تفسير سورة المطفّفين

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة التطفيف
مكيّة وهى ستّ وثلثون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عن ابن عباس قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فانزل الله تعالى ويل للمطففين فاحسنوا الكيل بعد ذلك رواه الحاكم والنسائي وابن ماجة بسند صحيح وقال السدى قدم رسول الله - ﷺ - المدينة وبها رجل يقال له ابو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالاخر فانزل الله تعالى
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والطف الحقير والمراد بالمطففين ما بين بقوله.
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا اى أخذوا الكيل او اتزنوا ولم يذكره اكتفاء بذكر الوزن فى القرنية الثانية ولعل الكيل كان هو الغالب فى الاستعمال عَلَى النَّاسِ متعلق بقوله اكتالوا او بقوله يَسْتَوْفُونَ وقع على موضع من تقديره إذا اكتالوا من الناس يستوفون منهم للدلة على ان اكتيالهم لما لهم على الناس او ان اكتيالهم بتحامل فيهم عليهم قال الفراء من وعلى يتعاقبان فى هذه الموضع فاذا اكتلت عليك كانه قال أخذت ما عليك وإذا قال اكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك.
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ الضمير المنصوب راجع الى الناس اى كالوهم او وزنوهم حذف الجار وأوصل الفعل روى التقدير كالوا مكيلهم فحذف المضاف وأقيم مضاف اليه مقامه وليس تأكيد المتصل بالمنفصل إذ المقصود بيان اختلاف حالهم فى الاخذ والإعطاء لا فى المباشرة وعدمها وايضا يابى عنه الخط فانه يستدعى عن اثبات الف بعد الواو يُخْسِرُونَ ط اى ينقصون الكيل والوزن يقال خسر الميزان واخسره وسمى هذا العمل بالتطفيف لان ما يبخس فى الكيل والوزن لا يكون الا حقيرا وفيه ايماء الى ان بخس الحقير موجب للويل والعذاب فبخس الكثير بالطريق الاولى قال رسول الله ﷺ خمس بخمس ما نقض العهد قوم الا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما انزل الله الا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة الا فشا فيهم الموت ولا طففوا
المكيال الا منعوا لنبات وأخذوا بالسنين ولامنعوا الزكوة الا حبس عنهم القطر رواه الحاكم من حديث بريدة ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه الطبراني من حديث ابن عباس قال قال رسول الله - ﷺ - ما ظهر الغلول فى قوم الا القى الله فى قلوبهم الرعب ولا فشا الربوا فى قوم الأكثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان الا قطع عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق الا فشا فيهم الدم وماختر قوم بالعهد الا سلط الله عليهم العدو رواه مالك موقوفا والختر الغدر قلت وقطع الرزق بالتطفيف قد يكون بجعله فقيرا لا يقدر على شىء يكون بمنع الرزق عنه مع قدرته عليه فلا يقدر الاكل منه فى حقه كما فى البقالين من ديارنا قال البغوي كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول اتق الله أوف الكيل والوزن فان المطففين يوقفون يوم القيمة حتى ان العرق ليلجمهم الى انصاف آذانهم.
أَلا يَظُنُّ ذكر الظن مكان اليقين ايماء الى ان من كان يظن ذلك ينبغى ان لا يرتكب موجبات تلك الشدائد فكيف من يستيقن والاستفهام للانكار وفيه تعجيب من مالهم وتوبيخ أُولئِكَ المطففين فاعل ليظن أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ قام مقام المفعولين ليظن.
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ متعلق مبعوثون وللتعليل اى لحساب يوم عظيم او بمعنى فى يوم عظيم وهو يوم القيمة عظمه لعظم ما يكون فيه اخرج ابن المبارك عن الحسن قال لقد مضى بين ايديكم أقوام لو ان أحدهم اتفق عدد هذا الحصى تخشى ان لا ينجوا من عظمة ذلك اليوم.
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من القبور منصوب بمبعوثون على الظرفية او بدل من يوم عظيم وفتحه على البناء لاضافته الى غير متمكن لرب العلمين اى لحسابه وجزائه عن ابن عمر عن النبي - ﷺ - قال يوم يقوم النّاس لِرَبِّ الْعالَمِينَ ط اى حسابه وجزائه عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال يوم يقوم النّاس لرب العالمين حين يغيب أحدهم فى رشحه الى انصاف اذنيه متفق عليه واخرج الحاكم مثله عن ابى سعيد الخدري وفى الصحيحين عن ابى هريرة ان رسول الله - ﷺ - قال يعرق الناس يوم القيمة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين باعا ويلجمهم حتى آذانهم واخرج الطبراني وابو يعلى وابن حبان عن ابن عباس ان الكافر يلجم بعرقه يوم القيمة حتى يقول يا رب أرحني ولو الى النار واخرج الحاكم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان العرق ليلجم الرجل فى الموقف
حتى يقول يا رب ارسالك لى الى النار أهون على مما أجد وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب واخرج البيهقي عن قتادة فى قوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العلمين قال بلغني ان كعبا كان يقول يقومون مقدار ثلاثمائة عام واخرج مسلم عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول تدنوا الشمس يوم القيمة من الخلق حتى يكون منهم مقداد ميل قال سليم بن عامر فو الله ما أدرى ما يعنى بالميل أمساق الأرض أم الميل الذي يكحل به العين فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق فمنهم من يكون الى كعبه ومنهم من يكون الى ركبته ومنهم من يكون الى حقوته ومنهم من يلجمه العرق الجاما وأشار رسول الله ﷺ بيده الى فيه واخرج احمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر نحوه واخرج احمد والطبراني عن ابى امامة الباهلي عنه ﷺ وفيه ويزاد فى حرها كذا وكذا تغلى منها الهوام كما تغلى القدور واخرج احمد والطبراني بسند جيد عن انس رفعه قال لم يلق ابن آدم شيئا منذ خلق الله أشد عليه من الموت وهو أهون مما بعده وانهم ليلقون من هول ذلك اليوم شدة حتى يلجمهم حتى ان السفن لو أجريت لجرت واخرج البيهقي عن ابن عمر وقال يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجمهم الكافر العرق قبل الحساب قيل له فاين المؤمنون قال على كراسى من ذهب ويظلل عليهم الغمام واخرج هناد عن ابن مسعود نحو هذا كله وفيه ما طول ذلك اليوم عليهم اى على المؤمنين الا كساعته من نهار واخرج هناد وابن المبارك عن سلمان قال تدنى الشمس من رؤس الخلائق يوم القيمة قاب قوسين او قوسين ويعطى حر عشر سنين وليس أحد من الناس عليه يومئذ صحره الى خرقة ولا يرى عورة مومن ولا مؤمنة ولا يجد حرها مومن ولا مؤمنة واما الكافر فيطبخهم طبخا حتى يسمع لاجوافهم عق عق.
كَلَّا ردع عن التطفيف وتم الكلام وقال الحسن كلا ابتداء يتصل بما بعده بمعنى حقا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ يعنى صحف أعمالهم التي كتبتها الحفظة الكرام والمراد بالفجار الكفار لَفِي سِجِّينٍ مشتق من السجن بمعنى الحبس فى القاموس السجين كالسكين الحبس الدائم الشديد قال الأخفش فعيل من السجن كما يقال فسيق وشريب معناه لفى حبس شديد وقال عكرمة لفى سجين اى فى خساء وضلال لما كان كتاب الفجار اى ما فى الكتاب من الأعمال موجبا لكونهم فى الحبس والخساء والضلال أسند ذلك الى الكفار مجازا والظاهر من الأحاديث والآثار ان السجين اسم موضع فى كتاب الفجار كذا فى القاموس وكون الكتاب فى ذلك الموضع بان يوضع صحف أعمالهم هناك او يكتب هناك كتاب جامع الصحف
219
اعمال الفجار من الثقلين ووجه تسمية ذلك الموضع بالسجين ان هناك يحبس أرواح الكفار أجمعين وذلك الموضع هو الأرض السابعة او تحت الأرض السابعة اخرج ابن مندة والطبراني وابو الشيخ عن حمزة بن حبيب مرسلا قال سئل رسول الله ﷺ عن أرواح المؤمنين فقال فى طير خضر تسرح فى الجنة حيث شاءت قالوا يا رسول الله وأرواح الكفار قال محبوسة فى سجين وروى ابن المبارك والحكيم الترمذي وابن ابى الدنيا وابن مندة عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال نفس الكافر فى سجين قال البغوي قال عبد الله بن عمر وقتادة ومجاهد والضحاك سجين هى الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار وقلت كذا اخرج ابن ابى الدنيا عن عبد الله بن عمر روى البغوي بسنده عن البراء قال قال رسول الله ﷺ سجين أسفل سبع ارضين وعلّيون فى السماء السابعة تحت العرش وقد ورد فى حديث طويل عن البراء بن عازب مرفوعا فى ذكر موت المؤمنين وموت الكفار فذكر فى الكفار انه لا يفتح لهم أبواب السماء فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا الحديث اخرج احمد وغيره وذكر البغوي قول شبرمة بن عطاء جاء ابن عباس الى كعب الأحبار فقال أخبرني عن قول الله عز وجل ان كتب الفجار لفى سجين فقال ان روح الفاجر يصعد بها الى السماء فتابى السماء ان تقبلها ثم تهبط بها الى الأرض فتابى الأرض ان تقبلها فتدخل تحت سبع ارضين حتى ينتهى بها الى سجين وهى موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين من تحت جند إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيمة وقال الكلبي هى صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السماء منها يجعل كتاب الفجار تحتها وروى عن ابن نجيح عن مجاهد قال سجين صخرة تحت الأرض السفلى تقلب فيجعل كتاب الفجار فيها وقال البغوي جاء فى الحديث الفلق جب فى جهنم مغطى والسجين جب فى جهنم مفتوح قلت ويمكن الجمع بينهما اعنى بين كون السجين تحت الأرض السابعة وكونه فى جهنم ان جهنم تحت الأرض السابعة السفلى اخرج ابو الشيخ فى العظمة والبيهقي من طريق ابى الزعراء عن عبد الله قال الجنة فى السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة السفلى واخرج البيهقي فى الدلائل
220
عن عبد الله بن سلام الجنة فى السماء والنار فى الأرض واخرج ابن جرير فى تفسيره عن معاذ قال سئل رسول الله - ﷺ - من اين يجاء بجهنم يوم القيمة قال لجاء بها من الأرض السابعة بها الف زمام لكل زمام سبعون الف ملك فاذا كانت من العباد على مسيرة الف سنة زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول رب نفسى نفسى.
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ط تفخيم وتهويل قال الزجاج ليس ذلك مما كنت تعلمها أنت ولا قومك.
كِتابٌ مَرْقُومٌ ط اى مكتوم فيه أعمالهم ثبت عليهم كالرقم فى الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به او المعنى معلم يعلمه من راه انه عرف لا خير فيه وقيل معناه مختوم بلغة حمير قال البغوي ليس هذا تفسيرا للسجين بل هو بيان الكتاب المذكور ان كتب الفجار وقال البيضاوي هذا تفسير للسجين لقب به الكتاب لانه سبب للحبس فقال هذا ظرفية السجين الكتاب لكونه كتابا جامعا لكتب الفجار من الثقلين والظاهر ان السجين فيه مقر أرواح الكفار ومقر صحف أعمالهم وفى الكلام حذف مضاف اما اى فى السجين اى ما كتاب سجين او فى كتاب مرقوم اى محل كتاب مرقوم بالشر.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالحق.
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ط صفة موضحة او ذامة او مخصصة او بدل من المكذبين وجملة ويل يومئذ إلخ معترضة للذم قلت ويحتمل ان يكون فى محل الرفع من مرقوم بمعنى رقم فيه ويل يومئذ إلخ او صفة الكتاب اى كتاب موجب للويل والتأويل الاول اظهر من حيث اللفظ وللاخيرين من حيث المعنى لان كونه كتابا مرقوما ليس من خصائص كتاب الفجار بل قيل مثل ذلك فى كتب الأبرار ايضا يتصور كونه جوابا لقوله ما سجين.
وَما يُكَذِّبُ بِهِ اى بيوم الدين إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ مجاوز عن الحد فى الجهل وتقليد الآباء الجهلة حتى أنكر قدرة الله على الاعادة أَثِيمٍ منهمك فى الشهوات اشتغل بها عما ورائها وحمله على الإنكار لما عداها.
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا يعنى القران شرط جزائه قالَ من فرط جهله وغفلته عن كونه معجزا او من غباوته واعراضه عن الحق تعنتا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ط خبر مبتداء محذوف اى هى والأساطير جمع اسطورا واسطارا او اسطر بمعنى الأحاديث التي لا نظام بها فى القاموس وفى الصراح أساطير الأولين اى شى كتبوه كذبا والجملة الشرطية
صفة بعد صفة لمعتد لبيان انه لا ينفعه من الادلة العقلية والنقلية شى والجملة وما يكذب به معترضة.
كَلَّا ردع عن التكذيب وعما قالوا وقال مقاتل معناه اى لا يومنون بَلْ سكته إضراب عن الردع ينفى قابلية قلوبهم عن درك الحق وتميزه من الباطل يسكت حفص هاهنا سكتة ويدغم غيره رانَ قال ابو بكر وحمزه والكسائي فتح الراء والباقون بتفخيمها عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ والرين الغلبة يقال ران الخمر على قلبه إذا غلب عليه سكره والمعنى غلب على قلوبهم ظلمت ما كانوا يكسبون من المعاصي حتى عمى قلوبهم عن التميز بين الحق والباطل عن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء فى قلبه فان تاب وفزع واستغفر صقل قلبه منها وان زاد زادت حتى تعلو قلبه فذالكم الران الذي ذكر الله فى كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون رواه البغوي وكذا اخرج احمد والترمذي وصححه واحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وفى بعض الروايات ان العبد كلما أذنب ذنبا الحديث ولفظ المؤمن يدل على شدة السوداء قلب الكافر بطريق الاولى.
كَلَّا ردع عن كسب المعاصي الموجبة للرين او هو بمعنى حقا لتحقيق الرين قال يريد انهم لا يصدقون إِنَّهُمْ اى الكفار عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ اى يوم الدين يوم يرى الله سبحانه المؤمنون لَمَحْجُوبُونَ ط لحجب ظلماتهم الناسبة عنهم فلا يرون الله سبحانه كما كانوا لا يرون الحق من الباطل فى الدنيا قال الحسن لو علم الزاهدون والعابدون انهم لا يرون ربهم لزهقت أنفسهم فى الدنيا سئل مالك عن هذه الاية فقال لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لاولياءه حتى رأوه وقال الشافعي فى الاية دلالة على ان اولياء الله يرون الله.
ثُمَّ اى بعد كونهم محجوبين عن روية الله إِنَّهُمْ لَصالُوا اى لداخلوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقالُ يقول لهم خزنة جهنم هذَا هذا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا ان التطفيف تكرير للاول ليعقب وعد الأبرار كما عقب وعيد الفجار اشعارا بأن التطفيف فجور كما ان الإيفاء برا وردع عن تكذيب العذاب او هو بمعنى حقا وقال مقاتل معناه لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قال بعض اهل المعاني هو علو وشرف بعد شرف ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء
اسم موضع على صيغة الجمع لا واحد له من لفظ كعشرين وقال بعض المحققين هو منقول من جمع على وزن فعيل من العلو وقد مر حديث البراء المرفوع عليين فى السماء السابعة تحت العرش وفى الحديث البراء الطويل فى ذكر الموت المؤمنين والكفار ذكر فى نفس المؤمن انه يصعد بها حتى ينتهى بها الى السماء السابعة فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدى فى عليين وأعيدوا الأرض الحديث أخرجه احمد وابو داود والحاكم وغيرهم من طرق صحيحة وقال ابن عباس هو يعنى عليين لوح زبرجد خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها ومن هاهنا قالوا هو كتاب جامع الأعمال الخير من الملئكة ومومنى الثقلين وقال كعب وقتادة هو قائمة العرش اليمنى وقال عطاء عن ابن عباس هو الجنة وقال عطاء والضحاك هو سدرة المنتهى.
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام فيه كما مر فى نظيره.
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ط صفة لكتاب كما كان ويل للمكذبين صفة هناك والمقربون قال البغوي يعنى الملائكة قلت وأرواح الأنبياء والصديقين والشهداء ايضا فان هناك لعزها كما اخرج مسلم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أرواح الشهداء عند الله فى حواصل طير خضر تسرح فى انهار الجنة حيث شاءت تأوي الى قناديل تحت العرش وكذا روى سعيد بن منصور عن ابن عباس وتقى بن مخلد عن ابن ابى سعيد الخدري وروى ابو الشيخ عن انس قال يبعث الله شهداء من حواصل طير بيض كانوا فى قناديل معلقة بالعرش واخرج ابن مندة عن ابن شهاب بلاغا بلغني ان أرواح الشهداء كطير خضر المعلقة بالعرش تغدوا ثم ترجع الى رياض الجنة يأتى ربها سبحانه وتعالى كل يوم يسلم عليه واخرج ابن ابى حاتم عن ابى الدرداء قال هى يعنى أرواح الشهداء طائر خضر فى قناديل الحديث واخرج البخاري عن انس انه قال لما قتل حارثة قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انه جنان وانه فى الفردوس الأعلى وقال الله تعالى فى حبيب نجار قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى الاية ولا منافاة بين كونهم فى الجنة وكونهم تحت العرش فى قناديل لان العرش بمنزلة السماء للجنة قلت وهذا الحكم غير مختص بالشهداء فان الأنبياء والصديقين أعلى منهم منزلة وقد ورد فى الحديث بلفظ المؤمنين مطلقا اخرج مالك والنسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك ان رسول الله - ﷺ -
223
قال انما نسمة المؤمن طاير المتعلقة فى شجرة الجنة حتى ترجع الى جسده يوم القيمة وكذا اخرج احمد والطبراني عن أم هانئ عنه صلى الله عليه واله وسلم قال يكون النسم طير التعلقه بالشجر حتى إذا كان يوم القيمة دخلت كل نفس فى جسده واخرج ابن عساكر عن أم بشر امرأة ابى معروف نحوه والمراد فى تلك الأحاديث الكاملين منهم كما يدل عليه قوله تعالى يشهده المقربون وقد ورد فى بعض الأحاديث ان مقر أرواح المؤمنين فى السماء السابعة ينظرون الى منازلهم فى الجنة أخرجه ابو نعيم بسند ضعيف عن ابى هريرة واخرج ايضا عن وهب بن منبه ان لله تعالى فى السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين وفى بعض الأحاديث إذا اخرج من الجسد كان بين السماء والأرض رواه سعيد بن منصور عن سلمان وروى ابن المبارك والحكيم الترمذي وابن ابى الدنيا وابن مندة عن سعيد بن المسيب عن سلمان أرواح المؤمنين فى برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت ونفس الكافر فى سجين وفى هذه الحديث حكاية عن حال المؤمنين على تفاوت درجاتهم قال الشعبي فى بحر الكلام الأرواح على اربعة أوجه أرواح الأنبياء تخرج من جسدها وتصير مثل صورتها المسك والكافور وتكون فى الجنة تأكل وتشرب وتنعم وتأوي بالليل الى قناديل معلقة بالعرش وأرواح الشهداء تخرج من جسدها ويكون فى أجواف طير خضر فى الجنة تأكل وتشرب وتنعم وتأوي بالليل الى قناديل معلقة بالعرش وأرواح المطيعين من المؤمنين يربص بالجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر فى الجنة وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض فى الهواء واما أرواح الكفار فهى فى السجين فى جوف طير سود تحت الأرض السابعة قلت وما ذكر فى أرواح الأنبياء انها تصير فى مثل صورتها المسك والكافور يعنى ان لها أجسادا كالاجساد الإنسان وعبرها بالمسك لتطيب ريحها وعبر المجدد عن تلك الأجساد بالجسم الموهب ويكون ذلك للانبياء ولكمل اتباعهم الصديقين قبل الموت فان قيل بعض الأحاديث الصحاح تدل على ان أرواح المؤمنين حتى الأنبياء وأرواح الكفار كلها فى القبور كما ورد فى حديث البراء الطويل يقول الله تعالى فى حق المؤمنين اكتبوا كتاب عبدى فى عليين واعيدوه الى الأرض فانى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة اخرى فيعاد روجه فى جسده وكذا قال فى الكافر فيعاد روحه فى قبره قال ابن عبد البر هذا أصح ما قيل
224
وقد راى النبي ﷺ موسى عليه السلام فى قبره يصلى ليلة اسرى به وانه ﷺ قال من صلى على عند قبرى سمعته ومن صلى على غائبا بلغته فكيف تطبيق قلنا وجه التطبيق
أن مقر أرواح المؤمنين فى عليين او فى السماء السابعة ونحو ذلك كما مر ومقر أرواح الكفار فى سجين ومع ذلك لكل روح منها اتصال لجسده فى قبره لا يدرك كنهه الا الله تعالى وبذلك الاتصال يصح ان يعرض على الإنسان المجموع المركب من الجسد والروح مقعده من الجنة او النار ويحس اللذة او الألم ويسمع سلام الزائر ويجيب المنكر والنكير ونحو ذلك بما ثبت بالكتاب والسنة كما ان جبرئيل مع كون مستقره من السموات كان يدنوا من النبي ﷺ حتى يضع يديه على فخذيه قال الشعبي فى بحر الكلام هى متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح ويتالم الأجساد منها كالشمس فى السماء ونورها فى الأرض والله تعالى اعلم.
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ مستأنفة.
عَلَى الْأَرائِكِ اى على الاسرة فى الحجال حال من المستكن فى ظرف المستقر يَنْظُرُونَ حال بعد حال مترادف لما سبق او متداخل قال اكثر المفسرين يعنى ينظرون الى ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة وقال قتادة ينظرون الى أعدائهم كيف يعذبون فى النار قلت ينظرون الى ربهم تبارك وتعالى كما ان الكفار عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
تَعْرِفُ ايها المخاطب كذا قرأ الجمهور وقرأ ابو جعفر ويعقوب على المبنى للمفعول فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ بالرفع عند جعفر ويعقوب وبالنصب عند الجمهور النَّعِيمِ ج اى بجنة النعيم قال الحسن النضرة فى الوجه والسرور فى القلب.
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ اى جنة صافية طيبة بيضاء مَخْتُومٍ اى ممنوع من ان تمسه يد الى ان يفك ختامه الأبرار.
خِتامُهُ مِسْكٌ ط قرأ الكسائي خاتمه بتقديم الالف على التاء على وزن عالم والباقون على وزن كتاب فى القاموس ختام ككتاب الطين يختم على الشيء والخاتم ما يوضع على الطينة والمراد بالقراءتين واحد اى مختوم او آنية بالمسك مكان الطين وكذا قال ابن زيد وقال ابن مسعود مختوم اى ممزوج ختامه اى اخر طعمه وعاقبته مسك فى القاموس والختام من كل شىء آخره وَفِي ذلِكَ الرحيق والنعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ط التنافس مشتق من النفس او من النفيس ومعناه اختيار الشيء النفيس لنفسه بحيث ينفسه به اى يضن به على غيره وحاصل المعنى فليرغب
الراغبون يعنى ان التنافس لا يليق على الامتعة الدنيوية لبخستها وقلتها ونفادها بل على النعم الاخروية فان قيل التنافس من الرذائل فكيف يكون مرغوبا فيه قلت انما هو من الرذائل إذا كان متعلقا بالأمور الدنيوية لانها غير مرضية لله تعالى ولانها يستلزم الإضرار بغيره إذا لامتعة الدنيوية فافدة قليلة إذا اختار لنفسه فات عن غيره بخلاف النعم الاخروية فانها مرضية لله تعالى ولا ينفد فايثارها لنفسه لا يضر بغيره.
وَمِزاجُهُ اى يمزج به الرحيق مِنْ تَسْنِيمٍ قال البغوي شراب ينصب عليهم من علو فى غرفهم ومنازلهم قلت الظاهر انها تنصب من فوق العرش فان العرش بمنزلة السقف للجنة وقيل يجرى فى الهواء متسنما فينصب فى أواني اهل الجنة على قدر ملئها فاذا امتلئت امسك وهذا معنى قول قتادة واصل الكلمة من العلو يقال للشئ المرتفع سنام ومنه سنام البعير قال الضحاك هو شراب اسمه تسنيم وهو من اشرف اشربة الجنة قال ابن مسعود وابن عباس هو خالص للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لساير اهل الجنة ثم فسره بقوله.
عَيْناً منصوب على المدح او بتقدير اعنى او حال من تسنيم يَشْرَبُ بِهَا اى منها او بتضمين يلتذ صفة لعينا الْمُقَرَّبُونَ ط اى اصحاب كمالات النبوة بالاصالة او بالوراثة وهم الصديقون قال البغوي روى يوسف بن مهران عن ابن عباس انه سئل عن قوله من تسنيم قال هذا مما قال الله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعنى كفار قريش ابو جهل والوليد بن مغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مشركى مكة كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عمار وصهيب وخباب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين يَضْحَكُونَ استهزاء بهم.
وَإِذا مَرُّوا
اى المؤمنون بِهِمْ
اى بالكفار يَتَغامَزُونَ
اى الكفار يشيرون إليهم بالجفن والحواجب استهزاء والجملة الشرطية معطوفة على يضحكون خبر لكانوا وكذا الشرطيتين الأخريين.
وَإِذَا انْقَلَبُوا اى الكفار إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ معجبين ملتذين بالسخرية منهم قرأ حفص فكهين بغير الف والباقون بالألف فاكهين.
وَإِذا رَأَوْهُمْ يعنى الكفار المؤمنين قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ اى خدعهم محمد فضلوا عن دين ابائهم وتركوا اللذات لما يرجون فى الاخرة من الكرامات فقد تركوا الحقيقة بالخيال.
وَما أُرْسِلُوا اى الكفار عَلَيْهِمْ
على المؤمنين حافِظِينَ ط لاعمالهم ويشهدون برشدهم وصلاحهم جملة وما أرسلوا حال من فاعل قالوا.
فَالْيَوْمَ اى يوم كون المؤمنين على الأرائك ينظرون الى الله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حين يرونهم فى السلاسل والاغلال فى النار قال البغوي قال ابو صالح وذلك انه يفتح للكفار فى النار ابوابها ويقال لهم اخرجوا فاذا رأوها مفتوحة اقبلوا إليها ليخرجوا والمؤمنون ينظرون إليهم فاذا انتهوا الى ابوابها غلقت دونهم يفعل بهم ذلك مرارا والمؤمنون يضحكون من الكفار كما كان الكفار يضحكون منهم فى الدنيا وقال كعب بين الجنة والنار كوى فاذا أراد المؤمن ان ينظر الى عدو له فى الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال الله تعالى فاطلع فراه فى سواء الجحيم فاذا اطلعوا من الجنة الى أعدائهم وهم يعذبون فى النار فضحكوا فذلك قوله تعالى هذه الاية واخرج البيهقي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان المستهزئين بالناس يفتح لاحدهم باب من الجنة فيقال لاحدهم هلم فجيئ بكربه وغمه فاذا جاء اغلق دونه فما زال كذلك حتى ان أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال له هلم فما يأتيه من الا يأس.
عَلَى الْأَرائِكِ حال من فاعل يضحكون يَنْظُرُونَ اى الكفار فى النار حال مترادف او متداخل لما قبله-.
هَلْ ثُوِّبَ اى جوزى الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ع اى جزاء ما كانوا يعملون من الاستهزاء والاستفهام للتقرير اى نعم والله اعلم بالصواب.
Icon