنا قبل قومك مِنْ قَرْنٍ قوما مقترنين في زمن واحد هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة كما قيل أو أخذا شديدا في كل شيء كعاد وقوم فرعون فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت، فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب. وغيره، وأنشدوا للحارث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
ولامرىء القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي وقد طوفت، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: هو هربوا بلغة اليمن، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لهدى بن زيد، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله، ومنه قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد
340
مسبب عن اشتداد بطشهم وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا وقيل: هي على ما تقدم أيضا للسببية والعطف على أَهْلَكْنا على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ على إضمار قول هو حال من واو (نقبوا) أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالى أو من الموت؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من الله عز وجل أو من الموت، وقيل: ضمير (نقبوا) لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم.
وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن سيار وأبي حيوة والأصمعي عن أبي عمرو على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير، والأصل توافق القراءتين وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب. قرأ ابن عباس أيضا وعبيد عن ابن عمرو «فنقّبوا» بفتح القاف مخففة، والمعنى كما في المشددة، وقرىء بكسر القاف خفيفة من النقب محركا، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير، قال الراجز:
أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر
والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم، ونقب الإقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤول المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أو نقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضا، وقد يستغنى عن التقدير بجعل الإسناد مجازيا إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك أو ما ذكر في السورة لَذِكْرى لتذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يدرك الحقائق فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم، وفي الكشف لِمَنْ كانَ إلخ تمثيل أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر على أنه من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به المتفطن لأن غير المتفطن منزل منزلة الغائب فهو إما استعارة أو مجاز مرسل والأول أولى، وجوز أن يكون من الشهادة وصفا للمؤمن لأنه شاهد على صحة المنزل وكونه وحيا من الله تعالى فيبعثه على حسن الإصغاء أو وصفا له من قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣] كأنه قيل: وهو من جملة الشهداء أي المؤمنين من هذه الأمة فهو كناية على الوجهين، وجوز على الأول منهما أن لا يكون كناية على أن المراد وهو شاهد شهادة عن إيقان لا كشهادة أهل الكتاب.
وعن قتادة المعنى لمن سمع القرآن من أهل الكتاب وهو شاهد على صدقه لما يجده في كتابه من نعته، والأنسب بالمساق وإلا ملأ بالفائدة الأخذ من الشهود، والوجه جعل وَهُوَ شَهِيدٌ حالا من ضمير الملقى لا عطفا على أَلْقَى كما لا يخفى على من له قلب أو القى السمع وهو شهيد، والمراد أن فيما فعل بسوالف الأمم أو في المذكور إماما من الآيات لذكرى لإحدى طائفتين من له قلب يفقه عن الله عز وجل ومن له سمع مصغ مع ذهن حاضر أي لمن له استعداد القبول عن الفقيه إن لم يكن فقيها في نفسه، وأَوْ لمنع الخلو من حيث إنه يجوز أن يكون الشخص فقيها ومستعدا للقبول من الفقيه، وذكر بعضهم أنها لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع أو إلى فقيه ومتعلم أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها فتأمل.
وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهسم «أو ألقي» مبنيا للمفعول «السّمع» بالرفع على النيابة عن الفاعل والفاعل المحذوف أما المعبر عنه بالموصول أولا، وعلى الثاني معناه لمن ألقى غيره السمع وفتح أذنه ولم يحضر
341
ذهنه، وأما هو فقد ألقي وهو شاهد متفطن محضر ذهنه، فالوصف أعني الشهود معتمد الكلام، وإنما أخرج في الآية بهذه العبارة للمبالغة في تفطنه وحضوره، وعلى الأول معناه لمن ألقى سمعه وهو حاضر متفطن، ثم لو قدر موصول آخر بعد أَوْ فذو القلب والملقى غير أن شخصا ولو لم يقدر جاز أن يكونا شخصين وأن يكونا شخصا باعتبار حالين حال تفطنه بنفسه وحال القائه السمع عن حضور إلى متفطن بنفسه لأن (من) عام يتناول كل واحد واحد وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقدم الكلام فيها وَما مَسَّنا وما أصابنا بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر مِنْ لُغُوبٍ تعب ما فالتنوين للتحقير، وهذا كما قال قتادة. وغيره رد على جهلة اليهود زعموا أنه تعالى شأنه بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وعن الضحاك أن الآية نزلت لما قالوا ذلك، ويحكى أنهم يزعمون أنه مذكور في التوراة، وجملة وَما مَسَّنا إلخ تحتمل أن تكون حالية وأن تكون استئنافية، وقرأ السلمي وطلحة ويعقوب «لغوب» بفتح اللام بزنة القبول والولوع وهو مصدر غير مقيس بخلاف مضموم اللام فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقول المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الاستبعاد والإنكار فإن من قدر على خلق العالم في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء قادر على بعثهم والانتقام منهم، أو على ما يقول اليهود من مقالة الكفر والتشبيه.
والكلام متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا إلخ على الوجهين، وفي الكشف أنه على الأول متعلق بأول السورة إلى هذا الموضع وأنه أنسب من تعلقه، بلقد خلقنا، الآية لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض إلى هاهنا على ما لا يخفى على المسترشد.
وأنت تعلم أن الأقرب تعلقه على الوجهين بما ذكرنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه عز وجل بما يوجب التشبيه، أو نزهه عن كل نقص ومنه ما ذكر حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة وَمِنَ اللَّيْلِ مفعول لفعل محذوف يفسره فَسَبِّحْهُ باعتبار الاتحاد النوعي، والعطف للتغاير الشخصي أي وسبحه بعض الليل فسبحه أو مفعول لقوله تعالى: «سبحه» على أن الفاء جزائية والتقدير مهما يكن من شيء فسبحه بعض الليل، وقدم المفعول للاهتمام به وليكون كالعوض عن المحذوف ولتتوسط الفاء الجزائية كما هو حقها، ولعل المراد بهذا البعض السحر فإن فضله مشهور وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلاة جمع دبر بضم فسكون أو دبر بضمتين.
وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة وشبل والحرميان «إدبار» بكسر الهمزة وهو مصدر تقول: أدبرت الصلاة إدبارا انقضت وتمت، والمعنى ووقت انقضاء السجود كقولهم: آتيك خفوق النجم. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم، وعليه
فالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور، وأخرجه الطبراني في الأوسط. وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعا
، ومن الليل صلاة العتمة وإدبار السجود النوافل بعد المكتوبات أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وقال ابن عباس:
الصلاة قبل الطلوع الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان وإدبار السجود النوافل بعد الفرائض، وفي رواية أخرى عنه الوتر بعد العشاء، وفي أخرى عنه أيضا وعن عمر وعلي وابنه الحسن وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.
والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي ركعتان بعد المغرب، وأخرجه مسدد في مسنده. وابن المنذر وابن مردويه عن
342
علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا، وقال مقاتل: ركعتان بعد العشاء يقرأ في الأولى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: ١] وفي الثانية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١]، وقيل: من الليل صلاة العشاءين والتهجد. وعن مجاهد صلاة الليل، وفيه احتمال العموم لصلاة العشاءين والخصوص بالتهجد وهو الأظهر وَاسْتَمِعْ أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريد به حقيقته، والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من أهوال يوم القيامة، وبين ذلك بقوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إلى آخره، وسلك هذا لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتعظيم لشأن المخبر به، وانتصب يَوْمَ بما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور، وقيل: المفعول محذوف تقديره نداء المنادى، وقيل: تقديره نداء الكافرين بالويل والثبور ويَوْمَ ظرف لذلك المحذوف، وقيل: لا يحتاج ذلك إلى مفعول والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا، وقيل: معنى استمع انتظر، والخطاب لكل سامع، وقيل: للرسول عليه الصلاة والسلام ويَوْمَ منتصب على أنه مفعول به لاستمع أي انتظر يوم ينادي المنادي فإن فيه تبين صحة ما قلته كما تقول لمن تعده بورود فتح: استمع كذا وكذا. والمنادي على ما في بعض الآثار جبريل عليه السلام ينفخ إسرافيل في الصور وينادي جبريل يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والشعور المتقطعة إن الله يأمرك بأن تجتمعي لفصل الحساب. وأخرج ابن عساكر. والواسط في فضائل بيت المقدس عن يزيد بن جابر أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيقول: يا أيتها العظام النخرة إلى آخره فيكون المراد بالمنادي هو عليه السلام. وفي الحواشي الشهابية الأول هو الأصح مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ هو صخرة بيت المقدس على ما روي عن يزيد بن جابر وكعب وابن عباس وبريدة وقتادة، وهي على ما روي عن كعب أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وفي الكشاف أنها أقرب إليها باثني عشر ميلا وهي وسط الأرض، وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل إلا بوحي، ثم إن كونها وسط الأرض مما تأباه القواعد في معرفة العروض والأطوال، ومن هنا قيل: المراد قريب ممن يناديهم فقيل:
ينادي من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم فيسمع من كل شعرة يا أيتها العظام النخرة إلخ، ومن الناس من قال: المراد بقربه كون النداء منه لا يخفى على أحد بل يستوي في سماعه كل أحد، والنداء في كل ذلك على حقيقته، وجوز أن يكون في الإعادة نظير كن في الابتداء على المشهور فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ولا نداء ولا صوت حقيقة، ثم إن ما ذكرناه من أن المنادي ملك وأنه ينادي بما سمعت هو المأثور، وجوز أن يكون نداؤه بقوله للنفس: ارجعي إلى ربك لتدخلن مكانك من الجنة أو النار أو هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وأن يكون المنادي هو الله تعالى ينادي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢] أو أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: ٢٤] مع قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر: ٤٦، ق: ٣٤] أو خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة: ٣٠] أو أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: ٢٧، القصص: ٦٢، ٧٤، فصلت: ٤٧] أو غير ذلك، وأن يكون غيره تعالى وغير الملك من المكلفين ينادي يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: ٧٧] أو أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف: ٥٠] أو غير ذلك، والمعول عليه ما تقدم يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي النفخة الثانية، ويَوْمَ بدل من يَوْمَ يُنادِ إلخ، والعامل فيهما ما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ كما تقدم، وجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه ذلك ويَوْمَ يُنادِ غير معمول له بل لغيره على ما مر، وأن يكون ظرفا لينادي، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ في موضع الحال من الصَّيْحَةَ أي يسمعونها ملتبسة بالحق الذي هو البعث، وجوز أن يكون (الحق) بمعنى اليقين والكلام نظير صاح بيقين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصدى وغيره فكأنه قيل: الصيحة المحققة، وجوز أن يكون الجار متعلقا بيسمعون على أن المعنى يسمعون بيقين، وأن يكون الباء للقسم و (الحق) هو الله تعالى أي يسمعون الصيحة أقسم بالله وهو كما ترى ذلِكَ أي اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور وهو من أسماء يوم القيامة.
343
وقيل: الإشارة إلى النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر، أو الكلام على حذف مضاف أي ذلك النداء نداء يوم الخروج أو وقت ذلك النداء يوم الخروج إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ بدل بعد بدل، ويحتمل أن يكون ظرفا للمصير أي إلينا مصيرهم في ذلك اليوم أو لما دل عليه ذلِكَ حَشْرٌ أي يحشرون يوم تشقق. وقرأ نافع وابن عامر «تشّق» بشد الشين وقرىء «تشقّق» بضم التاء مضارع شققت على البناء للمفعول و «تنشّق» مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي «تتشقّق» بتاءين، وقوله تعالى:
سِراعاً مصدر وقع حالا من الضمير في «عنهم» بتأويل مسرعين والعامل «تشقق» وقيل: التقدير يخرجون سراعا فتكون حالا من الواو والعامل يخرج، وحكاه أبو حيان عن الحوفي ثم قال: ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يَوْمَ تَشَقَّقُ أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: تمطر السماء عليهم حتى تنشق الأرض عنهم، وجاء إن أول من تنشق عنه الأرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر وعمر ثم أهل البقيع فيحشرون معي ثم انتظر أهل مكة وتلا ابن عمر يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً»
ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به عز وجل فإنه سبحانه العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة وغير ذلك مما لا خير فيه، وهذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي ما أنت مسلط عليهم تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت منذر، فالباء زائدة في الخبر وعَلَيْهِمْ متعلق به.
ويفهم من كلام بعض الأجلة جواز كون (جبار) من جبره على الأمر قهره عليه بمعنى أجبره لا من أجبره إذ لم يجىء فعال بمعنى مفعل من أفعل إلا فيما قل كدراك وسراع، وقال علي بن عيسى: لم يسمع ذلك إلا في دراك.
وقيل: جبار من جبر بمعنى أجبر لغة كنانة وإن «عليهم» متعلق بمحذوف وقع حال أي ما أنت جبار تجبرهم على الإيمان واليا عليهم، وهو محتمل للتضمين وعدمه فلا تغفل، وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم، وعليه قيل: الآية منسوخة، وقيل: هي منسوخة على غيره أيضا بآية السيف فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»
وما أنسب هذا الاختتام بالافتتاح بقوله سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: ١] هذا وللشيخ الأكبر قدس سره في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥] ولغير واحد من الصوفية في قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] كلام أشرنا إليه فيما سبق، ومنهم من يجعل ق إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات والله من ورائهم محيط، وقيل: هو إشارة إلى مقامات القرب، وقيل: غير ذلك، وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
344
Icon