تفسير سورة الأنفال

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الآية. أي خافت، والمراد بالمؤمنين هنا، وفي قوله بعد :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ [ الأنفال : ٤ ] الكاملون.
قوله تعالى :﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربّهم يتوكّلون ﴾ [ الأنفال : ٢ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن حقيقة الإيمان –عند الأكثر- لا تزيد ولا تنقص، كالإلهية والوحدانية ؟
قلتُ : المراد بزيادته آثاره من الطمأنينة، واليقين، والخشية ونحوها، وعليه يُحمل ما نُقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص.
قوله تعالى :﴿ كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ ﴾ [ الأنفال : ٥ ] الآية، الكاف للتشبيه أي امض على ما رأيته صوابا، من تنقيل الغُزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا( ١ )، كما مضيت في خروجك من بيتك بالحق وهم كارهون.
١ - قال الطبري المعنى: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك يجادلونك في الحق بعدما تبين – الطبري ١٣/٢٩٣..
قوله تعالى :﴿ ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾ [ الأنفال : ٨ ]
إن قلتَ : فيه تحصيل الحاصل ؟
قلتُ : لا، لأن المراد بالحقّ الإيمان، وبالباطل الشرك.
فإن قلتَ : ما فائدة تكرار ﴿ ليحقّ الحقّ ﴾ هنا مع قوله قبلُ ﴿ ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلمته ويقطع دابر الكافرين ﴾ [ الأنفال : ٧ ].
قلتُ : فائدته أنه أُريد بالأول، ما وعد الله به في هذه الواقعة، من النّصر والظفر بالأعداء، بقرينة قوله عَقِبه ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾.
وبالثاني تقوية الدّين، ونصرة الشريعة، بقرينة قوله عقبه ﴿ ويبطل الباطل ﴾.
قوله تعالى :﴿ فلَم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] الآية.
إن قلتَ : كيف نفى عن المؤمنين قتل الكفّار، مع أنهم قتلوهم يوم بدر، ونفى عن النبي صلى الله عليه وسلم رميهم، مع أنه رماهم يوم بدر بالحصباء في وجوههم ؟   !
قلتُ : نفي الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد، إذ الموجد له حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم وله باعتبار الكسب والصورة( ١ ).
١ - معنى الآية: فلم تقتلوهم أيها المسلمون بقوتكم وقدرتكم، ولكن الله قتلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وما رميت يا محمد في الحقيقة أعين الكفار بقبضة من تراب، ولكن الله أوصلها إليهم، فالأمر في الحقيقة له سبحانه وتعالى..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ﴾ [ الأنفال : ٢٠ ] ثنّى في الأمر، وأفرد في النهي، تحرّزا بالإفراد عن الإخلال بالأدب من النبي صلى الله عليه وسلم، عن نهيه الكفار في قِرانه بين اسمه واسم الله تعالى، في ذكرهما بلفظ واحد، كما رُوي أن خطيبا خطب فقال :«بئس خطيب القوم أنت، هلاّ قلت : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى »  ! !
أو أُفرد باعتبار عوده إلى الله وحده، لأنه الأصل، مع أن طاعة الله، وطاعة رسوله متلازمتان. أو أنّ الاسم المفرد، يأتي في لغة العرب ويُراد به الاثنان والجمع، كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يُغنيني، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعلى ذلك قوله تعالى :﴿ والله ورسوله أحقّ أن يُرضوه ﴾ [ التوبة : ٦٢ ].
قوله تعالى :﴿ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ] معناه : ولو علم الله فيهم إيمانا في المستقبل، لأسمعهم سماع فهم وقبول، أو لأنطق لهم الموتى، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا، ولو أسمعهم أو أنطق لهم الموتى، يشهدون بما ذُكر، بعد أن علم أن لا خير فيهم، لتولّوا وهم معرضون، لعنادهم وجحودهم الحقَّ بعد ظهوره( ١ )، وتقدّم في البقرة الكلام على الجمع بين التولّي والإعراض.
١ - الغرض من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان المشركين، فإن الله تعالى لو علم فيهم الخير والإيمان لهداهم إليه، ولكنهم لفرط جحودهم وعنادهم، لو أسمعهم الله على سبيل الفرض –وقد علم أن لا خير فيهم- للجّوا في كفرهم وعنادهم..
قوله تعالى :﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] الآية.
إن قلتَ : قد عذّبهم الله يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم ؟
قلتُ : المراد ﴿ وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] مقيم بمكة، وتعذيبهم ببدر إنما كان بعد خروجه من مكة.
أو المراد : ما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة( ١ ) وأنت فيهم.
١ - المراد بالعذاب هنا عذاب الاستئصال، الذي طلبوه في كلمتهم الشنيعة ﴿وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ فهم قد طلبوا الهلاك لأنفسهم لسفههم، فذكر تعالى أنه لا يعذبهم ذلك العذاب الشامل، إكراما لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث بعثه الله رحمة للعالمين، وقد جرت سنة الله تعالى، ألا يعذب أمة ونبيّها بين ظهرانيها، كما قال ابن عباس: لم تُعذّب أمة قطّ ونبيّها فيها !!.
قوله تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ] الآية.
إن قلتَ : هذا ينافي قوله أولا ﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾ ؟   ! [ الأنفال : ٣٣ ].
قلتُ : لا منافاة، لأن الأول مقيّد بكونه صلى الله عليه وسلم فيهم، والثاني بخروجه عنهم. أو المراد : بالأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذاب الآخرة.
قوله تعالى :﴿ وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكاء وتصدية ﴾ [ الأنفال : ٣٥ ] الآية، أي إلا صفيراً وتصفيفا.
قوله تعالى :﴿ وإذ يريكموهم إذِ التقيتم في أعينكم قليلا ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] الآية.
إن قلتَ : فائدة تقليل الكفّار في أعين المؤمنين ظاهر، وهو زوال الرعب من قلوب المؤمنين، فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار، في قوله :﴿ ويقلّلكم في أعينهم ﴾ ؟ [ الأعراف : ٤٤ ].
قلتُ : فائدته ألا يبالغوا في الاستعداد لقتال المؤمنين، لظنهم كمال قدرتهم فيقدموا عليهم، ثم تفجؤهم كثرة المؤمنين، فيُدهشوا، ويتحيروا، ويفشلوا.
قوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ [ الأنفال : ٤٦ ] الآية. أي لا تتنازعوا في أمر الحرب، بأن تختلفوا فيه، وإلا فالمنازعة في إظهار الحقّ مطلوبة، كما قال تعالى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ].
قوله تعالى :﴿ إني أخاف الله والله شديد العقاب ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ].
إن قلتَ : كيف قال الشيطان ذلك، مع أنه لا يخافه، وإلا لما خالفه وأضلّ عبيده ؟   !
قلتُ : قاله كذبا كما قاله قتادة( ١ )، أو صدقا كما قاله عطاء، لكنه خالف عناداً.
أو الخوف بمعنى العلم، كما في قوله تعالى :﴿ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] أي أعلم صدق وعد الله نبيّه النصر.
١ - قال قتادة: قال إبليس: ﴿إني أرى ما لا ترون﴾ وصدق فقد رأى الملائكة يتقدمهم جبريل، وقال: ﴿إني أخاف الله﴾ وكذب والله، ما به مخافة الله، ولكنه علم أنه لا قوة له ولا منعة. وانظر كتابنا صفوة التفاسير ١/٥٠٨..
قوله تعالى :﴿ ومن يتوكّل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : ٤٩ ]. جوابه محذوف أي يَغْلِبْ، دلَّ عليه قوله تعالى :﴿ فإن الله عزيز حكيم ﴾ أي غالب.
قوله تعالى :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾ [ الأنفال : ٥٤ ] الآية. كرّره( ١ ) لأن الأول إخبار عن عذاب، لم يمكِّنِ اللهُ أحدا من فعله، وهو ضربُ الملائكة وجوههم وأدبارهم، عند نزع أرواحهم.
والثاني : إخبار عن عذاب مكَّن الله ُ الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق.
أو معنى الأول ﴿ كدأب آل فرعون ﴾ [ الأنفال : ٥٢ ] فيما فعلوا، والثاني ﴿ كدأب آل فرعون ﴾ فيما فُعِلَ بهم.
أو المراد بالأول كفرهم بالله، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء.
١ - جاءت الآية مكررة مرتين الثانية: ﴿كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين﴾ والأولى هي التي ذكرها وتتمتها ﴿كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب﴾..
قوله تعالى :﴿ إن شرّ الدّواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾ [ الأنفال : ٥٥ ] فإن قلتَ : ما فائدة قوله :﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ بعد ذكر ما قبله ؟   !
قلتُ : مرادُه أن يبيّن أن شرّ الدواب هم الذين كفروا، واستمرّوا على كفرهم إلى وقت موتهم.
قوله تعالى :﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين... ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الآيتين. حاصله أن البعض منا يقاوم عشرة أعشاره منهم قبل التخفيف، ويقاوم ضعفه بعده... وقد كرّر كلا من المعنيين في الآيتين.
وفائدة التكرار الدّلالة على أن الحال مع الكثرة والقلة لا يختلف، فكما تغلِب العشرون المائتين، تغلب المائة الألف، وكما تغلب المائة المائتين، يغلب الألف الألفين.
قوله تعالى :﴿ تريدون عرض الدّنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ]. ﴿ والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ﴾ أي ثوابها، وإلا فهو كما يريد الآخرة، يريد الدنيا وإلا فما وُجدت.
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ]. قدّم هنا ﴿ بأموالهم وأنفسهم ﴾ على قوله :﴿ في سبيل الله ﴾ وعكس في " براءة " ( ١ ) لأن ما هنا تقدَّمه ذكر المال والأنفس، في قوله تعالى :﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ وقوله :﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم ﴾ [ الأنفال : ٦٨ ] أي من الفداء، وقوله :﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾ [ الأنفال : ٦٩ ] وما في براءة تقدَّمه ذكر ﴿ في سبيل الله ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] فناسب تقديم ﴿ بأموالهم وأنفسهم ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] وتقديم ﴿ في سبيل الله ﴾ ثَمَّ.
١ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون﴾ التوبة: ٢٠..
Icon