ﰡ
مكية إلا قوله: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ االآية، وقوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ الآية، وقيل: مدنية إلا قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ الآيتين نزلتا بمكة، وآيها ثلاث وأربعون آية، وحروفها ثلاثة آلاف وخمس مئة وستة أحرف، وكلمها ثمان مئة وخمس وخمسون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)﴾.[١] ﴿المر﴾ قال ابنُ عباسٍ: "معناهُ: أنا اللهُ أَعلمُ وأَرى" (١) وتقدَّمَ ذكرُ السَّكْتِ والإمالةِ في أولِ سورةِ يونسَ (٢).
﴿تِلْكَ﴾ أي: أخبارُ الأممِ المتقدمةِ ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ أي: الكتبِ المنزلةِ على الأنبياءِ قبلَكَ ﴿وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني: القرآنَ، مبتدأٌ، خبرُه ﴿الْحَقُّ﴾ فاعتصِمْ به.
(٢) في الآية (١) منها.
﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لعدمِ تأمُّلِهم فيه.
...
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)﴾.
[٢] ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ جمعُ أَعْمِدَةٍ، وهي جمعُ عمودِ البيتِ، يعني: السَّواري ﴿تَرَوْنَهَا﴾ استشهادٌ برؤيتِهم لَها كذلكَ، والمرادُ: نفيُ العَمَدِ أصلًا، وهو الأصحُّ، فهي واقفةٌ كالقبَّةِ، والقدرةُ أعظمُ من ذلكَ.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ بلا كيفٍ، وتقدَّمَ الكلامُ عليه في سورةِ الأعرافِ.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ ذَلَّلَهما لمنافعِ خَلْقِه على ما يريدُه تعالى.
﴿كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ لوقتٍ معلومٍ، وهو انقضاءُ الدنيا.
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ في خَلْقِه من غيرِ شريكٍ له فيه.
﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ يُبين البراهينَ.
﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ لكي تُصَدِّقوا وعدَه.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾ بَسَطَها ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالًا ثوابِتَ، قالَ
﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ يُلْبِسُهُ مكانَه، فيصيرُ الجوُّ مظلمًا بعدَ ما كان مضيئًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصم: ﴿نُغْشِي﴾ بالنون (٢)، والباقون: بالياء ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكورِ.
﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها، والتفكُّرُ: تصرُّفُ القلبِ في معاني الأشياءِ.
...
﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ متلاصقاتٌ مختلفاتٌ مع تلاصُقِها طيبةٌ إلى سبخةٍ، وكثيرةُ الريعِ إلى قليلهِ، ونحوُ ذلك.
﴿وَجَنَّاتٌ﴾ بساتينُ ﴿مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ﴾ هي النخلاتُ يجمعُهُنَّ أصلٌ واحدٌ، ومنهُ قولُ النبيِّ - ﷺ - في العباسِ: "عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (٣).
(٢) "بالنون" ساقطة من "ت".
(٣) رواه مسلم (٩٨٣)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾ وهي متغايرةٌ في الألوانِ والطُعومِ. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (يُسْقَى) بالياءِ على التذكيرِ؛ أي: يُسْقَى المذكورُ، وقرأ الباقونَ: بالتاءِ على التأنيث؛ أي: تُسْقَى الجنةُ بما فيها، وأمالَ حمزةُ، والكسائيُّ القافَ (٢).
﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ في الثمرِ والطَّعْم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَيُفَضِّلُ) بالياء؛ لقوله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ﴾، وقرأ الباقون: بالنون على معنى: ونحن نفضِّلُ بعضَها على بعضٍ في الأُكُل (٣)، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ: (الأُكْلِ) بإسكانِ الكافِ، والباقون: بضمِّها (٤)، والأُكْلَةُ بضمِّ الهمزةِ: اللقمةُ، وبكسرِها: الحالةُ يؤكَلُ عليها،
(٢) المصادر السابقة.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٥٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥١٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٠٦ - ٢٠٧).
(٤) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٠٧).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكورِ ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يستعمِلون عقولَهم بالتفكُّرِ.
...
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ﴾ يا محمدُ من إنكارِهم النشأةَ الآخرةَ، مع إقرارِهم بابتداءِ الخلقِ من اللهِ عز وجل، وقد تقرر في القلوب أنَّ الإعادةَ أهونُ من الابتداء.
﴿فَعَجَبٌ﴾ تصويبٌ لعَجَبِهِ - ﷺ -، والعجبُ: تغيرُ النفسِ برؤيةِ المستبعَدِ في العادة. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلادٌ عن حمزةَ: ﴿تَعْجَبْ فَعَجَبٌ﴾ بإدغامِ الباءِ في الفاء، والباقون: بالإظهار (١).
﴿قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا﴾ بعدَ الموتِ.
﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي: أَنُبْعَثُ خَلْقًا جديدًا بعدَ الموتِ؟ واختلافُ القراءِ في (أَئِذَا) (أَئِنَّا) في الإخبارِ بالأولِ منهما، والاستفهامِ بالثاني،
﴿أُولَئِكَ﴾ أي: منكرو البعثِ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ أي: أعمالُهم الخبيثةُ.
﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يُنْقَلون عنها.
...
[٦] ونزلَ فيمن طلبَ العذابَ قبلَ حينهِ استهزاءً بالنبيِّ - ﷺ -: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ أي: بالنِّقمةِ قبلَ العافيةِ، والاستعجالُ: طلبُ تعجيلِ الأمرِ قبلَ مجيءِ وقتِهِ.
﴿وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ﴾ جَمْعُ مَثُلَة؛ أي: عقوباتُ أمثالِهم من المكذِّبينَ، المعنى: قد عرفوا ما نزلَ بالأممِ قبلَهم من الهلاكِ، فكيفَ يستعجلونه؟
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ أي: يغفرُ ذنوبَهم مع ظلمِهم أنفسَهم بالمعاصي والشركِ إنْ تابوا ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ للكفارِ.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عِنادًا:
﴿لَوْلَا﴾ أي: هلَّا ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ أي: على محمد - ﷺ -.
﴿آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: حجَّةٌ على صدقِ نبوَّتهِ؛ كإحياءِ عيسى الموتى، وقلبِ عَصا موسى حيةً، قالَ اللهُ تعالى:
﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾ ما عليكَ إلا البلاغُ.
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ نبيٌّ يرشدُهم. وقفَ ابنُ كثيرٍ (هادي) بإثباتِ الياءِ بعدَ
...
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨)﴾.
[٨] ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى﴾ من ذكرٍ وأنثى، وتامٍّ وناقصٍ، وأَبيضَ وأسودَ، وواحدٍ واثنينِ وأكثرَ.
﴿وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ﴾ أي: تنقصُ ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ أي: تأخذُهُ زائدًا، فنقصانُ الأرحامِ: وضعُها لأقلَّ من تسعةِ أشهرٍ، وزيادتُها: وضعُها لأكثرَ من تسعةِ أشهرٍ، وقيلَ غيرُ ذلك، وأقلُّ مدةِ الحملِ ستةُ أشهرٍ بالاتفاق، وغالبُها تسعةُ أشهرٍ، واختلفوا في أكثرِها، فقال أبو حنيفةَ: سنتانِ، وقال مالكٌ: خمسٌ، وهو المشهورُ عنه، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: أربعٌ.
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ﴾ في علمه ﴿بِمِقْدَارٍ﴾ بتقديرٍ معلومٍ.
...
[٩] ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ ما غابَ عن خلقِه ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾ ما شاهدوه.
﴿الْكَبِيرُ﴾ الذي كُلُّ شيءٍ دونَهُ.
﴿الْمُتَعَالِ﴾ عن صفاتِ المخلوقين، وقولِ المشركين. قرأ ابنُ كثيرٍ ويعقوبُ: (الْمُتَعَالِي) بإثباتِ الياءِ، وحذفَها الباقون (١).
...
﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ أي: استوى في علمِ اللهِ خافي القولِ وظاهرهُ، ومُخفيهِ ومُظهِرهُ ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ﴾ مستترٌ يطلبُ الخفاءَ.
﴿بِاللَّيْلِ﴾ بظلامِه: رُوِيَ عن يعقوبَ وقنبلٍ: الوقفُ بالياءِ على (مُسْتَخْفِي).
﴿وَسَارِبٌ﴾ سالكٌ في سَرْبِهِ؛ أي: طريقِه ﴿بِالنَّهَارِ﴾ والسَّرْبُ بفتحِ السينِ وسكونِ الراء: الطريقُ، قال ابنُ عباسٍ: "هُوَ صاحبُ رِيبةٍ مستخفٍ
...
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)﴾.
[١١] ﴿لَهُ﴾ أي: الإنسانِ المؤمنِ.
﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾ أي: الملائكةُ تتعاقبُ في حفظِه.
﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي: من قُدَّامِهِ ومن ورائِه، والتعقيبُ: العودُ بعدَ البَدْءِ، وإنما ذُكر بلفظِ التأنيثِ؛ لأن المرادَ: الجماعاتُ التي يعقبُ بعضُها بعضًا.
﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: بأمرِ الله، فإذا جاءَ القدرُ، خَلَّوْا عنه.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ من النعمةِ.
﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ هو بكثرةِ المعاصي.
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا﴾ عذابًا ﴿فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ لا يَرُدُّه شيءٌ ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ أي: المرادُ هَلاكُهم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ من دونِ الله ﴿مِنْ وَالٍ﴾ وَليٍّ. وتقدَّمَ اختلافُ القراءِ في (وَالٍ) عندَ (هَادٍ) (٢)، وفيه دليلٌ على أنَّ خلافَ مرادِ اللهِ مُحالٌ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٦٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٠)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢١١).
[١٢] ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا﴾ من الصاعقةِ ﴿وَطَمَعًا﴾ في الغيثِ ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ﴾ الغيمَ المنسحبَ بالماء.
﴿الثِّقَالَ﴾ بالمطرِ، قال عليٌّ: "السَّحابُ غِرْبالُ الماءِ" (١).
...
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾ والرعدُ اسمُ مَلَكٍ يسوقُ السحابَ، والصوتُ المسموعُ تسبيحُه، فإذا سَبَّحَ، لم يبقَ مَلَكٌ إلا رفعَ صوتَه بالتسبيحِ، فينزلُ القطرُ، وعن عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ أنه كانَ إذا سمعَ صوتَ الرعدِ، تركَ الحديثَ، وقالَ: "سُبْحانَ من يُسَبِّحُ الرعدُ بحمدِه، والملائكةُ من خيفتَهِ، ويقولُ: إنَّ هذا الوعيدَ لأهلِ الأرضِ لشديدٌ" (٢).
﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أيضًا تسُبِّحُ ﴿مِنْ خِيفَتِهِ﴾ أي: خيفةِ الله تعالى.
﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ﴾ جمعُ صاعقةٍ، وهي العذابُ المهلِكُ ينزلُ من البرقِ.
(٢) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (٢/ ٩٩٢)، والبخاري في "الأدب المفرد" (٧٢٣)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (٢٩٢١٤)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٣/ ٣٦٢)، عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-.
﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ﴾ بتكذيبِهم عظمتَهُ وتوحيدَهُ.
﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ العقوبةِ، يقال: محلَ الرجلُ بالرجلِ: إذا مكرَ بهِ وأخذَه بسعايةٍ شديدةٍ.
...
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤)﴾.
[١٤] رُوي أن عامرَ بنَ الطُّفَيل، وأَرْبَدَ بنَ ربيعةَ أخا لَبيدٍ وَفَدا على رسولِ الله قاصِدَيْنِ قتلَه، فأخذَهُ عامرٌ بالمجادلةَ، ودارَ أربدُ من خلفِه ليضربَهُ بالسيفِ، فتنبَّهَ له رسولُ اللهِ - ﷺ -، وقال: "اللَّهُمَّ اكْفِنِيِهِما بِمَا شِئْتَ"، فأرسلَ اللهُ على أربدَ صاعقةً فأحرقَتْهُ، وولَّى عامِرٌ هاربًا، فنزلَ ببيتِ امرأةٍ سلوليةٍ، فرميَ بغُدَّةٍ عظيمهٍ، فماتَ، وكانَ يقولُ: غُدَّة كغدَّةِ البعيرِ، ومَوْتٌ في بيتِ سَلوليَّةٍ؟! فنزلت الآيةُ:
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ (١) أي: هو المستحقُّ لها، وهي لا إلهَ إلا اللهُ.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ أي: الآلهةُ الذين يدعونَهم الكفار.
﴿لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ يريدونه.
﴿إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ أي: لا ينتفعُ عبدةُ الأصنامِ
﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ الأصنامَ ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ لا يفيدُ شيئًا، ولا يُغْنيهم.
...
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: ينقادون.
﴿طَوْعًا﴾ هم المؤمنون.
﴿وَكَرْهًا﴾ هم المنافقونَ والكافرونَ الذين أُكْرِهوا على السُّجودِ بالسيفِ.
﴿وَظِلَالُهُمْ﴾ جاءَ في التفسيرِ أن الكافرَ يسجدُ لغيرِ اللهِ، وظِلُّه يسجُد لله ﴿بِالْغُدُوِّ﴾ البُكَرِ ﴿وَالْآصَالِ﴾ العَشايا، جمعُ أُصلٍ، والأُصلُ جمعُ أَصيلٍ، وهو ما بينَ العصرِ وغروبِ الشمسِ، وهذا محلُّ سجودٍ بالاتفاق، وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ في سجودِ التلاوة، وحكمُه، وسجودُ الشكرِ آخِرَ سورةِ الأعرافِ مستوفًى.
...
﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قُلْ﴾ للمشركينَ استفهام إنكارٍ ﴿مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خالقُها
﴿قُلْ﴾ أنتَ إلزامًا لهم: ﴿أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ أي: دونِ اللهِ.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ أصنامًا.
﴿لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ ومَنْ لا يملكُ لنفسِه شيئًا، فلا يملكُ لغيرِه، ومن هو كذلكَ، فكيف يُعْبَدُ ويُتَّخَذُ وَلِيًّا. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (أَفَتَّخَذْتُمْ) بإظهارِ الذالِ عندَ التاء، والباقون: بالإدغام (١)، ثم ضربَ لهم مثلًا فقال:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ يعني: الكافرُ والمؤمنُ ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ يعني: الكفرُ والإيمانُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (أَمْ هَلْ يَسْتَوِي) بالياءِ على التذكير؛ لأنه تأنيثٌ غيرُ حقيقيٍّ، والفعلُ مقدَّمٌ، وقرأ الياقون: بالتاء على التأنيث (٢)؛ لأنه مؤنَّثٌ لم يفصلْ بينَه وبينَ فاعلِه شيءٌ، ثم استفهمَ مُنْكِرًا مُعَجِّبًا منهم فقالَ:
﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ المعنى: لم يَتَّخِذوا آلهةً يخلقونَ شيئًا فيشتبهُ خلقُهم بخلقِ اللهِ تعالى.
﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ بلا شريكٍ، فيعبَدُ بلا شركةٍ.
﴿وَهُوَ الْوَاحِدُ﴾ المتوحِّدُ بالألوهيةِ ﴿الْقَهَّارُ﴾ الغالبُ على كلِّ شيءٍ.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٥٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢١٤).
[١٧] ثم ضربَ مثلَين للحقِّ والباطلِ، فقال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني: المطرَ.
﴿فَسَالَتْ﴾ من ذلكَ الماءِ ﴿أَوْدِيَةٌ﴾ جمع وادٍ ﴿بِقَدَرِهَا﴾ صغيرًا وكبيرًا.
﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا﴾ هو ما علا وجهَ الماءِ من رغوةِ الماءِ وغيرِها.
﴿رَابِيًا﴾ عاليًا على الماءِ، فالماءُ الصافي هو الحقُّ، والذاهبُ الزائلُ الذي يتعلَّقُ بالأشجارِ وجوانبِ الأودية هو الباطلُ، فهذا أحدُ المثلين، والمثلُ الآخرُ قولُه تعالى:
﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يُوقِدُونَ) بالغيب؛ لقوله تعالى: (مَا يَنْفَعُ النَّاسَ)، ولا مخاطبةَ هاهنا، وقرأ الباقون: بالخطاب (١)؛ أي: ومن الذي توقدون.
﴿عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ كالذهبِ والفضةِ ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ﴾ طلبَ زينةٍ يُتَزَيَّنُ بها.
﴿أَوْ مَتَاعٍ﴾ وهو ما يُنْتفعُ بهِ؛ كالنحاسِ والرصاصِ يُذابُ فَيُتَّخَذُ منه الأواني، والإيقادُ: جعلُ النارِ تحتَ الشيءِ ليذوبَ.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ﴾ أي: يُمَثِّلُ ﴿اللَّهُ الْحَقَّ﴾ الذي يتقرَّرُ في القلوب.
﴿وَالْبَاطِلَ﴾ الذي يعتريها أيضًا.
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ﴾ الذي علا السيلَ والفلزَّ، وهو ما يَنْفيه الكيرُ مما يُذاب من جواهرِ الأرض.
﴿فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ باطِلًا، والجفاءُ: هو ما يرمي به سيلُ الوادي إلى جنباته من الغُثاءِ، وجَفَأَتِ القِدْرُ: إذا غَلَتْ وألقتْ زَبَدَها.
﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ من الماءِ وخلاصةِ الفلزِّ من الذهبِ والفضةِ والنحاسِ.
﴿فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ لمنافعهم.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ فيظهرُ الحقُّ منَ الباطلِ.
...
﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا﴾ أجابوا ﴿لِرَبِّهِمُ﴾ وأطاعوه.
﴿الْحُسْنَى﴾ الجنةُ، وكلُّ ما يختَصُّ به المؤمنُ من نعمِ اللهِ سبحانه، و (السُّوءَى) النارُ.
﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ هم الكافرون {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ﴾ هو المناقشةُ فيه، فلا يُغْفَرُ لهم شيءٌ من ذنوبهم.
﴿وَمَأْوَاهُمْ﴾ في الآخرةِ ﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ المستقرُّ.
...
﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩)﴾.
[١٩] ثم أدخلَ همزةَ الإنكارِ على الفاءِ مبينًا أَنْ لا مساواةَ بينَ حالِ المستجيبِ وضدّهِ فقالَ: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ﴾ ويؤمنُ به، وهو حمزةُ رضيَ اللهُ عنهُ ﴿كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ عن الحقِّ لا يبصرُه، وهو أبو جهلٍ وغيرُه ممن كانَ كذلك.
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ﴾ يَتَّعِظُ ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ذَوو العقولِ فيستجيبونَ.
...
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ إذا عاهدوا.
﴿وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ العهدَ الموثَّقَ.
...
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ والمرادُ: صلَةُ الرَّحِمِ
﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ سِرًّا وعلانيةً.
﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ وهو عدمُ المسامحةِ فيه.
...
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على المكارِهِ ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ لا غيرُ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضةَ ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ في مواساةِ المحتاجِ.
﴿سِرًّا﴾ هو ما يُنْفَق تَطَوُّعًا ﴿وَعَلَانِيَةً﴾ هي الزكاةُ المفروضةُ.
﴿وَيَدْرَءُونَ﴾ يدفعون ﴿بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ فيجازونَ الإساءةَ بالإحسانِ، وهذا بخلافِ خُلُقِ الجاهليَّةِ، رُويَ أنها نزلَتْ في الأنصارِ، ثم هي عامَّةٌ بعدَ ذلكَ في كلِّ مَنِ اتصفَ بهذهِ الصفة ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ عاقبةُ الدنيا، وهي الجنةُ.
...
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣)﴾.
﴿يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ﴾ أي: من عملَ صالحًا.
﴿مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ المعنى: يدخلون الجنةَ بجميعِ أهلهم؛ تكميلًا لفرحِهم.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ من أبوابِ الجنةِ.
...
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ أي: هذا الثوابُ لكم بسببِ صبرِكم على مشاقِّ الدينِ، تلخيصُه: تعبتُمْ ثَمَّ، فاسترحْتُم هنا ﴿فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
...
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)﴾.
[٢٥] ونزل في الكفارِ صفةٌ حالة مضادَّة للمتقدمَةِ ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ المأخوذَ عليهم بالطاعةِ.
﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ فيؤمنون ببعض الأنبياءِ، ويكفرون ببعضٍ ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالمعاصي والظلمِ.
﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ الإبعادُ من رحمةِ اللهِ ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ ضدُّ ﴿عُقْبَى الدَّارِ﴾، والأظهرُ في الدارِ هنا أنها دارُ الآخرةِ.
***
[٢٦] ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ﴾ يُوَسِّعُ.
﴿الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يَهَبُ للكافرِ المالَ ليهلِكَهُ به.
﴿وَيَقْدِرُ﴾ يُضَيِّقُ على المؤمنِ لِيَعْظُمَ بذلكَ أَجْرُهُ، فالكلُّ بمشيئةِ الله تعالى، ثم استجهلَهم في قوله: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فرحَ بَطَرٍ لا فرحَ شكرٍ للنعمةِ.
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ كائنةً ﴿فِي﴾ جنبِ ﴿الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ ذاهب يُستمتعُ به قليلًا، ثم يفنى.
...
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهلِ مكةَ:
﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ تكونُ دليلًا على صدقِهِ.
﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ إضلالَهُ.
﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ﴾ يرشِدُ إلى دينه ﴿مَنْ أَنَابَ﴾ رجعَ عن مُنْكَرٍ.
...
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ﴾ تسكنُ ﴿قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ إذا ذَكروه، أو ذُكِر لهم.
...
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ مبتدأٌ، خبرُه ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ أي: طيبُ العيشِ ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ مرجعٌ إلى الجنةِ. قرأ يعقوبُ: (مَآبِي) بإثباتِ الياءِ في الحالين حيثُ وقعَ إذا لم ينون، والباقون: بحذفها (١)، وقرأ أبو عمرٍو: (الصَّالِحَات طُوبَى) بإدغامِ التاءِ في الطاءِ (٢).
...
﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ إرسالِنا الرسلَ قبلَكَ يا محمدُ ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ ثُمَّ بينَ المرسَلَ إليهم فقال: ﴿فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ﴾ عَلَّلَ ذلكَ فقال: ﴿لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ من القرآنِ وشرائعِ الإسلامِ.
﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ الواسعِ الرحمةِ.
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ: ﴿هُوَ﴾ أي: الرحمنُ الذي كفرتُم به.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢١٦).
قرأ يعقوبُ: (مَتَابِي) بإثباتِ الياء، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١)﴾.
[٣١] ولما اقترحَ مشركو مكةَ منهم أبو جهلِ بنُ هشامٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميةَ على النبيِّ - ﷺ - إزالةَ جبالِ مكةَ لتتفسَّحَ، وجَرْيَ مياهٍ بأرضِهم ليغرسوا الأشجارَ ويزرعوا، وإحياءَ موتاهم، وأنه إنْ فعلَ ذلكَ، آمنوا به، نزل:
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ﴾ (٢) نُقِلَتْ ﴿بِهِ الْجِبَالُ﴾ عن أماكِنها.
﴿أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ﴾ أي: شُقَّتْ فجُعِلَتْ أنهارًا وعيونًا.
﴿أَوْ كُلِّمَ﴾ أي: أُحْييِ.
﴿بِهِ الْمَوْتَى﴾ وجوابُ (لو) محذوفٌ، وتقديرُه: لكانَ هذا القرآنَ؛
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٥٥ - ١٥٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥٣٢).
﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ﴾ أي: يعلم، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ﴾ فآمنوا ﴿جَمِيعًا﴾ وتقدم اختلاف القراء في ﴿ييأس﴾ في سورة يوسف عند قوله تعالى ﴿فلما استيأسوا منه﴾.
﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا﴾ من الكفر.
﴿قَارِعَةٌ﴾ واهية تقرعهم بأنواع البلايا من سرايا رسول الله - ﷺ - وغزواته.
﴿أَوْ تَحُلُّ﴾ أي: تنزل أنت يا محمد بنفسك.
﴿قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ﴾ وهو فتح مكة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
...
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢)﴾.
[٣٢] وكانَ الكفارُ يسألونَ عن هذهِ الأشياءِ على سبيلِ الاستهزاءِ، فأنزلَ اللهُ تسليةً لنبيِّهِ - ﷺ -: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كاستهزائِهم بكَ.
قرأ أبو جعفرٍ: (اسْتُهْزِيَ) بفتحِ الياءِ بغيرِ همزٍ.
﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ تعجيبٌ من شِدَّةِ أخذِهِ لهم. قرأ يعقوبُ: (عِقَابِي) بإثباتِ الياءِ (١).
...
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣)﴾.
[٣٣] ثم احتجَّ عليهم موبِّخًا فقال: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي: أَفَاللهُ الذي هو رقيبٌ على كلِّ نفسٍ، يعلَمُ خيرَها وشرَّها، وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: كَمَنْ ليسَ كذلك، وهم أصنامُكم؟
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ المعنى: أَفمَنْ له القدرةُ والوحدانيَّةُ، ويُجْعَلُ له شريكٌ، أَهْلٌ أَنْ ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا؟ والأنفسُ من مخلوقاتِه، وهو قائمٌ على الكُلِّ.
﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ بَيِّنوا شركاءَكم بأسمائِهم وصفاتِهم حتى نعرفَ هل يجوزُ أن يُعْبَدوا.
﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ﴾ أي: تخبرون اللهَ ﴿بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ﴾ فإنه لا يعلمُ لنفسِهِ شريكًا.
﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ كيدُهم بِشِرْكِهم. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ: (بَل زُيِّنَ) بإدغامِ اللامِ في الزاي، والباقون: بالإظهار (١).
﴿وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ﴾ قرأ الكوفيونَ، ويعقوبُ: (وَصُدُّوا) بضمِّ الصادِ على تعدِّي الفعل، وقرأ الباقون: بالفتح (٢)، أي: وصَدُّوا الناسَ: صَرَفوهم عن الدينِ.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ بخذلانِه ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ يوفِّقُه.
...
﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالقتلِ والأَسْرِ.
﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ﴾ أشدُّ شَقًّا للقلبِ.
﴿وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ مانعٍ يمنعُهم من العذابِ: تقدم التنبيهُ على مذاهبِ القراء في (هَادِي)، ومثلُه (وَاقِي) (٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٥٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥٣٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢١٩).
(٣) عند تفسير الآية (٧) من هذه السورة.
[٣٥] ﴿مَثَلُ﴾ أي: صفةُ ﴿الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ كقولهِ تعالى ﴿وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل: ٦٠]؛ أي: الصفةُ العليا.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ﴾ ثمرُها دائمٌ لا ينقطعُ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (أُكْلُهَا) بإسكانِ الكافِ، والباقون: بضمِّها (١).
﴿وَظِلُّهَا﴾ ظليلٌ لا يزولُ، وهو رَدٌ على الجهميّةِ حيثُ قالوا: إن نعيمَ الجنةِ يَفْنى.
﴿تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أي: مصيرُهم.
﴿وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ لا غيرُ.
...
﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآنَ، وهم الصحابةُ رضي الله عنهم.
﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآنِ.
﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾ يعني: الكفارَ الذين تَحَزَّبوا على رسولِ الله - ﷺ - من
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ﴾ نصبًا عطفًا على (أَنْ أَعْبُدَ)؛ أي: أُمرت فيما أُوحيَ عليَّ بأَنْ أعبدَ اللهَ، وبأَنْ لا أُشركَ به.
﴿إِلَيْهِ أَدْعُو﴾ لا إلى غيرِه ﴿وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ مَرْجِعي.
...
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: ومثلَ هذا الإنزالِ المشتملِ على أصولِ الدياناتِ المجمَعِ عليها ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ أي: القرآنَ ﴿حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ أي: حكمةً مترجمةً بلسانِ العربِ ليسهُلَ لهم فهمُه.
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ باستقبالِ قبلتِهم بعدَما حُوِّلْتَ عنها.
﴿بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بأنهم كفار.
﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ﴾ ناصرٍ ﴿وَلَا وَاقٍ﴾ حاجزٍ، وهذا خطابٌ له - ﷺ -، وتحريضٌ للسامعينَ على التمسُّكِ بالدين. وتقدَّمَ التنبيهُ على مذاهِب القراءِ في (مَآبِي) و (وَاقِي) (٢).
...
(٢) عند تفسير الآية (٧) من هذه السورة.
[٣٨] ولما عيَّره اليهودُ، وقيل: المشركون بكثرةِ الزوجاتِ، واقترحوا عليه الآياتِ، نزلَ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ (١) ولم نجعلْهم ملائكةً.
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ﴾ ولم يكنْ في وُسْعِهِ.
﴿أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فإنه القادرُ على ذلك.
﴿لِكُلِّ أَجَلٍ﴾ أمرٍ قضاهُ اللهُ ﴿كِتَابٌ﴾ وقت معلومٌ يقعُ فيه.
...
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ من الشرائعِ بنسخِها ﴿وَيُثْبِتُ﴾ ما يَشاءُ فيتركُهُ غيرَ منسوخ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وعاصم، ويعقوبُ: (وَيُثْبِتُ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديد ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أصلُه؛ يعني: اللوحَ المحفوظَ، فلا يُبَدَّلُ فيه ولا يُغَيَّرُ.
...
﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ﴾ في حياتِكَ يا محمدُ.
﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من إنزالِ العذابِ بهم.
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ تبليغُ الرسالةِ لا غيرُ ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ والجزاءُ يومَ القيامةَ، قال ابنُ عباسٍ: "نُسِخَتْ بآيةِ السيفِ وفرضِ الجهاد" (١).
...
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ أهلُ مكةَ ﴿أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ بفتحِ ديارِ الشركِ، فما زادَ في بلادِ الإسلام، نقصَ من بلادِ الشركِ، أفلا يعتبرون؟
﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ﴾ لا ناقض (٢) ﴿لِحُكْمِهِ﴾ والمعنى: إنه حكمَ للإسلامِ بالإقبالِ، وعلى الكفرِ بالإدبارِ ﴿وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فيحاسبُهم عمَّا قليلٍ في الآخرة بعدَما عَذَّبَهم بالقتلِ والإجلاءِ في الدنيا.
...
﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: كادوا أنبياءَهم، والمكرُ: إيصالُ
(٢) "لا ناقض" سقط من "ش".
﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ تنبيهٌ وتحذيرٌ في طَيِّ إخبارٍ، ثم توعَّدَهم بقوله:
﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ﴾: قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (الْكَافِرُ) على التوحيدِ؛ إرادةً للجنسِ، وقرأ الباقون: (الْكُفَّارُ) على الجمعِ (١) ﴿لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ الآخرة، فيدخلُ المؤمنون الجنةَ، والكافرون النار.
...
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هم أهلُ الكتابِ:
﴿لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ من اللهِ، وإنما أنت مُدَّعٍ.
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ لما أظهرُ من الأدلةِ على رسالتي.
﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ يعني: مؤمني أهلِ الكتابِ يشهدون بنعتي في كتبِهم، والله أعلم.
...