تفسير سورة المعارج

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون، نزلت بعد الحاقة. وسميت " سورة المعارج " لقوله تعالى " من الله ذي المعارج " يعني ذات الدرجات الرفيعة. وقد سماها الطبري : سورة " سأل سائل "، وهي كالتتمة لها في وصف القيامة وعذاب النار وحقيقة الآخرة التي تصدّت لها. ولكن سورة المعارج تعالجها بطريقة أخرى، فتذكر أن عذاب الكافرين الذي طلبوه لابد واقع، من الله صاحب الرفعة ورفيع الدرجات، في يوم مقداره خمسون ألف سنة من سنين الدنيا. وفيها أمِر الرسول الكريم أن يصبر على استهزائهم واستعجالهم العذاب، وأنه آت قريب. ثم يعقُب وصف ذلك اليوم كيف تكون السماء، والأرض والجبال، وكيف يُشغل كل امرئ بنفسه فلا يسأل عن أحد من أقربائه وأصدقائه. وكيف يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب ذلك اليوم ببنيه وزوجته وأخيه وعشيرته، ولكن كل ذلك
لا يُغنيه شيئا، ولا أحد من جميع من في الأرض يستطيع أن ينجيه. وتتحدث السورة بعد ذلك عن جهنم وأهوالها.
ثم تتناول النفس البشر البشرية وكيف تكون في الضراء والسراء، وأن الإنسان طُبع على الهلع والجزع إذا مسه المكروه والعسر، شديد المنع والحرمان إذا أصابه الخير واليسر، إلا المؤمنين المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، فإن الله يعصمهم ويوفقهم إلى الخير. وقد أفاضت السورة في مدحهم وتعداد أوصافهم، فأولئك المؤمنون ﴿ في جنات مُكرمون ﴾ من الله تعالى.
وكذلك في السورة إنكار على الكافرين لأطماعهم الفاسدة. ثم يأتي الختام بوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم على سفههم ولعبهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

سأل : طلب.
كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب، فما هذا العذاب ؟ ومتى يكون ؟ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون، منكرين ومستهزئين : متى هذا الوعد ؟ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار. فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة.
إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة.
قراءات :
قرأ الجمهور : سأل سائل بالهمزة. وقرأ نافع وابن عامر : سال بغير همزة.
ليس له دافع : لا يستطيع أحد رده.
لن يستطيع أحدٌ ردَّه.
المعارج : الدرجات، والمصاعد. واحدها معرج بكسر الميم ومعرج بفتحها، ومعراج.
وسيأتيهم من الله تعالى خالقِ السموات وما فيها من مسالك،
الروح : جبريل.
والذي يصعَد جبريل والملائكة إليه في يومٍ طويلٍ شاقّ على الكافرين مقدارُه خمسون ألف سنة من أيامنا هذه. ويجوز أن يكون أطول، فليس المرادُ من ذِكر الخمسين تحديدَ العدد، بل بيان شدةِ ذلك اليوم وعظم هوله.
قراءات :
قرأ الجمهور : تعرج بالتاء. وقرأ الكسائي : يعرج بالياء.
ولم يصرف منه في وجوه الخير.
فاصبرْ يا محمدُ على استهزائهم واستعجالهم العذابَ ﴿ صَبْراً جَمِيلاً ﴾.
ثم بين الله تعالى أن هذا اليومَ آتٍ لا شكّ فيه فقال :
﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً ﴾.
إن الكفار الجاحدين يرون يوم القيامة مستحيلاً لا يَقَع.
ونراه واقعاً قريباً غير متعذَّر على قدرتنا، فَلْيحذروه.
المُهل : المعدن المذاب كالفضة والحديد وغير ذلك، وعكر الزيت.
ثم ذكر وقتَ حدوث ذلك اليوم وشيئاً من أهواله فقال :
﴿ يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل ﴾
إنه يوم شديدُ الهول تذوب فيه السماءُ كالمعادن المنصهرة ويصيرُ لونُها مثل عَكْرِ الزيت.
العهن : الصوف.
أما الجبال فتغدو مثل الصوف المنفوش تتطاير في أرجاء الكون.
حميم : قريب، صديق.
وفي ذلك الهول الشديد يصير كل إنسان مشغولاً بنفسه، لا يسألُ عن أقاربه
ولا أصدقائه.... وإنهم لَيرون بعضهم البعض لكنه لا يسال أحدٌ عن أحد.
قراءات :
قرأ الجمهور : ولا يسأل بفتح الياء. وقرأ ابن كثير : ولا يسأل بضم الياء مبنيّاً للمجهول.
ويتمنى الكافر لو يفدي نفسَه من عذاب يوم القيامة ببنيه.
وزوجته، وأخيه
الفصيلة : العشيرة.
وعشيرته التي ينتمي إليها.
بل وبجميع من في الأرض، علّه ينجو من العذاب..
لظى : جهنم.
﴿ كَلاَّ ﴾ لا يمكن أن ينجيه شيء، ولا يُقبل منه فداءٌ ولو جاء بأهل الأرض جميعا. بل إن مصيرَهُم إلى لظى جهنّم الشديدةِ الحرارة.
الشَّوى : واحدها شواة، جلدة الرأس.
حتى تنزعَ جلدةَ الرأس عنه.
قراءات :
قرأ حفص وحده : نزاعة بالنصب. والباقون : نزاعة بالرفع.
إنها تنادي أولئك المجرمين الذين تولَّوا عن الدعوة في الدنيا، وأعرضوا عن الحق.
جمعَ فأوعى : جمع المال وخبأه في وعاء، وبَخِل به.
وجمعوا المالَ وكدّسوه في خزائنهم، ولم يؤدوا حقّ الله فيه.
فهل هناك أكبر من هذا التهديد والوعيد لمن بَخِلَ بماله، وأعرضَ عن الله ورسوله.... فاعتبِروا يا أولي الألباب.
خلق هلوعا : ضجورا، .
في هذه الآية الكريمة يبيّن اللهُ تعالى حقيقة النفس البشرية عندما يمسُّها شرّ
أو خير،
سريع الحزن إذا أصابه مكروه.
ويبين حقيقةَ الجاحدين المانعين للخير، الذين يَضْجَرون بسرعة إذا مسّهم الشر.
وإذا أصابه الخير فهو منّاع له.
ويمنعون أداءَ حقِّ المال إذا أصابهم خير.
ثم قال :
﴿ إِلاَّ المصلين ﴾
إن هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات الطيبة.
وهي إقامةُ الصلاة والمداومة عليها.
حق معلوم : نصيب معيَّن..
والّذين يجعلون في أموالهم نصيباً معيّنا.
للسائل من الفقراء وللمحروم الذي لا يسأل الناس.
للفقراء والمساكين.
ويصدِّقون بيوم القيامة.
مشفقون : خائفون.
ويخافون عذابَ ربّهم.
حافظون : يحفظون أنفسهم عن الحرام.
ويتحلَّون بالعفة.
فلا يَقْربون إلا نساءَهم أو جواريَهم، فإنهم غيرُ مَلُومين.
فالذين لا يتعفّفون، ويَجْرون وراءَ شهواتِهم في الحرام أولئك هم المعتدون الذين تجاوزوا أوامرَ الله ورسوله.
راعون : لا يخلّون بشيء من حقوقها.
والّذين يؤدّون الأماناتِ ويحافِظون على العهود.
قراءات :
قرأ ابن كثير : لأمانتهم بالإفراد. والباقون : لأماناتهم بالجمع.
ويؤدّون شهاداتِهم بصِدق.
قراءات :
قرأ حفص : شهاداتهم بالجمع. وقرأ الباقون : شهادتهم بالإفراد.
ويحافظون على صلاتهم.
هؤلاء الذين يتحلَّون بهذه الصفات الرفيعة، لهم الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بشر.
قبلك : بكسر القاف وفتح الباء، نحوك جهتك، في الجهة التي تليك.
مهطعين : مسرعين، والفعل أهطع : يأتي بمعنى نظر في ذلٍّ وخشوع، وبمعنى أسرع.
ما بالُ هؤلاء الّذين كذّبوا برسالتك مسرِعينَ إليك.
عِزين : جماعات مفردها عِزَة بكسر العين وفتح الزاي.
يجلِسُون حوالَيْك جماعاتٍ جماعات، ليسمعوا ما تتلوه عليهم من آياتِ الله، ثم يردّدونها فيما بينَهم ساخرين ! ! ولا يعون ما تُلقيه عليهم من رحمة الله وهدْيه ! ومثله قوله تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ].
ثم بين مآلهم وأنهم لا يدخلون الجنةَ أبداً فقال :
﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴾.
أيطمعَ هؤلاء في أن يدخلوا الجنةَ، وقد كذّبوك أيُّها الرسول ولم يؤمنوا برسالتك، وهم معرِضون عن سماع الحق ! !
كلا : لا مطمعَ لهم في ذلك ولا نصيب. وكيف يطمعون في دخولِ الجنة، وهم يكذّبون بالبعث والجزاء ؟ وقد خلقناهم من ماء مهين.
ثم أوعدهم بأنهم إن لم يؤمنوا ويرجعوا عن كفرهم أهلكَهم، واستبدلَ بهم قوماً غيرهم خيراً منهم فقال :
﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾.
لقد أقسَم الله تعالى بربِّ المشارقِ والمغارب ( وهي مشارقُ الشمس ومغاربها ) وببقية النجوم والكواكب، فهي تُشرق كل يومٍ من مكان، وتغرب كذلك ( فمشارقُ الشمس متعدّدة وكذلك مغاربها )
بمسبوقين : بمغلوبين.
إنه لَقادر على أن يُهلكَهم ويأتي بخلْقٍ خيرٍ منهم، وما هو بعاجز عن هذا التبديل.
ثم سلّى جلّ جلالُه رسولَه الكريم عما يقولون ويسخرون بأنهم سيلاقون يومهم الذي وعدَهم الله، وهناك سيلقون جزاءهم.
الأجداث : القبور، واحدها جَدَث بفتح الجيم والدال.
النصُب : كل ما نصب للعبادة من دون الله، كالأصنام وما شابهها.
يوفضون : يسرعون.
في ذلك اليوم يَخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي كأنهم يهرولون إلى النُصُب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنّ حالَهم مختلفٌ.
قراءات :
قرأ حفص وابن عامر : نُصُب بضم النون والصاد. وقرأ الباقون : نَصَب بفتح النون والصاد، وهما لغتان. أو أن النصب بضم النون والصاد جمع نصب بفتح النون وسكون الصاد. والله أعلم.
خاشعة أبصارهم : أبصارهم ذليلة. ترهَقُهم : تغشاهم.
فإنهم يأتون وأبصارُهم خاشعة أذلاَّء تعلو وجوهَهكم الكآبة والحزن.
﴿ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾
ذلك اليوم هو يوم القيامة وما فيه من أهوال عظام هو موعدُهم، وفيه ينالون جزاءَهم، وبئس المصير.
Icon