تفسير سورة الكهف

الدر المصون
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَل﴾ : في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها معطوفةٌ على الصلةِ قبلَها. والثاني: أنها اعتراضيةٌ بين الحالِ وهي «قَيِّماً» وبين صاحبِها وهو «الكتابَ» والثالث: أنَّها حالٌ من «الكتابَ»، ويترتَّبُ على الأوجهِ القولُ في «قَيِّماً».
قوله: ﴿قَيِّماً﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ من «الكتاب». والجملةُ مِنْ قولِه «ولم يَجْعَلْ» اعتراضٌ بينهما. وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال: «فإنْ قُلْتَ: بم انتصَبَ» قَيِّماً «؟ قلت: الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ، ولم يُجْعَلْ حالاً من» الكتابَ «لأنَّ قولَه» ولم يَجْعَلْ «معطوفٌ على» أَنْزَلَ «فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ». وكذلك قال أبو البقاء. وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ.
الثاني: أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في «له». قال أبو البقاء: «والحالُ موكِّدةٌ. وقيل: منتقلةٌ». قلت: القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ.
433
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: جَعَلَهُ قيِّماً. قال الزمخشريُّ: «تقديرُه: ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، جعله قيماً، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ». قال: «فإنْ قلتَ: ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر؟. قلت: فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يَخْلو مِنْ أدنى عِوَجٍ عند السَّبْرِ والتصفُّح».
الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ. والتقديرُ: أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً.
الخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ. والتقديرُ: وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم: «عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو».
والضميرُ في «له» فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه للكتاب، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ. والثاني: أنَّه يعود على «عبدِه»، وليس بواضحٍ.
وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء. وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً. وقد تَقَدَّم القولُ فيها.
ووقف حفصٌ على تنوينِ «عِوَجاً» يُبْدله ألفاً، [ويسكت] سكتةً لطيفةً
434
من غير قَطْع نَفَسٍ، إشْعاراً بأنَّ «قَيِّماً» ليس متصلاً ب «عِوَجاً»، وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب. وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى.
قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ: «ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، لكنْ جَعَلَه قيَّماً». وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول: يَقِف على «عِوَجا»، ولم يقولوا: يُبدل التنوين ألفاً، فيُحْتمل ذلك، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ.
ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، أعني الإِطلاقَ. ثم قال: «وفي ذلك نَظَرٌ - أي على إبدالِ التنوين ألفاً - فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ».
انتهى.
وقال الأهوازيُّ: «ليس هو وَقْفاً مختاراً، لأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، معناه: أَنْزَلَ على عبدِه الكتاب قيِّماً ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً». قلت: دَعْوى التقديمِ والتأخيرِ وإنْ كان قاله به غيرُه، إلا أنها مَرْدودةٌ بأنَّها على خلافِ الأصل، وقد تقدَّم تحقيقُه.
وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ. فمنها: أَنَّه كان يقفُ على «مَرْقَدِنا»، ويَبْتدئ: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن﴾ [يس: ٥٢]. قال: «لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ» هذا «صفةٌ ل» مَرْقَدِنا «فالوقفُ
435
يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى، ثم ابتُدِئ بكلامِ/ غيرِهم. قيل: هم الملائكةُ. وقيل: هم المؤمنون. وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ» هذا «صفةً ل» مَرْقَدِنا «فيفوتُ ذلك.
ومنها: ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ [القيامة: ٢٧]. كان يقف على نونِ»
مَنْ «ويَبْتَدِئ» راقٍ «قال: لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق.
ومنها: ﴿بَلْ رَانَ﴾ [المطففين: ١٤] كان يقفُ على لام بل، ويَبْتدئ»
رانَ «لِما تقدَّم.
قال المهدويُّ:»
وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ، وهو لا يَفعلُه، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية «. قال أبو شامة:» أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها: «ولا يَحْزُنْكَ قولُهم. ﴿إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ [يونس: ٦٥]، الوقفُ على» قَوْلُهم «لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ»، وكذا ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار * الذين يَحْمِلُونَ العرش﴾ [غافر: ٦٧] ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على «النار» لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ «.
قلت: وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ. وقال أبو شامةَ أيضاً:»
ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ «. قلت: يعني في» بَلْ رَان «وفي» مَنْ راقٍ «.
قوله:»
لِيُنْذِرَ «في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب» قَيِّماً «
436
قاله الحوفيُّ. والثاني: -وهو الظاهرُ- أنها تتعلَّق ب» أَنْزَلَ «. وفاعلُ» لِيُنْذِرَ «يجوز أن يكونَ» الكتابَ «وأن يكونَ الله، وأن يكون الرسول.
و»
أَنْذَرَ «يتعدَّى لاثنين: ﴿إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً﴾ [النبأ: ٤٠] ﴿فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣]. ومفعولُه الأولُ محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ:» ليُنْذِرَ الذين كفروا، وغيره: «ليُنْذِرَ العبادَ»، أو «لِيُنْذِرَكم»، أو لِيُنْذِرَ العالَم. وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه ﴿وَيُبَشِّرَ المؤمنين﴾، وهو ضِدَّهم.
وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالمُنْذَر في قوله
﴿وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ﴾ [الكهف: ٤] فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه، وهو في غايةِ البلاغةِ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال: ﴿وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً﴾.
قوله: ﴿مِّن لَّدُنْهُ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمَّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ، فيقرأ «مِنْ لَدْنِهِيْ» والباقون يَضُمون الدالَ، ويسكِّنون [النونَ] ويَضُمُّون الهاءَ، وهم على قواعِدهم فيها: فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو: مِنْهو وعَنْهو، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء.
ووَجهُ أبي بكرٍ: أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين «عَضُد» والنونُ
437
ساكنةٌ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه ﴿وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ﴾ [الآية: ٥٢] في سورة النور، فهناك نتكلَّم فيه، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء. وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة.
والإِشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ، لأنَّ الإِشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ إشارةً إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو: «جاء الرجل»، وهكذا ذكره النحويون. وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة. وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها، ثم تأتي بباقي الكلمةِ.
فإن قلتَ: إنما اتي بالإِشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها. قيل لك: فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه. ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ. وقد تقدَّم في «يوسف» أن الإِشمامَ في ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ [الآية: ١١] إذا فسَّرْناه بالإِشارةِ إلى الضمة: منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإِدغام، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده، وهذا نظيرُه. وتقدَّم أنَّ الإِشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها.
438
و ﴿مِّن لَّدُنْهُ﴾ متعلق ب «لِيُنْذِرَ» /. ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً ل «بَأْساً» ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «شديداً».
وقُرِئ «ويُبَشِّرُ» بالرفعِ على الاستئنافِ.
439
قوله: ﴿مَّاكِثِينَ﴾ : حالٌ: إمَّا من الضميرِ المجرورِ في «لهم»، أو المرفوعِ المستترِ فيه، أو مِنْ «أجراً» لتخصُّصِه بالصفةِ، إلا أنَّ هذا لا يجيءُ إلا على رَأيِ الكوفيين: فإنهم لا يشترطون بروزَ الضميرِ في الصفةِ الجاريةِ على غير مَنْ هي له إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريين لقال: ماكثين هم فيه. ويجوز على رَأْيِ الكوفيين أن يكونَ صفةً ثانيةً ل «أَجْراً». قال أبو البقاء: «وقيل: هو صفةٌ ل» أَجْراً «، والعائدُ: الهاءُ مِنْ» فيه «. ولم يَتَعَرَّضْ لبروزِ الضميرِ ولا لعدمِه بالنسبة إلى المذهبين.
و»
أبداً «منصوبٌ على الظرفِ ب» ماكثين «.
وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالمُنْذَر في قوله ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ ﴾ [ الكهف : ٤ ] فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه، وهو في غايةِ البلاغةِ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :﴿ مِّن لَّدُنْهُ ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمَّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ، فيقرأ " مِنْ لَدْنِهِيْ " والباقون يَضُمون الدالَ، ويسكِّنون [ النونَ ] ويَضُمُّون الهاءَ، وهم على قواعِدهم فيها : فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو : مِنْهو وعَنْهو، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء.

ووَجهُ أبي بكرٍ : أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين " عَضُد " والنونُ ساكنةٌ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه ﴿ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ﴾ [ الآية : ٥٢ ] في سورة النور، فهناك نتكلَّم فيه، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء. وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة.
والإِشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ، لأنَّ الإِشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ إشارةً إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو :" جاء الرجل "، وهكذا ذكره النحويون. وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة. وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها، ثم تأتي بباقي الكلمةِ.
فإن قلتَ : إنما اتي بالإِشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها. قيل لك : فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه. ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ. وقد تقدَّم في " يوسف " أن الإِشمامَ في ﴿ لاَ تَأْمَنَّا ﴾ [ الآية : ١١ ] إذا فسَّرْناه بالإِشارةِ إلى الضمة : منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإِدغام، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده، وهذا نظيرُه. وتقدَّم أنَّ الإِشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها.
و ﴿ مِّن لَّدُنْهُ ﴾ متعلق ب " لِيُنْذِرَ " /. ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً ل " بَأْساً " ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " شديداً ".
وقُرِئ " ويُبَشِّرُ " بالرفعِ على الاستئنافِ.
قوله: ﴿مَّا لَهُمْ بِهِ﴾ : أي: بالولدِ، أو باتخاذه، أو بالقولِ المدلولِ عليه ب «اتَّخذ» وب «قالوا»، أو بالله.
وهذه الجملةُ المنفيةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها صفةٌ للولدِ، قال المهدويُّ. وردَّه ابنُ عطيةَ: بأنه لا يَصِفُه بذلك إلا القائلون، وهم لم يَقْصِدوا وَصْفَه بذلك. الثالث: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ «قالوا»، أي: قالوه جاهلين.
439
و ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ. والجارُّ هو الرافع، أو الخبر. و «مِنْ» مزيدةٌ على كِلا القولين.
قوله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ في فاعلِ «كَبُرَتْ» وجهان، أحدُهما: أنه مضمرٌ عائدٌ على مقالتِهم المفهومة مِنْ قولِه: «قالوا: اتَّخذ الله»، أي: كَبُرَ مقالُهم، و «كلمةً» نصبٌ على التمييز، ومعنى الكلامِ على التعجب، أي: ما أكبرَها كلمةً. و «تَخْرُجُ» الجملةُ صفةٌ ل «كلمة». ودَلَّ استعظامُها لأنَّ بعضَ ما يَهْجِسُ بالخاطرِ لا يَجْسُر الإِنسانُ على إظهاره باللفظ.
والثاني: أن الفاعلَ مضمرٌ مفسِّرٌ بالنكرةِ بعد المنصوبةِ على التمييزِ، ومعناها الذمُّ ك «بِئس رجلاً»، فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: كَبُرَتْ هي الكلمةُ كلمةً خارجةً مِنْ أفواهِهم تلك المقالةُ الشَّنعاءُ.
وقرأ العامَّةُ «كلمةً» بالنصبِ، وفيها وجهان: النصبُ على التمييز، وقد تقدَّم تحقيقُه في الوجهين السابقين. والثاني: النصبُ على الحالِ. وليس بظاهر.
وقوله: «تَخْرُجُ» في الجملة وجهان، أحدُهما: هي صفةٌ لكلمة. والثاني: أنها صفةٌ للمخصوصِ بالذمِّ المقدَّرِ تقديرُه: كَبُرَت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً.
440
وقرأ الحسنُ وابنُ محيصن وابنُ يعمرَ وابن كثير - في رواية القَوَّاس عنه - كلمةٌ «بالرفع على الفاعلية،» وتَخْرُج «صفةٌ لها أيضاً. وقُرِئَ» كَبْرَتْ «بسكون الباء وهي لغةُ تميم.
قوله:»
كَذِباً «فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعول به لأنه يتضمَّنُ معنى جملة. والثاني: هو نعتٌ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً كذباً.
441
قوله: ﴿إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ﴾ : العامَّةُ على كسرِ «إنْ» على أنها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه: «فَلَعَلَّكَ»، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ. وقُرِئ: «أَنْ لم» بالفتح على حَذْفِ الجارِّ، أي: لأَِنْ لم يؤمنوا «.
وقُرئ»
باخِعُ نَفْسِكَ «بالإِضافة، والأصل النصبُ. وقال الزمخشري:» وقُرئ «باخع نفسك» على الأصل، وعلى الإِضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ «إنْ لم يُؤمنوا»، وللمضيِّ فيمن قرأ «أن لم تُؤْمنوا» بمعنى: لأَِنْ لم يؤمنوا «. قلت: يعني أنَّ باخِعاً للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ» إنْ «فإنها شرطيةٌ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يجئُ إلا
441
في قراءةِ الإِضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين. وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ» باخع «، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيف.
ولعلَّك»
قيل: للإِشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأي الكوفيين. وقيل: للنهي أي: لا تَبْخَعْ.
والبَخْعُ: الإِهلاك. يقال: بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وَجْداً. قال ذو الرمة:
٣١٢ - ٢- ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ
يريد: نَحَّته بالتشديد، فخفَّف. / قال الأصمعي: «كان يُنْشِده:» الوجدَ «بالنصب على المفعولِ له، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية ب» الباخع «.
وقيل: البَخْعُ: أن تُضْعِفَ الأرضَ بالزراعة. قاله الكسائي: وقيل: هو جَهْدُ الأرضِ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، عن عمر:»
بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ «تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها، وهذا استعارةٌ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري: هنا بغير القَتْلِ والإِهلاك. وقال في سورة الشعراء:»
442
والبَخْعُ «. أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ». انتهى. وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول: «تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلاً». قلت: يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم.
وقال الراغب: «البَخْعُ: قَتْلُ النفسِ غَمَّاً». ثم قال: «وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ، وبما عليه من الحقِّ: إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه».
وقوله: «على آثارِهم» متعلقٌ ب «باخعٌ»، أي: مِنْ بعد هلاكِهم.
قوله: أَسَفَاً «يجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله والعامل فيه» باخعٌ «، وأن يكونَ مصدراً في موضعِ الحال من الضميرِ في» باخعٌ «.
443
قوله تعالى: ﴿زِينَةً﴾ : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له، وأن يتنصِبَ على الحالِ إنْ جَعَلْتَ «جَعَلْنا» بمعنى خَلَقْنا، ويجوز ان يكونَ مفعولاً ثانياً إنْ كانَتْ «جَعَلَ» تصييريةً و «لها» متعلقٌ ب «زِيْنةً» على العلةِ، ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول، ويجوز أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «زينة».
قوله: «لِنَبْلُوَهُمْ» متعلقٌ ب «جَعَلْنا» بمعنييه.
قوله: «أيُّهم أحسنُ» يجوز في «أيُّهم» وجهان، أحدهما: أن تكونَ استفهاميةً مرفوعةً بالابتداء، و «أحسنُ» خبرُها. والجملةُ في محلِّ نصبٍ معلَّقَةٌ ل «نَبْلُوَهم» لأنه سببُ العلم كالسؤال والنظر. والثاني: أنها موصولةٌ
443
بمعنى الذي «وأحسنُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم»، ويكون هذا الموصولُ في محلِّ نصبٍ بدلاً مِنْ مفعول «لنبلوَهم» تقديرُه: لِنَبْلُوَ الذي هو أحسنُ. وحينئذٍ تحتمِل الضمةُ في «أيُّهم»، ان تكونَ للبناء كهي في قولِه تعالى: ﴿لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ [مريم: ٦٩] على أحدِ الأقوالِ، وفي قوله:
٣١٢ - ٣- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ فَسَلِّمْ على أَيُّهم أَفْضَلُ
وشرطُ البناءِ موجودٌ، وهو الإِضافةُ لفظاً، وحَذْفُ صدرِ الصلةِ، وهذا مذهبُ سيبويه، وأن تكونَ للإِعراب لأنَّ البناءَ جائزٌ لا واجبٌ. ومن الإِعراب ما قُرِئ به شاذاً ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن﴾ [مريم: ٦٩] وسيأتي إنْ شاء الله تحقيقُ هذا في مريم.
والضمير في «لِنَبْلُوَهم» و «أيُّهم» عائدٌ على ما يُفْهَمُ من السِّياق، وهم سكانُ الأرض. وقيل: يعودُ على ما على الأرضِ إذا أُريد بها العقلاء. وفي التفسير: المرادُ بذلك الرُّعاة: وقيل: العلماءُ والصُّلحاءُ والخُلفاء.
444
قوله تعالى: ﴿صَعِيداً﴾ : مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ الجَعْلَ هنا تصييرٌ ليس إلا، والصَّعِيْدُ. الترابُ: والجُرُزُ: الذي لا نباتَ به. يقال: سَنَةٌ جُزُر، وسِنونَ أَجْرازٌ: لا مطَر فيها. وأرض جُزُرٌ وأَرَضُونَ أَجْرازٌ: لا نبات بها. وجَرَزَتِ الأرضُ: إذا ذَهَبَ نباتُها بقَحْطٍ أو جرادٍ وَجَرَز الأرضَ الجرادُ: أكلَ ما فيها. والجَرُوْزُ: المَرْأةُ الأكولةُ: قال:
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ :«أم» هذه منقطعةٌ فَتُقَدَّرُ ب «بل» التي للانتقال لا للإِبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهورِ النحاة، و «بل» وحدَها، أو بالهمزةِ وحدَها عند غيرِهم. وتقدَّم تحقيقٌ القولِ فيها.
و «انَّ» وما في حَيِّزها سادَّةٌ [مَسَدَّ] المفعولَيْنِ أو أحدِهما على الخلافِ المشهور.
والكَهْفُ: قيل: مُطْلق الغار. وقيل: هو ما اتَّسع في الجبل، فإن لم يَتَّسِعْ فهو غارٌ. والجمعٌ «كُهوفٍ» في الكثرة، و «أَكْهَف» في القِلَّةِ.
والرَّقيم: قيل: بمعنى مَرْقُوم. وقيل: بمعنى راقم. وقيل: هو اسمٌ للكلبِ الذي لأصحاب الكهفِ. وأنشدوا لأميةَ بنِ أبي الصلت:
٣١٢ - ٤- إنَّ العَجوزَ خَبَّةً جَرُوزا تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
٣١٢ - ٥- وليسَ بها إلا الرَّقيمُ مُجاوِراً وصِيدَهُمُ، والقومُ بالكهفِ هُمَّدُ
قوله: «عَجَبا» يجوز أن تكونَ خبراً، و ﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾ حالٌ منه، وأَنْ
445
يكونَ خبراً ثانياً، و ﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾ خبراً أول، وأن يكونَ «عجباً» حالاً من الضميرِ المستتر في ﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾ لوقوعه خبراً. ووُحِّدَ وإن كان صفةً في المعنى لجماعة لأنَّ أصلَه المصدرُ. وقيل: «عَجَباً» في الأصلِ صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: آيةً عجبا. وقيل: على حذفِ مضاف، أي: آيةً ذاتَ عَجَبٍ.
446
قوله تعالى: ﴿إِذْ أَوَى﴾ : يجوز أن ينتصِبَ ب «عَجَباً» وأَنْ ينتصِبَ ب «اذْكُر».
قوله: «وهَيِّئْ» العامَّةُ على همزةِ بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهري بياءين: الثانيةُ خفيفةٌ، وكأنه أبدل الهمزةَ ياءً، وإن كان سكونُها عارضاً. ورُوي عن عاصم «وَهَيَّ» بياءٍ مشددةٍ فقط. فيحتمل أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ مِنْ أولِ وَهْلَةٍ تخفيفاً، وأن يكونَ أبدلها كما فعل أبو جعفر، ثم أجرى الياءَ مُجْرى حرفِ العلةِ الأصلي فحذفه، وإن كان الكثيرُ خلافَه، ومنه:
٣١٢ - ٦- جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظُلْمِه سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظلمِ يَظْلمِ
وقرأ أبو رجاء «رُشْدا» بضمِ الراء وسكونِ الشين، وتقدم تحقيقُ ذلك في الأعراف. وقراءةُ العامَّةِ هنا أليقُ لتوافِقَ الفواصلَ.
قوله: ﴿فَضَرَبْنَا﴾ : مفعولُه محذوفٌ، أي: ضَرَبْنا
446
الحجابَ المانعَ. و ﴿على آذَانِهِمْ﴾ استعارةٌ للزومِ النوم. كقول الأسود:
٣١٢ - ٧- ومن الحوادِث لا أبالَكِ أنني ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرضُ بالأَسْدادِ
وقال الفرزدق:
٣١٢ - ٨- ضَرَبَتْ عليكَ العَنْكَبوتَ بنَسْجِها وقَضَى عليك به الكتاب المُنَزَّلُ
ونصَّ على الآذان لأنَّ بالضرب عليها خصوصاً يَحْصُلُ النومُ.
وأمال «آذانهم»....
و «سنينَ» ظرفٌ ل «ضَرَبْنا». و «عَدَداً» يجوزُ فيه أن يكونَ مصدراً، وأن يكون فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقَص. فعلى الأولِ يجوز نصبُه مِنْ وجهين: النعتِ ل «سنين» على حَذْفٍ، أي: ذوات عدد، أو على المبالغةِ، والنصبُ بفعلٍ مقدرٍ، أي: تُعَدُّ عدداً. وعلى الثاني: نعت ليس إلا، اي: معدودة.
447
قوله تعالى: ﴿لِنَعْلَمَ﴾ : متعلقٌ بالبعث. والعامَّةُ على نون العظمة جرياً على ما تقدم. وقرأ الزُّهْري «لِيَعْلم» بياء الغَيْبَةِ، والفاعلُ اللهُ
447
تعالى. وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيْبَة. ويجوزُ أن يكونَ الفاعلُ ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ إذا جَعَلْناها موصولةً كما سيأتي.
وقرئ «ليُعْلَمَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامُ الفاعلِ: قال الزمخشري: «مضمونُ الجملة، كما أنه مفعولُ العلمِ». ورَدَّه الشيخ بأنه ليس مذهبَ البصريين. وتقدَّم تحقيقُ هذه أولَ البقرة.
وللكوفيين في قيامِ الجملة مَقامَ الفاعلِ أو المفعولِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه: الجوازُ مطلقاً، والتفصيلُ بين ما يُعلَّق كهذه الآيةِ فيجوزُ، فالزمخشري نحا نحوَهم على قَوْلَيْهم. وإذا جَعَلْنا ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ موصولةً جاز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إليه في هذه القراءةِ أيضاً كما جاز إسناده إليه في القراءةِ قبلها.
وقُرِئ «ليُعْلِمَ» بضمِّ الياء، والفاعلُ الله تعالى، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: ليُعْلِمَ اللهُ الناسَ. و ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ في موضعِ الثاني فقط، إنْ كانت عِرْفانيةً، وفي موضعِ المفعولين إن كانَتْ يقينية.
قوله: «أَحْصَى» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه أفعلُ تفضيلٍ. وهو خبرٌ ل «أيُّهم»، و «أيُّهم»، استفهاميةٌ. وهذه الجملةُ معلَّقَةٌ للعلمِ قبلَها. و «لِما
448
لَبِثُوا» حال مِنْ «أَمَداً»، لأنه لو تأخَّر عنه لكان نعتاً له. ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ على بابِها من العلَّة، أي: لأجل أبو البقاء. ويجوز أن تكونَ زائدةً، و «ما» مفعولةٌ: إمَّا ب «أَحْصى» على رأيِ مَنْ يُعْمِلُ أفعلَ التفضيل في المفعولِ به، وإمَّا بإضمارِ فعلٍ. و «أمداً» مفعولُ «لَبِثُوا» أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُ عليه أَفْعَلُ عند الجمهور، أو منصوبٌ بنفسِ أفْعَلَ عند مَنْ يَرى ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون «أَحْصَى» فعلاً ماضياً. و «أمَداً» مفعولُه، و «لِمَا لَبثوا» متعلقٌ به، أو حالٌ مِنْ «أَمَداً» أو اللامُ فيه مزيدةٌ، وعلى هذا: فَأَمَداً منصوبٌ ب لَبِثوا. و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي. واختار الأولَ -أعني كونَ «أَحْصى» للتفضيل -/ الزجاجُ والتبريزي، واختار الثاني أبو علي والزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: فما تقول فيمَنْ جعله مِنْ أفعلِ التفضيلِ؟ قلت: ليس بالوجهِ السديدِ، وذلك أنَّ بناءَه مِنْ غيرِ الثلاثي ليس بقياسٍ، ونحو» أَعْدَى من الجَرَب «و» أفلس من ابن المُذَلَّق «شاذٌّ، والقياسُ على الشاذِّ في غيرِ القرآن ممتنعٌ فكيف به؟ ولأنَّ» أَمَداً «: إمَّا أَنْ ينتصِبَ بأفعلَ وأفعلُ لا يعملُ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ ب» لبثوا «فلا يَسُدُّ عليه المعنى: فإنْ زعمتَ أني أنصِبُه بفعلٍ مضمرٍ كما أَضْمَرَ في قوله:
449
٣١٢٩ -....................... وأَضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا
فقد أبعدْتَ المتناوَلَ، حيث أَبَيْتَ أَنْ يكونَ [ «أحصى» ] فعلاً ثم رجعتَ مضطراً إليه «.
وناقشه الشيخ قال:»
أمَّا دعواه أنه شاذٌّ فمذهبُ سيبويهِ خِلافُه، وذلك أنَّ أفعلَ فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، ويُعْزى لسيبويه، والمنعُ مطلقاً، وهو مذهب الفارسي، والتفصيلُ: بين أن تكونَ همزتُه للتعديةِ فيمتنعَ، وبين أَنْ لا تكونَ فيجوزَ، وهذا ليسَتِ الهمزةُ فيه للتعدية. وأمَّا قولُه: «أَفْعَلُ لا يعمل» فليس بصحيح لأنه يعملُ في التمييز، و «أَمَداً» تمييزُ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطعُ الناسِ سيفاً، وزيد أقطعُ لِلْهامِ سيفاً «.
قلت: الذي أحوجَ الزمخشريَّ إلى عَدَمِ جَعْلِه تمييزاً مع ظهوره في بادئ الرأي عدمُ صحةِ معناه. وذلك أنَّ التمييزَ شرطُه في هذا الباب أن تَصِحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ويتصفَ به، ألا ترى إلى مثاله في قوله:»
زيد أقطعُ الناس سيفاً «كيف يَصِحُّ أن يُسْنَدَ إليه فيقال: زيد قَطَعَ سيفُه، وسيفه قاطع، إلى غيرِ ذلك. وهنا ليس الإِحصاءُ من صفةِ الأمَد، ولا تَصِحُّ نسبتُه إليه، وإنما هو صفات الحزبين، وهو دقيق.
وكان الشيخُ نقل عن أبي البقاء نصبَه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبَه على التمييز حالَ جَعْلِه»
أَحْصَى «أفعلَ تفصيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين
450
ذكر أنه فعلٌ ماضٍ. قال أبو البقاء:» في أحصى وجهان، أحدُهما: هو فعلٌ ماضٍ، «وأَمَداً» مفعوله، و «لِما لَبِثوا» نعتٌ له، قُدِّم فصار حالاً أو مفعولاً له، أي: لأجل لُبْثهم. وقيل: اللامُ زائدةٌ و «ما» بمعنى الذي، و «أَمَداً» مفعولُ «لبثوا» وهو خطأٌ، وإنما الوجهُ أن يكونَ تمييزاً والتقدير: لما لبثوه. والوجه الثاني: هو اسمٌ و «أَمَداً» منصوبٌ بفعلٍ دَلَّ عليه الاسمُ «انتهى. فهذا تصريحٌ بأنَّ» أَمَداً «حالَ جَعْلِه» أحصى «اسماً ليس تمييزاً بل مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ، وأنه جعله تمييزاً عن» لبثوا «كما رأيت.
ثم قال الشيخ:»
وأمَّا قولُه «وأمَّا قولُه» وإمَّا أَنْ يُنْصَب ب «لبثوا» فلا يَسُدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبري إلى أنه منصوبٌ ب «لَبِثوا». قال ابن عطية: «وهو غيرُ متجهٍ» انتهى. وقد يتجه: وذلك أنَّ الأمدَ هو الغاية، ويكون عبارةً عن المدةِ من حيث إنَّ المدَّةَ غايةٌ هي أَمَدُ المدة على الحقيقة، و «ما» بمعنى الذي، و «أمَداً» منصوبٌ على إسقاط الحرفِ، وتقديره: لِما لبثوا مِنْ أمدٍ، مِنْ مدةٍ، ويصيرُ «مِنْ أمدٍ» تفسيراً لما أُبْهِمَ من لفظ «ما» كقوله:
﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾ [فاطر: ٢] ولمَّا سقط الحرفُ وصل إليه الفعل «.
451
قلت: يكفيه أنَّ مِثْلَ ابنِ عطية جعله غيرَ متجهٍ، وعلى تقديرِ ذلك فلا نُسَلِّم أنَّ الطبريَّ عنى نصبَه بلبثوا مفعولاً به بل يجوز أَنْ يكونَ على نصبَه تمييزاً كما قاله أبو البقاء.
ثم قال:» وأمَّا قولُه: «فإن زعمت إلى آخره فتقول: لا يُحتاج إلى ذلك، لأنَّ لقائلِ ذلك أَنْ يذهب مذهبَ الكوفيين في أنه ينصِبُ» القوانسَ «بنفس» أَضْرَبُ «ولذلك جعل بعضُ النحاة أنَّ» أعلم «ناصبٌ ل» مَنْ «في قوله:» أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «، وذلك لأنَّ أَفْعَلَ مضمَّنٌ لمعنى المصدر إذ التقدير: يزيد ضربُنا القوانسَ على ضَرْبِ غيرنا».
قلت: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعلُ التفصيلِ ضعيفٌ ولذلك قَصُرَ عن الصفةِ المشبهةِ باسمِ الفاعلِ، حيث لم يؤنَّثْ ولم يُثنَّ ولم يُجْمع.
وإذا جعلنا «أَحْصَى» اسماً فجوَّز الشيخ في «أيّ» أن تكونَ الموصولةَ، و «أَحْصَى» خبرٌ لمبتدأ محذوف هو عائدُها، وأنَّ الضمةَ للبناء على مذهبِ سيبويهِ لوجودِ / شرطِ البناءِ وهو أضافتُها لفظاً، وحَذْفُ صدرِ صلتِها، وهذا إنما يكون على جَعْلِ العِلْم بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقديرُ آخرُ لا حاجةَ إليه. إلا أنَّ في إسنادِ «عَلِمَ» بمعنى عَرَف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريرُه في الأنفال وغيرِها. وإذا جَعَلْناه فعلاً امتنع أن تكونَ موصولةً إذ لا وجهَ لبنائها حينئذٍ وهو حسن.
452
قوله تعالى: ﴿آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نَسَقِ الكلامِ لقيل: إنهم فتيةٌ آمنوا بنا. وقوله: «وزِدْناهُم» «وَرَبَطْنا» التفاتٌ من هذه الغَيْبَة إلى التكلم أيضاً.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَامُواْ﴾ : منصوبٌ ب «رَبَطْنا» والرَّبْطُ استعارةٌ لتقويةِ قلوبهم في ذلك المكانِ الدَّحْضِ.
قوله: «إذن» جوابٌ وجزاءٌ، أي: لقد قُلنا قولاً شَطَطاً إنْ دَعَوْنا مِنْ دونِه إلهاً. وشَطَطاً في الأصل مصدرٌ، يقال: شَطَّ شَطَطاً وشُطُوطاً، أي: جارَ وتجاوزَ حَدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوْمِ، وأَشَطَّ، أي: جاوَزَ القَدْرَ. وشَطَّ المنزلُ: بَعُدَ، من ذلك. وشَطَّتِ الجاريةُ شِطاطاًً، طالَتْ، من ذلك. وفي انتصابِه ثلاثةُ أوجهٍ، مذهبُ سيبويهِ النصبُ على الحال من ضميرِ مصدر «قُلْنا». الثاني: نعتٌ لمصدرٍ، أي: قولاً ذا شَطَطٍ، أو هو الشَّطَطُ نفسُهُ مبالغةً. الثالث: أنه مفعولٌ ب «قُلْنا» لتضمُّنِه معنى الجملة.
قوله تعالى: ﴿هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا﴾ : يجوز في «قومُنا» أن يكونَ بدلاً أو بياناً، و «اتَّخذوا» هو خبرُ «هؤلاء»، ويجوز أن يكونَ «قومُنا» هو الخبرَ، و «اتَّخذوا: حالاً. و» اتَّخذ «يجوزُ أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بمعنى عَمِلوا؛ لأنهم نَحَتوها بأيديهم، ويجوز أَنْ تكونَ متعدِّيةً لاثنين بمعنى صَيَّروا، و» مِنْ دونِه «هو الثاني قُدِّمَ، و» آلهةً «هو الأولُ. وعلى الوجهِ الأولِ يجوز في» مِنْ دونِه «أن يتعلَّقَ ب» اتَّخذوا «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ» آلهة «إذ لو تأخَّر لجاز أن يكونَ صفوً ل» آلهةً «.
453
قوله: ﴿لَّوْلاَ يَأْتُونَ﴾ تخصيصٌ فيه معنى الإِنكار. و» عليهم «، أي: على عبادتِهم أو على اتَّخاذهم، فَحُذِفَ المضافُ للعِلْمِ به. ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ التخضيضية صفةً ل» آلهةً «لفساده معنى وصناعةً، لأنها جملةٌ طلبيةٌ. فإنْ قلت: أُضْمِرُ قولاً كقوله:
454
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اعتزلتموهم﴾ :«إذا» منصوبٌ بمحذوف، أي: وقال بعضُهم لبعضٍ وقتَ اعتزالِهم. وجَوَّز بعضُهم أَنْ تكونَ «إذ» للتعليل، أي: فَأْووا إلى الكهفِ لاعتزاِلكم إياهم، وهو قولٌ مَقُولٌ لكنَّه لا يَصِحُّ.
قوله: ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ يجوز في «ما» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ، أي: واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه. و «إلا الله» يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه، ومنقطعاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ، وأن يكون عائدَه، والمعنى واحد.
والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: واعتزلتُمْ عبادَتهم، أي: تركتموها. و «إلا اللهَ» على حَذْفِ مضاف، أي: إلا عبادةَ اللهِ. وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.
الثالث: أنها نافيةٌ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى، وعلى هذا فهذه الجملةُ
454
معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري. و ﴿إِلاَّ الله﴾ استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه. وقال أبو البقاء: «والثالث: أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصلٌ، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ» قلت: فظاهرُ هذا الكلامِ: أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون «ما» نافيةً، وليس الأمرُ كذلك.
قوله: «مِرْفَقا» قرأ بكسرِ الميمِ وفتحِ الفاءِ الجمهورُ. ونافع وابنُ عامر بالعكس، وفيهما اختلافٌ بين أهلِ اللغة، فقيل: هما بمعنى واحد وهو ما يَرْتَفَقُ به، وليس بمصدرٍ. وقيل: هو بالكسر في الميم لليد، وبالفتح للأمر، وقد يُسْتَعْمل كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر، حكاه الأزهري عن ثعلبٍ. وأنشد الفراءُ جمعاً بين الغتين في الجارِحَة:
٣١٣ - ١- بِتُّ أُجافي مِرْفقاً عن مَرْفقِ... /وقيل: يُسْتعملان معاً في الأمرِ وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
455
وحكى مكي، عن الفراء أنه قال: «لا أعرِفُ في الأمر ولا في اليد ولا في كل شيءٍ إلا كسرَ الميمِ».
قلت: وتواترُ قراءةِ نافعٍ والشاميين يَرُدُّ عليه. وأنكر الكسائيُّ كسرَ الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتحَ وهو عكسُ قولِ تلميذِه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال: «هو بفتح الميم: الموضعُ كالمسجد. وقال أبو زيد: هو بفتح الميم مصدرٌ جاء على مَفْعَل» وقال بعضهم: هما لغتان فيما يُرْتَفَقُ به، فأمَّا الجارِحَةُ فبكسرِ الميمِ فقط. وحُكي عن الفرَّاء أنَّه قال: «أهلُ الحجاز يقولون:» مَرْفقا «بفتح الميم وكسرِ الفاءِ فيما ارتفقْتَ به، ويكسِرون مِرْفَق الإِنسان، والعربُ بعدُ يَكْسِرون الميمَ منهما جميعاً». وأجاز معاذ فتحَ الميم والفاءِ، وهو مصدرٌ كالمَضْرَبِ والمَقْتَلِ.
و ﴿مِّنْ أَمْرِكُمْ﴾ متعلَّقُ بالفعلِ قبلَه، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ أو للتعيض. وقيل: هي بمعنى بَدَلَ، قاله ابن الأنباريِّ وأنشد:
٣١٣ - ٠- جاؤُوا بِمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قطّْ لم يساعِدْك المعنى لفسادِه عليه.
٣١٣ - ٢- فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمِ شَرْبَةً مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
أي: بَدَلاً. ويجوز أن يكونَ حالاً من «مِرْفَقاً» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.
456
قوله تعالى: ﴿تَّزَاوَرُ﴾ : قرأ ابن عامر «تَزْوَرُّ» بزنةِ تَحْمَرُّ،
456
والكوفيون «تَزَاوَرُ» بتخفيفِ الزايِ، والباقون بتثقِيلها. ف «تَزْوَرُّ» بمعنى تميل من الزَّوَر وهو المَيَلُ، وزاره بمعنى مال إليه، وقول الزُّور: مَيّلٌ عن الحق، ومنه الأَزْوَرُ وهو المائلُ بعينه وبغيرها. قال عمر بن أبي ربيعة:
٣١٣ - ٣-.......................... ... وجَنْبي خِيفة القوم أَزْوَرُ
وقيل: تَزْوَرُّ بمعنى تَنْقَبِضُ مِنْ ازْوَرَّ، أي: انقبضَ. ومنه قولُ عنترة:
٣١٣ - ٤- فازْوَرَّ مَنْ وَقَعَ القَنا بلَبانِه وشكا إليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
وقيل: مال. ومثلُه قولُ بِشْر بن أبي خازم:
٣١٣ - ٥- يَؤُمُ بها الحداةُ مياهَ نَخْلٍ وفيها عن أبانَيْنِ ازْوِرارُ
أي: مَيْلٌ.
وأما «تزاوَرُ» و «تَّوازَرُ» فأصلهما تَتَزاوَرُ بتاءين، فالكوفيون حذفوا إحدى التائين، وغيرُهم أَدْغم، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في «تَظَاهَرون»
457
و «تَساءلون» ونحوِهما. ومعنى ذلك الميل أيضاً.
وقرأ أبو رجاء والجحدري وابن أبي عبلة وأيُّوب السُّختياني «تَزْوَارُّ» بزنة تَحْمارُّ. وعبد الله وأبو المتوكل «تَزْوَئِرُّ» بهمزةٍ مكسورةٍ قبل راءٍ مشددة، وأصلُها «تَزْوارُّ» كقراءة أبي رجاء ومَنْ معه، وإنما كَرِهَ الجمعَ بين الساكنين، فأبدل الألفَ همزةً على حدِّ إبدالها في «جَأَنّ» و «الضَّأَلِّين». وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا التصنيف أخرَ الفاتحة.
و ﴿إِذَا طَلَعَت﴾ معمولٌ ل «تَرَى» أو ل «تَزَاوَرُ»، وكذا ﴿إِذَا غَرَبَت﴾ معمولٌ للأولِ أو للثاني وهو «تَقْرضهم». والظاهرُ تمحُّضُه للظرفيةِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً.
ومعنى «تَقْرِضُهم» تَقْطَعهُم لا تُقَرِّبهم، لأنَّ القَرْضَ القَطْعُ، من القَطِيعةِ والصَّرْم. قال ذو الرمة:
٣١٣ - ٦- إلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أقْواز مُشْرِفٍ شِمالاً، وعن أَيْمَانِهِنَّ الفوارِسُ
والقَرْضُ: القَطْعُ. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال الفارسي: «معنى تَقْرِضُهم: تُعْطيهم مِنْ ضوئِها شيئاً ثم تزولُ سريعاً كالقَرْضِ يُسْتَرَدُّ». وقد ضُعِّف قولُه بأنه كان ينبغي أن يُقْرأ «تُقْرِضُهم» بضم التاء لأنه مِنْ أَقْرض.
458
وقرئ «يَقْرِضهم» بالياء مِنْ تحتُ، أي: الكهف، وفيه مخالَفَةٌ بين الفعلين وفاعلِهما، فالأَوْلى أن يعودَ على الشمس ويكون كقوله:
٣١٣ - ٧-.................................. ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وهو قولُ ابنِ كَيْسان.
و «ذات اليمين» و «ذات الشِّمال» ظرفا مكانٍ بمعنى جهةِ اليمين وجهةِ الشِّمال.
قوله: ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ﴾ جملةٌ حاليةٌ، أي: نفعلُ هذا مع اتساع مكانِهم، وهو أعجبُ لحالِهم، إذ كان ينبغي أَنْ تصيبَهم الشمسُ لاتِّساعِه. والفَجْوَةُ: المُتَّسَعُ، من الفَجا، وهو تباعدُ ما بين الفَخْذَين. يقال: رجلٌ أَفْجَى وامرأة فَجْواء، وجمع الفَجْوَة فِجاءٌ كقَصْعَة وقِصاع.
قوله: «ذلك» مبتدأٌ مُشار به إلى جميعِ ما تقدم مِنْ حديثهم. و «من» آياتِ الله «الخبرُ. ويجوز أن يكونَ» ذلك «خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك. و ﴿مِنْ آيَاتِ الله﴾ حالٌ.
459
قوله تعالى: ﴿أَيْقَاظاً﴾ : جمعٌ «يَقُظ» بضم القاف، ويُجمع على يِقاظ. ويَقْظ وأيقاظ كعَضُد وأَعْضاد، ويَقُظ ويِقاظ كرَجُل ورِجال. وظاهر كلام الزمخشري أنه يقال: «يَقِظ» بالكسر، لأنه قال: «وأيقاظ جمع» يَقِظ «كأَنْكادِ في» نَكِد «. واليَقَظَةُ: الانتباهُ ضدُّ النوم.
459
والرُّقود: جمع راقِد كقاعِد وقُعود، ولا حاجةَ إلى إضمارِ شيءٍ كما قال بعضهم: إنَّ التقديرَ: لو رَأَيْتَهم لَحَسِبْتَهُم أيقاظاً.
قوله:» ونُقِلَّبهم «قرأ العامَّةُ» نُقَلِّبهم «مضارعاً مسنداً للمعظِّمِ نفسَه. وقرئ كذلك بالياء مِنْ تحتُ، أي: الله أو المَلَك. وقرأ الحسن:» يُقَلِبُهم «بالياءِ من تحتُ ساكنَ القافِ مخففَ اللامِ، وفاعلُه كما تقدَّم: إمَّا اللهُ أو المَلَكُ. وقرأ أيضاً» وتَقَلُّبَهم «بفتح التاءِ وضمِّ اللامِ مشددةً مصدرَ تَقَلَّبَ»، كقولِه: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ [الشعراء: ٢١٩] ونصبِ الباء. وخرَّجه أبو الفتحِ على إضمارِ فعلٍ، أي: ونَرَى تقَلُّبَهم أو نشاهِدُ. ورُوِيَ عنه أيضاً رفعُ الباءِ على الابتداءِ، والخبرُ الظرفُ بعدَه. ويجوز أن يكونَ محذوفاً، أي: آيةٌ عظيمة. / وقرأ عكرمةُ «وتَقْلِبُهم» بتاءِ التأنيثِ مضارعَ «قَلَب» مخففاً، وفاعلُه ضميرُ الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياقِ.
قوله: «وكَلْبُهم» العامَّةُ على ذلك. وقرأ جعفر الصادق «كالِبُهم»، أي: صاحبُ كلبِهم، كلابِن وتامِر. ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلب «وكالِئُهم» بهمزةٍ مضمومةٍ اسمَ فاعلٍ مِنْ كَلأَ يكلأُ: أي: حَفِظَ يَحْفَظُ.
و «باسِط» اسمُ فاعلٍ ماضٍ، وإنما عَمِلَ على حكاية الحال. والكسائيُّ
460
يُعْمِله ويَسْتشهد بالاية.
والوَصْيدُ: الباب. وقيل: العَتَبة. وقيل: الصَّعيد والتراب. وقيل: الفِناء. وأنشد:
٣١٣ - ٨- بأرضِ فضاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيْدُها عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنكَرِ
والعامَّةُ على كسرِ الواوِ مِنْ ﴿لَوِ اطلعت﴾ على أصلِ التقاءِ الساكنين. وقرأها مضمومةً أبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ وابنُ وثاب والأعمش تشبيهاً بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقُه.
قوله: فِرارا «يجوز أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ مِنْ معنى الفعل قبلَه، لأنَّ التوليَّ والفِرار مِنْ وادٍ واحدٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال، أي: فارَّاً، وتكونُ حالاً مؤكدة، ويجوز أن يكونَ مفعولاً له.
قوله:»
رُعْباً «مفعولٌ ثانٍ. وقيل: تمييز. وقرأ ابنُ كثير ونافعٌ» لَمُلِئْتَ «بالتشديد على التكثيرِ. وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً. والزُّهْري بتخفيف اللام والإِبدال، وهو إبدالٌ قياسيٌّ. وتقدَّم الخلافُ الرعب في آل عمران.
461
قوله: ﴿وكذلك بَعَثْنَاهُمْ﴾ : الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: كما أَنَمْناهم تلك النَّوْمَةَ كذلك بَعَثْناهم ادِّكاراً بقُدرتِه. والإِشارةُ ب «ذلك» إلى المصدرِ المفهومِ مِنْ قوله «فَضَرَبْنا»، أي: مثلَ جَعْلِنا إنامتَهم هذه المدة المتطاولةَ آيةً جَعَلْنا بَعْثَهم آيةً. قاله الزجاج والزمخشري.
قوله: «ليتساءَلُوا» اللامُ متعلقةٌ بالبعث، فقيل: هي للصَّيْرورة، لأنَّ البَعْثَ لم يكنْ للتساؤلِ. قاله ابنُ عطيةَ. والصحيحُ أنَّها على بابِها مِن السببية.
قوله: ﴿كَم لَبِثْتُمْ﴾ «كم» منصوبةٌ على الظرف، والمُمَيِّزُ محذوفٌ، تقديرُه: كم يوماً، لدلالةِ الجواب عليه. و «أَوْ» في قولِه: «أو بعضَ يوم» للشكِّ فيهم، وقيل: للتفصيل، أي: قال بعضُهم كذا وبعضُهم كذا.
قوله: «بِوَرِقِكم» حال ِمنْ «أحدَكم»، أي: مصاحباً لها، وملتبساً بها. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وأبو بكر بفتحِ الواوِ وسكونِ الراءِ والفَكِّ. وباقي السبعة بكسر الراء، والكسرُ هو الأصلُ، والتسكينُ تحفيفٌ ك «نَبْق» في نَبِق. وحكى الزجاج كسرَ الواوِ وسكونِ الراء وهو نَقْلٌ، وهذا كما يقال: كَبِدْ وكَبْد وكِبْد.
462
وقرأ أبو رجاء وابن محيصن كذلك، إلا أنه بإدغام القاف. واستضعفوها مِنْ حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدِّيهما وقد تقدَّم لك في المتواترِ ما يُشبه هذه مِنْ نحوِ ﴿فَنِعِمَّا﴾ ﴿لاَ تَعْدُّواْ فِي السبت﴾ [النساء: ١٥٤]... ورُوِيَ عن ابنِ محيصن أنَّه أَدْغَمَ كسرَ الراءَ فِراراً مِمَّا ذَكَرْتَ.
وقرأ أميرُ المؤمنين «بوارِقِكم» اسمَ فاعلٍ، أي: صاحب وَرِقٍ ك «لابِن». وقيل: هو اسمُ جمعٍ كجاملٍ وباقر.
والوَرِقُ: الفِضَّةُ المضروبةُ. وقيل: الفضةُ مطلقاً. ويقال لها: «الرِّقَةُ» بحذفِ الفاء. وفي الحديث: «في الرِّقَةِ رُبْع العُشْر» وجُمعت شذوذاً جَمْعَ المذكرِ السالم، قالوا: «حُبُّ الرِّقَيْنِ يغطِّي أَفْن الأَفِين».
463
قوله: أيُّها أَزْكَى: يجوز في «أيّ» أن تكونَ استفهاميةً، وأن تكونَ موصولةً. وقد عَرَفْتَ ذلك ممَّا تقدَّم لك في قوله: ﴿أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٧] فالعملُ واحدٌ. ولا بد مِنْ حذفٍ: «أيُّ أهْلِها أزْكَى». وطعاماً: تمييز. وقيل: لا حَذْفَ، والضميرُ على الأطعمة المدلول عليها من السياق.
قوله: «ولِيَتَلَطَّفْ» قرأ العامَّةُ بسكونِ لامِ الأمر، والحسنُ بكسرِها على الأصل. وقتيبة المَيَّال «ولِيَتَلَطَّفْ» مبنياً للمفعول. وأبو جعفر وأبو صالحٍ وقتيبة «ولا يَشْعُرَن» بفتحِ الياءِ وضمِّ العين، «أحدٌ» فاعلٌ به.
464
قوله: ﴿إِنَّهُمْ﴾ هذا الضميرُ يجوز أن يعودَ على «أحد» لأنه في معنى الجمع، وأنْ يكونَ عائداً على «أهل» المضاف لضمير المدينة، قاله الزمخشري. ويجوز أَنْ يعودَ على قومِهم لدلالةِ السِّياقِ عليهم. وقرأ زيدُ بن علي «يُظْهِروا» مبنيّاً للمفعول و «إذن» جوابٌ وجزاءٌ، أي: إنْ ظَهَروا فلن تُفْلِحوا.
قوله: ﴿وكذلك أَعْثَرْنَا﴾ : أي: وكما أَنَمْناهم وبَعَثْناهم أَعْثَرْنا، أي: أَطْلَعْنا. وقد تقدَّم الكلامُ على مادة «عثر» في المائدة
464
و «لِيَعْلَموا» متعلقٌ بأَعْثَرْنا. والضمير: قيل: يعود على مفعول «أَعْثَرْنا» المحذوفِ تقديرُه: أَعْثَرْنا الناسَ. وقيل: يعود على أهل الكهف.
قوله: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ﴾ يجوز أَنْ يعملَ فيه «أَعْثَرنا» أو «لِيَعْلَموا» أو لمعنى «حَقٌّ» أو ل «وَعْدَ» عند مَنْ «يَتَّسع في الظرف. وأمَّا مَنْ لا يَتَّسعُ، فلا يجوز الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صِلَتِه.
قوله:»
بُنْياناً «يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به، جمعَ يُنْيَانَه، وأن يكونَ مصدراً.
قوله: ﴿رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾ يجوز أن يكونَ مِنْ كلام الباري تعالى، وأن يكونَ من كلامِ المتنازِعَيْنِ فيهم.
قوله:»
غَلَبوا «قرأ عيسى الثقفي والحسن بضم الغين وكسرِ اللام.
465
قوله: ﴿سَيَقُولُونَ﴾ : قيل: إنما أُتي بالسِّينِ في هذا لأنَّ في الكلامِ طَيَّاً وإدْماجاً تقديرُه: فإذا أَجَبْتَهم عن سؤالِهم عن قصةِ أهلِ الكهفِ فَسَلْهُمْ عددِهم فإنهم سيقولون. ولم يأتِ بها في باقيةِ الأفعالِ لأنها معطوفةٌ على ما فيه السينُ فأُعْطِيَتْ حُكْمَه من الاستقبَال.
465
وقرأ ابنُ محيصن «ثَلاثٌّ» بإدغامِ الثاءِ المثلثةِ في تاء التأنيث لقربِ مَخْرَجَيْهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكنٍ معتلٍّ.
قوله: ﴿رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ الجملةُ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «ثلاثة».
قوله: «خَمْسَةٌ» قرأ ابن كثير في روايةٍ بفتحِ الميم، وهي لغةٌ كعشَرَة. وقرأ ابن محيصن بكسرِ الخاءِ والميمِ، وبإدغامِ التاءِ في السين، يعني تاءَ «خمسة» في سين «سادسهم» وعي قراءةٌ ثقيلةٌ جداً، تتوالى كسرتان وثلاثُ سيناتٍ، ولا أظنُّ مثلَ هذا إلا غلطاً على مثلِه. ورُوِيَ عنه إدغامُ التنوينِ في السين مِنْ غيرِ غُنَّة.
و «ثلاثةٌ» و «خمسةٌ» و «سبعةٌ» إخبارٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هم ثلاثةٌ، وهم خمسةٌ، وهم سبعةٌ. وما بعد «ثلاثة» و «خمسة» من الجملةِ صفةٌ لهما، كما تقدَّم. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً لعدم عاملٍ فيها، ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هؤلاء ثلاثةٌ، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العاملُ اسمَ الإِشارة أو التنبيه. قال أبو البقاء: «لأنَّها إشارةٌ إلى حاضرٍ، ولم يُشيروا إلى حاضر».
قوله: ﴿رَجْماً بالغيب﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغَيْب. والثاني: أنه في موضعِ الحال، أي:
466
ظانِّين. والثالث: أنَّه منصوبٌ ب «يقولون» لأنه بمعناه. والرابع: أنه منصوبٌ بمقدَّرٍ مِنْ لفظه، أي: يَرْجُمون بذلك رَجْماً.
والرَّجْمُ في الأصلِ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ وهي الحجارةُ الصِّغارُ، ثم عُبِّر به عن الظنِّ. قال زهير:
٣١٣ - ٩- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
أي: المَظْنُون.
قوله: «وثامِنُهُم» في هذه الواوِ أوجهٌ، أحدُها: أنها عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذه الجملةَ على جملةِ قولِه «هم سبعة» فيكونون قد أَخبَرو بخبرين، أحدُهما: أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ. والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه ﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم. الثاني: أنَّ الواوَ للاستئنافِ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك. قال هذا القائلُ: وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله. الثالث: أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيداً، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ. وإليه ذهب الزمخشري، ونَظَّره بقولِه: ﴿مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤].
ورَدَّ الشيخ عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يَقُلْه، وقد تقدَّم القولُ في ذلك.
467
الرابع: أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة، فيُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الآية: ٧٣] في الزمر فقال: دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله.
وقُرِئ: «كالبُهم»، أي: صاحبُ كلبِهم. ولهذه القراءةِ قدَّرَ بعضُهم في قراءةِ العامة: وثامنُهم صاحبُ كلبِهم.
وثلاثة وخمسة وسبعة مضافةٌ لمعدودٍ محذوفٍ فقدَّره الشيخ: ثلاثة أشخاص، قال: «وإنما قدَّرْنا أشخاصاً لأنَّ رابعَهم اسمُ فاعلٍ أُضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه رَبَعَهم، أي: جَعَلَهم أربعةً، وصَيَّرهم إلى هذا العددِ، فلو قدَّرْناه رجالاً استحال أن يُصَيِّر ثلاثةَ رجالٍ أربعةً لاختلافِ الجنسين». وهو كلامٌ حسنٌ.
وقال أبو البقاء: «ولا يَعْمل اسمُ الفاعلِ هنا لأنه ماضٍ». قلت: يعني أن رابعَهم فيما مضى، فلا يعمل النصبَ تقديراً، والإِضافة محضة. وليس كما زعم فإنَّ المعنى على: يَصير الكلبُ لهم أربعةً، فهو ناصبٌ تقديراً، وإنما عَمِلَ وهو ماضٍ لحكاية الحالِ كباسِط.
468
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ : قاله أبو البقاء: «في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: هو مِنَ النَّهْيِ. والمعنى: لا تقولَنَّ: أفعل غداً، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول. الثاني: هو من» فاعلٌ «، أي: لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ» إن شاء الله «. والثالث: أنه منقطعٌ. وموضعُ» أَنْ يشاء اللهُ «نصبٌ على وجهين، أحدُهما على الاستثناءِ، والتقدير: لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله، أي: يَأْذَنَ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ. والثاني: هو حالٌ والتقدير: لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً: إن شاء الله، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى: إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى. وقيل: التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ، أي: ملتبساً بقولِ:» إن شاء الله «.
قلت: قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني، فقال:»
إلا أَنْ يشاء «متعلقٌ بالنهي لا بقولِه» إنِّي فاعلٌ «لأنَّه لو قال: إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه: إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي». قلت: يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن.
ثم قال: «وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين، أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه. والثاني: ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي: إلا بمشيئته، وهو في موضعِ الحال، أي: ملتبساً بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله. وفيه وجهٌ ثالث: وهو أَنْ يكونَ» إلا أَنْ يشاء «في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل: ولا تقولَنَّه أبداً، ونحوُه: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ
469
أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: ٨٩] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله».
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ.
وقال الشيخ: «وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول: إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ. فقال ابن عطية:» في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ، ويُحَسِّنه الإيجازُ، تقديرُه: إلا أَنْ تقولَ: إلا أَنْ يشاءَ الله، أو إلا أَنْ تقولَ: إنْ شاء الله. والمعنى: إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله، فليس «إلا أن يشاءَ اللهُ» من القولِ الذي نَهَى عنه «.
470
قوله: ﴿ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ﴾ : قرأ الأخَوان بإضافة «مِئَةِ» إلى سنين. والباقون بتنوين «مِئَةٍ». فأمَّا الأولى فأوقع فيها الجمعَ موقعَ المفردِ كقولِه: ﴿بالأخسرين أَعْمَالاً﴾ [الكهف: ١٠٣]. قاله الزمخشري يعني أنه أوقع «أَعْمالاً» موقعَ «عَمَلاً». وقد أنحى أبو حاتم على هذه القراءةِ ولا يُلْتَفَتُ إليه. وفي مصحفِ عبد الله «سَنَة» بالإِفراد. وبها قرأ أُبَيّ. وقرأ الضحاك «سِنُون» بالواو على أنها خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُون.
470
وأمَّا الباقون: فلمَّا لم يَرَوا إضافةَ «مِئَة» إلى جمعٍ نَوَّنُوا، وجعلوا «سِنين» بدلاً مِنْ «ثلثمئة» أو عطفَ بيان. ونَقَل أبو البقاء أنَّه بدلٌ مِنْ «مِئَة» لأنها في معنى الجمع. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ «سنين» في هذه القراءةِ مميِّزاً، لأنَّ ذلك إنما يجيءُ في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز، كقوله:
٣١٤ - ٠- إذا عاش الفَتَى مِئَتين عاماً [فقد] ذَهَب اللَّذاذَةُ والفَتاءُ
قوله: «تِسْعاً»، أي: تسعَ سنين، حَذَفَ المُمَيَّزَ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، إذ لا يُقال: عندي ثلثمئة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أَرَدْتَ ثياباً ونحوَها لم يَجُزْ لأنه إلغازٌ. و «تِسْعاً» مفعولٌ به. وازداد: افتَعَلَ، أُبْدِلَتِ التاءُ دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين نحو: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، فلمَّا بُنِي على الافتعال نَقَص واحداً.
وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في وراية «تَسْعا» بفتح التاء كعَشْر.
471
قوله: ﴿أَبْصِرْ بِهِ﴾ : صيغةُ تعجبٍ بمعنى ما أبصرَه، على سبيل المجاز، والهاءُ للهِ تعالى. وفي مثلِ هذا ثلاثةُ مذاهبَ: الأصحُّ أنه بلفظِ الأمرِ ومعناه الخبرُ، والباءُ مزيدةٌ في الفاعل إصلاحاً للَّفْظ. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ المصدرِ. والثالث: أنه ضميرُ المخاطبِ، أي: أَوْقِعْ أيها المخاطبُ. وقيل: هو أمرٌ حقيقةً لا تعجبٌ، وأن الهاءَ تعودُ على الهُدَى المفهوم من الكلام.
471
وقرأ عيسى: «أَسْمَعَ» و «أَبْصَرَ» فعلاً ماضياً، والفاعلُ الله تعالى، وكذلك الهاءُ في «به»، أي: أبصرَ عبادَه وأَسْمعهم.
قوله: «مِنْ وليّ» يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأً.
قوله: «ولا يُشْرك»، قرأ ابن عامر بالتاءِ والجزم، أي: ولا تُشْرِكْ أنت أيها الإِنسانُ. والباقون بالياء من تحتُ ورفعِ الفعلِ، أي: ولا يُشْرك اللهُ في حكمِه أحداً، فهو نفيٌ مَحْضٌ.
وقرأ مجاهد: «ولا يُشْرِكْ» بالتاء من تحتُ والجزم.
قال يعقوب: «لا أعرفُ وجهه». قلت: وجهُه أنَّ الفاعلَ ضميرُ الإِنسانِ، أُضْمِرَ للعِلْمِ به.
والضميرُ في قولِه/ «مالهم» يعود على معاصري رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عطية: «وتكون الآيةُ اعتراضاً بتهديد». كأنَّه يعني بالاعتراضِ أنهم ليسوا ممَّن سَبَق الكلامُ لأجلهم، ولا يريد الاعتراضَ الصناعيِّ.
472
قوله: ﴿واصبر نَفْسَكَ﴾ : أي: احبِسْها وثَبِّتْها، قال أبو ذؤيب:
472
وقوله: «بالغَداة» تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام.
قوله: ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنَّ مفعولَه محذوفٌ، تقديرُه: ولا تَعْدُ عيناك النظرَ. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب «عَنْ». قال الزمخشري: «وإنما عُدِّيَ ب» عَنْ «لتضمين» عَدا «معنى نبا وعلا في قولِك: نَبَتْ عنه عيْنُه، وعلَتْ عنه عَيْنُه، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به. فإن قلت: أيُّ غرضٍ في هذا التضمين؟ وهَلاَّ قيل: ولا تَعْدُهم عيناك، أو: ولا تَعْلُ عيناك عنهم؟ قلت: الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ. ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك: ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم. ونحوه ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]، أي: ولا تَضُمُّوها إليها آكلين لها».
ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس، وإنما يُصار إليه عند الضرورة. فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه.
وقرأ الحسن «ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ» مِنْ أَعْدى رباعياً. وقرأ هو وعيسى والأعمش «ولا تُعَدِّ» بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّي مُضَعَّفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ، كقولِ النابغة:
٣١٤ - ٢-
473
٣١٤ - ١- فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ
فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ
كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ. ورَدَّ عليهما الشيخ: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه. وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال: «يقال: عَدَاه إذا جاوزه، وإنما عُدِّي ب عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ» وهو اعتراضٌ حسنٌ.
قوله: «تُريد» جملةٌ حالية. ويجوز أن يكونَ فاعلُ «تريد» المخاطبَ، أي: تريد أنت. ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد. ومنه قولُ امرئ القيس:
٣١٤ - ٣- لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ بها العَيْنان تَنْهَلُّ
وقولُ الآخر:
٣١٤ - ٤- وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ أو سُنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ
وفيه غيرُ ذلك. ونسبةُ الإِرادةِ إلى العينين مجازٌ. وقال الزمخشري: «
474
الجملةُ في موضعِ الحال». قال الشيخ: «وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ» عَيْناك «فكان يكون التركيبُ: تريدان». قلت: غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ. ثم قال: «وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإِضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال.
وقد أجاز ذلك بعضُهم إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزءِ، وحَسَّن ذلك أنَّ المقصودَ نهيُه هو عليه السلام. وإنما جِيْءَ بقوله: «عيناك»
والمقصودُ هو لأنهما بهما تكونُ المراعاةُ للشخصِ والتلفُّتُ له «.
قلت: وقد ظهر لي وَجْهٌ حسنٌ لم أرَ غيري ذَكَرَه: وهو أن يكون»
تَعْدُ «مُسنداً لضميرِ المخاطب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و» عيناك «بدلٌ من الضميرِ بدلُ بعضٍ من كل. و» تُرِيدُ «على وَجهَيْها: مِنْ كونها حالاً مِنْ» عيناك «أو من الضمير في تَعُدْ. إلا أنَّ في جَعْلِها حالاً من الضمير في» ولا تَعْدُ «ضَعفاً: من حيث إنَّ مراعاةَ المبدلِ منه بعد ذِكْرِ البدلِ قليلٌ جداً تقول:» الجارية حسنُها فاتِنٌ «ولا يجوز» فاتنةٌ «إلا قليلاً، كقولِه:
٣١٤ - ٥- فكأنَّه لِهقُ السَّراةِ كأنَّه ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ
فقال:»
مُعَيَّنٌ «مراعاةً للهاء في» كأنه «، وكان الفصيحُ أن يقولَ:» مُعَيَّنان «مراعاةً لحاجبَيْه الذي هو البدلُ.
قوله: ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ العامَّة على إسنادِ الفعل ل»
ن «و» قلبَه «مفعول به.
475
وقرأ عمرو بن عبيد بن فائد وموسى الأسواري بفتح اللام ورفع» قلبُه «أَسْندوا الإِغفالَ إلى القلبِ. وفيه أوجهٌ. قال ابن جني: مَنْ ظَنَّنَا غافِلين عنه». وقال الزمخشري: «مَنْ حَسِبْنا قلبُه غافلين، مِنْ أَغْفَلْتُه إذا وَجَدْتَهُ غافلاً،. وقال أبو البقاء:» فيه وجهان، أحدُهما: وَجَدْنا قلبُه مُعْرِضين عنه. والثاني: أهملَ أَمْرَنا عن تَذَكُّرِنا «.
قوله:»
فُرُطاً «يحتمل أَنْ يكون وصفاً/ على فُعُل كقولِهم:» فرسٌ فُرُطُ «، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدَّماً للحقِّ. وأن يكونَ مصدراً بمعنى التفريط أو الإِفراط. قال ابنُ عطية:» الفُرُطُ: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي: أمرَه الذي يجب أن يَلْزَم، ويُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِفراط والإِسراف.
476
قوله: ﴿وَقُلِ الحق﴾ : يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، أي: القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ. الثاني «أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحقُّ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ، إلاَّ أنَّ الفعلَ لا يُضمر إلا في مواضعَ تقدَّم التنبيهُ عليها، منها: أَنْ
476
يُجَابَ به استفهامٌ، أو يُرَدَّ به نفيٌ، أو يقعَ فعل مبنيّ للمفعول، لا يَصْلُح إسنادُه لما بعده كقراءة ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو﴾ كما سيأتي إنْ شاء الله تحقيقُه في موضعِه. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ بعده.
وقرأ أبو السَّمَّال قعنب:» وقُلُ الحقَّ «بضمِّ اللامِ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركةِ القاف. وقرأ أيضاً بنصب» الحقَّ «. قال صاحب» اللوامح «:» هو على صفةِ المصدرِ المقدَّر؛ لأن الفعلَ يَدُلُّ على مصدره وإن لم يُذْكَرْ، فتنصِبُه معرفةً كما تنصِبُه نكرةً، وتقديرُه: وقل القولَ الحقَّ وتُعَلَّقُ «مِنْ» بمضمرٍ على ذلك. أي: جاء مِنْ ربكم «انتهى.
وقرأ الحسن والثقفي بكسرِ لامَيْ الأمرِ في قوله:»
فَلْيُؤْمِنْ «، و» فَلْيَكْفُرْ «وهو الأصل.
قوله: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن﴾ يجوز في»
مَنْ «أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهِه بالشرط. وفاعلُ» شاء «الظاهرُ أنه ضميرٌ يعود على» مَنْ «. وقيل: ضميرٌ يعودُ على الله، وبه فَسَّر ابنُ عباس، والجمهورُ على خلافِه.
477
قوله: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل» ناراً «. والسَّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ كالمَضْرِب والخِباء. وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادِق. قاله الهَرَوِيُّ. وقيل: هو الحُجْرَةُ تكونُ حول الفُسْطاط. وقيل: هو ما يُمَدُّ على صحنِ الدار. وقيل: كلُّ بيتٍ من كُرْسُفِ فهو سُرادِق، قال رؤبة:
٣١٤ - ٦- يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدودْ
ويُقال: بيت مُسَرْدَق. قال الشاعر:
٣١٤ - ٧- هو المُدْخِلُ النُّعْمانَ بيتاً سماؤُه صدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسَرْدَقِ
وكان أبرويز ملكُ الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أَرْجُلِ الفِيلة. والفُيول: جمع فِيل. وقيل: السُّرادق: الدِّهليز. قال الفرزدق:
٣١٤ - ٨- تَمَنَّيْتَهم حتى إذا ما لَقِيْتَهُمْ تركْتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرادقا
والسُّرادق: فارسيٌّ معرَّبٌ أصله: سرادَة، قاله الجواليقي، وقال
478
الراغب:» فارسيٌّ معرَّبٌ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردٌ، ثالثُ حروفِه ألفٌ بعدها حرفان «.
قوله: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ﴾، أي: يَطْلُبوا العَوْنَ. والياءُ عن واوٍ، إذ الأصل: يستَغْوِثوا، فقُلبت الواو ياءً لتصريفٍ ذُكِر في الفاتحة عند قوله: ﴿نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، وهذا الكلامُ من المشاكلةِ والتجانُسِ، وإلا فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم كقولِه:
٣١٤ - ٩-....................... ........ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
[وكقولِه] :
٣١٥ - ٠-....................... تَحِيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
وهو كثير.
و «كالمُهْلِ»
صفةٌ ل «ماء». والمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أُذِيْب من الجواهر كالنُّحاس والرصاص. والمَهَل بفتحتين: التُّؤَدَة والوَقار. قال: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين﴾ [الطارق: ١٧].
479
قوله: ﴿يَشْوِي الوجوه﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ثانيةً، أن تكونَ حالاً مِنْ «ماء» لأنه تخصَّصَ بالوصف، ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الجارِّ وهو الكاف.
والشَّيُّ: الإِنضاجُ بالنارِ من غيرِ مَرَقَةٍ تكون مع ذلك الشيءِ المَشْوِيَّ.
قوله: ﴿بِئْسَ الشراب﴾ المخصوصُ محذوفٌ تقديره: هو، أي: ذلك الماءُ المستغاثُ به.
قوله: ﴿وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ «ساءَتْ» هنا متصرفةٌ على بابها. وفاعلُها ضميرُ النار. ومُرْتَفَقَا تمييز منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء وقَبُحَ مُرْتَفَقُها. والمُرْتَفَقُ: المُتَّكأ. وقيل: المنزل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى الارتفاق، وهو من بابِ المقابلة أيضاً كقوله في وصفِ الجنة بعدُ: ﴿وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً﴾ [الكهف: ٣١]، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أَنْ يكون من قوله:
٣١٥ - ١- إني أَرِقْتُ فَبِتُّ الليلَ مُرْتَفِقا كأنَّ عَيْنِيَ فيها الصابُ مَذْبوحُ
يعني من باب التهكُّم.
480
قوله: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ ﴿إِنَّ الذين﴾ والرابطُ: إمَّا تَكَرُّرُ الظاهرِ بمعناه، وهو قولُ الأخفش. ومثلُه في الصلة /
480
جائزٌ. ويجوز ان يكونَ الرابطُ محذوفاً، أي: منهم، ويجوز أن يكونَ الرابطُ العمومَ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ قولَه: ﴿أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ﴾، ويكونَ قولُه: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ﴾ اعتراضاً. قال ابن عطية: ونحوُه في الاعتراض قولُه:
٣١٥ - ٢- إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ أَلْبَسَه سِرْبالَ مُلْكٍ به تُزْجى الخواتِيمُ
قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ أن يكونَ» إنَّ اللهَ ألبسَه «اعتراضاً لجوازِ أَنْ يكونَ خبراً عن» إنَّ الخليفة «. قلت: وابن عطيةَ لم يَجْعَلْ ذلك متعيِّناً بذلك هو نحوه في أحد الجائزين فيه. ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قولَه ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ﴾ وقولَه ﴿أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ﴾ - خَبَريْن ل» إنَّ «عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، أعني تعدُّدَ الخبر، وإنْ لم يكونا في معنى خبرٍ واحد.
وقرأ الثقفيُّ»
لا نُضَيِّع «بالتشديدِ، عَدَّاه بالتشديد كما عَدَّاه الجمهورُ بالهمزة.
481
قوله: ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾ : في «مِنْ» هذه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنَّها للابتداءِ. والثاني: أنها للتعيض. والثالث: أنها لبيان الجنسِ، لأي: شيئاً مِنْ أساور. والرابع: أنها زائدةٌ عند الأخفش، ويَدُلُّ عليه قولُه: {
481
وحلوا أَسَاوِرَ} [الإِنسان: ٢١]. ذكر هذه الثلاثةَ الأخيرةَ أبو البقاء.
وأساوِر جمع أَسْوِرة، وأَسْوِرة جمعُ سِوار، كحِمار وأَحْمِرة، فهو جمعُ الجمع. جمع إسْوار. وأنشد:
٣١٥ - ٣- واللهِ لولا صِبْيَةٌ صِغارُ كأنَّما وجوهُهمْ أَقْمارُ
- أخافُ أَنْ يُصِيبهم إقتارُ أو لاطِمٌ ليسَ له إسْوارُ
- لمَّا رآني مَلِكٌ جَبَّارُ ببابِه ما طَلَعَ النَّهارُ
وقال أبو عبيدة: «هو جمعُ» إسوار «على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرْ.
وقرأ أبان بن عاصم»
أَسْوِرة «جمعَ سِوار وستأتي إنْ شاء الله تعالى في الزخرف هاتان القراءتان في المتواتر، وهناك أذكُر إن شاء الله تعالى الفرقَ.
482
والسَّوارُ يُجمع في القِلَّة على» أَسْوِرة «وفي الكثرة على» سُور «بسكون الواو، وأصلُها كقُذُل وحُمُر، وإنما سُكِّنَتْ لأجلِ حرفِ العلة. وقد يُضَمُّ في الضرورة، وقال:
٣١٥ - ٤- عن مُبْرِقاتٍ بالبُرِيْنَ وتَبْ دُو في الأكفِّ اللامعاتِ سُوُرْ
وقال أهل اللغة: السَّوار ما جُعِلَ في الذِّراعِ مِنْ ذهبٍ أو فضة أو نُحاس، فإن كان مِنْ عاج فهو قُلْبٌ.
قوله: ﴿مِن ذَهَبٍ﴾ يجوز أن تكونَ للبيان، وأَنْ تكونَ للتبعيض. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لأساوِر فموضعُه جر، وأن تتعلَّقَ بنفس»
يُحَلُّوْنَ «فموضعها نصب.
قوله: ﴿وَيَلْبَسُونَ﴾ عطفٌ على»
يُحَلَّوْن «. وبُني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتِهم، وأنَّ غيرَهم يَفعل لهم ذلك ويُزَيِّنُهم به، كقولِ امرئِ القيس.
٣١٥ - ٥- غرائرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمةٍ يُحَلِّيْنَ ياقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّراً
بخلافِ اللَّبس فإنَّ الإِنسان يتعاطاه بنفسه. وقُدِّم التحلِّي على الِّلباس لأنه أَشْهَى للنفسِ.
وقرأ أبان بن عاصم»
وَيَلْبِسُونَ «بكسر الباء.
قوله: ﴿مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ »
مِنْ «لبيانِ الجنس وهي نعتٌ لثياب.
483
والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ من الدِّيباج. والإِستبرق: ما غَلُظَ منه وهما جمعُ سُنْدُسة واسْتَبْرَقَة. وقيل: ليسا جمعَيْنِ. وهل» اسْتَبْرق «عربيُّ الأصلِ مشتق من البريق، أو معرِّبٌ أصلُه استبره؟ خلافٌ بين اللغويين. وقيل: الإِستبرق اسم للحرير. وأنشد للمرقش:
٣١٥ - ٦- تراهُنَّ يَلْبِسْنَ المشاعِرَ مَرَّةً وإستبرقُ الديباجُ طَوْراً لِباسُها
وهو صالحٌ لِما تقدَّم. وقال ابنُ بحر:»
الإِستبرق: ما نُسج بالذهب «.
ووَزْنُ سُنْدُس: فُعْلُل ونونُه أصلية.
وقرأ ابن محيصن»
واسْتَبرقَ «بوصلِ الهمزة وفتح القافِ غيرَ منونة. فقال ابن جني: هذا سهوٌ أو كالسهوِ». قلت: كأنه زعم أنَّه مَنَعه الصرفَ ولا وجهَ لمنعِه، لأنَّ شرطَ مَنْعِ الاسمِ الأعجمي أَنْ يكونَ عَلَماً وهذا اسمُ جنسٍ. وقد وجَّهها غيرُه على أنه جَعَلَه فعلاً ماضياً من البريق، واستَفْعَلَ بمعنى فَعَلَ المجرد نحو: قَرَّ واستقرَّ.
وقال الأهوازيُّ في «الإِقناع» :«واستبرق بالوصلِ وفتحِ/ القاف حيث كان لا يَصْرِفُه» فظاهرُ هذا أنه اسمٌ، وليس بفعلٍ وليس لمنعِه وجهٌ، كما تقدَّم عن ابن جني، وصاحب «اللوامح» لمَّا ذكر وَصْلَ الهمزةِ لم يَزِد على ذلك، بل نَصَّ على بقائِه منصرفاً ولم يذكر فتح القاف أيضاً فقال: «ابن محيصن» واستبرق «يوصلِ الهمزة في جميع
484
القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزةَ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربياً مِنْ بَرِق يَبْرُقُ بَرْيقاً، ووزنُه استفعل، فلمَّا سُمِّي به عامَلَه معاملَةَ الفعل في وَصْلِ الهمزةِ، ومعاملةَ الممتكنةِ من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثرُ التفاسيرِ على أنَّه عربية وليس بمستعربٍ، دَخَل في كلامِهم فاعربوه».
قوله: «مُتَّكئين» حال والأرائِكُ: جمعُ أَرِيْكَة وهي الأَسِرَّة بشرط أن تكونَ في الحِجالِ فإن لم تكنْ لم تُسَمَّ أَرْيْكَة. وقيل: الأرائِكُ: الفُرُش في الحَجال أيضاً. وقال الارغب: «الأَرِيْكة: حَجَلَةٌ على سريرٍ، وتسميتها بذلك: إمَّا لكونِها في الأرض مُتَّخَذَةً مِنْ أَراك، أو مِنْ كونها مكاناً للإِقامة من قولهم: أَرَك بالمكان أُرُوكاً، وأصل الأُروك الإِقامةُ على رَعْيِ الأَراكِ، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإِقامات».
وقرأ ابن محيصن: «عَلَّرَائك» وذلك: أنَّه نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى لامِ التعريف فالتقى مِثْلان: لامُ «على» - فإنَّ ألفها حُذفَتْ لالتقاءِ الساكنين- ولامُ التعريف، واعتدَّ بحركة النقل فأدغم اللامَ في اللامِ، فصار اللفظُ كما ترى، ومثلُه قولُ الشاعر:
٣١٥ - ٧- فما أصبحَتْ عَلَّرْضِ نَفْسٌ بريئةٌ ولا غيرُها إلا سليمانُ نالها
يريد «على الأرض». وقد تقدَّم قراءةٌ قريبةٌ مِنْ هذه أولَ البقرة: بما أُنْزِلَّيْكَ «، أي: أُنْزِلَ إليك.
485
قوله: ﴿رَّجُلَيْنِ﴾ : قد تقدَّم أنَّ «ضَرَبَ» مع المَثَلِ، يجوز أن يتعدَّى لاثنين في سورةِ البقرة. وقال أبو البقاء: التقدير: مثلاً مَثَل رجلين، و «جَعَلْنَا» تفسيرٌ ل «مَثَل» فلا موضعَ له، ويجوز أن يكونَ موضعُه نصباً نعتاً ل «رَجُلِيْن» كقولك: مررت برجلين جُعِلَ لأحدِهما جنةٌ «.
قوله: ﴿وَحَفَفْنَاهُمَا﴾ يقال: حَفَّ بالشيءِ: طاف به من جميع جوانبِه، قال النابغة:
٣١٥ - ٨- يَحُفُّه جانِباً نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ مِثلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِن الرَّمَدِ
وحَفَّ به القومُ: صاروا طائفين بجوانبِه وحافَّته، وحَفَفْتُه به، أي: جَعَلْتُه مُطِيْفاً به.
قوله: ﴿كِلْتَا﴾ : قد تقدَّم في السورة قبلها حكمُ «كلتا» وهي مبتدأ، و «آتَتْ» خبرُها. وجاء هنا على الكثير: وهو مراعاةُ لفظِها دونَ معناها.
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفِه - «كلا الجَنَّتين» بالتذكير لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ثم قرأ «آتَتْ» بالتأنيث اعتباراً بلفظ «الجنتين» فهو نظيرُ «طَلَعَ الشمسُ وأشرقَتْ» وروى الفراء عنه قراءةً أخرى: «كلُّ الجنتين آتى أُكُلَه» أعادَ الضميرَ على لفظِه.
486
قوله: «وفجَّرْنا» العامَّةُ على التشديد وإنما كان كذلك، وهو نهر واحد مبالغةٌ فيه. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيفِ وهي قراءةُ الأعمش في سورة القمر، والتشديدُ هناك أظهرُ لقولِه «عيوناً».
والعامَّةُ على فتحِ هاء «نَهَر» وأبو السَّمال والفياض بسكونها.
487
قوله: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ فيه في الأنعام مستوفى، وتقدَّم أنَّ «الثُّمُرَ» بالضم المالُ. فقال ابنُ عباس: جميع المال مِنْ ذهبٍ وفِضَّةٍ وحيوانٍ وغير ذلك. قال النابغة:
٣١٥ - ٩- مَهْلاً فداءً لك الأقوامُ كلُّهمُ وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
وقيل: هو الذهب والفضة خاصةٍ.
وقرأ أبو رجاء «بِثَمْرِه» بفتحة وسكون.
قوله: «وهو يحاوِرُه» جملةٌ حالية مُبَيِّنة إذ لا يَلْزَمُ مِنَ القولِ المحاوَرَةُ؛ إذ المحاوَرَةُ مراجعةُ الكلام مِنْ حار، أي: رَجَعَ، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ [الانشقاق: ١٤]. وقال امرؤ القيس:
٣١٦ - ٠-
487
وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضَوئِه يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هُوَ ساطِعُ
ويجوز أَنْ تكونَ حالاً مِنَ الفاعل أو من المفعول.
488
قوله: ﴿جَنَّتَهُ﴾ :/ إنما أفرد بعد ذِكْرِ التثنية اكتفاءً بالواحدِ للعِلْمِ بالحال. قال أبو البقاء: «كما اكْتُفِيَ بالواحدِ عن الجمعِ في قولِ الهُذَليّ:
٣١٦ - ١- فالعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها سُمِلَتْ بشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ
ولقائلٍ أن يقول: إنما جاز ذلك لأنَّ جمعَ التكسيرِ يجري مَجْرى المؤنثة، فالضمير في»
سُمِلَتْ «وفي» فهي «يعود على الحِداق لا على حَدَقة واحدة كما تَوَهَّم.
وقال الزمخشري:»
فإن قلت: لِمَ أَفْرَدَ الجنَّة بعد التثنية؟ قلت: معناه: ودخل ما هو جنتُه، ماله جنةٌ غيرُها، بمعنى: أنَّه ليس له نصيبٌ في الجنة التي وُعِدَ المتقون. فما ملكه في الدنيا هو جَنَّته لا غير، ولم يَقْصِدْ الجنتين ولا واحدةً منهما «.
قال الشيخ:»
ولا يُتَصَوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله: «ودخل جَنَّته» إخبارٌ من الله تعالى بأنَّ هذا الكافرَ دَخَلَ جَنَّته فلا بُدَّ أَنْ قَصَدَ في الإِخبار أنَّه دَخَلَ إحدى جنتيه إذ لا يمكن أَنْ يَدْخُلَهما معاً في وقتٍ واحد: «. قلت: ومتى أدَّعَى
488
دخولهما في وقتٍ واحدٍ يُلْزِمَه بهذا المستحيل في البداية. وأمَّا قوله» ولم يَقْصِدِ الجنتين ولا واحدةً «معناه لم يَقْصِدْ تعيينَ مفردٍ ولا مثنى لا أنه لم يَقْصِدْ الإِخبارَ بالدخول».
وقال أبو البقاء: «إنما أفْرَدَ لأنهما جميعاً مِلْكُه فصارا كالشيء الواحد».
قوله: «وهو ظالمٌ» حالٌ مِنْ فاعل «دَخَلَ»، و «لنفسِه» مفعولُ «ظالمٌ» واللام مزيدةٌ فيه لكونِ العامل فرعاً.
«قال له صاحبُه» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «ظالم»، أي: وهو ظالمٌ في حالِ كونِه قائلاً، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً بياناً لسبب الظلمِ، وهو الأحسن.
قوله: «أَنْ تبيد»، أي: تَهْلَكَ، قال:
٣١٦ - ٢- فَلَئِنْ باد أهلُه... لبِما كان يُوْهَلُ
ويقال: باد يبيدُ بُيُوداً وبَيْدٌودة، مثل «كَيْنُونة» والعملُ فيها معروفٌ وهو أنه حُذِفَت إحدى الياءين، ووزنُها فَيْعَلُولة.
489
قوله: ﴿خَيْراً مِّنْهَا﴾ : قرأ أبو عمروٍ والكوفيون «منها» بالإِفراد نظراً إلى أقربِ مذكورٍ، وهو قولُه: «جَنَّته» وهي في مصاحفِ العراق دونَ ميمٍ. والباقون «منهما» بالتثنية نظراً إلى الأصل في قوله: «جَنَّتَيْن» و «كِلْتَا الجنتين» ورُسِمَتْ في مصاحف الحرمين والشام بالميم، فكلُّ قد وافق رَسْمَ مصحفِه «.
قوله: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ : النُّطْفَةُ في الأصل: القطرةُ من الماء الصافي يقال: نَطَف يَنْطِف، أي: قَطَر يَقْطُر. وفي الحديث: «فخرجَ ورأسُه يَنْطِفُ» وفي رواية: يَقْطُر، وهي مفسِّرةٌ، وأُطْلِق على المَنِّيِّ «نُطْفَةٌ» تشبيهاً بذلك.
قوله: «رَجُلاً» فيه وجهان، أحدهما: أنه حال، وجاز ذلك وإنْ [كان] غير منتقلٍ ولا مشتقٍ لأنه جاء بعد «سَوَّاك» إذ كان مِنَ الجائز أَنْ يُسَوِّيَه غيرَ رجلٍ وهو كقولِهم: «خَلَقَ اللهُ الزَّرافةَ يَدَيْها أطولَ من رجليها» وقول الآخر:
490
والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «سَوَّاك» لتضمُّنِه معنى صَيَّرك وجعلك، وهو ظاهرُ قول الحوفي.
491
قوله: ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ : قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ.
والأصلُ في هذه الكلمةِ «» لكنْ أنا «فَنَقَلَ حركةَ همزةِ» أنا «إلى نون» لكن «وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ» أنا «اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ» أنا «وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ.
وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ
491
إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً.
وإعرابُ ذلك: أن يكونَ» أنا «مبتدأ و» هو «مبتدأ ثانٍ، و» هو «ضمير الشأن، و» اللهُ «مبتدأ ثالث. و» ربي «خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في» ربي «. ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ» هو «أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ» هو «عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه ﴿بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ» هو «مبتدأً، ومابعده خبرُه، وهو خبرُه خبرُ» لكنَّ «. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ» لكنَّ «من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً.
وقرأ أبو عمروٍ»
لكنَّهْ «بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون» أنا «، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ. وعن حاتم الطائي:» هكذا فَرْدِي أَنَهْ «.
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو:»
رَوَى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لَحِقَ «لكن». قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكن» وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ
492
غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ «لكنَّا» لكنَّ واسمَها وهو «ن»، والأصل: «لكنَّنا» فحذف إحدى النونات نحو: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ وكان حقُّ التركيبِ أن يكون «ربنا»، «ولا نُشرك بربِّنا» قال: «ولكنه اعتبر المعنى فأفرد».
وهو غريب جداً.
وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ «لكنَّ» مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع.
وقرأ عبدُ الله «لكنْ أنا هو» على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه «لكنْ هو الله» بغير «أنا». وقرئ أيضاً «لكنَنَا».
وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ «. [وقال:] » ونحوُه -يعني إدغامَ نون «لكن» في نون «ن» بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل:
٣١٦ - ٣- فجائت به سَبْطَ العظام كأنما عِمامتُه بين الرِّجالِ لواءُ
٣١٦ - ٤- وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ
493
ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ» لكنَّ «، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه:
٣١٦ - ٥- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك»
. قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو:
٣١٦ - ٦-...................... ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فأدخل اللامَ في خبر «لكنَّ». وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر «إنَّ»، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ.
والاستدراكُ مِنْ قوله «أكفرْتَ»، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه
494
استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك: «زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً.
495
قوله: ﴿ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ﴾ :«لولا» تحضيضة داخلةٌ على «قلتَ» و «إذا دَخَلْتَ» منصوبٌ ب «قلتَ» فُصِلَ به بين «لولا» وما دَخَلَتْ عليه، ولم يُبالَ بذلك لأنه ليس بأجنبي، وقد عَرَفْتَ أنَّ حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان للتوبيخ.
قوله: ﴿مَا شَآءَ الله﴾ يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ شرطيةً، فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب «شاء» أي: أيَّ شيءٍ شاء اللهُ. والجواب محذوف، أي: ما شاء الله كان ووقَعَ. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وفيها حينئذٍ وجهان، أحدهما: أن تكونَ مبتدأةً، وخبرُها محذوفٌ، أي: الذي شاءه اللهُ كائنٌ وواقعٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: الأمرُ الذي شاءه الله. وعلى كلِّ تقديرٍ: فهذه الجملة في محلِّ نصب بالقول.
قوله: ﴿إِلاَّ بالله﴾ خبرُ «لا» التبرئةِ، والجملةُ أيضاً منصوبةٌ بالقولِ، أي: لولا قُلْتَ هاتين الجملتين.
قوله: ﴿إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ﴾ يجوز في «أنا» وجهان. أحدُهما: أنْ يكونَ مؤكِّداً لياء المتكلم. والثاني: أنه ضميرُ الفصلِ بين المفعولين. و «أَقَلَّ» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ بحسبِ الوجهين في الرؤية: هل هي بَصَريةٌ أو عِلْمِيةٌ؟ إلا أنَّك إذا جعلتَها بَصَريةً تعيَّن في «أنا» أَنْ تكونَ توكيداً لا فصلاً؛ لأنَّ شرطَه أَنْ يقع بين مبتدأ وخبرٍ، أو ما أصلُه المبتدأُ والخبرُ.
495
وقرأ عيسى بن عمرَ «أَقَلَّ» بالرفع، ويَتَعَيَّن أن يكونَ «أنا» مبتدأ، و «أقلُّ» خبرُه. والجملةُ: إمَّا في موضعِ المفعولِ الثاني، وإمَّا في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية.
و ﴿مَالاً وَوَلَداً﴾ تمييز. وجوابُ الشرطِ قولُه ﴿فعسى رَبِّي﴾.
496
قوله: ﴿حُسْبَاناً﴾ : الحُسْبانُ/ مصدرُ حَسَب الشيءَ يَحْسُبه، أي: أَحْصاه. قال الزجاج: «أي عذابَ حُسْبان، أي: حسابَ ما كسبت يداك». وهو حسن. وقال الراغب: «قيل: معناه ناراً وعذاباً، وإنما هو في الحقيقة ما يُحاسَبُ عليه فيُجَازَى بحَسَبِه» وهذا موافقٌ لِما قاله أبو إسحاق، والزمخشري نحا إليه أيضاً، فقال: «والحُسْبانُ مصدرٌ كالغُفْرانِ والبُطْلانِ بمعنى الحِساب، أي: مقداراً حَسَبه الله وقَدَّرَه، وهو الحُكْمُ بتخريبِها». وقيل: هو جمع حُسْبانة وهي السَّهْمُ. وفي التفسير: أنها قِطَعٌ مِنْ نارٍ. وفيه: هي الصواعِقُ.
قوله: ﴿أَوْ يُصْبِحَ﴾ : عطفٌ على «يُرْسِلَ» قال الشيخ: «و» أو يُصْبِحَ «عطفٌ على قوله:» ويُرْسِلَ «لأنَّ غُؤُوْرَ الماءِ لا يَتَسَبَّبُ عن الآفةِ السماويةِ، إلا إنْ عَنَى بالحُسْبانِ القضاءَ الإِلهيَّ، فحينئذٍ يتسَبَّبُ عنه إصباحُ الجنة صعيداً زَلَقاً، أو إصباحُ مائِها غَوْراً.
والزَّلَقُ والغَوْرُ في الأصلِ: مصدران وُصِف بهما مبالغةً.
496
والعامَّة على فتحِ الغين. غار الماءُ يغورُ غَوْراً، غاض وذهب في الأرض. وقرأ البرجميُّ بضمِّ الغين لغةً في المصدر. وقرأتْ طائفةٌ» غُؤْوراً «بضمِّ الغينِ والهمزةِ وواوٍ ساكنة. وهو مصدرٌ أيضاً يُقال: غار الماءُ غُؤْوراً مثل: جَلَسَ جُلوساً.
497
قوله: ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ : قُرئ «تَقَلَّبُ كَفَّاه»، أي: تتقلَّب كفَّاه. و «أصبح» : يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها، وأَنْ تكونَ بمعنى صار، وهذا كنايةٌ عن الندمِ لأنَّ النادمَ يَفْعل ذلك.
قوله: ﴿عَلَى مَآ أَنْفَقَ﴾ يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «يُقَلِّب»، وإنما عُدِّيَ ب «على» لأنَّه ضُمِّن معنى يَنْدَمُ.
وقوله: «فيها»، أي: في عِمارتها. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ «يُقَلَّبُ»، أي: مُتَحَسِّراً. كذا قَدَّره أبو البقاء. وهو تفسيرُ معنى. والتقديرُ الصناعيُّ إنما هو كونٌ مطلقٌ.
قوله: «ويقولُ» يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على «يُقَلَّبُ»، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً.
قوله: ﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ﴾ : قرأ الأخَوان «يَكُنْ» بالياء
497
مِنْ تحتُ. والباقون مِنْ فوقُ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيثُ مجازيٌّ، وحَسَّن التذكيرَ الفصلُ.
قوله: «يَنْصُرُونه» يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ حالية، والخبرُ الجارُّ المتقدِّمُ، وسوَّغ مجيءَ الحالِ من النكرة تقدُّمُ النفيِ. ويجوز أَنْ تكونَ صفةً ل «فئة» إذا جَعَلْنا الخبرَ الجارَّ.
وقال: «يَنْصُرونه» حَمْلاً على معنى «فِئَة» لأنهم في قوةِ القوم والناس، ولو حُمِل على لفظِها لأُفْرِد كقولِه تعالى: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣].
وقرأ ابن أبي عبلة: «تَنْصُرُه» على اللفظ. قال أبو البقاء: «ولو كان» تَنْصُره «لكان على اللفظ». قلت: قد قرئ بذلك كما عَرَفْتَ.
498
قوله: ﴿هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ الكلامُ تَمَّ على قوله «منتصراً» وهذه جملةٌ منقطعةٌ عمَّا قبلَها، وعلى هذا فيجوز في الكلامِ أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «هنالك الوَلايةُ» مقدَّراً بجملةٍ فعليةٍ، فالولايةُ فاعلٌ بالظرف قبلها، أي: استقرَّتِ الولايةُ لله، و «لله» متعلقٌ بالاستقرار، أو بنفسِ الظرفِ لقيامِه مَقامَ العاملِ أو بنفسِ الوَلاية، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الولاية»، وهذا إنما يتأتَّى على رَأْيِ الأخفش من حيث إنَّ الظرفَ يرفعُ الفاعلَ مِنْ غيرِ اعتماد.
والثاني: أَنْ يكونَ «هنالك» منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر «الولاية»
498
وهو «لله» أو بما تعلَّق به «لله» أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ منها، والعاملُ الاستقرار في «لله» عند مَنْ يُجيز تقدُّمَ الحالِ على عاملِها المعنويِّ، أو يتعلَّق بنفس «الولاية».
والثالث: أَنْ يُجْعَلَ «هنالك» هو الخبر، و «لله» فَضْلةٌ، والعاملُ فيه ما تقدَّم في الوجه الأول.
ويجوز أن يكونَ «هنالك» مِنْ تتمة ما قبلها فلم يَتِمَّ الكلامُ دونَه، وهو معمولٌ ل «منتصِراً»، أي: وما كان منتصراً في الدار الآخرة، و «هنالك» إشارةٌ إليها. وإليه نحا أبو إسحاق. وعلى هذا فيكون الوقفُ على «هنالِك» تامَّاً، والابتداءُ بقولِه «الوَلايةُ لله» فتكونُ جملةً مِنْ مبتدأ وخبر.
والظاهرُ في «هنالك» : أنَّه على موضوعِه مِنْ ظرفيةِ المكان كما تقدَّم معناه. وتقدَّم أنَّ الأَخَوين يَقْرآن «الوِلاية» بالكسرِ، والفرقُ بينها وبين قراءةِ الباقين بالفتح في سورة الأنفال فلا معنى لإِعادتِه.
وحُكي عن أبي عمروٍ والأصمعيِّ أنَّ كسرَ الواوِ هنا لحنٌ. قالا: لأنَّ فِعالة إنما تجيءُ فيما كان صنعةً أو معنى متقلداً، وليس هناك تَوَلِّي أمورٍ.
499
قوله: «الحق» قرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ برفع «الحقُّ» والباقون بجرِّه، والرفعُ، من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه صفةٌ للوَلاية. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو، أي: ما أَوْحيناه إليك. الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الحقُّ ذلك. وهو ما قُلْناه.
والجرُّ على أنه صفةٌ للجلالةِ الكريمة.
وقرأ زيدُ بن علي وأبو حيوة وعمرو بن عبيد ويعقوب «الحقَّ» نصباً على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة كقولك: هذا عبدُ اللهِ الحقَّ لا الباطلَ «.
قوله:»
عُقباً «عاصمٌ وحمزةُ بسكونِ القافِ، والباقون بضمها. فقيل: لغتان كالقُدُس والقُدْس. وقيل: الأصل الضمُّ، والسكونُ تخفيفٌ. وقيل: بالعكس كالعُسْر واليُسْر، وهو عكسُ معهودِ اللغةِ. ونصبُها ونصبُ» ثواباً «و» أملاً «على التمييز لأفعل التفضيل قبلها. ونقل الزمخشري أنه قُرئ» عُقْبى «بالألف وهي مصدرٌ أيضاً كبُشْرى، وتُروى عن عاصم.
500
قوله: ﴿كَمَآءٍ﴾ : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، فقدَّره ابنُ عطية هي: أي: الحياة الدنيا. والثاني: أنه متعلقٌ
500
بمعنى المصدر، أي: ضرباً كماء. قاله الحوفي. وهذا بناءً منهما على أن «ضَرَب» هذه متعديةٌ لواحدٍ فقط. والثالث: أنه في موضعِ المفعول الثاني ل «اضْرِبْ» لأنها بمعنى صَيَّرَ. وقد تقدَّم.
قال الشيخ بعدما نقل قولَيْ ابن عطية والحوفي: «وأقولُ: إنَّ» كماء «في موضعِ المفعولِ الثاني لقولِه» واضربْ «، أي: وصَيِّرْ لهم مَثَلَ الحياة، أي: صفتَها شبهَ ماء». قلت: وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء.
و «أَنْزَلَناه» صفةٌ ل «ماء».
قوله: ﴿فاختلط بِهِ﴾ يجوز في هذه الباءِ وجهان أحدهما: أن تكونَ سببيةً. الثاني: أَنْ تكونَ معدِّية. قاله الزمخشري: «فالتفَّ بسببِه وتكاثف حتى خالط بعضُه بعضاً. وقيل: نَجَعَ الماءُ في النبات حتى رَوِيَ ورَفَّ رَفِيْفاً. وكان حقُّ اللفظِ على هذا التفسيرِ: فاختلط بنباتِ الأرضِ. ووجه صحتِه: أنَّ كلَّ مختلطَيْنِ موصوفٌ كلُّ واحدٍ منهما بصفةِ الآخرَ».
قوله: ﴿فَأَصْبَحَ هَشِيماً﴾ «أصبح» يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها؛ فإنَّ أكثرَ ما يَطْرُقُ مِن الآفاتِ صباحاً، كقولِه: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ [الكهف: ٤٢] ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى صار مِنْ غير تقيُّدٍ بصَباحٍ كقوله:
501
والهَشِيمُ: واحدُه هَشِيْمَة وهو اليابس. وقال الزجاج وابن قتيبة: كل ما كان رطباً فَيَبِسَ. ومنه ﴿كَهَشِيمِ المحتظر﴾ [القمر: ٣١]. ومنه: هَشَمْتُ الفتَّ. ويقال: هَشَمَ الثَّريدَ: إذا فَتَّه.
قوله: «تَذْرُوْه» صفةٌ ل «هَشيماً» والذَّرْوُ: التفريقُ، وقيل: الرفْعُ.
قوله: «تَذَرُوْه» بالواو. وقرأ عبد الله «تَذْرِيه» من الذَّرْي، ففي لامه لغتان: الواوُ والياءُ. وقرأ ابنُ عباس «تُذْرِيه» بضم التاء من الإِذْراء. وهذه تحتمل أَنْ تكونَ من الذَّروِ وأَنْ تكونَ من الذَّرْيِ. والعامَّةُ على «الرياح» جمعاً. وزيد بن علي والحسن والنخعي في آخرين «الرِّيحُ» بالإِفراد.
502
قوله: ﴿زِينَةُ الحياة﴾ : إنما افرد «زينة» وإن كانت خبراً عن بَنِين لأنَّها مصدرٌ، فالتقدير: ذوا زِيْنة، إذ جُعلا نفسَ المصدر مبالغةً؛ إذ بهما تَحْصُلُ الزينة، أو بمعنى مُزَيِّنَتَيْنِ. وقرئ شاذاً «زينتا الحياة» على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين فَيُتَوَهَّمُ أنه قرئ بنصب «زينة الحياة».
قوله: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ﴾ :«يومَ» منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ بعده تقديرُه: نقول لهم نُسَيِّر الجبال: لقد جِئْتمونا. وقيل: بإضمار اذكر. وقيل: هو معطوفٌ على «عند ربك» فيكونُ معمولاً لقولِه «خيرٌ».
502
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّ التاء وفتح الياء مبنياً للمفعول. «الجبالُ» بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعل، وحَذَفَ الفاعلَ للعِلْمِ به وهو الله، أو مَنْ يأمرُه من الملائكة. وهذه القراءةُ موافقةٌ لِما اتُّفق عليه في قوله ﴿وَسُيِّرَتِ الجبال﴾ [النبأ: ٢٠]، ويؤيِّدها قراءةُ عبدِ الله هنا ﴿وَسُيِّرَتِ الجبال﴾ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول.
والباقون «نُسَيِّر» بنون العظمة، والياءُ مكسورةٌ مِنْ «سَيَّر» بالتشديد؛ «الجبالَ» بالنصب على المفعول به، وهذه القراءةُ مناسِبةٌ لِما بعدها مِنْ قولِه ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ﴾.
وقأ الحسنُ كقراءةِ/ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه إلا أنه بالياءِ مِنْ تحتُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوبٌ عن أبي عمرو: «تَسِيْر» بفتحِ التاءِ من فوقُ ساكن الياء مِنْ سارَتْ تسيرُ، و «الجبالُ» بالرفع على الفاعليةِ.
قوله: ﴿وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾ «بارزةً» حالٌ؛ إذ الرؤيةُ بَصَريةٌ. وقرأ عيسى «وتُرى الأرضُ» مبنياً للمفعول، و «الأرضُ» قائمةٌ مقامَ الفاعل.
قوله: «وحَشَرْناهم» فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ماضٍ مُرادٌ به، المستقبلُ، أي: ونَحْشُرهم، وكذلك ﴿وَعُرِضُواْ﴾ [الكهف: ٤٨] ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ [الكهف: ٤٩].
503
والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، والجملةُ في محلِّ النصب، أي: نفعل التسييرَ في حال حَشْرِهم ليشاهدوا تلك الأهوالَ. والثالث: قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ جِيْءَ ب» حَشَرْناهم «ماضياً بعد» نُسَيِّر «و» تَرَى «؟ قلت: للدلالة على أنَّ حَشْرَهم قبل التَّسْييرِ وقبل البروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ العِظامَ، كأنه قيل: وحَشَرناهم قبل ذلك».
قال الشيخ: «والأَوْلَى أَنْ تكونَ الواوُ للحال» فَذَكَرَ نحواً ممَّا قدَّمْتُه.
قوله: «فلم نغادِر» عطفٌ على «حَشَرْناهم» فإنه ماضٍ معنى. والمغادَرَةُ هنا: بمعن الغَذْر وهو الترك، أي: فلم نتركْ. والمفاعلةُ هنا ليس فيها مشاركةٌ. وسُمِّيَ الغَدْرُ غَدْراً لأنَّ به تُرِكَ الوفاءُ. وغَديرُ الماء مِنْ ذلك لأنَّ السيلَ غادَرَه، أي: تَرَكَه فلم يَجِئْهُ أو ترك فيه الماءَ، ويُجْمع على «غُدُر» و «غُدْران» كَرغِيف ورُغْفان، واسْتَغْدَرَ الغَدِيرَ: صار فيه الماء. والغَدِيْرة: الشَّعْرُ الذي تُرِكَ حتى طالَ. والجمع غَدائِر. قال امرؤ القيس:
٣١٦ - ٧- أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ ولا اَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
٣١٦ - ٨- غَدائِرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا .............................
وقرأ قتادة «فلم تُغادِرْ» بالتاءِ من فوقُ، والفاعلُ ضميرُ الأرض، ِ أو الغَدْرَةِ المفهومةِ من السياق. وأبان «يُغادَرْ» مبنياً للمفعول، «أحدٌ» بالرفع.
504
والضحاك: «نُغْدِرْ» بضم النونِ وسكونِ العينِ وكسرِ الدالِ مِنْ «أَغْدَرَ بمعنى غَدَرَ.
505
قوله: ﴿صَفَّاً﴾ : حالٌ من مرفوعِ «عُرِضوا» وأصلُه المصدرية. يُقال منه: صَفَّ يَصِفُّ صَفًّاً، ثم يُطْلَقُ على الجماعة المُصطَفِّين. واخْتُلَِف هنا في «صَفَّاً» : هل هو مفردٌ وقع مَوْقع الجمعِ، إذ المرادُ صفوفاًَ، ويَدُلُّ عليه الحديث الصحيح: «يَجْمَع اللهُ الأوَّلين والآخرين في صَعيدٍ واحدٍ صُفوفاً» وفي حديث آخر: «أهل الجنةِ مئةٌ وعشرون صَفَّاً، أنتم منهم ثمانون» وقيل: ثَمَّ حَذْفٌ، أي: صَفَّاً صَفَّاً. ومثلُه قولُه في موضع: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً﴾ [الفجر: ٢٢]. وقال في آخرَ: ﴿يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ [النبأ: ٣٨] يريد: صفاً صفاً، بدليل الآيةِ الأخرى فكذلك هنا. وقيل: بل كلُّ الخلائقِ يكونون صفاً واحداً، وهو أبلغُ في القُدرة. وأمَّا الحديثان فيُحملان على اختلافِ أحوال، لأنه يومٌ طويلٌ كما شهد له بقولِه ﴿كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] فتارةً يكونون فيه صَفَّاً واحداً وتارةً صفوفاً.
قوله: ﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا﴾ على إضمارِ قولٍ، أي: وقُلْنا لهم: كيت وكيت. وتقدَّم أنَّ هذا القولَ هو العاملُ في ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال﴾ [الكهف: ٤٧]. ويجوز ان يُضمر هذا القولُ حالاً من مرفوعِ «عُرِضُوا»، أي: عُرِضُوا مَقُولاً لهم كذا.
505
قوله: ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ﴾، أي: مجيئاً مُشْبِهاً لخلقِكم الأول حفاةً عُراة غُرْلاً، لا مالَ ولا ولدَ معكم. وقال الزمخشري: «لقد بَعَثْناكم كما أَنْشَأْناكم أولَ مرة» فعلى هذين التقديرين، يكونُ نعتاً للمصدرِ المحذوفِ، وعلى رأي سيبويه يكون حالاً مِنْ ضميرِه.
قوله: ﴿أَلَّن نَّجْعَلَ﴾ «أَنْ» هي المخففةُ، وفُصِل بينها وبين خبرِها لكونِه جملةً متصرفةً غيرَ دعاءٍ بحرفِ النفي. و «لكم» يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير. و «مَوْعِداً» هو الأول. ويجوز أَنْ يكونَ مُعَلَّقاً بالجَعْل، أو يكونَ حالاً مِنْ «مَوْعداً» إذا لم يُجعل الجَعْلُ تصييراً، بل بمعنى لمجردِ الإِيجاد.
و «بل» في قولِه: «بل زَعَمْتُمْ» لمجردِ الانتقال من غيرِ إبطالٍ.
506
قوله: ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ : العامَّةُ على بنائه للمفعول. وزيد بن علي على بنائِه للفاعل، وهو الله أو المَلَك. و «الكتابَ» منصوبٌ مفعولاً به. و «الكتابُ» جنسٌ للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً يَخُصُّه. وقد تقدَّم الوقفُ على ﴿مَالِ هذا الكتاب﴾ وكيف فُصِلَتْ لامُ الجرِّ مِنْ مجرورِها خطاً في سورة النساء عند ﴿فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ﴾ [النساء: ٧٨].
506
و «لا يغادِرُ» جملةٌ/ حالية من «الكتاب». والعاملُ الجارُّ والمجرورُ لقيامِه مَقامَ الفعلِ، أو الاستقرارُ الذي تعلَّق به الحالُ.
قوله: «إلا أحْصاها» في محلِّ نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة. ويجوز أن تكونَ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني؛ لأنَّ يُغَادِرُ بمعنى يترك، و «يترك» قد يتعدَّى لاثنين كقوله:
٣١٦ - ٩-........................... فقد تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشبِ
في أحدِ الوجهين.
507
قوله: ﴿وَإِذَا قُلْنَا﴾ : أي: اذْكُرْ.
قوله: ﴿كَانَ مِنَ الجن﴾ فيه وجهان، أظهرهما: أنه استئنافٌ يفيد التعليلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّر. والثاني: أنَّ الجملةَ حاليةٌ، و «قد» معها مرادةٌ. قاله أبو البقاء وليس بالجليِّ.
قوله: «فَفَسَقَ» السببيةُ في الفاءِ ظاهرةٌ، تَسَبَّبَ عن كونِه من الجنِّ الفِسْقُ. وقال أبو البقاء: إنما أدخل الفاءَ هنا لأنَّ المعنى: «إلا إبليس امتنع فَفَسَق». قلت: إنْ عَنَى أنَّ قولَه ﴿كَانَ مِنَ الجن﴾ وُضِعَ موضعَ قولِه «امتنع» فيُحتمل مع بُعْدِه، وإنْ عنَى أنه حُذِفَ فِعْلٌ عُطِفَ عليه هذا فليس بصحيحٍ للاستغناءِ عنه.
قوله: «عَنْ أمر» «عن» على بابها من المجاوزة، وهي متعلِّقَةٌ
507
ب «فَسَق»، أي: خرج مجاوزاً أمرَ ربِّه. وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسببِ أمرِه، فإنه فَعَّالٌ لِما يريدُ.
قوله: «وذُرِّيَّتَه» يجوز في الواو أَنْ تكونَ عاطفةً وهو الظاهرُ، وأنْ تكونَ بمعنى مع. و «مِنْ دوني» يجوز تعلُّقُه بالاتخاذ، وبمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأَوْلِياء.
قوله: ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولِ الاتخاذِ أو فاعلِه؛ لأنَّ فيها مصحِّحاً لكلٍ من الوجهين وهو الرابطُ.
قوله: «بِئْسَ» فاعُلها مضمرٌ مفسَّرٌ بتمييزه. والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: بِئْسَ البَدَلُ إبليسُ وذريتُه و «للظالمين» متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالاً مِنْ «بَدَلاً». وقيل: متعلِّقٌ بفعل الذَّمِّ.
508
قوله: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ﴾ : أي: إبليسَ وذريتَه، أو ما أشهدْتُ الملائكةَ فكيف تعبدونهم؟ أو ما أشهدْتُ الكفارَ فكيف تَنْسُبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدْتُ جميعَ الخَلْقِ.
وقرأ أبو جعفر وشيبةُ والسختياني في آخرين: «أشهَدْناهم» على التعظيم.
قوله: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين﴾ وُضع الظاهرُ موضعَ المضمر؛ إذ المراد بالمُضِلِّين مَنْ نفى عنهم إشهادَ خَلْقِ السماواتِ، وإنما نبَّه بذلك على وَصْفِهم القبيحِ.
وقرأ العامَّةُ «كُنْتُ» بضمِّ التاء إخباراً عنه تعالى. وقرأ الحسن
508
والجحدري وأبو جعفر بفتحها خطاباً لنبيِّنا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ﴿مُتَّخِذَ المضلين﴾ نوَّن اسمَ الفاعلِ ونَصَبَ به، إذ المرادُ به الحالُ أو الاستقبالُ.
وقرأ عيسى «عَضْداً» بفتح العين وسكون الضاد، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم: سَبْع ورَجْل في: سَبْع ورَجْل. وقرأ الحسن «عُضْداً» بالضم والسكون: وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها. وعنه أيضاً «عَضَداً» بفتحتين و «عُضُداً» بضمتين. والضحاك «عِضَداً» بكسر العين وفتحِ الضاد. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ.
والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ. ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال: فلان عَضُدي. ومنه ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ [القصص: ٣٥] أي: سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك.
509
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ : معمولٌ ل «اذكر» أي: ويوم نقولُ يجري كيت وكيت. وقرأ حمزة «نقولُ» بنون العظمة مراعاةً للتكلم في قوله: «ما أَشْهَدْتُهم» إلى أخره. والباقون بياءِ الغَيْبَةِ لتقدُّمِ اسمِ الشريفِ الظاهر.
قوله: «مَوْبِقاً» مفعولٌ أولُ للجَعْلِ، والثاني الظرفُ المُقَدَّم. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ، فيتعلَّق الظرفُ بالجَعْلِ أو بمحذوفٍ على الحال مِنْ «مَوْبَقا».
509
والمَوْبِقُ: المَهْلَكُ، يقال: وَبِقَ يَوْبِق وَبَقاً، أي: هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً: هَلَكَ وأَوْبَقه ذنبُه. وعن الفراء: «جَعَلَ اللهُ تواصُلَهم هَلاكاً» فجعل البَيْنَ بمعنى الوَصْلِ، وليس بظرفٍ كقولِه: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] في وجهٍ. وعلى هذا فيكون «بينَهم» مفعولاً أولَ ومَوْبِقاً «مفعولاً ثانياً. والمَوْبِقُ هنا: يجوز أَنْ يكونَ مصدراً وهو الظاهر. ويجوزُ أَنْ يكونَ مكاناً/.
510
قوله: ﴿مَصْرِفاً﴾ : المَصْرِفُ: المَعْدِل. قال الهذلي:
٣١٧ - ٠- أزهيرُ هل عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ أم لا خُلُوْدَ لباذِلٍ متكلِّفِ
ويجوز أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو زمانٍ. وقال أبو البقاء: «مَصْرِفاً: أي انْصِرافاً، ويجوز أَنْ يكونَ مكاناً». قلت: وهذا سَهْوٌ فإنه جَعَلَ المَفْعِل بكسرِ العينِ مصدراً لِما مضارعُه يَفْعِل بالكسرِ من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسمَ مصدر هذا النوعِ مفتوحُ العين، واسمَ زمانِه ومكانِه مكسوراها نحو: المَضْرَب والمَضْرِب.
وقرأ زيدُ بن عليّ رضي الله عنه «مَصْرِفاً» بفتح الراء جعله مصدراً؛
510
لأنَّه مكسور العين في المضارع فهو كالمَضْرَب بمعنى الضَّرْب، وليت أبا البقاءِ ذكر هذه القراءةَ وَوَجَّهَها بما ذكره قبلُ.
511
قوله: ﴿مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ «مِنْ كلِّ» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، وهو مفعولٌ «صَرَّفنا»، أي: صَرَّفنا مَثَلاً مِنْ كلِّ مَثَل. ويجوز أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً على رَأْيِ الأخفش والكوفيين.
قوله: «جَدَلاً» منصوبٌ على التمييز. وقوله: «أكثرَ شيءٍ»، أي: أكثر الأشياء التي يتاتَّى منها الجِدال إنْ فَصَّلْتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإِنسانَ أكثرُ جدلاً مِنْ كلِّ شيءٍ يُجادل، فَوَضَعَ «شيءٍ» مَوْضِعَ الأشياء. وهل يجوزُ أَنْ يكونَ جَدَلاً منقولاً مِنْ اسم كان إذ الأصل: وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيء؟ فيه نظرٌ. وكلامُ أبي البقاء مُشْعِرٌ بجوازِهِ فإنه قال: «فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ شيئاً هنا في معنى مُجادِل؛ لأنَّ أَفْعل يُضافٌ إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزُه ب» جَدَلاً «يَقْتَضي أَنْ يكونَ الأكثرَ مُجادلاً. وهذا مِنْ وَضْعِ العامِّ موضعَ الخاصِّ. والثاني: أنَّ في الكلام محذوفاً تقديره: وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيءٍ، ثم مَيَّزه». فقوله: «تقديرُه: وكان جَدَلُ الإِنسانِ» يفيد أنَّ إسنادَ «كان» إلى الجَدَلِ جائزٌ إلى الجملة، إلا أنه لا بُدَّ من تتميمٍ لذلك: وهو أَنْ تَتَجَوَّزَ فتجعَلَ للجَدَلِ جَدَلاً كقولِهِم: «شِعْرٌ شاعرٌ» يعني أنَّ لجدل الإِنسانِ جَدَلاً وهو أكثرُ من جَدَلَِ سائرِ الأشياءِ.
قوله: ﴿وَمَا مَنَعَ﴾ : وقد تقدَّم في آخرِ السورة قبلها.
511
وقوله: «قُبُلاً» قد تقدَّم خلافُ القراء فيه وتوجيهُ ذلك.
512
قوله: ﴿لِيُدْحِضُواْ﴾ : متعلِّقٌ ب «يُجَادِل» والإِدْحاض: الإِزْلاق يقال: أَدْحَضَ قدمَه، أي: أَزْلَقَها وأَزَلَّها عن موضعِها، والحجة الداحضة التي لا ثباتَ لها لزلزلةِ قَدَمِها. والدَّحْضُ: الطينُ لأنه يَزْلِقُ فيه. قال:
٣١٧ - ١- أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ وهِبْتَه وحِدْتَ كما حادَ البعيرُ الدَّحْضِ
وقال آخر:
٣١٧ - ٢- وَرَدْتُ ونَجَّى اليَشْكرِيِّ حِذارُه وحادَ كما حادَ البَعيرُ عن الدَّحْضِ
و «مكانٌ دَحْضٌ» مِنْ هذا.
قوله: ﴿وَمَا أُنْذِرُواْ﴾ يجوزُ في «ما» هذه أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف. وعلى التقديرين فهي عطفٌ على «آياتي».
512
و «هُزُوا» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ. وتقدَّم الخلافُ في «هُزُوا». وتقدَّم إعرابُ ما بعد هذه الآية في الأنعام.
513
قوله: ﴿بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ﴾ : يجوز في «المَوْعِد» أَنْ يكونَ مصدراً أو زماناً أو مكاناً.
والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ، أي: رَجَعَ، وهو من التأويل. وقال الفراء: «المَوْئِلُ: المَنْجى، وَأَلَتْ نَفْسُه، أي: نَجَتْ». قال الأعشى:
٣١٣ - ٧- وقد أٌخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتَهُ وقد يُحاذِرُ مِنِّي ثم ما يَئِلُ
أي: ما يَنْجُو. وقال ابن قتيبة: «المَوْئل: المَلْجَأ». يقال: وَأَلَ فلان إلى فلان يَئِل وأَلاً، ووُؤُوْلاً، إذا لَجَأ إليه وهو هنا مصدرٌ.
و «مِنْ دونِه» متعلِّقٌ بالوِجْدان لأنه متعدٍّ لواحدٍ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «مَوْئِلاً».
513
وقرأ أبو جعفر «مَوِلا» بواوٍ مسكورةٍ فقط. والزُّهْري: بواوٍ مشددة فقط. والأُوْلَى أقيسُ تخفيفاً.
514
قوله: ﴿وَتِلْكَ القرى﴾ : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأ وخبراً، و «أهلكناهم» حينئذ: إمَّا خبرٌ ثانٍ أو حالٌ. ويجوز أن تكونَ «تلك» مبتدأ، و «القرى» صفتها أو بيان لها أو بدل منها و «أَهْلكناها» الخبرُ. ويجوز أن يكون «تلك» منصوبَ المحل بفعلٍ مقدر على الاشتغال.
والضميرُ في «أَهْلَكْناهم» عائدٌ على «أهل» المضافِ إلى القرى، إذ التقديرُ: وأهل تلك القُرى، فراعى المحذوفَ فأعاد عليه الضميرَ. وتقدَّم ذلك في أول الأعراف.
و ﴿لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ يجوُ أَنْ يكونَ حرفاً، وأن يكونَ ظرفاً وقد عُرِف ما فيها.
قوله: «لِمَهْلِكِهِمْ» قرأ عاصم «مَهْلَك» بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ
514
قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين.
فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف «مَهْلَك» فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله. وقال: «إنَّ» هَلَك «يتعدَّى دون همز وأنشد:
٣١٧ - ٤- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا... ف»
مَنْ «معمولٌ ل» هالكٍ «وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. ف» مَنْ تعرَّج «فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في» هالِك «ضميرَ» مَهْمه «ونَصَبَ» مَنْ تعرَّج «نَصْبَ» الوجهَ «في قولِك:» مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ «ثم أضاف الصفة وهي» هالك «إلى معمولها، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رفعٍ. فهو كقولك:» زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ «، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو:
515
هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر:
٣١٧ - ٥- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ
وقال الهذلي:
٣١٧ - ٦- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ
وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه:» إنه زمانٌ «ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان.
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً. قال:»
516
وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ «. وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و»
مُهْلَك «فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه، وأَنْ يكون زماناً، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم.
والمَوْعِدُ: مصدرٌ أو زمان.
517
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى﴾ :«إذ» منصوبٌ ب اذكر، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه.
قوله: «لا أَبْرَحُ» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر. والثاني: أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه. فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً للدلالةِ عليه تقديرُه: لا أبرحُ أسيرُ حتى أبلغَ، إلا انَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة كقوله:
٣١٧ - ٧- لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ
أي: حين ليس في الدنيا مُجير. والثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ، ثم حذف «مسير» وأقيمت الياء مُقامَه، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً، وبقي «حتى أَبْلُغَ» على حالِه هو الخبر.
517
وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهاً واحداً، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً، فقال: «فإن قلت» «لا أبرح» إن كان بمعنى «لا أَزُوْل» مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإِقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى «لا أزال» فلا بُدَّ من خبر. قلت: هي بمعنى لا أزال، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معاً يَدُلاَّن عليه: أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قولَه «حتى أَبْلُغَ» غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له، فلا بد أن يكون المعنى: [لا أبرح أسير حتى أبلغَ. ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى:] لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ «حتى أبلغَ» هو الخبرُ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إليه مُقامه وهو ضميرُ المتكلم، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ «.
قلت: وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو: خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً عن»
مسيري «في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به. ألا ترى أنه ليس في قوله» حتى أبلغ «ضميرٌ يعودُ على» مَسيري «إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر، ومِثْلُ ذلك لا/ يُكتفى به.
ويمكن أَنْ يُجابَ عنه: بانَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه حتى أبلغَ به، أي: بمسيري.
وإن كانت التامةَ كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ، ولا أفارقه ولا أتركه، حتى أبلغَ، كما تقول: لا أبرحُ المكانَ. قلت: فعلى هذا يُحتاجُ أيضاً إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه، فالحذفُ لا بُدَّ منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان.
518
وقرأ العامَّة «مَجْمَعَ» بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع، وقيل: مصدر. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها، وهو شاذ، لفتحِ عينِ مضارعِه.
قوله: «حُقُبا» منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر. وقيل: ثمانون سنة. وقيل: سنةٌ واحدة بلغة قريش. وقيل: سبعون. وقرأ الحسن. «حُقْباً» بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفاً، وأن يكونَ لغةً مستقلة. ويُجمع على «أَحْقاب» كعُنُق وأَعْناق. وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر. قال امرؤ القيس:
٣١٧ - ٨- فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
والحُقْبَة بالضمِّ أيضاً. وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرَب، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب.
وقوله: «أو أَمْضِيَ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه منسوقٌ على «أَبْلُغَ» يعني
519
بأحد أمرين: إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ، أو بمضيِّه حُقُباً. والثاني: انه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ، فيكون منصوباً بإضمارِ، «أَنْ» بعد «أو» بمعنى «إلى» نحو «لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي».
قال الشيخ: «فالمعنى: لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ، إلى أن اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواتَ مجمعِ البحرَيْن» قلت: فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكاناً وزماناً، فلا بُدَّ من حصولهِما معاً نحو: «لأسيرَنَّ إلى بيتِك إلى الظهر» فلا بُدَّ من حصولِ الغايتين. والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين.
وجَعَلَ أبو البقاء «أو» هنا بمعنى «إلاَّ» في أحدِ الوجهين، قال: «والثاني: أنَّها بمعنى: إلا أَنْ اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين». وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى «إلى» المقتضيةِ للغايةِ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإِشكالُ.
520
قوله: ﴿نَسِيَا﴾ الظاهرُ نسبةُ النِّسْيانِ إلى موسى وفتاه، يعني نَسِيا تفقُّدَ أَمْرِه، فإنه كان علامةً لهما على ما يَطْلبانه. وقيل: نَسِي موسى ان يأمرَه بالإِتيانِ به ونسيَ يوشع أَنْ يفكِّرَه بأمرِه. وقيل: الناس يوشع فقط، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: نَسِيَ أحدُهما كقولِه: «يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرْجان».
قوله: ﴿فِي البحر سَرَباً﴾ «سَرَبا» مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخذ». و «في البحر»
520
يجوز أن يتعلَّق ب «اتَّخَذَ»، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
والهاءُ في «سبيلَه» تعودُ على الحُوْت. وكذا المرفوع في «اتَّخَذَ».
521
قوله: ﴿جَاوَزَا﴾ : مفعولُه محذوفٌ، أي: جاوزا الموعدَ. وقيل: جاوزا مجمعَ البحرَيْن.
قوله: «هذا» إشارةٌ إلى السَّفََر الذي وقع بعد مجاوزتِهما المَوْعِدَ، أو مجمعَ البحرين. و «نَصَبا» هو المفعول ب «لَقِيْنا». والعامَّةُ على فتح النون والصاد. وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما. وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة. كذا قال أبو الفضلِ الرازي في «لوامحه».
قوله: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعاً في الأنعام. وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً رأيت نَقْلَه وهو «أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية، فقالوا: أَرَأَيْتَك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها. وشَذَّت أيضاً فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى، ولا تقولُ فيها أبداً:» أراني زيداً عمراً ما صَنَعَ «وتقولُ هذا على معنى» اعلَمْ «. وشذَّتْ أيضاً
521
فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي﴾ فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى: أمَّا أو تنبَّهْ. والمعنى: أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ. وقد أَخْرَجْتَها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا. وإذا كانت/ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ، وقد تَخْرُجُ لمعنى» أمَّا «، ويكون أبداً بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان، فقوله:» فإنِّي نَسِيْتُ «معناه: أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي، أو تَنَبَّه إذ أوينا، وليستِ الفاءُ إلا جواباً لأَرَأَيْتَ لأنَّ» إذْ «لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً ب» ما «بلا خلافٍ».
وقال الزمخشري: «أرأيتَ بمعنى أخبِرْني. فإن قلتَ: ما وجهُ التئامِ هذا الكلامِ، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ» أرأيت «ومِنْ» إذ أَوَيْنا «، ومِنْ» فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ « [لا متعلِّقَ له] ؟ قلت: لَمَّا طَلَب موسى الحوتَ ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه مِنْ نِسيانه إلى تلك الغايةِ، ودُهِش فَطَفِقَ يسأل موسى عن سبب ذلك كأنَّه قال: أرأيتَ ما دهاني إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نسيتُ الحوت. فحذف ذلك».
قال الشيخ: «وهذان مَفْقودانِ في تقديرِ الزمخشري» أرأيتَ بمعنى أخبرني «. يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش مِنْ أنَّه لا بُدَّ بعدها من الاسم المستخبَرِ عنه ولزومِ الاستفهامِ الجملةَ التي بعدها.
قوله: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ﴾ قرأ حفص بضمِّ الهاء. وكذا في قوله: {
522
عَلَيْهُ الله} [الآية: ١٠] في سورة الفتح. قيل: لأنَّ الياءَ هنا أصلُها الفتح، والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل. وأمَّا في سورة الفتح فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ اصلُها الألفُ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً؟
والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظِ، فإنها بعد ياءٍ ساكنة. وقد جمع حفص في قراءتِه بين اللغات في هاء الكناية: فإنه ضمَّ الهاء في» أنسانِيْه «في غيرِ صلةٍ، ووصَلَها بياءٍ في قوله: ﴿فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان: ٦٩] على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وقرأ كأكثرِ القراء فيما سوى ذلك.
قوله: ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ هاء «أنسانِيْه»
بدلِ اشتمال، أي: أَنْساني ذكرَه.
قوله: «عَجَباً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخذ». و «في البحرِ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
وفي فاعل «اتَّخذ» وجهان، أحدُهما: هو الحوت، كما تقدَّم في «اتَّخذ» الأولى. والثاني: هو موسى.
523
الوجهُ الثاني مِنْ وجهَيْ «عَجَباً» أنه مفعولٌ به، والعاملُ فيه محذوفٌ، فقال الزمخشري: «أو قال: عَجَباً في آخرِ كلامِه تَعَجُّباً مِنْ حاله. وقوله: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان﴾ اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه». فظاهرُ هذا أنَّه مفعولٌ ب «قال»، أي: قال هذا اللفظَ.
الثالث: أنه مصدر، فالعاملُ فيه مقدَّرٌ تقديرُه: فتعجَّب مِنْ ذلك عَجَباً.
الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، ناصبُه «اتَّخذ»، أي: اتخذ سبيلَه في البحر اتِّخاذاً عَجَباً. وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون «في البحر» مفعولاً ثانياً ل «اتَّخَذَ» إن عَدَّيْناها لمفعولين.
524
قوله: ﴿نَبْغِ﴾ : حذفَ نافع وأبو عمرو والكسائي ياء «نَبْغي» وقفاً، وأثبتوها وصلاً. وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حَذَفوها في الحالين اتِّباعاً للرسم. وكان مِنْ حَقِّها الثبوتُ، وإنما حُذِفت تشبيهاً بالفواصلِ، أو لأنَّ الحَذْفَ يُؤْنِسُ بالحذفِ فإنَّ «ما» موصولةٌ حُذِفَ عائدُها، وهذه بخلافِ التي في يوسف فإنها ثابتةٌ عند الجميعِ، وقد تقدَّم ذلك في مَوْضِعِه.
524
قوله: «قَصَصاً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: قاصِّيْن. الثاني: أنه مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مِنْ لفظِه مقدَّرٍ، أي: يَقُصَّان قَصَصاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «ارتَدَّا» لأنه في معنى فَقَصَّا.
وقرأ الكسائيُّ «أنسانِيْهِ» بالإِمالة.
وعبد الله «أَنْ أذكرَكَه». وأبو حيوة «واتخاذَ سبيلِه» عَطَفَ هذا المصدرَ على مفعول «اذكره».
525
قوله: ﴿عِلْماً﴾ : مفعولٌ ثان ل «عَلَّمْناه»، قال أبو البقاء: «ولو كان مصدراً لكان تعليماً» يعني لأنَّ فعلَه على فَعَّل بالتشديد، وقياسُ مصدرِه التفعيلُ.
و ﴿مِن لَّدُنَّا﴾ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِلْماً».
قوله: ﴿على أَن تُعَلِّمَنِ﴾ : في موضعِ / الحال من الكاف في «أَتَّبِعُك»، أي: أَتَّبِعُك باذلاً لي علمَك.
قوله: «رُشْداً» مفعولٌ ثانٍ ل «تُعَلِّمَني»، لا لِقوله: «ممَّا عُلِّمْتَ». قال أبو البقاء: «لأنَّه لا عائد إذن على الذي» يعني أنه إذا تعدَّى لمفعولٍ ثانٍ غيرِ ضميرِ الموصولِ لم يَجُزْ أَنْ يتعدَّى لضميرِ الموصولِ؛ لئلاَّ يتعدَّى إلى
525
ثلاثةٍ، ولكن لا بُدَّ مِنْ عائدٍ على الموصول.
وقد تقدَّم خلافُ القرَّاء في «رُشْدا» في سورة الأعراف. وهل هما بمعنى واحدٍ أم لا؟
526
قوله: ﴿خُبْراً﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ لقولِه «تُحِطْ» وهو منقولٌ مِنَ الفاعليةِ، إذ الأصل: مما لم يُحِطْ به خَبَرُك. والثاني: أنه مصدرٌ لمعنى لم تُحِط، إذ هو في قوة: لم يُخْبِرْه خُبْراً. وقرأ الحسن «خُبُراً» بضمتين.
قوله: ﴿وَلاَ أَعْصِي﴾ : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنََّها لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها. وفيه بُعْدٌ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ عطفاً على «سَتَجِدُني» لأنَّها منصوبةُ المحلِّ بالقول. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» سَتَجِدُني «فلا يكونُ له محلٌّ من الإِعراب؟ وهذا سَهْوٌ؛ فإنَّ» ستجِدُني «منصوبُ المحلِّ لأنه منصوبٌ بالقول، فكذلك ما عُطِفَ عليه، ولكن الذي غَرَّ الشيخَ أنَّه رأى كلامَ الزمخشري كذلك، ولم يتأمَّلْه فتبعه في ذلك، فمن ثَمَّ جاء السهو. قال الزمخشري: ولا أَعْصِي: في محلِّ النصبِ عطفاً على» صابراً «، أي: ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ. أو» لا «في محلِّ عطفاً على» سَتَجِدُني «.
526
الرابع: أنَّه في محلِّ نصبٍ عطفاً على» صابراً «كما تقدَّم تقريرُه.
527
قوله: ﴿فَلاَ تَسْأَلْني﴾ : قد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في هذا الحرفِ في سورة هود: وقرأ أبو جعفر هنا بفتحِ السينِ واللامِ وتشديدِ النونِ من غيرِ همزٍ.
قوله: ﴿لِتُغْرِقَ﴾ : في اللام وجهان، أحدُهما: هي لامُ العلة. والثاني: هي لامُ الصَّيْرورة. وقرأ الأخَوان: «ليَغْرَقَ» بفتح الياء مِنْ تحتُ وسكونِ الغين وفتحِ الراء، «أهلُها» بالرفع فاعلاً. والباقون بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الراء، أي: لتُغْرِق أنت أهلَها بالنصب مفعولاً به. والحسن وأبو رجاء كذلك، إلا أنَّهما شَدَّدا الراءَ.
والسفينة معروفةٌ، وتُجمع على سُفُن وسَفائن نحو: صحيفة وصُحُف وصحائف. وتُحذف منها التاءُ مراداً بها الجمعُ، فتكونُ اسمَ جنسٍ نحو: ثَمَرَ وبَلَح. إلا أنه هذا المصنوع قليلٌ جداً نحو: جَرَّة وجَرَّ، وعِمامة وعِمام. قال الشاعر:
٣١٧ - ٩-
527
متى تَأْتيه تأتي لُجَ بَحْرٍ تقاذَفُ في غوارِبِه السَّفينُ
واشتقاقها مِن السَّفْنِ وهو القَشْر؛ لأنها تقشُر الماءَ. كما سُمِّيَتْ «بِنْتَ مَخْرٍ» لأنها تَمْخُر الماء، أي: تَشُقُّه.
قوله: «إمْراً» شيئاً عظيماً، يقال: أَمِرَ الأَمْرُ، أي: عَظُم وتفاقَمَ. قال:
٣١٨ - ٠- داهِيَةً دَهْياءَ إمْراً...
528
قوله: ﴿عُسْراً﴾ : كفعولٌ ثانٍ ل «تُرْهِقْني» مِنْ أَرْهَقَه كذا إذا حَمَّله إياه وغشَّاه به. و «ما» في «بما نَسِيْتَ» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.
قوله: ﴿زاكِيَةً﴾ : قرأ «زاكية» بألفٍ وتخفيفِ الياءِ نافعٌ وابنُ كثير وابو عمرو. وبدون الألف وتشديد الياء الباقون. فَمَنْ قَرَأ «زاكية» فهو أسمُ فاعلٍ على أصلِه. ومَنْ قرأ «زَكِيَّة» فقد أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة.
528
والغُلام: مَنْ لم يَبْلُغْ. وقد يُطْلق على البالغِ الكبيرِ. فقيل: مجازاً باعتبارِ ما كان. ومنه قولُ ليلى:
٣١٨ - ١- شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قد أصابها غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
وقال آخر:
٣١٨ - ٢- تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عني فإنني غلامٌ إذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بشاعرِ
وقيل: بل هو حقيقةٌ لأنه مِن الإِغلام وهو السَّبْق، وذلك إنما يكونُ في الإِنسانِ المحتلِمِ. وقد تقدَّم ترتيبُ أسماءِ الآدمي مِنْ لَدُن هو جنينٌ إلى أن يضير شيخاً ولله الحمد/.
قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ قيل:» حتى إذا رَكِبا في السفينةِ خَرَقَها «بغير فاءٍ، و» حتى إذا لَقِيا غلاماً فَقَتَله «بالفاء؟ قلت» جَعَل «خَرَقَها» جزاءً للشرطِ، وجَعَل «قَتَله» من جملةِ الشرط معطوفاً عليه، والجزاءُ «قال: أَقْتَلْتَ». فإنْ قلت: لِمَ خُولف بينهما؟ قلت: لأنَّ الخَرْقَ لم يتعقَّبِ الركوبَ، وقد تعقَّبَ القتلُ لقاءَ الغلامِ «.
قوله: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: انها متعلقةٌ ب»
قَتَلْتَ «. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنَ الفاعلِ أو من المفعولِ،
529
أي: قَتَلْتَه ظالماً أو مظلوماً، كذا قَدَّرَه أبو البقاء. وهو بعيدٌ جداً. الثالث: أنها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قَتْلاً بغيرِ نفسٍ.
قوله:» نُكْراً «قرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان بضمتين، والباقون بضمة وسكون. وهما لغتان، أو أحدهما أصل. و» شيئاً «: يجوز أن يُراد به المصدرُ، أي: مَجيئاً نُكْرا، وأن يُراد به المفعولُ به، أي: جِئْتَ أمراً مُنْكَراً. وهل النُّكْرُ أَبْلَغُ من الإِمر أو بالعكس. فقيل: الإِمْرُ أبلغُ؛ لأنَّ قَتْلَ أَنْفُسٍ بسبب الخَرْقِ أعظمُ مِنْ قَتْل نفسٍ واحدة. وقيل: بل النُّكْر أبلغُ لأن معه القَتْلَ الحَتْمَ، بخلاف خَرْقِ السفينة فإنه يمكن تدارُكُه، ولذلك قال:» ألم أَقُلْ لك «ولم يأتِ ب» لك «مع» إمراً «.
530
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:قوله :﴿ زاكِيَةً ﴾ : قرأ " زاكية " بألفٍ وتخفيفِ الياءِ نافعٌ وابنُ كثير وابو عمرو. وبدون الألف وتشديد الياء الباقون. فَمَنْ قَرَأ " زاكية " فهو أسمُ فاعلٍ على أصلِه. ومَنْ قرأ " زَكِيَّة " فقد أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة.
والغُلام : مَنْ لم يَبْلُغْ. وقد يُطْلق على البالغِ الكبيرِ. فقيل : مجازاً باعتبارِ ما كان. ومنه قولُ ليلى :
شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قد أصابها غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها

وقال آخر :
تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عني فإنني غلامٌ إذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بشاعرِ
وقيل : بل هو حقيقةٌ لأنه مِن الإِغلام وهو السَّبْق، وذلك إنما يكونُ في الإِنسانِ المحتلِمِ. وقد تقدَّم ترتيبُ أسماءِ الآدمي مِنْ لَدُن هو جنينٌ إلى أن يضير شيخاً ولله الحمد/.
قال الزمخشري :" فإن قلت : لِمَ قيل :" حتى إذا رَكِبا في السفينةِ خَرَقَها " بغير فاءٍ، و " حتى إذا لَقِيا غلاماً فَقَتَله " بالفاء ؟ قلت " جَعَل " خَرَقَها " جزاءً للشرطِ، وجَعَل " قَتَله " من جملةِ الشرط معطوفاً عليه، والجزاءُ " قال : أَقْتَلْتَ ". فإنْ قلت : لِمَ خُولف بينهما ؟ قلت : لأنَّ الخَرْقَ لم يتعقَّبِ الركوبَ، وقد تعقَّبَ القتلُ لقاءَ الغلامِ ".
قوله :﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها : انها متعلقةٌ ب " قَتَلْتَ ". الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنَ الفاعلِ أو من المفعولِ، أي : قَتَلْتَه ظالماً أو مظلوماً، كذا قَدَّرَه أبو البقاء. وهو بعيدٌ جداً. الثالث : أنها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي : قَتْلاً بغيرِ نفسٍ.
قوله :" نُكْراً " قرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان بضمتين، والباقون بضمة وسكون. وهما لغتان، أو أحدهما أصل. و " شيئاً " : يجوز أن يُراد به المصدرُ، أي : مَجيئاً نُكْرا، وأن يُراد به المفعولُ به، أي : جِئْتَ أمراً مُنْكَراً. وهل النُّكْرُ أَبْلَغُ من الإِمر أو بالعكس. فقيل : الإِمْرُ أبلغُ ؛ لأنَّ قَتْلَ أَنْفُسٍ بسبب الخَرْقِ أعظمُ مِنْ قَتْل نفسٍ واحدة. وقيل : بل النُّكْر أبلغُ لأن معه القَتْلَ الحَتْمَ، بخلاف خَرْقِ السفينة فإنه يمكن تدارُكُه، ولذلك قال :" ألم أَقُلْ لك " ولم يأتِ ب " لك " مع " إمراً ".

قوله: ﴿فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾ : العامَّةُ على «تصاحِبْني» من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: «فلا تَصْحَبَنِّي» مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ «فلا تُصْحِبْني عِلْمَك» فأظهر المفعول.
قوله: ﴿مِن لَّدُنِّي﴾ العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم
530
اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على «لَدُن» لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون «مِنْ» و «عَنْ» فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد.
ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل «لَدُن». إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: «لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب» لَدُنْ «مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية». وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ ب «لَدُ» لغةً في «لَدُن» حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون.
والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: «لَدُني» بالتخفيف.
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ «عَنْ» و «مِنْ» في قوله:
٣١٨ - ٣- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على «لَدْ» الساكنة الدال، لغةً في «لدن» فالتقى ساكنان
531
فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد «عَضْد» وبابِه.
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ [الآية: ١١]، وفي قوله في هذه السورةِ «مِنْ لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ «عُذُراً» بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً «عُذْرِي» مضافاً لياءِ المتكلم.
و ﴿مِن لَّدُنِّي﴾ متعلقٌ ب «بَلَغْتَ»، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عُذْرا».
532
قوله: ﴿استطعمآ أَهْلَهَا﴾ : جواب «إذا»، أي: سألاهم الطعامَ. وفي تكريرِ «أهلَها» وجهان، أحدهما: أنه توكيدٌ من بابِ إقامةِ الظاهر مُقامِ المضمر كقوله:
٣١٨ - ٤-
532
لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ نغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
والثاني: أنَّه للتأسيسِ؛ وذلك أنَّ الأهلَ المَأْتِيِّين ليسوا جميعَ الأهل، إنما هم البعضُ، إذ لا يمكن أَنْ يأتيا جميعَ الأهلِ في العادة في وقتٍ واحد، فلمَّا ذَكَرَ الاستطعامَ ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل كأنهما تَتَبَّعا الأهلَ واحداً واحداً، فلو قيل: استطعماهم لاحتمل أنَّ الضميرَ/ يعودُ على ذلك البعضِ المأتِيِّ دونَ غيرِه، فكرَّر الأهلَ لذلك.
قوله: ﴿أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ مفعولٌ به لقولِه «أبَوْا». والعامَّة على التشديد مِنْ ضَيَّفَه يُضَيِّفه. والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف مِنْ: أضافَه يُضيفه وهما مثل: مَيَّله وأماله.
قوله: ﴿أَن يَنقَضَّ﴾ مفعولُ الإِرادة. و «انقَضَّ» يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش «يريد ليُنْقَضَ» مبنياً للمفعول واللامِ، كهي في قولِه ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]. وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه ﴿يُرِيدُ أَن يُنقَضَ﴾ بغير لام كي.
533
وقرأ الزُّهْري «أنْ يَنْقَاضَ» بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: «هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ» أي: هَدَمْتُه فانهدم «. قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال:» مثل: يَحْمارّ «ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال:» وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «.
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين»
يَنْقاص «بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه:» وتقول العرب «انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً». وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة:
٣١٨ - ٥-............................. ......... مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل: إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان. وأُنْشِد لأبي ذؤيب:
٣١٨٦ - فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ
534
مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً.
قوله: «لاتَّحّذْتَ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتَخِذْتَ» بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ. والباقون:: لاتَّخَذْتَ «بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ. واختُلِفَ: هل هما مِن الأَخْذ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال: تَخِذَ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو:
٣١٨ - ٧-......................... تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ
أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع. والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب.
535
قوله: ﴿فِرَاقُ بَيْنِي﴾ : العامَّةُ على الإِضافةِ اتِّساعاً في
535
الظرف. وقيل: هو بمعنى الوَصْلِ. ومِثلُه قولُه:
٣١٨ - ٨-...................... وجِلْدَةُ بين العَيْنِ والأَنْفِ سالِمُ
وقرأ ابنُ أبي عبلة «فِراقٌ» بالتنوين على الأصل. وتكريرُ المضافِ إليه عطفاً بالواو هو الذي سَوَّغ إضافةَ «بَيْنَ» إلى غيرِ متعدِّدٍ، ألا ترى أنَّك لو اقتصَرْتَ على قولك: «المالُ بيني» لم يكن كلاماً حتى تقولَ: بيننا، أو بيني وبين فلان. وقرأ ابن وثاب «سَأُنْبِيْكَ» بإخلاص الياء بدلَ الهمزة.
536
قوله: ﴿لِمَسَاكِينَ﴾ : العامَّةُ على تخفيفِ السِّين، جمعَ «مِسْكين». وقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين - كرَّم الله وجهَه - بتشديدِها جمع «مَسَّاك». وفيه قولان، أحدُهما: أنه الذي يُمْسِك سكان السفينة. وفيه بعضُ مناسبة. والثاني: أنه الذي يَدْبَغُ المُسُوك جمعَ «مَسْك» بفتح الميم وهي الجُلود. وهذا بعيدٌ، لقولِه ﴿يَعْمَلُونَ فِي البحر﴾. ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين. و «يَعْملون» صفةٌ لمساكين.
قوله: ﴿وَرَآءَهُم مَّلِكٌ﴾ «وراء» هنا قيل: يُراد بها المكانُ. وقيلَ: الزمانُ. واخْتُلِف/ أيضاً فيها: هل هي على حقيقتِها أو بمعنى أمام؟ وأنشدوا على هذا الثاني:
٣١٨ - ٩-
536
اليس ورائي أَنْ أَدِبَّ على العَصا فَيَأْمَنَ أعدائي ويَسْأَمَني أَهْلي
وقولَ لبيد:
٣١٩ - ٠- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ
وقول سَوَّار بن المُضَرِّبِ السَّعْدي:
٣١٩ - ١- أَيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا
ومثله قولُه تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ﴾ [إبراهيم: ١٦]، أي: بين يديه.
قوله: «غَصْباً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أو منصوبٌ على المصدرِ المبيِّنِ لنوعِ الأَخْذِ، أو منصوبٌ على المفعولِ له. وهو بعيدٌ في المعنى. وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً فقال: «فإنْ قلتَ: قولُه» «فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَها» مُسَبَّبٌ عن خوفِ الغَصْبِ عليها فكان حقُّه أن يتأخرَ عن السبب فلِمَ قُدِّم عليه؟ قلت: النيةُ به التأخيرُ، وإنما قُدِّمَ للعنايةِ به، ولأنَّ خَوْفَ الغَصبِ ليس هو السببَ وحدَه، ولكن مع كونِها للمساكينِ، فكان بمنزلةِ قولِك: زيدٌ ظنَِّي مقيمٌ «.
537
قوله: ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ : التثنيةُ للتغليبِ، يريد: أباه وأمه، فغلَّب المذكرَ، وهو شائعٌ. ومثلُه: القمران والعُمَران. وقد تقدَّم
537
في يوسف: أنَّ الأبوين يُراد بهما الأبُ والخالَةُ فهذا أقربُ.
والعامَّةُ على «مُؤْمِنَيْنِ» بالياء. وأبو سعيد الخُدريُّ والجحدري «مؤمنان» بالألف. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه على لغة بين الحارث وغيرهم. الثاني: أنَّ في «كان» ضميرَ الشأنِ، و «أبواه مؤمنان» مبتدأ وخبرٌ في محلِّ النصبِ كقوله:
٣١٩ - ٢-إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفانِ شامِتٌ ............................
فهذا أيضاً محتمِلٌ للوجهين. الثالث: أن في «كان» ضميرَ الغلامِ، أي: فكان الغلامُ والجملةُ بعده الخبرُ. وهو أحسنُ الوجوهِ.
538
قوله: ﴿أَن يُبْدِلَهُمَا﴾ : قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال مِنْ «بَدَّلَ» هنا، وفي التحريم ﴿أَن يُبْدِلَهُ﴾ وفي القلم ﴿أَنْ يُبْدِلَنا﴾ والباقون بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدالِ مِنْ «أَبْدَلَ» في المواضعِ الثلاثة. فقيل: هما لغتان بمعنىً واحد. وقال ثعلب: الإِبدالُ تَنْحِيَةُ جوهرَةٍ،
538
واستئنافُ أخرى. وأنشد:
٣١٩ - ٣- عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ... قال: ألا تراه نَحَّى جسماً، وجعل مكانَه آخرَ. والتبديلُ: تغييرُ الصورةِ إلى غيرِها، والجوهرةُ باقيةٌ بعينِها. واحتجَّ الفراء بقولِه تعالى: ﴿يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] قال: «والذي قال ثعلبٌ حسنٌ، إلا أنَّهم يجعلون اَبْدَلْتُ بمعنى بَدَّلْتُ». قلت: ومِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في قولِه تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨] : هل يتغير الجسمُ والصفةُ، أو الصفةُ دونَ الجسمِ؟
قوله: «رُحْماً» قرأ ابن عامر «رُحُماً» بضمتين. والباقون بضمةٍ وسكونٍ وهما بمعنى الرحمة. قال رؤبة:
٣١٩ - ٢- يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسا ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إِبْليسا
وقيل: الرُّحْم بمعنى الرَّحِم. وهو لائقٌ هنا مِنْ أجلِ القَرابةِ بالولادة. ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس «رَحِماً» بفتحِ الراءِ وكسرِ الحاءِ. و «زكاة ورُحْماً» منصوبان على التمييز.
539
قوله: ﴿رَحْمَةً﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أوضحُها: أنَّه مفعولٌ له. الثاني: أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ من الفاعل، أي: أراد ذلك راحماً،
539
وهي حالٌ لازمةٌ. الثالث: أَنْ ينتصِبَ انتصابَ المصدرِ لأنَّ معنى ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ﴾ معنى «فَرَحِمَهما».
قوله: تَسْطِعْ «، قيل: أصلُه استطاع، فَحُذِفَتْ تاءُ الافتعالِ. وقيل: المحذوفُ: الطاءُ الأصلية ثم أُبْدِلت تاءُ الافتعال طاءً بعد السِّين. وهذا تكلُّفشٌ بعيدٌ. وقيل: السينُ مزيدةٌ عوضاً من قلبِ الواوِ ألفاً، والأصلُ: أطاع. ولتحقيقِ القولِ فيه موضعٌ غيرُ هذا.
ويقال:»
استتاعَ «بتاءين، و» اسْتاعَ «بتاء واحدة، فهذه أربعُ لغاتٍ، حكاها ابن السكيت.
540
قوله: ﴿مِّنْهُ ذِكْراً﴾ : أي: مِنْ أخبارِهِ وقَصَصِه.
قوله: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾ : مفعولُه محذوفٌ، أي: أمره وما يريد.
قوله: ﴿فَأَتْبَعَ﴾ : قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو «فَأَتْبَعَ» و «ثم أَتْبَعَ» في المواضعِ الثلاثة بهمزةِ وصلٍ وتشديدِ التاء. والباقون بهمزةِ القطع وسكونِ التاء. فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ. وقيل: «أتبع» بالقطعِ متعدٍ لاثنين حُذِف أحدُهما تقديرُه: فأتبع سبباً سبباً آخرَ، أو فأتبع أمرَه سبباً. ومنه ﴿وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً﴾ [القصص: ٤٢] فعدَّاه لاثنين/
540
ومِنْ حَذْفِ أحدِ المفعولين: قولُه تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ [الشعراء: ٦٠]، أي: أَتْبعوهم جنودَهم. واختار أبو عبيد «اتَّبع» بالوصل، قال: «لأنه من المسيرِ» قال «تقول» تَبِعْتُ القومَ واتَّبَعْتُهم. فأما الإِتباعُ بالقَطْع فمعناه اللَّحاق، كقولِه تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: ١٠]. وقال يونس وأبو زيد: «أَتْبَعَ» بالقطع عبارةٌ عن المُجِدِّ المُسْرِعِ الحثيثِ الطلبِ. وبالوصل إنما يتضمَّن الاقتفاءَ دونَ هذه الصفات.
541
قوله: ﴿حامِيَةٍ﴾ : قرأ ابن عامر وأبو بكر والأخَوان بالألف وياءٍ ضريحة بعد الميم. والباقون دون ألفٍ وهمزة بعد الميم. فأمَّا القراءةُ الأولى فإنها اسمُ فاعلٍ مِنْ حَمِي يَحْمِي، والمعنى: في عينٍ حارَّة. واختارها أبو عبيدٍ، قال: «لأنَّ عليها جماعةً من الصحابة» وسمَّاهم. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنَ الحَمْأةِ وهي الطينُ.
وكان ابنُ عباس عند معاويةَ. فقرأ معاويةُ «حاميةٍ» فقال ابن عباس: «حَمِئَةٍ». فسأل معاويةُ ابنَ عمرَ كيف تقرأ؟ فقال: كقراءةِ أمير المؤمنين. فبعث معاويةُ، فسأل كعباً فقال: «أَجِدُها تغرُب في ماءٍ وطين». فوافق ابن عباس. وكان رجلٌ حاضرٌ هناك فأنشد قولَ تُبَّع:
٣١٩ - ٥-
541
فرأى مغيبَ الشمسِ عند مآبِها في عينِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمِدِ
ولا تناقضَ بين القراءتينِ؛ لأنَّ العينَ جامعةٌ بين الوصفين: الحرارةِ وكونِها مِنْ طين.
قوله: ﴿إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ﴾ يجوز في ﴿أَن تُعَذِّبَ﴾ الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، أي: إمَّا تعذيبُك واقعٌ، أو الرفعُ على خبرٍ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو تعذيبُك. والنصبُ، أي: إمَّا أَنْ تَفْعَلَ أَنْ تُعَذَّبَ.
542
قوله: ﴿جَزَآءً الحسنى﴾ : قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب «جزاءً» وتنوينِه. والباقون برفعِه مضافاً. فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ، أي: يَجْزِي جزاء. وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه. وقد يُعْترض على الأولِ: بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها، فكذا لا يَتَوسَّط. وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ، وهو إلى الجوازِ أقربُ.
542
الثالث: أنه في موضع الحالِ. والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء، والخبرُ الجارُّ قبلَه. و «الحُسْنى» مضاف إليها. والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ. وقيل: الفَعْلَة الحسنى.
الرابع: نصبُه على التفسيرِ. قاله الفراء. يعني التمييزَ. وهو بعيدٌ.
وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنَّ المبتدأَ محذوفٌ، وهو العاملُ في «جزاءَ الحسنى» التقديرُ: فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى. والثاني: أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله:
٣١٩ - ٦-............................ ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
ذكره المهدويُّ.
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق «جزاءً» مرفوعاً منوناً على الابتداء. و «الحُسْنى» بدلٌ أو بيان، أو منصوبةٌ بإضمار «أَعْني»، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ.
و «يُسْراً» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً ذا يُسْرٍ. وقرأ أبو جعفر بضمِّ «اليُسْر» حيث وَرَدَ.
543
قوله: ﴿مَطْلِعَ﴾ : العامَّةُ على كسر اللام، والمضارعُ يَطْلُع بالضم، فكان القياسُ فتحَ اللامِ في المَفْعَل مطلقاً، ولكنها مع أخواتٍ لها سُمع فيها الكسر، وقياسُها الفتح. وقد قرأ ابن الحسن وعيسى
543
وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن ابن كثير وأهلِ مكة. قال الكسائي: «هذه اللغةُ قد ماتَتْ» يعني: أي: بكسر اللام من المضارع والمفْعِل. وهذا يُشْعِرُ أنَّ مِن العرب مَنْ كان يقول: طَلَع يَطْلِعُ بالكسرِ في المضارع.
544
قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ : الكافُ: إمَّا مرفوعةُ المحلِّ، أي: الأمر كذلك. أو منصوبتُه، أي: فَعَلْنا مثلَ ذلك.
قوله: ﴿بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ «بين» هنا يجوز أن يكونَ طرفاً، والمفعولُ محذوفٌ، أي: بلغ غَرَضَه ومقصودَه، وأَنْ يكونَ مفعولاً به على الاتِّساع، أي: بلغ المكانَ الحاجزَ بينهما.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح سين «السَّدَّين» و «سَدَّا» في هذه السورةِ، وحفص فتح الجميع، أعني موضعَيْ هذه السورة وموضعَيْ سورةِ يس. وقرأ الأخَوان بالفتح في «سَدَّاً» في سورتيه وبالضمِّ في «السُّدَّيْن». والباقون بالضم في الجميع. فقيل: هما بمعنى واحد. / وقيل: المضمومُ ما كان من فِعْلِ اللهِ تعالى، والمفتوحُ ما كان مِنْ فِعْلِ الناس. وهذا مرويٌ عن عكرمةَ والكسائي وأبي عبيد. وهو مردودٌ: بأن السَّدَّيْن في هذه السورة جَبَلان، سَدَّ ذو القرنين بينهما بسَدّ، فهما مِنْ فِعْلِ اللهِ، والسَّدُُّ الذي فعله
544
ذو القرنين مِنْ فِعْل المخلوق. و «سَدّاً» في يس مِنْ فِعْلِ الله تعالى لقولِه: «وجَعَلْنا»، ومع ذلك قُرِئ في الجميع بالفتح والضمِّ. فَعُلِم أنهما لغتان كالضَّعْف والضُّعف والفَقْر والفُقْر. وقال الخليل: المضمومُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. وهذا هو الاختيارُ.
545
قوله: ﴿يَفْقَهُونَ﴾ : قرأ الأخَوان بضمِّ الياء وكسرِ القافِ مِنْ أَقْفَهَ غيرَه، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: لا يُفْقهون غيرهم قولاً. والباقون بفتحها، أي: لا يَفْهمون كلامَ غيرِهم، وهو بمعنى الأول. وقيل: ليس بمتلازِمٍ؛ إذ قد يَفْقَهُ الإِنسانُ قولَ غيرِه ولا يَفْقَه غيرُه قولَه. وبالعكس.
قوله: ﴿يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ : قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة، والباقون بألفٍ صريحة. واخْتُلِف في ذلك فقيل: هما أعجميان. لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة. ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية. وقيل: بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما: فقيل: اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها. وقيل: مِنَ الأَجَّة. وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ. وقيل: من الأجِّ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ. ومنه قوله:
545
وقيل: من الأُجاجِ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق. ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ. وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ. ولا ضَيْرَ في ذلك. ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ.
ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج، أي: اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل: مَوْجُوج. قاله أبو حاتم. وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ. وشذوذُه كشذوذِ «طائيّ» في النسب إلى طيِّئ. وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود. ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام. والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد. وقرأ رؤبة وأبوه العجاج «آجوج».
قوله: «خَراجاً» قرأ ابن عامر «خَرْجاً» هنا وفي المؤمنين بسكون الراء، والأخَوان «خراجاً» «فَخَراج» في السورتين بالألف، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو «
546
فَخَراج» كقراءة الأخوين. فقيل: هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال. وقيل: الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام، وبغير ألف بمعنى الجُعْل، أي: نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك.
قال مكي رحمه الله: «والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام. وقيل: الخَرْج ما كان على الرؤوس، والخراج ما كان على الأرض، يقال: أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ، وخراجَ أرضِك. قاله ابن الأعرابي. وقيل: الخَرْجُ أخصُّ، والخَراجُ أعَمُّ. قاله ثعلب. وقيل: الخَرْجُ مصدرٌ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق.
547
قوله: ﴿مَا مَكَّنِّي﴾ :«ما» بمعنى الذي. وقرأ ابن كثير «مكَّنني» بإظهار النون. والباقون بإدغامِها في نون الوقاية للتخفيف.
قوله: ﴿آتُونِي﴾ : قرأ أبو بكر «ايتوني» بهمزةِ وصل مِنْ أتى يَأتي في الموضعين من هذه السورة بخلافٍ عنه في الثاني. وافقه حمزةُ على الثاني من غيرِ خلافٍ عنه. والباقون بهمزةِ القطعِ فيهما.
547
ف «زُبُرَ» على قراءةِ همزةِ الوصل منصوبةٌ على إسقاط الخافض، أي: جيئوني بزُبُرِ الحديد. وفي قراءة قَطْعِها على المفعول الثاني لأنه يتعدَّى/ بالهمزة إلى اثنين. وعلى قراءة أبي بكر يُحتاج إلى كسر التنوين من «رَدْماً» لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ همزةَ الوصلِ تسقط دَرْجاً فيُقْرأ له بكسر التنوين، وبعده همزةٌ ساكنة هي فاءُ الكلمة. وإذا ابتدأت بكلمتي «ائتوني» في قراءتِه وقراءةِ حمزة تبدأ بهمزةٍ مكسورةٍ للوصل ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزةِ فاء الكلمة، وفي الدَّرْجِ تسقط همزةُ الوصل، فتعود الهمزةُ لزوالِ موجِبِ إبدالها.
والباقون يَبْتَدِئون ويَصِلُون بهمزةٍ مفتوحة لأنها همزة قطع، ويتركون تنوين «رَدْماً» على حاله من السكون، وهذا كلُّه ظاهرٌ لأهلِ النحو، خَفِيٌّ على القُرَّاء.
والزُّبَرُ جمع زُبْرَة كغُرْفَة وغُرَف. وقرأ الحسن بضم الباء.
قوله: «ساوَى» هذه قراءةُ الجمهور، وقتادة «سوَّى» بالتضعيف. وعاصمٌ في رواية «سُوِّيَ» مبنياً للمفعول.
548
قوله: «الصَّدَفَيْن» قرأ أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال. وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّهما، والباقون بفتحهما. وهذه لغاتٌ قُرِئ بها في السبع. وأبو جعفر وشيبة وحميد بالفتح والإِسكان، والماجِشون بالفتح والضم، وعاصم في روايةٍ بالعكس.
والصَّدَفان: ناحيتا الجبلين. وقيل: أَنْ يتقابلَ جبلان وبينهما طريق، فالناحيتان صَدَفان لتقابُلِهما وتصادُفِهما، مِنْ صادَفْتُ الرجلَ، أي: لاقَيْتُه وقابَلْته. وقال أبو عبيد: «الصَّدَفُ: كل بناءٍ مرتفع وليس بمعروفٍ، والفتح لغة تميم، والضمُّ لغة حِمْير».
قوله: «قِطْراً» هو المتنازَعُ فيه. وهذه الآيةُ أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع، وهي من إعمالِ الثاني للحذف من الأول. والقِطْر: النُّحاس أو الرَّصاصُ المُذاب.
549
قوله: ﴿فَمَا اسطاعوا﴾ : قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها. والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي: «لمَّا لم يمكن
549
إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك» - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن، وإن لم يكن حرف لين. وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو. وقد أنشد سيبويه «ومَسْحِيِ» يعني في قول الشاعر:
٣١٩ - ٧-......................... تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ
٣١٩ - ٨- كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ
يريد «ومَسْحِه» فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين. وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة. قال الزجاج: «مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ» وقال أبو علي: «هي غيرُ جائزة».
وقرأ الأعشى، عن أبي بكر «اصْطاعوا» بإبدال السين صاداً. والأعمش «استطاعوا» كالثانية.
550
قوله: ﴿جَعَلَهُ دَكَّآءَ﴾ : الظاهرُ ان الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير فتكون «دَكَّاء» مفعولاً ثانياً. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ حالاً، و «جعل»
550
بمعنى خلق، وفيه بُعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجودٌ. وقد تقدَّم خلافٌ القراء في «دَكَّاء» في الأعراف.
قوله: ﴿وَعْدُ رَبِّي﴾ الوَعْدُ هنا مصدرٌ بمعنى الموعود أو على بابه.
551
قوله: ﴿يَمُوجُ﴾ : مفعولٌ ثانٍ ل «تَرَكْنا» والضمير في «بعضَهم» يعودُ على «يَأْجُوج ومَأْجوج» أو على سائر الخلق.
قوله: «يومئذ» التنوينُ عوضٌ من جملةٍ محذوفة. تقديرُها: يوم إذ جاء وَعْدُ ربي، أو إذ حَجَرَ السَّدُّ بينهم.
قوله: ﴿الذين كَانَتْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من «للكافرين» أو بياناً أو نعتاً، وأن يكونَ منصوباً بإضمار أَذُمُّ، وأن يكونَ مرفوعاً خبرَ ابتداءٍ مضمر.
قوله: ﴿أَفَحَسِبَ﴾ : العامَّةُ على كسرِ السين وفتح الباء فعلاً ماضياً. و ﴿أَن يَتَّخِذُواْ﴾ سادٌّ مَسَدَّ المفعولين. وقرأ أمير المؤمنين على بن أبي طالب وزيد علي وابن كثير ويحيى بن يعمر في آخرين،
551
بسكون السينِ ورفعِ الباءِ على الابتداء، والخبر «أَنْ» وما في حَيَّزها.
وقال الزمخشري: «أو على الفعلِ والفاعلِ لأن اسمَ الفاعلِ إذا اعتمد على الهمزةِ ساوى الفعلَ كقولك:» أقائمٌ الزيدان «وهي قراءةٌ مُحْكَمةٌ جيدةٌ».
قال الشيخ: والذي يظهرُ أنَّ هذا الإِعرابَ لا يجوزُ لأنَّ حَسْباً ليس باسمِ فاعل فيعمل، ولا يلزم مِنْ تفسير شيءٍ بشيء أن تجريَ عليه / أحكامُه. وقد ذكر سيبويه أشياءَ مِنَ الصفات التي تجري مَجْرى الأسماءِ، وأنَّ الوجهَ فيها الرفعُ. ثم قال: وذلك نحو: مررتُ برجلٍ خيرٌ [منه] أبوه، ومررتُ برجلٍ سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ، ومررت برجلٍ أبٌ له صاحبُه، ومررت برجلٍ حَسْبُك مِنْ رجلٍ هو، ومررت برجلٍ أيُّما رجلٍ هو. ثم قال الشيخ: «ولا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ به الظاهرُ، فقد أجازوا في» مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه «ان يرتفعَ» أبوه «بأبي عشرة لأنه في معنى والدِ عشرة».
قوله: «نزلاً» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ جمعَ «نازِل» نحوشارِف وشُرُف. الثاني: أنه اسمُ موضعِ النزول. الثالث: أنَّه اسمُ
552
ما يُعَدُّ للنازلين من الضيوفِ، ويكونُ على سبيلِ التهكُّم بهم، كقولِه تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، وقوله:
٣١٩ - ٩-.............................. تحيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجميعُ
ونصبُه على هذين الوجهين مفعولاً به: أي: صَيَّرنا.
وأبو حيوة «نُزلاً» بسكونِ الزاي، وهو تخفيفُ الشهيرةِ.
553
قوله: ﴿أَعْمَالاً﴾ : تمييزٌ للأَخْسَرين، وجُمِعَ لاختلافِ الأنواع.
قوله: ﴿الذين ضَلَّ﴾ : يجوز فيه الجرُّ نعتاً وبدلاً وبياناً، والنصبُ على الذمِّ، والرفعُ على خبر ابتداء مضمر.
قوله: ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ﴾ يُسَمَّى في البديع «تجنيسَ التصحيف» وتجنيس الخَطِّ، وهذا مِنْ أحسنِه. وقال البحتري:
٣٢٠ - ٠- ولم يكن المُغْتَرُّ بالله إذ شَرَى لِيُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طالبُهْ
فالأولُ من الغُرور، والثاني مِن العِزِّ. ومِنْ أحسنِ ما جاء في تجنيس التصحيف قوله:
٣٢٠ - ١-
553
سَقَيْنَني رِيِّيْ وغَنِّيْنَنِيْ يُحْتُ بحبِّي حين بِنَّ الخُرُدْ
يصحف بنحو:
٣٢٠ - ٢- شَقَيْتَني ربي وعَنَّيْتِنيْ بحُبِّ يحيى خَتَنِ ابن الجُرُدْ
وفي بعضِ رسائلِ الفصحاء: «قَبَّلَ قبلَ يَدِكَ ثَراك، عبدٌ عند رَخاك رجاك، آمِلٌ أَمَّك».
554
وقرأ ابن عباس «فَحَبِطَتْ» بفتح الباء. والعامَّة على «نُقيم» بنون العظمة مِنْ «أقام». ومجاهد وعبيد بن عمير. «فلا يُقيم» بياءِ الغَيبة لتقدُّم قولِه: ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾، فالضميرُ يعود عليه. ومجاهدٌ أيضاً «فلا يقومُ لهم» مضارع قام، «وزنٌ» بالرفع. وعن عبيد بن عمير أيضاً «فلا يقومُ وزناً» بالنصبِ كأنه تَوَهَّم أنَّ «قام» متعدٍّ. كذا قال الشيخ. والأحسنُ مِنْ هذا أنْ تُعْرَبَ هذه القراءةُ على ما قاله أبو البقاء أَنْ يُجْعَلَ فاعلُ «يقومُ» صنيعُهم أو سَعْيهُم، وينتصِبُ حينئذٍ «وَزْناً» على أحد وجهين: إمَّا على الحال، وإمَّا على التمييز.
قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ : فيه أوجهُ كثيرةٌ
554
أحدُها: أَنْ يكونَ «ذلك» خبرَ مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و «جزاؤُهم جهنَّم» جملةٌ برأسها. الثاني: أن يكون «ذلك» مبتدأ اولَ، و «جزاؤهم» مبتدأٌ ثانٍ و «جهنُم» خبرُه، وهو وخبرُه خبرُ الأول. والعائدُ محذوف، أي: جزاؤهم به، كذا قال أبو البقاء، فالهاء في «به» تعود على «ذلك»، و «ذلك» مُشارٌ به إلى عدم إقامة الوزن.
قال الشيخ: «ويحتاج هذا التوجيهُ إلى نظر». قلت: إنْ عَنَى النظرَ من حيث الصناعةُ فَمُسَلَّمٌ. ووجهُ النظر: أنَّ العائدَ حُذِفَ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ إلا بتكليفٍ، فإنَّ العائدَ على المبتدأ إذا كان مجروراً لا يُحْذَفُ إلا إذا جُرَّ بحرفِ تبعيضٍ أو ظرفية، أو يَجُرُّ عائداً جُرَّ قبله بحرفٍ، جُرَّ به المحذوفُ كقولِه:
٣٢٠ - ٢- أَصِخْ فالذي تُدْعَى به أنت مُفْلِحٌ ...............................
أي: مفلحٌ به. وإنْ عَنَى من حيث المعنى فهو معنى جيدٌ.
555
الثالث: أن يكون «ذلك» مبتدأً، و «جزاؤهم» بدلٌ أو بيان، و «جهنم» خبره. الرابع: أن يكون «ذلك» مبتدأ أيضاً، و «جزاؤهم» خبره و «جهنمُ» بدلٌ أو بيانٌ أو خبر ابتداء مضمر. الخامس: أن يُجعل «ذلك» مبتدأ و «جزاؤهم» بدلٌ أو بيان و «جهنم» خبر ابتداءٍ مضمرٍ، و «بما كفروا» خبر الأول، والجملة اعتراضٌ. السادس: أن يكون «ذلك» مبتدأً، والجارُّ الخبر، و «جزاؤهم جهنمُ» جملةٌ معترضةٌ وفيه بُعْدٌ. السابع: أن يكون «ذلك» إشارةً إلى جماعة / وهم مذكورون في قوله: «بالأخسرين»، وأُشير إلى الجمع كإشارة الواحد كأنه قيل: أولئك جزاؤهم جهنَّمُ، والإِعرابُ المتقدمُ يعودُ إلى هذا التقدير.
قوله: «واتَّخذوا» فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على «كفروا»، فيكونُ محلُّه الرفعَ لعطفِه على خبر «إنَّ». الثاني: أنه متسأنفٌ فلا مَحَلَّ له.
والباء في قوله: «بما كفروا» لا يجوزُ تعلُّقُها ب «جزاؤهم» للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه.
556
قوله: ﴿نُزُلاً﴾ : فيه ما تقدَّم: من كونِه اسمَ مكانِ النزولِ، او ما يُعَدُّ للضيفِ. وفي نصبه وجهان، أحدهما: أنه خبر «كانت»، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حال مِنْ «نُزُلا»، أو على البيان، أو ب «كانت» عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنه حالٌ من «جنات»، أي: ذوات نُزُلٍ، والخبرُ الجارُّ.
قوله: ﴿لاَ يَبْغُونَ﴾ : الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ صاحب «خالدين»، وإمَّا من الضمير في «خالدين»، فتكونُ حالاً متداخلة.
556
والحِوَل: قيل: مصدرٌ بمعنى التحوُّل: يُقال: حال عن مكانه حِوَلاً، فهو مصدرٌ كالعِوَج والعِوَد والصِّغَر قال:
٣٢٠ - ٤- لكلِّ دولةٍ أجلُ ثم يُتاحُ لها حِوَل
وقال الزجاج: «هو عند قومٍ بمعنى الحِيلة في التنقُّل». وقال ابن عطية: «والحِوَلُ: بمعنى التحوُّل» قال مجاهد: «مُتَحَوَّلاً» وأنشد الرجز المتقدم ثم قال: «وكأنه اسم جمع، وكأنَّ واحدَة حوالة» قلت: وهذا غريب والمشهورُ الأولُ. والتصحيح في فِعَل هو الكثير إن كان مفرداً نحو: الحِوَل وإن كان جمعاً فالعكسُ نحو: «ثِيَرة» و....
557
قوله: ﴿تَنفَدَ﴾ : قرأ الأَخوان «يَنْفَذَ» بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. والباقون بالتاء من فوقُ لتأنيثِ اللفظ. وقرأ السُّلمي -
557
ورُويت عن أبي عمرو وعاصم - تَنَفَّدَ - بتشديدِ الفاءِ، وهو مُطاوَعُ نَفَّدَ بالتشديد نحو: كسَّرته فتكسَّر. وقراءةُ الباقين مطاوعُ أَنْفَدْته.
قوله: «ولو جِئنا» جوابُها محذوف لِفَهْمِ المعنى تقديره: لنفِدَ. والعامَّةُ على «مَدَداً» بفتح الميم. والأعمشُ قرأ بكسرها، ونصبُه على التمييز كقوله:
٣٢٠ - ٥-............................ فإنَّ الهوى يَكْفِيْكه مثلُه صَبْرا
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس «مِداداً» كالأول. ونصبُه على التمييز أيضاً عند أبي البقاء. وقال غيرُه - كأبي الفضل الرازي -: إنه منصوب على المصدرِ بمعنى الإِمداد نحو: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] قال: والمعنى: ولو أَمْدَدْناه بمثلِه إمداداً.
558
قوله: ﴿أَنَّمَآ إلهكم﴾ :«أنَّ» هذه مصدرية وإنْ كانت مكفوفةً ب «ما». وهذا المصدر قائمٌ مقامَ الفاعلِ كأنه قيل: إنما يُوْحَى إليَّ التوحيدُ.
قوله: ﴿وَلاَ يُشْرِكْ﴾ العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ، عُطِفَ بها على أمرٍ. ورُوي عن أبي عمروٍ ﴿وَلاَ تُشْرِكْ﴾ بالتاءِ مِنْ فوقُ خطاباً على الالتفات من الغَيْبة إلى الخطاب ثم التُفِتَ في قولِه ﴿بِعِبَادَةِ رَبِّهِ﴾ إلى الأول. ولو جيْءَ على
558
الالتفات الثاني: لقيل: ربك. والباءُ سببية، أي: بسبب. وقيل: بمعنى في.
والفِرْدوس: الجَنَّةُ مِن الكَرْم خاصة. وقيل: بل ما كان غالبُها كَرْماً. وقيل: كل ما حُوِطَ فهو فِرْدوسٌ والجمع فراديس. وقال المبرد: «الفِرْدوس فيما سمعتُ من العرب: الشجرُ الملتفُّ، والأغلبُ عليه أن يكون من العِنَب». وحكى الزجاج أنها الأَوْدِيَة التي تُنْبِتُ ضُروباً من النَّبْت. واختُلف فيه: فقيل: هو عربيٌّ وقيل: أعجمي. وهل هو روميٌّ أو فارسيٌّ أو سُرْيانيٌّ؟ قيل: ولم يُسْمع في كلام العرب إلا في بيت حَسَّان:
٣٢٠ - ٦- وإنَّ ثوابَ اللهِ كلَّ مُوحِّدِ جِنانٌ من الفردوسِ فيها يُخْلَّدُ
وهذا ليس بصحيح، لأنه سُمع في شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلت:
٣٢٠ - ٧- كانت منازلُهمْ إذ ذاك ظاهرةً فيها الفَراديسُ ثم الثومُ والبَصَلُ
ويقال: كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّشٌ، ولهذا سُمِّيَتِ الروضةُ التي دونَ اليَمامة فِرْدَوساً.
وإضافةُ «جنَّات» إلى الفِرْدوس إضافةٌ تبيينٍ.
559
Icon