تفسير سورة المؤمنون

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال :« كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال :» اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضِنا، ثم قال : لقد أنزل عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة « ثم قرأ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾ حتى ختم العشر. وقال النسائي في تفسيره عن يزيد بن بابنوس، قال، قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول الله ﷺ ؟ قالت : كان خلق رسول الله ﷺ القرآن، فقرأت :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾ - حتى انتهت إلى - ﴿ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ قالت : هكذا كان خلق رسول الله ﷺ. وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :» خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، ملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وحشيشها الزعفران، ثم قال لها : انطقي، قالت :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾، فقال الله : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل « ؛ ثم تلا رسول الله ﷺ :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ [ الحشر : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾ أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف ﴿ الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ قال ابن عباس :﴿ خَاشِعُونَ ﴾ خائفون ساكنون، وعن علي الخشوع خشوع القلب، وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح. وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله ﷺ يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزلت هذه الآية :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها، وحينئذٍ تكون راحة له وقرة عين؛ كما قال النبي ﷺ :» حبّب إليَّ الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة « وكان رسول الله ﷺ يقول :» يا بلال، أرحنا بالصلاة «.
وقوله تعالى :﴿ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ ﴾ أي عن الباطل وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ]، قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك، وقوله :﴿ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية :
1712
﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] ؛ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [ الشمس : ٩-١٠ ]، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. وقوله :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون ﴾ أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال :﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك ﴾ أي غير الأزواج والإماء ﴿ فأولئك هُمُ العادون ﴾ أي المعتدون. وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال الله تعالى :﴿ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ أي إذا أؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله ﷺ :« آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان »، وقوله :﴿ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي يواظبون عليها في مواقيتها كما قال ابن مسعود :« سألت رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال :» الصلاة على وقتها « قلت : ثم أي؟ قال :» بر الوالدين «، قلت : ثم أي؟ قال :» الجهاد في سبيل الله «، وفي » مستدرك « الحاكم قال :» الصلاة في أول وقتها «، وقال ابن مسعود ومسروق في قوله :﴿ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ يعني مواقيت الصلاة، وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها، وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها كما قال رسول الله ﷺ :» استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤم «. ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال :﴿ أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وثبت في » الصحيحين « :
1713
« إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوش فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحما ن » وقال رسول الله ﷺ :« ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله :﴿ أولئك هُمُ الوارثون ﴾ » وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة، ويهدم بيته الذي في النار، وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة، ويبني بيته الذي في النار، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أطاعوا ربهم عزَّ وجلَّ بل أبلغ من هذا أيضاً، وهو ما ثبت في « صحيح مسلم » عن النبي ﷺ قال :« إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقال هذا فكاكك من النار »، فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله ﷺ بذلك، قال : فحلف له. قلت : وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٣ ]، وكقوله :﴿ وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٢ ] وقد قال مجاهد : الجنة هي الفردوس، وقال بعض السلف : لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب، فالله أعلم.
1714
يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون، وقال ابن عباس ﴿ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ قال : من صفوة الماء، وقال مجاهد : من سلالة أي من مني بني آدم، وقال ابن جرير : إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه، وقال قتادة : استل آدم من الطين، وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق، فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب، وهو الصلصال من الحمإ المسنون، وذلك مخلوق من التراب، كما قال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ [ الروم : ٢٠ ]، وقال النبي ﷺ :« إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب بين ذلك » ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ هذا الضمير عائد على جنس الإنسان، كما قال في الآية الأخرى :﴿ الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ السجدة : ٨-٩ ] أي ضعيف كما قال :﴿ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون ﴾ [ المرسلات : ٢٢-٢٣ ] يعني الرحم معد لذلك مهيأ له، ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً ﴾ أي مدة معلومة وأجل معين، حتى استحكم ونقل من حال إلى حال وصفه إلى صفة، ولهذا قال هاهنا ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً ﴾ أي ثم صيّرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره، وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة، فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة، قال عكرمة، وهي دم ﴿ فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً ﴾ وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط ﴿ فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً ﴾ يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها. وفي الصحيح :« كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب، منه خلق وفيه يركب » ﴿ فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ﴾ أي جعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه، ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب ﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾. عن ابن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذ أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليهاً ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث، فذلك قوله :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ يعني نفخنا فيه الروح، وقال ابن عباس : يعني فنفخنا فيه الروح؛ واختاره ابن جرير، وقال العوفي عن ابن عباس ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ : يعني ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلاً، ثم نشأ صغيراً، ثم احتلم، ثم صار شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم هرماً، وفي الصحيح :
1715
« إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : رزقه وأجله وعمله وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها ».
وقال عبد الله بن مسعود : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر، فتمكث أربعين يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة، وفي الصحيح :« يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة فيقول يا رب ماذا؟ شقي أم سعيد، أذكر أم أنثى؟ فيقول الله فيكتبان، ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص » وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله وكل بالرحم ملكاً فيقول : أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله خلقها قال : أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ قال : فذلك يكتب في بطن أمه » وقوله :﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ : يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال، ومن شكل لى شكل، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق، قال :﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾، وقوله :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ﴾ يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت، ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ ﴾ يعني النشأة الآخرة، ﴿ ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة ﴾ [ العنكبوت : ٢٠ ] يعني يوم المعاد، وقيام الأرواح إلى الأجساد، فيحاسب الخلائق، ويوفي كل عامل عمله إن خيراً وإن شراً فشر.
1716
لما ذكر تعالى خلق الإنسان عطف بذكر خلق السماوات السبع، وكثيراً ما يذكر تعالى خلق السماوات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ]، وقوله :﴿ سَبْعَ طَرَآئِقَ ﴾ قال مجاهد : يعني السماوات السبع وهذه كقوله تعالى :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]، ﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً ﴾ [ نوح : ١٥ ] ﴿ الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ [ الطلاق : ١٢ ]، وهكذا قال هاهنا ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ ﴾ أي أنه سبحانه لا يحجب عنه سماء ولا أرض، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ].
يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدرالحجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى، كما في أرض مصر، ويقال لها الأرض الجرز يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر، فيسقي أرض مصر، ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور، وقوله :﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض ﴾ أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية إليه، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى، وقوله :﴿ وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا، ولو شئنا لجلعناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً زلالاً، فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض، فيفتح العيون والأنهار، ويسقي به الزروع والثمار، تشربون منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون، فله الحمد والمنة.
وقوله تعالى :﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق ﴿ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ [ النمل : ٦٠ ] أي ذات منظر حسن، وقوله :﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ أي فيها نخيل وأعناب، وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره، وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره، وقوله :﴿ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾ أي من جميع الثمار، كما قال :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ [ النحل : ١١ ]، وقوله :﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ معطوف على شيء مقدر، تقديره : تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون، وقوله :﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ ﴾ يعني الزيتونة، والطور هو الجبل، وقال بعضهم : إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر، فإن عري عنها سمي جبلاً لا طوراً والله أعلم. و ﴿ طُورِ سَيْنَآءَ ﴾ هو طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون، وقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ أي تنبت الدهن، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده أي يده، ولهذا قال :﴿ وَصِبْغٍ ﴾ أي أدم قاله قتادة ﴿ لِّلآكِلِيِنَ ﴾ أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ، قال رسول الله ﷺ :
1718
« كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة » وروى عبد بن حميد في « مسنده » عن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة » وقوله :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾ يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم ويأكلون من حملانها، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها، ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم، كما قال تعالى :﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النحل : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [ يس : ٧٢-٧٣ ].
1719
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه، لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله ﴿ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي لا تخافون من الله في إشراككم به؟ فقال الملأ - وهم السادة والأكابر منهم - ﴿ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ يعنون يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة وهو بشر مثلكم فكيف أوحي إليه دونكم؟! ﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾ أي لو أراد أن يبعث نبياً لبعث ملكاً من عنده ولم يكن بشراً ﴿ مَّا سَمِعْنَا بهذا ﴾ أي ببعثة البشر ﴿ في آبَآئِنَا الأولين ﴾ يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية، وقوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ أي مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي ﴿ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ ﴾ أي انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه كما قال تعالى مخبراً عنه في الآية الأخرى :﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر ﴾ [ القمر : ١٠ ]، وقال هاهنا :﴿ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ ﴾، فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، أي ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ ﴾ أي من بق عليه القول بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته والله أعلم، وقوله :﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾ أي عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم، وطمع في تأخيرهم لعلَّهم يؤمنون، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان، وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا، وقوله :﴿ فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين ﴾، كما قال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ ﴿ وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا ﴾ [ هود : ٤١ ]، فذكر الله تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾ أي إن في هذا الصنيع - وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين - لآيات، أي لحججنا ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شيء عليم بكل شيء، وقوله :﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين، قيل : المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود، لقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق ﴾، وأنه تعالى أرسل فيهم رسولاً منهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه وأبو اتباعه لكونه بشراً مثلهم، وكذبوا بلقاء الله، وقالوا :﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ أي بعد ذلك، ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً ﴾ أي فيما جاءكم به من الرسالة والإخبار بالمعاد، ﴿ وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم فأجاب دعاءه، ﴿ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به، ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق ﴾ أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم، والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر العاصف القوي الباردة تدمر كل شيء بأمر ربها، ﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ]، وقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً ﴾ أي صرعى هلكى كغثاء السيل وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه، ﴿ فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾، كقوله :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ [ الزخرف : ٧٦ ] أي بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.
يقول تعالى :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ﴾ أي أمماً وخلائق ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه، قبل كونهم أمة بعد أمة، وجيلاً بعد جيل، ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾ قال ابن عباس : يعني يتبع بعضهم بعضاً، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، وقوله :﴿ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ يعني جمهورهم وأكثرهم، كقوله تعالى :﴿ ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ يس : ٣٠ ]، وقوله :﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ﴾ أي أهلكناهم، كقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ]، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي أخباراً وأحاديث للناس، كقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ سبأ : ١٩ ].
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما، لكونهما بشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم. فأهلك الله فرعون وملأه وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه جعلهما آية للناس، أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى. وقوله :﴿ وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ قال ابن عباس : الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات، ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ ﴾ يقول ذات خصب ﴿ وَمَعِينٍ ﴾ يعني ماء ظاهراً، وقال مجاهد : ربوة مستوية. وقال سعيد بن جبير ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ : استوى الماء فيها، وقال مجاهد وقتادة :﴿ وَمَعِينٍ ﴾ الماء الجاري، ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة؟ فقال سعيد بن المسيب : هي دمشق، وعن ابن عباس ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ قال : أنهار دمشق، وقال مجاهد ﴿ وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ﴾ قال : عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها، وقال عبد الرزاق عن أبي هريرة قال : هي الرملة من فلسطين، وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس قال : المعين الماء الجاري وهو النهر الذي قال الله تعالى :﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٦ ]، وكذا قال الضحاك وقتادة : إلى ربوة ذات قرار ومعين، هو بيت المقدس، فهذا والله أعلم هو الأظهر، لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار.
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام. وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالة ونصحاً، فجزاهم الله عن العباد خيراً، قال الحسن البصري في قوله :﴿ ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات ﴾ قال : أمَا والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك ﴿ كُلُواْ مِنَ الطيبات ﴾ : يعني الحلال، وكان عيسى ابن مريم يأكل من غزل مه، وفي الصحيح :« وما من بني إلا رعى الغنم » قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال :« نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة »، وفي الصحيح :« إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده »، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« يا أيها الناس إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين »، فقال :﴿ ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، وقال :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟! « وقوله :﴿ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولهذا قال :﴿ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون ﴾، وقوله :﴿ فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ﴾ أي الأمم التي بعثت إليهم الأنبياء ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون، ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ ﴾ أي في غيهم وضلالهم ﴿ حتى حِينٍ ﴾ أي إلى حين هلاكهم، كما قال تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ]، وقال تعالى :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر : ٣ ].
وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا، كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم ﴿ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء، ولهذا قال :﴿ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا ﴾
1726
[ التوبة : ٥٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ [ سبأ : ٣٧ ] الآية، والآيات في هذا كثيرة. وقال قتادة : مكر والله بالقوم في أموالكم وأولادهم، يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه » قالوا : وما بوائقه يا رسول الله؟ قال :« غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ».
1727
يقول تعالى :﴿ إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ ﴾ أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من مكره بهم، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً، ﴿ والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، كقوله تعالى : إخباراً عن مريم عليهما السلام ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ] أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه، وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه، وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيراً فهو حق، كما قال الله :﴿ والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ﴾ أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نظير له ولا كفء. وقوله :﴿ والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد « عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجلَّ؟ قال :» لا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عزَّ وجلَّ «.
﴿ أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات ﴾ »
وقد قرأ آخرون هذه الآية ﴿ والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ : أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، وروي هذا مرفوعاً إلى النبي ﷺ أنه قرأها كذلك، والمعنى على القراءة الأولى وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر؛ لأنه قال :﴿ أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ فجعلهم من السابقين، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين من المقتصدين أو المقصرين، والله أعلم.
يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا، أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها : أي إلا ما تطيق حمله والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم، التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء، ولهذا قال :﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق ﴾ يعني كتاب الأعمال، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا يبخسون من الخير شيئاً، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين، ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش :﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ ﴾ أي في غفلة وضلالة من هذا، أي القرآن الذي أنزل على رسوله ﷺ، وقوله :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾، قال ابن عباس :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ﴾ أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك ﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾، قال : لا بد أن يعملوها، وقال آخرون ﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ : أي قد كتبت عليهم أعمال السيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة لتحق عليهم كلمة العذاب؛ وهو ظاهر قوي حسن، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود :« فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها »، وقوله :﴿ حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ يعني حتى إذا جاء مترفيهم - وهم المنعمون في الدنيا - عذابُ الله وبأسُه ونقمتُه بهم ﴿ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ أي يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى :﴿ وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ [ المزمل : ١١ ]، وقال تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ ص : ٣ ]، وقوله :﴿ لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ﴾ أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر، لزم الأمر ووجب العذاب، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال :﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ﴾ : أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم، ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير ﴾ [ غافر : ١٢ ]، وقوله :﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام : إنه سحر، إنه شعر، إنه كهانة إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. وقيل إنه محمد ﷺ كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ويضربن له الأمثال الباطلة، من أنه شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وقيل المراد بقوله ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ﴾ أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به، كما قال ابن عباس : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ فقال : مستكبرين بالبيت، يقولون : نحن أهله ﴿ سَامِراً ﴾ قال : كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه.
يقول تعالى منكراً على المشركين، في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وإعراضهم عنه، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول الله أكمل منه ولا أشرف، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار، ثم قال منكراً على الكافرين من قريش :﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ أي أنهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصاينته التي نشأ بها فيهم، ولهذا قال ( جعفر بن أبي طالب ) رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وهكذا قال ( المغيرة بن شعبة ) لنائب كسرى حين بارزهم، وكذلك قال ( أبو سفيان ) لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي ﷺ ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ يحكي قول المشركين عن النبي ﷺ أنه تقوَّل القرآن أي افتراه من عنده، أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به، وهم يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين، ولهذا قال :﴿ بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾، قال قتادة : ذكر لنا « أن نبي الله ﷺ لقي رجلاً فقال :» أسلم « فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره، فقال نبي الله ﷺ :» وإن كنت كارهاً « وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له :» أسلم « فتصعده ذلك وكبر عليه، فقال له نبي الله ﷺ :» أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث، فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه، فدعاك إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه «؟ قال : نعم، قال :» فوالذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه « وقوله :﴿ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ قال مجاهد : الحق هو الله عزَّ وجلَّ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافهم، كما أخبر عنهم في قولهم :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، وقال تعالى :﴿ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق ﴾
1730
[ الإسراء : ١٠٠ ] الآية.
ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال :﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ ﴾ أي القرآن ﴿ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ ﴾، وقوله :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ﴾ قال الحسن : أجراً، وقال قتادة : جُعْلا ﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ﴾ أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ﴾ [ سبأ : ٤٧ ]، وقال :﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين ﴾ [ ص : ٨٦ ]، وقال :﴿ اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً ﴾ [ يس : ٢١ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ ﴾. عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أتاه فيما يرى النائم، ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مَثَل هذا ومثل أمته، فقال : إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال : أرأيتم إن أوردتكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني؟ فقالوا : نعم، قال : فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم : ألم ألفَكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني؟ قالوا : بلى، قال : فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه، وحياضاً هي أروى من هذه، فاتبعوني، قال : فقالت طائفة : صدق الله ولنتبعنه، وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إني ممسك بحجزكم هلمَّ عن النار، هلمَّ عن النار وتغلونني، تتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض، فتردون عليّ معاً وأشتاتاً، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله، فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال، فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي، أي رب أمتي، فيقال : يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم » وقوله :﴿ وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ ﴾ أي لعادلون جائرون منحرفون، تقول العرب : نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها، وقوله :﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم، بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ] فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون لو كان كيف يكون، قال ابن عباس : كل ما فيه ( لو ) فهو مما لا يكون أبداً.
1731
يقول تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب ﴾ أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، ﴿ فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة بل استمروا على غيهم وضلالهم، ما استكانوا أي ما خشعوا ﴿ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي ما دعوا، كما قال تعالى :﴿ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنعام : ٤٣ ] الآية. عن ابن عباس أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر والدم - فأنزل الله :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا ﴾، وأصله في « الصحيحين » « أن رسول الله ﷺ دعا على قريش حين استعصوا فقال :» اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف « وقوله :﴿ حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾، أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، فعند ذلك أبلسوا من كل خير، وأيسوا من كل راحة وانقطعت آمالهم ورجاؤهم، ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وهي العقول اليت يذكرون بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله، وأنه الفاعل المختار لما يشاء. وقوله :﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم، ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر، في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم، ولهذا قال :﴿ وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي يحيي الرمم ويميت الأمم، ﴿ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار ﴾ أي وعن أمره تسخير الليل والنهار كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما كقوله :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار ﴾ [ يس : ٤٠ ] الآية، وقوله :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء وخضع له كل شيء؟ ثم قال مخبراً عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين ﴿ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون * قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ يعنون الإعادة محال إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم، وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخباراً عنهم ﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ [ النازعات : ١١-١٢ ]، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨-٧٩ ] الآيات.
يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ﴿ قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ ﴾ أي من مالكها الذي خلقها، ومن فيها من الحيوانات والنباتات، والثمرات سائر صنوف المخلوقات؟ ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ أي فيعترفون لك بأنّ لك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك ﴿ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره، ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم ﴾ ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات؟ ومن هو رب العرش العظيم يعني الذي هو سقف المخلوقات؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال :« شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سماواته هكذا وأشار بيده مثل القبة » وفي الحديث الآخر :« ما السماوات السبع والأرضون السبع وما بينهنَّ وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك القلاة »، عن ابن عباس : إنما سمي عرشاً لارتفاعه، وقال مجاهد : ما السماوات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر قدره أحد إلا الله عزَّ وجلَّ. ولهذا قال هاهنا :﴿ وَرَبُّ العرش العظيم ﴾ أي الكبير، وقال آخر السورة ﴿ وَرَبُّ العرش العظيم ﴾ أي الحسن البهي فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع، والعلو والحسن الباهر؛ قال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه، وقوله :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السماوات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
قوله :﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي بيده الملك ﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ [ هود : ٥٦ ] أي متصرف فيها، وكان رسول الله ﷺ يقول :« لا والذي نفسي بيده »، وكان إذا اجتهد في اليمين قال :« لا ومقلب القلوب »، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف، ﴿ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحداً لا يخفر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه، ولهذا قال الله :﴿ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه، ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ]، ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له ﴿ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ ﴾ أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟ ثم قال تعالى :﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق ﴾ وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك، كما قال في آخر السورة ﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٧ ] فالمشركون إنما يفعلون ذلك اتباعاً لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال كما قال عنهم ﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ].
ينزه تعالى نفسه عن أن يكن له ولداً له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة، فقال تعالى :﴿ مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ ﴾ أي لو قدّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما خلق، فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، غاية الكمال ﴿ مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [ الملك : ٣ ]، ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، والمتكلمون عبروا عنه بدليل ( التمانع ) وهو أنه لو فرض صانعان فصاعداً فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد فيكون محالاً؛ فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر كان الغالب هو الواجب، والآخر المغلوب ممكناً، لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهوراً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علواً كبيراً، ﴿ عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾ أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه، ﴿ فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تقدس وتنزه وتعالى وعزَّ وجلَّ عما يقول الظالمون والجاحدون.
يقول تعالى آمراً نبيه محمداً ﷺ أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم ﴿ رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾ أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك فلا تجعلني فيهم؛ كما جاء في الحديث :« وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون » وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾ أي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن، ثم قال تعالى مرشداً له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صادقة وبغضه محبة، فقال تعالى :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة ﴾، وهذا كما قال :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [ فصلت : ٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين ﴾ أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف، وفي الصحيح :« أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه » وقوله تعالى :﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ أي في شيء من أمري، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور، وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور، ولهذا روي أن رسول الله ﷺ كان يقول :« اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم، ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت » وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله ﷺ يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع :« باسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون » قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيراً لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه.
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، ولهذا قال :﴿ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ كقوله :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ الشورى : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] الآية، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وهم في غمرات عذاب الجحيم، وقوله هاهنا :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ﴾ كلا حرف ردع وزجر أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه. وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ﴾ قال ابن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله ﴿ كَلاَّ ﴾ أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو كلام منه وقول لا عمل معه، ولو رد لما عمل صالحاً ولكان يكذب في مقالته هذه، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]. قال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ، فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار. وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة : إذا قال الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً يقول الله تعالى : كلا كذبت، وكان العلاء بن زياد يقول : لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط، فاعملوا بها ولا قوة إلا بالله. وعن أبي هريرة قال : إذا وضع - يعني الكافر - في قبره فيرى مقعده من النار، قال : فيقول رب ارجعون أتوب وأعمل صالحاً، قال : فيقال : قد عمرت ما كنت معمراً، قال : فيضيّق عليه قبره ويلتئم فهو كالمنهوش ينام ويفزع تهوي إليه هوام الأرض وحيَّاتها عقاربها. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم من قبورهم حيات سود، أو دُهْم. حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يتلقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى :﴿ وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾. قال مجاهد : البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة. وقال محمد بن كعب : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم، وقال أبو صخر : البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة فهم مقيمون إلى يوم يبعثون، وفي قوله تعالى :﴿ وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ ﴾ تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال تعالى :﴿ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾ [ الجاثية : ١٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث كما جاء في الحديث :« فلا يزال معذباً فيها » أي في الأرض.
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور، وقام الناس من القبور ﴿ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ أي لا تنفع الإنسان يومئذٍ قرابة ولا يرثي والد لولده ولا يلوي عليه، قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ [ المعارج : ١٠-١١ ] أي لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره، ولو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة، قال الله تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤-٣٦ ] الآية. وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد : ألا من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقه، قال : فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله، قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾. وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري » ؛ وهذا الحديث له أصل في « الصحيحين » :« فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها » وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج ( أم كلثوم ) بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول :« كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسب »، وروي الحافظ ابن عساكر عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :« كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري ».
وقوله تعالى :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة قال ابن عباس :﴿ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ أي ثقلت سيئاته على حسناته ﴿ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ ﴾ أي خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة عن أنس بن مالك يرفعه قال : إن لله ملكاً موكلاً بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفّ ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شفاوة لا يسعدها بعدها أبداً. قال تعالى :﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار ﴾، كما قال تعالى :
1737
﴿ وتغشى وُجُوهَهُمُ النار ﴾ [ إبراهيم : ٥٠ ]، وقال تعالى :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ﴾ [ الأنبياء : ٣٩ ] الآية. عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« إن جهنم لما سيق لها أهلها، تلقَّاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يق لهم لحم إلا سقط على العرقوب » وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ في قول الله تعالى ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار ﴾، قال : تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم. وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ قال ابن عباس : يعني عابسون، وقال ابن مسعود ﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ قال : ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال :« ﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ قال تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه. وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ».
1738
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم، والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ أي قد أرسلت إليكم الرسل وأنزلت إليكم الكتب وأزلت شبهكم ولم يبق لكم حجة، كما قال تعالى :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل ﴾ [ النساء : ١٦٥ ]، وقال :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، ولهذا قال :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ ﴾ أي قد قامت علينا الحجة ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها فضللنا عنها ولم نرزقها، ثم قالوا :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ أي أرددنا إلى الدنيا فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قال :﴿ فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ غافر : ١١ ] ؟ أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشكرون بالله إذا وحده المؤمنون.
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار، والرجعة إلى هذه الدار، يقول ﴿ اخسئوا فِيهَا ﴾ أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء ﴿ وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي. قال ابن عباس ﴿ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه. وروى ابن أبي حاتم : عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون، قال : هانت دعوتهم والله على ( مالك ) ورب مالك؛ ثم يدعون ربهم فيقولون :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦-٧ ] قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم :﴿ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ قال : فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق، وقال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحداً يعني من جهنم غيَّر وجوههم وألوانهم، فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع، فيقول : يا رب، فيقول الله من عرف أحداً فليخرجه، فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر، فلا يعرف أحداً فيناديه الرجل : يا فلان أنا فلان. فيقول : ما أعرفك، قال : فعند ذلك يقولون :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٧ ] فعند ذلك يقول الله تعالى :﴿ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد؛ ثم قال تعالى مذكراً لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً ﴾ أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي ﴿ حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ أي حملكم بغضهم على أن أنسيتم معاملتي ﴿ وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ أي من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩-٣٠ ] أي يلمزونهم استهزاء؛ ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين، فقال تعالى :﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا ﴾ أي على أذاكم لهم واستهزائكم بهم ﴿ أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون ﴾ أي جعلتهم هم الفائزين بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.
يقول تعالى منبهاً لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون، ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ ﴾ أي كم كانت إقامتكم في الدنيا؟ ﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين ﴾ أي الحاسبين، ﴿ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي مدة يسيرة على كل تقدير ﴿ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيء، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة، فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا، وفي الحديث :« إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم، قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم، فيقول بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين » وقوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا؟ وقيل : للعبث لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ أي لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [ القيامة : ٣٦ ] يعني هملاً، وقوله :﴿ فَتَعَالَى الله الملك الحق ﴾ أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم ﴾ فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل، كما قال تعالى :﴿ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٧ ].
وكان آخر خطبة خطبها ( عمر بن عبد العزيز ) أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس إنكم لم تخلقا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض ألم تعلموا أنه لا يؤمن عذاب الله غداً إلا من حذر هذا اليوم وخافه، وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردون إلى خير الوراثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عزَّ وجلّ قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، فد فارق الأحباب وباشر التراب، وواجه الحساب، مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم، فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم؛ ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
1741
وروى أبو نعيم عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال : بعثنا رسول الله ﷺ في سرية، وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ ؟ قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا، وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة : باسم الله الملك الحق، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ».
1742
يقول تعالى متوعداً من أشرك به غيره وعبد معه سواه، ومخبراً أن من أشرك بالله لا برهان له، أي لا دليل له على قوله، فقال تعالى :﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ وهذه جملة معترضة، وجواب الشرط في قوله :﴿ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ أي الله يحاسبه على ذلك؛ ثم أخبر ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون ﴾ : أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة. قال قتادة :« ذكر لنا أن النبي ﷺ قال لرجل :» ما تعبد؟ « قال : أعبد الله وكذا وكذا حتى عدّ أصناماً، فقال رسول الله ﷺ :» فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك؟ « قال : الله عزَّ وجلَّ، قال :» فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها؟ « قال : الله عزَّ وجلَّ، قال :» فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه « قال : أردت شكره بعبادة هؤلاء معه، فقال رسول الله ﷺ :» تعلمون ولا يعلمون «، فقال الرجل بعدما أسلم : لقيت رجلاً خصمني » وقوله تعالى :﴿ وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين ﴾ هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء، فالغفر إذا أطلق، معناه محو الذنب وستره عن الناس، والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.
Icon