تفسير سورة الرعد

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الرعد مكية أو مدنية وهي ثلاث وأربعون آية وست ركوعات.

﴿ المر ﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم وأرى، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ أي : تلك الآيات التي في هذه السورة آيات القرآن، ﴿ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ أي : القرآن كله، ﴿ الْحَقُّ ﴾ لا هذه السورة وحدها وهو خبر والذي، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ١لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ لما فيهم من العناد.
١ لما ذكر أن المنزل هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون على سبيل الزجر والتهديد ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد فقال: ﴿الله الذي﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ﴾ أي : أساطين جمع عماد أو عمود، ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾، صفة لعمد، وعن بعض السلف أن عمدا ولكن لا ترى، أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم للسماوات كذلك فضمير المؤنث حينئذ للسماوات، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى١ عَلَى الْعَرْشِ ﴾، قال السلف : الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وقيل : علا٢ عليه، ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ ذللهما لما أراد منهما، ﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي : لدرجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليهما لا يجاوزانها، أو إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا، ﴿ يُدَبِّرُ٣ الأَمْرَ ﴾ : جميع أمور ملكوته، ﴿ يُفَصِّلُ الآيَاتِ ﴾ : يوضحها، وينزلها مفصلة، ﴿ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ : لكي تتفكروا فيها فتعلموا كمال قدرته بحيث لا يعجز عن الإعادة والجزاء.
١ وقال الإمام أبو الحسن على بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري في كتاب مشكل الآثار له في باب قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" (طه: ٥): اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه ومعني الاستواء الاعتلاء كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي واستوى الطير على عمى رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي، فالقديم جل جلاله وتعالت عظمته عال على عرشه بذاته بائن من مخلوقاته بقوله: "أأمنتم من في السماء" (الملك: ١٦)، وقوله: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي" (آل عمران: ٥٥)، وقوله: "ثم يعرج إليه" (السجدة: ٥)، وزعم البلخى أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق، إذا ا استولى عليها، فالجواب أن الاستواء هاهنا ليس بمعنى الاستيلاء، لأن الله مستول على العرش وعلى جميع مخلوقاته من حين أوجدهم، كما هو المعلوم من الدين بالضرورة، فلا معنى حينئذ لتخصيص العرش بالاستيلاء عليه من دون سائر خلقه، فبان بذلك بطلان قوله، وكذلك أيضا أن الاستواء هاهنا ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا أي: استولى، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنا والبارئ عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا تعالى الله عن ذلك علوا كبرا انتهى.
و قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين: إن الله تعالى على عرشه كما قال: "الرحمن على العرش استوى" (طه: ٥)، و ذكر كلاما طولا إلى أن قال: فلولا أن الله تعالى على عرشه ما قال في حق ملائكته: "يخافون ربهم من فو قهم" (النحل: ٥٠)، ولما فطر الخلق عند سؤاله على رفع الأيدي إلى السماء، قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى استوى استولى وملك وقهر مما يفيد التجدد والحدوث في الملك ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ بل هو مستول ومالك وقاهر على العرش وعلى جميع مخلوقاته من حين خلقهم وقالوا: إنه في كل مكان وجحدوا أن يكون على عرشه، كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة، لأنه قادر على كل شيء وكيف يكون في كل مكان ومنه الحشوش والخانات والمزابل وما أشبه ذلك من الأماكن المستقذرة ـ تعالى الله عن علوا كبيرا ـ ولم يخبر عند أحد من المسلمين أن يكون الله في شيء من ذلك فبطل ما قالوه بالنقل والعقل وذكر أدلة من الكتاب والسنة والعقل سو ى ذلك /١٢..

٢ قال البغوي في تفسيره وجزم به بلا ذكر الاختلاف، وفي صحيح البخاري قال مجاهد: استوى على العرش: علا على العرش، ونقل الذهبي عن محمد بن جرير الطبري في قوله: "ثم استوى العرش الرحمن" (الفرقان: ٥٩)، أي: علا وارتفع فأيضا نقل عنه أنه قال في تفسير قوله: ثم استوى العرش في كل مواضعه أي: علا وارتفع وقد مر البحث مستوفي في سورة الأعراف فارجع إليه /١٢..
٣ وهذا التدبير والإنقاذ والإمضاء وهو من فوق العرش وهو ظاهر نظم القرآن الكريم/١٢ فتح..
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ١ الأَرْضَ ﴾ : بسطها، ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ : جبالا ثوابت، ﴿ وَأَنْهَارًا ﴾ : ضمها مع الجبال فإنها تخرج من الجبال أكثرها، ﴿ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، ظرف لقوله :﴿ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ أي : صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوا وحامضا قيل : أول ما خلق العالم خلق ن كل نوع من الأشجار اثنين فقط كما خلق الإنسان من زوجين ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ : يلبسه مكانه فيصير مظلما بعدما كان مضيئا، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ : فيما فيها من الصنائع والبدائع.
١ لما قدر الدلائل السماوية أردفها بالدلائل الأرضية فقال: "هو الذي مد الأرض"/١٢ كبير..
﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ : بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة صلبة إلى رخوة ومن غير ذلك وهي دالة على قدرته واختباره، ﴿ وَجَنَّاتٌ ﴾ : بساتين، ﴿ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ ﴾ هي : نخلة لها رأسان وأصلها واحد، ﴿ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ : مختلفة الأصول، ﴿ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ ﴾ : في الثمر طعما وشكلا، ورائحة وقدرا مع أنها تستمد من طبيعة واحدة وهي الماء، بل وبعضها من أصل واحد فسبحانه من قادر و مختار ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ : يستعملون عقولهم.
﴿ وَإِن تَعْجَبْ ﴾ : يا محمد من إنكارهم النشأة الآخرة، ﴿ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ١ أي : فعجبت في موضعه حقيق بأن تتعجب، أو أن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما حكموا بصدقك فاعجب من قولهم أو تعجب من شيء فاعجب من قولهم :﴿ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا ﴾ مرفوع بأنه بدل من قولهم أو منصوب به وإذ نصب بما دل عليه قوله :﴿ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾ : هم الكاملون في الكفر، ﴿ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ﴾ : يوم القيامة يسحبون بها في النار، ﴿ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾.
١ اعلم أنه أخطأ صاحب الفتح هاهنا خطأ بينا وغلط غلطا فاحشا حيث قال ناقلا عن القرطبي: والله تعالى لا يجوز عليه التعجب لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وذلك في حق الله محال انتهى.
أقول هذا بناء عل أصل فاسد وضعه نفاة الصفات فنفوا ذلك كثيرا من الصفات التي ثبتت في الكتاب والسنة كالرحمة، والغضب، والمحبة، والرضاء، والضحك والتعجب يقولون: إن هذه انفعالات نفسانية والله تعالى منزه عنها ول يدرون أنها انفعالات فينا لا في الله تعالى ـ تعالى عن ذلك ـ وكما أن ذاته تعالى ليس كذوات المخلوقات وصفاته أيضا لا يشابه صفات المخلوقين، وبيان ذلك أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق منفعل، ونحن و ذواتنا منفعلة فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها لا يوجب أن يكون إلا ما يشاء، و لا يشاء إلا ما يكون، له الملك وله الحمد وأما قولهم التعجب استعظام للمتعجب منه، فيقال: نعم، وقد يكون مقرونا بجهل بسبب المستعجب منه وقد يكون لما خرج عن نظائره والله تعالى بكل شيء عليم فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما يعجب منه، بل يتعجب منه لخروجه عن نظائره تعظيما، والله تعالى يعظم ما هو عظيم، إما لعظمه أو لعظمته فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم ووصف بعض الشر بأنه عظيم فقال تعالى: "رب العرش العظيم" (التوبة: ١٢٩)، وقال: "ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم" (الحجر: ٨٧)، وقال: "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا بهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما" (النساء: ٦٦، ٦٧)، وقال: "لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم" (النور: ١٦)، وقال: "إن الشرك لظلم عظيم" (لقمان: ١٣)، ولهذا قال تعالى: "بل عجبت ويسخرون" (الصافات: ١٢)، على قراءة الضم فهنا هو عجب من كفرهم مع وضوح الأدلة وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آثر هو وامرأته لضيفهما: "لقد عجب الله من صنيعكما البارحة" [أخرجه البخاري في "التفسير"، (٤٨٨٩) ومسلم في الأشربة"، (٤/٩٤٧) ط الشعب]، وفي لفظ في الصحيح "لقد ضخك الله الليلة" [أخرجه البخاري في "مناقب الأنصار"،(٣٧٩٨)]، وقال: "إن الرب ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول الله: "علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا" [أخرجه أحمد (٧٥٣ ط شاكر) و أبو داود (٦٢٠٢)، والترمذي (٣٤٤٣) وغيرهم، وانظر صحيح الجامع (٢٠٦٩)، والصحيحة (١٦٥٣)]، وقال: "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" [ضعيف، أخرجه أحمد والطبراني عن عقبة بن عامر مرفوعا، وانظر ضعيف الجامع (١٦٥٨)]، وقال: "عجب ربك من راعي غنم على رأس جبل شظية ـ يؤذن و يقيم، فيقول الله: "انظروا عبدي" [صحيح، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن عقبة مرفوعا، وانظر صحيح الجامع (٨١٠٢)، وراجع الإرواء]، أو كما قال: ونحو ذلك هكذا قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد لحليم بن تيمية ـ قدس الله روحه /١٢..

﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ﴾ : بالعقوبة، ﴿ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ أي : العافية سألوا نزول العذاب استهزاء أو يطلبون النقمة لا النعمة كقولهم :" عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب "، ﴿ وَقَدْ خَلَتْ ﴾ مضت ﴿ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ ﴾ : عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ ﴾ أي : لذو إمهال وستر، ﴿ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ : على كفرهم ومعاصيهم، وإن فسرت المغفرة بالعفو فعلى ظلمهم خال ولابد أن يفسر الظلم بمعاصي غير الكفر، ولا يناسب المقام فإنه إن فسرت بما يعمه فلا يخفى١ أن العفو من غير توبة فلا يصح بمذهب، وإن كان بعد التوبة فلا يلائم، لأنهم بعد التوبة ليسوا على الظلم، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ : لمن شاء.
١ في الأصل المطبوع: "فلا يخ" ولعل الصواب ما أثبت..
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا ﴾ : هلا، ﴿ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾، لم يعتدوا بالآيات الباهرات واقترحوا مثل ما أوتي موسى وعيسى، ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ﴾ : لا عليك الإتيان بما اقترحوا كجعل الصفا ذهبا، ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ : نبي مخصوص يدعوهم إلى الهدى، أو معناه أنت منذر ولكل قوم هدا يهديهم إذا أراد، وهو الله، وعن بعض السلف الهادي على بن أبي طالب١ رضي الله عنه وأيضا في ذلك ٢ حديث ؛ لكن قيل فيه نكارة شديدة٣.
١ روي عن ابن عباس في أحد الروايات قاله ابن أبي حاتم، وعن أبي جعفر محمد بن علي نحو ذلك ونقل ابن أبي حاتم عن علي أنه قال: الهادي رجل من بني هاشم، قال بن الجنيد: هو علي بن أبي طالب/١٢ منه..
٢ ذكره ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع عليه الصلاة والسلام يده على صدره فقال: "أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب على فقال: أنت الهدي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي" /١٢..
٣ قاله الشيخ عماد الدين ابن كثير /١٢ منه. [تفسير ابن كثير(٢/٥٠٢)]..
﴿ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ١ كُلُّ أُنثَى ﴾ من ذكر وأنثى سوى الخلق أو ناقصة، واحد وأكثر، ﴿ وَمَا تَغِيضُ ﴾ : تنقص، ﴿ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ : في مدة الحمل أو عدد الولد أو المراد نقصان غذاء وازدياده وهو دم الحيض وغاض وازداد جاءا لازمين ومتعديين، فإن كانا لازمين تعين أن يكون ما مصدرية، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ : بقدر معلوم وحد لا يجاوزه، وعنده ظرف للمقدار.
١ ولما تقدم إنكارهم البعث لتفتت الأجراء بحيث لا يتميز بينها نبه على إحاطة علمه بالخفيات فقال: "الله يعلم ما تحمل" ا لآية/١٢ وجيز..
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾، ما غاب عن الخلق وحضر، ﴿ الْكَبِير ﴾ : العظيم القدر، ُ ﴿ الْمُتَعَالِ١ : المستعلى على كل شيء أو متعال عما لا يليق بكماله.
١ أو المتعالي على الخلق باستوائه على عرشه، و مبائنته عن خلقه وهو الأولى/١٢ فتح البيان..
﴿ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَر بِهِ ﴾ كما يحيط علمه بعلانيته يحيط بسره، ﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ﴾ : طالب للخفاء، ﴿ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ : بارز به يراه كل أحد، وهو إما عطف على من أو على مستخف على أن من في معنى الاثنين كأنه قال : سواء منكم اثنان مستخف وسارب.
﴿ لَهُ ﴾ الضمير لمن، أي : لمن أسر وجهر واستخفى وسرب، ﴿ مُعَقِّبَاتٌ ﴾ : ملائكة يعقب بعضهم بعضا في الليل والنهار، ﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ : ملكان من قدامه وورائه، ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ﴾ : من بأسه وبلائه، أو من أجل الله وبإذنه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وعن بعض السلف المعقبات الحرس١ حول السلطانِ يحفظونه بزعمهم من أمر الله قيل : مراده بهذا أن حرس الملائكة تشبه حرس هؤلاء لملوكهم، ﴿ إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ﴾ : من النعمة أو النقمة، ﴿ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ : من الأحوال الجميلة أو القبيحة وقد ورد " قال الرب : وعزتي٢ وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجال ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لخم عما يكرهون من عذابي ما يحبون من رحمتي ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ : لا راد له، ﴿ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ : يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء.
١ قاله عكرمة وابن عباس والضحاك و الظاهر أن مرادهم أنه ينكر عليهم اتخاذ الحرس فإنهم يحفظونه ولا يمكن الحفظ منه/١٢ منه..
٢ نقله الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال الشيخ ابن كثير: وهذا غريب وفي إسناده من لا أعرفه [تفسير ابن كثير(٢/٥٠٥)]، هذا ما في المنهية وفي الوجيز نقله الترمذي في أربعينه وصححه/١٢..
﴿ هُوَ الَّذِي١ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ نصبهما بالمفعول له بتقدير إرادة خوف وطمع، أو التأويل بالإخافة والإطماع، وعن بعض السلف الخوف للمسافر والطمع للمقيم، ﴿ وينشئ ﴾ : يخلق، ﴿ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ : من كثرة الماء.
١ ولما خوف عباده بقوله: "وإذا أراد الله" أتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرته وحكمته تشبه النعم من وجه والنقم من وجه فقال: "هو الذي" الآية/١٢ وجيز..
﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ ﴾ هو اسم لهذا الصوت أو الملك موكل١ بالسحاب، ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾ : متلبسا بحمده، ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ : من خوف الله تعالى، ﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا ﴾ : فيهلك، ﴿ مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ ﴾ : يكذبون آياته ورسله، والواو للحال أو للعطف نزلت٢ في كافر قال : مم ربك ؟ من ذهب أو فضة أو لؤلؤ، وهو يجادل إذ أخذته صاعقة فأحرقته، ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ٣ : الحول أو القوة أو الأخذ أو المحال المماحلة وهي شدة المماكرة والمكائدة.
١ كما في حديث رواه الإمام أحمد والترمذي/١٢. [صحيح، أخرجه أحمد (١/٤٧٢) والترمذي(٤/١٦٩)، وغيرهما، راجع الصحيحة(١٨٧٢)]..
٢ نقله الحافظ أبو يعلى و البزار /١٢ وجيز..
٣ وفي الشواذ بفتح الميم مفعل من حال يحول إذا احتال /١٢ وجيز..
﴿ لَهُ ﴾ : الله، ﴿ دَعْوَةُ١ الْحَقِّ ﴾ : دعوة الحق التوحيد، وقيل : معناه العبادة والدعاء الحق لا الباطل، كان له لا لغيره، ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾ : الأصنام، ﴿ مِن دُونِه ﴾ : من دون الله تعالى، أو المراد من الذين الأصنام، أي : الأصنام الذين يدعونهم من دون الله، ﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ ﴾ أي : الأصنام، ﴿ لَهُم ﴾ : لعبادهم، ﴿ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ ﴾ : إلا استجابة كاستجابة من بسط، ﴿ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ ﴾ : يطلب منه أن يبلغ، ﴿ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾ : لأن الماء جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر أن يصل إلى فيه كالأصنام وعن بعض السلف كمثل الذي يناول الماء من كرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا، يبلغ فاه ؟ ! وعن بعض معناه مثلهم كمثل من بسط كفيه ناشرا أصابعه والماء لا يبقى في الكف إذا نشرت الأصابع، ﴿ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ : في ضياع٢ لا منفعة فيه أو دعاؤهم ربهم إلا في ضلال ؛ لأن لأصواتهم محجوبة عن الله تعالى.
١ اعلم أن نوع من أنواع العبادات المطلوبة من العباد ولو لم يكن في الكتاب العزيز إلا مجرد طلبه منهم لكان ذلك مفيدا للمطلوب قال الله تعالى: "ادعو ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين" (الأعراف: ٥٥، ٥٦)، وقال سبحانه: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" (الإسراء: ١١٠)، فهذه البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله عز وجل من عباده وهذا القدر يكفي في إثبات كونه عبادة فكيف إذا انضم إلى ذلك النهي من دعاء غير الله تعالى قال سبحانه: "فلا تدعوا مع الله أحدا} (الجن: ١٨)، وقال تعالى: "له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء" وقال سبحانه ناعيا على من يدعو غيره ضاربا الأمثال "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" (الأعراف: ١٩٤)، وقال تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون لله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض" (سبأ: ٢٢)، فكيف إذا صرح القرآن الكريم بأن الدعاء عبادة تصريحا لا يبقى عنده ريب لمرتاب قال الله سبحانه: "ادعوني استجب لكم إن الذي يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" (غافر: ٦٠)، و مع هذا كله فقد جاءت السنة المطهرة بما يدل أبلغ دلالة على الدعاء من أكمل أنواع العبادة فأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة والحاكم من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الدعاء هو العبادة" [صحيح، وانظر صحيح الجامع (٣٤٠٧)، وقي رواية مخ العبادة"، ثم قرأ رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ الآية المذكورة [ضعيف، وانظر ضعيف الجامع (٣٠٠٣)]، فهذه القضية الشريفة قد اشتملت على تعريف المسند إليه و تعريف المسند وعلى ضمير الفصل، وقد صرح أهل المعاني والبيان والأصول بأن كل و احد من هذه الثلاثة آلة من آلات الحصن وإن وجد أحدها يقتضيه، فكيف إذا اجتمعت جميعا وانضم إليها حرف التأكيد/١٢ قاضي محمد بن علي الشوكاني في بعض رسائله/١٢..
٢ في الوجيز نقله عن ابن عباس /١٢..
﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ ﴾ : ينقاد ويخضع، ﴿ مَن فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ : الملائكة، ﴿ وَالأَرْضِ ﴾ : الثقلين، ﴿ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ نصبهما بالمفعول له أو بالحال قيل : المراد من السجدة وضع الجبهة وهو من المؤمنين بالطوع ومن الكفرة وقت الضرورة١ قيل : اللفظ عام والمراد منه الخصوص، ﴿ وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾ : في هذين الوقتين يسجد ظلال الكافر والمؤمن بكيفية لا نعرف، وهل يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال عقولا يسجد لخالقه كما خلق في الجبال وتجلى له والمؤولة يؤولونها إلى تصريفه إياه بالمد والتقليص فقالوا : تخصيص الوقتين لأن المد والتقليص فيهما أظهر والأظهر أن بالغدو ظرف ليسجد والتخصيص لأنهما أشرف أوقات العبادة أو المراد بهما الدوام.
١ قال الله تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله" (العنكبوت: ٦٥)/١٢ منه..
﴿ قُلْ مَن١ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قل الله ﴾ أجاب عنهم فإنهم مضطرون إلى هذا لجواب ﴿ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ ألزمهم بأنكم تأخذون الأصنام ربا مع أنكم تسلمون أن الله تعالى َرب السماوات والأرض، ﴿ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ﴾ : لا يقدرون على أن ينفعوا أنفسهم ويدفعوا عنها ضرا، فكيف يملكون لكم ؟ ! ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ : فلا يستوي المؤمن والكافر، وقيل المراد : هل يستوي الإله الغافل عنكم والإله المطلع على أحوالكم ؟، ﴿ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾ فلا يستوي الكفر والإيمان، ﴿ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء ﴾ : بل أجعلوا والهمزة للإنكار، ﴿ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ ﴾ صفة لشركاء، ﴿ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ ﴾ : خلق وخلق الشركاء، ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أي : ما اتخذوا شركاء خالقين حتى يتشابه عليهم الأمر، فيقولوا : هؤلاء خالقون كما أن الله تعالى خالق فاستحقوا العبادة أيضا، بل اتخذوا شركاء من أعجز الخلق، ﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ : وحده لا شريك له فلا تشركوا في عبادته غيره، ﴿ وَهُوَ الْوَاحِدُ ﴾ : بالألوهية، ﴿ الْقَهَّارُ٢ : الغالب.
١ قال الحافظ عماد الدين بن كثير عند قوله تعالى: "قل من رب السماوات والأرض": يقدر تعالى لأنه لا إله إلا هو لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو ربها ومدبرها ومع هذا قد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم وإنما كان عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم يعترفون أنها مخلوقة عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وكما أخبر عنهم قوله ـ تعالى: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (الزمر: ٣)، فأنكر ـ تعالى ـ ذلك عليهم حيث اعتقدوا ذلك، وهو ـ تعالى ـ لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، و لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له، ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم يزجرهم عن ذلك وينهاهم عن عبادة ما سوى الله فكذبوهم / انتهى ١٢..
٢ ولما وصف نفسه الأقدس بأنه القهار أتبعه بذكر مثال نافع من قهره وغلبته فقال: "أنزل من السماء" /١٢ وجيز..
﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ ﴾ جمع واد، وهو موضع يسيل فيه الماء، فنسبة السيل مجاز للمبالغة، ﴿ بِقَدَرِهَا ﴾ أي : أحذ كل واد بحبسه، فالكبير يسع الكثير، والصغير يسع القليل، قيل : بمقدارها الذي علم الله أنه نافع، ﴿ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا ﴾ أي : الزبد الذي يظهر على وجه الماء من غليانه، ﴿ رَّابِيًا ﴾ : مرتفعا على وجه السيل، ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ ١عَلَيْهِ فِي النَّارِ ﴾ أي : جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، ﴿ ابْتِغَاء ﴾ : طلب، ﴿ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ ﴾ : كالأواني وآلات الحرث والحرب، ﴿ زَبَدٌ مِّثْلُه ﴾ أي : مما توقدون عليه زبد مثل زبد الماء ومن للابتداء أو للتبعيض، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ﴾ أي : مثلهما، فالحق كالماء الذي ينتفع به الناس بقدر وسع أنهارهم وأوديتهم، ويمكث في الأرض وكالجواهر الأرضية المنتفعة بها في صواغ الحلي والأمتعة عنها ويدوم نفعها والباطل كالزبد الذي ليس له نفع ويزول بسرعة وإن علا بعض الأحيان على الماء الصافي وعلى الجواهر حين أذيبت، وعن بعض السلف أراد من الماء القرآن٢، ومن الأودية القلوب احتملت القلوب منه على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله، وقالوا أيضا : العمل السيئ يضمحل عن أهله كالزبد لا نفع له و لا يبقى وأما من عمل بالحق كان له ويبقى كما يبقى الماء الصافي والجواهر الخالصة، ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء ﴾ أي : يرمى به السيل منصوب على الحال، ﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ : كالماء الصافي وخلاصة الفلزات، ﴿ فَيَمْكُثُ٣ فِي الأَرْضِ ﴾ وبه ينتفع الخلق، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ﴾ : للإيضاح والتبيين.
١ أي: و مما توقدون ينشأ زبد الماء أو بعضه زبد مثله /١٢..
٢ و في الحديث الصحيح يؤيد هذا التأويل وهو"مثل ما بعثت به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضا منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت، ومنها أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به، بسقيهم وزرعهم، ومنها قيعان فلا يمسك ولا ينبت" /١٢ وجيز. [أخرجه البخاري في "العلم"، ومسلم في "الفضائل"، (٢٢٨٢)]..
٣ بدأ بالزبد إذ هو المتأخر والباطل كناية عنه، وهو أيضا متأخر و هذه طريقة حسنة، يبدأ بتقسيم ما ذكر آخرا ليكون بجنيه نحو: "يوم تبيض وجوه وتسود وجود فأما الذين اسودت وجوههم" (آل عمران: ١٠٦)، وقد يكون الأمر بالعكس نحو: "فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا" (هود: ١٠٥)، فكان الله أعلم يبدأ بما هو أهم بالمقصود والذكر /١٢ وجيز..
﴿ لِلَّذِينَ١ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ﴾ وهم المؤمنون، ﴿ الْحُسْنَى ﴾ : المثوبة الحسنى وهي الجنة مبتدأ، والذين استجابوا خبره، ﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ﴾ وهم الكفرة مبتدأ وقوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ﴾ خبره، أي : لو كان لهم جميع الدنيا ومثله في دار الآخرة٢ لافتدوا به للتخلص من عذابه، قيل : ضرب المثل لبيان الفريقين، فقوله :" للذين " متعلق بيضرب، والحسنى صفة مصدر، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى، " لو أن لهم " إلخ. . . كلام مبتدأ لبيان مآل الفريق الآخر، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ﴾ : المناقشة فيه وعدم غفر شيء من ذنبه، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ ﴾ : مرجعهم، ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ جهنم، أي : المستقر.
١ ولما ضرب المثل للحق والباطل انتقل ما لأهلهما من الثواب و العقاب، فقال: "للذين استجابوا" /١٢ وجيز..
٢ وهم في الدنيا بخلوا بقليل منها /١٢..
﴿ أَفَمَن١ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ : فيؤمن به، ﴿ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ : القلب لا يعلم فلا يؤمن، والهمزة لإنكار تشابههما، ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ : العقول السليمة.
١ ولما بين حال المجيب ومن لم يجب أراد أن يبين أن بينهما بونا بعيدا فقلا: "أفمن يعلم أنما أنزل" /١٢ وجيز..
﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ : بما أمرهم في كتابه، أو بالعهد الذي أخذ منهم حين أخرجهم من صلب آدم، ﴿ وَلاَ ينقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ : ذلك الميثاق أو مطلق الميثاق.
﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ : من صلة الرحم والإيمان بجميع الرسل ومراعاة الحقوق، ﴿ وَيَخْشَوْن ١رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ٢
١ فلا يتجاوزون عن أمره /١٢..
٢ فأجابوا داعي الله، وحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا /١٢ وجيز..
﴿ وَالَّذِينَ١ صَبَرُواْ ﴾ : على الأمر الله تعالى أو على المصائب، ﴿ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ : طلب مرضاته، ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ : بحدودها وبركوعها وسجودها على الوجه الشرعي، ﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ يؤدون الزكاة أي : من يجب عليه، ﴿ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً٢ : لم يمنعهم عن ذلك حال من الأحوال في الليل والنهار وفسر بعضهم بوجه يشمل صدقة التطوع وهو الأولى، ﴿ وَيَدْرَؤُونَ ﴾ : يدفعون، ﴿ بِالْحَسَنَةِ٣ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : بالصالح٤، من العمل السيئ منه، أو يجازون الإساءة بالإحسان، إذا أذاهم أحد قابلوه باللطف، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ : عاقبة الدنيا وهي الجنة ؛ لأنها التي ينبغي أن تكون عاقبة أهلها ومرجعهم.
١ فيما يليق فيه الصبر جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي بخلاف ما تقدم، لأن حصول تلك الصلات إنما هي مرتبة على حصول الصبر وتقدم عليها لذلك لم تر صلة في القرآن بالصبر إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط مقدم على حصول التكاليف /١٢ وجيز..
٢ والأولى تعميم الإنفاق لتكون السر لصدقة التطوع والعلانية للواجب /١٢ وجيز..
٣ فيه إشارة إلى التخلص من السيئة متعذر كما ورد:
إن تغفر اللهم تغفر جما *** فأي عبد لك لا ألما
قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قرأ إلا اللمم /١٢ وجيز. [صحيح، أخرجه الترمذي والحاكم عن ابن عباس مرفوعا، وانظر صحيح الجامع(١٤١٧)]..

٤ كما ورد في الحديث "أتبع السيئة الحسنة تمحها" [حسن، أخرجه الإمام أحمد و أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم عن أبي ذر مرفوعا، وانظر صحيح الجامع]..
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ : بدل من عقبى الدار، والعدن الإقامة، أي : جنات يقيمون فيها، أو في الجنة قصر يقال له عدن له خمسة آلاف باب، أو مدينة من الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد، والجنات حولها، ﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾ : صفة جنات عدن، ﴿ وَمَنْ صَلَحَ ﴾ عطف على فاعل يدخلون وجاز للفصل بالضمير، ﴿ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ يعني يلحق بهم من صلح من أهلهم و إن لم يبلغ مبلغهم كرامة١ لهم، ﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ : من أبواب منازلهم للتهنئة قائلين ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.
١ كما قال تعالى: "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان" الآية (الطور: ٢١)/١٢ وجيز..
﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ متعلق بما تعلق عليه عليكم أو تقدير هذه بما صبرتم والباء للسببية أو البدلية، ﴿ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ : جنة العدن.
﴿ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ : بعد ما أوثقوه وأقروا وهذا قسيم الأولين، َ ﴿ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ : بالكفر والمعاصي، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ أي : سوء عاقبة الدنيا وهو جهنم.
﴿ اللّهُ يَبْسُطُ١ : يوسع، ﴿ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ﴾ : يضيقه، ﴿ وَفَرِحُواْ ﴾ أي : مشركو مكة، ﴿ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : فرح بطر وأشر، ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي ﴾ : جنب، ﴿ الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾ : نزر قليل مثل ما يستمع به الراكب كتميرات٢.
١ ولما كان كثير من الأشقياء في نعم دنيوية وكثير من السعداء في ضنك من العيش، وهذا أمر مشكك أراد تبيين ما هو حقيقة الأمر فقال: "الله يبسط" /١٢ وجيز..
٢ قال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي، يزوده أهله الكف من التمر، أو الشيء من الدقيق أو يشرب عليه اللبن / ١٢ فتح..
﴿ وَيَقُولُ١ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ كما قالوا :" فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الأنبياء : ٥ )، حتى نعلم حقيقتها فنؤمن بها، ﴿ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ﴾ كما أضلكم بأن طلبتم الآية بعد تلك الآيات البينات، ﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ ﴾ : يرشد إلى دينه، ﴿ مَنْ أَنَابَ ﴾ : من أقبل إليه ورجع عن العناد وحاصل الجواب أن الله أنزل آيات بينات دالة على صدقه بأوضح وجه لكن الله تعالى هو المضل والهادي وقد أضلكم الله تعالى فلا تهتدون إلى تلك الآيات، بل وإن أنزلت كل آية ما اهتديتم بها.
١ ولما كان الفساد واللجاج من لوازم البطر و الفرح عقبه بقوله: "ويقول الذين كفروا" /١٢..
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، بدل من " من "، ﴿ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم ١بِذِكْرِ اللّهِ ﴾ : بالقرآن فلا يشكون فيه أو تطيب وتسكن قلوبهم عند ذكره أنسا به، ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ : تسكن إليه ويزول عنها القلق، وعن ابن عباس هذا في الحلف إذا حلف المسلم في شيء يشك أخوه المسلم فيه اطمئن قلبه.
١ قيل: بذكر دلائله الدالة على وحدانيته/١٢ منه..
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ مبتدأ، ﴿ طُوبَى لَهُمْ ﴾ خبره وهو مصدر لطاب كبشرى قلبت ياؤه واوا والضمة ما قبلها، عن ابن عباس رضي الله عنهما أي : فرح وقرة عين، أو اسم الجنة بلغة١ الحبشة، أو شجرة في الجنة، وذكروا في وصفها ما يطول الكتاب بذكره، ﴿ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ أي : حسن المنقلب.
١ هكذا قاله أبو هريرة وابن عباس أيضا وكثير من السلف/١٢ منه..
﴿ كَذَلِكَ١ : مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن، ﴿ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ ﴾ : مضت، ﴿ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي : القرآن، ﴿ وَهُمْ ﴾ الواو للحال، ﴿ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ : بالبليغ الرحمة، لا يشكرونه، نزلت في قريش حين قيل لهم :" اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن " ( الفرقان : ٦٠ )، أو في أبي جهل حين قال : إن محمدا يدعوا إلهين الله وإلها آخر يسمى الرحمن، ﴿ قُلْ هُوَ ﴾ أي : الرحمن، ﴿ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ : مرجعي.
١ ولما ذكر أن أمته صارت فرقتين أراد أن يبين أن فرقة الضلال خلف لسلفهم لا أن إرسالك وضلالتهم شيء بدع غير معهود، فقل: ﴿كذلك أرسلناك﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَلَوْ أَنّ١ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ﴾ عن مقارها وزعزعت عن مضاجعها، ﴿ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ ﴾ : حتى تتصدع وتزايل قطعا شققت فجعلت أنهارا وعيونا، ﴿ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾، فتسمع وتجيب وجواب لو محذوف، أي : لكان هذا القرآن ومع هذا هؤلاء المشركون كافرون به، وقال بعضهم : تقديره لما آمنوا به، فقد نقل في سبب٢ نزوله أنهم قالوا : يا محمد لو سيرت لنا جبال مكة حتى يتسع أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان لعيسى، وقيل : جواب لو ما يدل عليه وهم يكفرون بالرحمن، وقوله قل هو ربي بينهما اعتراض، ﴿ بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا٣ هو إضراب عن معنى النفي الذي تضمنه لو أي : بل الله القدرة على كل شيء، لو يشاء إيمانهم لآمنوا به وإذا لم يشاء لا ينفعهم إتيان ما اقترحوا من الآيات، ﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ٤ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ : عن إيمانهم ولم ينقطع رجاؤهم عنه مع ما عاينوا من لجاجهم، ﴿ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ ﴾ متعلق بمحذوف، أي : علما منهم أن لو يشاء الله تعالى، ﴿ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ وقيل : متعلق٥ بآمنوا، وفسر أكثر السلف أفلم ييأس بأفلم يعلم، فقيل : هو بمعنى العلم في لغة النخع، أو هوازن، وقيل فسروه به ؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين أفلم يتبين الذين آمنوا، قيل : نزلت حين أراد المسلمون أن تظهر آية مما اقترحوا، ليجتمعوا على الإيمان، ﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ ﴾ : من خبائث أعمالهم، ﴿ قَارِعَةٌ ﴾ : داهية تفزعهم وتقتلهم، ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ ﴾ أو تصيب القارعة من حولهم، كما قال تعالى :" ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " الآية ( الأحقاف : ٢٧ )، ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ ﴾ : الموت أو القيامة وعن بعض السلف، أن المراد من الذين كفروا أهل مكة ومن القارعة السرية التي يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، أو عذاب من السماء ينزل إليهم، أو تحل أنت يا محمد بنفسك قريبا٦ من دراهم وتقاتلهم حتى يأتي وعد الله تعالى أي : فتح مكة، ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
١ ولما ذكر علة إرساله وهو تلاوته، عظم هذا الوحي فقال: "ولو أن قرآنا" الآية/ ١٢ وجيز..
٢ نقل ابن أبي حاتم عن أبي سعيد و كذا روي عن ابن عباس والشعبي وقتادة والثوري وغيرهم/١٢ منه. [وهو ضعيف]..
٣ وهذا نحو "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله" (الأنعام: ١١١)/١٢ منه..
٤ أي: ألم ييئسهم العلم بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا عن إيمانهم، فيقترحون آيات تكون سببا لإيمانهم/١٢..
٥ أي: لم يقنط الذين آمنا بأن لو يشاء الله لهدى الناس من إيمان هؤلاء الكفرة فعلى هذا مفعول ييأس كالأول محذوف /١٢ منه..
٦ ليتعظوا ويعتبروا /١٢ منه..
﴿ وَلَقَدِ١ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ : أطلت لهم المدة، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ أي : عقابي إياهم وهذا تسلية لنبينا عليه السلام.
١ ولما قال: لا تزال تصيبهم بسبب صنيعهم قارعة شرع يظهر بعض صنائعهم، فقال: استهزىء برسل من قبلك مثل تلك القبائح من عاداتهم القديمة/ ١٢ وجيز..
﴿ أَفَمَنْ ١هُوَ قَائِمٌ ﴾ : رقيب، ﴿ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ : من خير وشر فيحفظهم ويجازيهم والخبر محذوف، أي : كمن لا يكون كذلك والهمزة لإنكار المساواة، ﴿ وَجَعَلُواْ٢ ِللّهِ شُرَكَاء ﴾ عطف على كسبت أو استئناف، وقيل : نقدر الخبر المحذوف لم يوحدوه فقوله وجعلوا عطف٣ عليه، أفمن هو قائم على كل نفس موجود وقد جعلوا لله شركاء فعلى هذا الواو للحال، ﴿ قل سموهم ﴾ بأسماء من القادر أو الرازق، أو القاهر أو غيرها من مثل أسماء الله الحسنى حتى تعرفوا أنهم غير مستحقين للعبادة، ﴿ أَمْ ﴾، أي : بل، ﴿ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾، أي : تخبرون الله تعالى بشركاء لا يعلمهم، ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ وهو العالم بكل شيء، ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ﴾ أي : أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول لا حقيقة له أصلا٤، ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ﴾ : كيدهم وما هم عليه من الضلال، ﴿ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ : عن طريق الهدى، ﴿ وَمَن يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
١ ولما ذكر أن ما أصابكم ليس إلا بسبب كسبهم قال: "أفمن هو قائم" الآية /١٢ وجيز..
٢ ولما علم أن لا يساويه ولا يناسبه شيء بين جهلهم وحمقهم، فقال: "وجعلوا لله شركاء" الآية/١٢ وجيز..
٣ ويكون الظاهر فيه موضع المضمر للتنبيه على أنه المستحق للعبادة /١٢ منه..
٤ كتسمية الزنجى كافورا /١٢ منه..
﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : بالقتل والأسر وغيرهما، ﴿ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ١ : يقيهم ويمنعهم منه.
١ ولما ذكر ما أعد للكفار أخذ يذكر ما أعد للمؤمنين فقال: "مثل الجنة" الآية/١٢ الوجيز..
﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ ﴾ أي : صفتها التي هي مثل في الغرابة، ﴿ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ من الشرك وهو مبتدأ خبره مقدر أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ حال من العائد المحذوف من الصلة أو هو خبر مثل الجنة كقولك : صفة زيد أسمر أو تقديره مثل الجنة١ جنة تجري، ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ : لا ينقطع نعيمها، ﴿ وِظِلُّهَا ﴾ : كذلك، ﴿ تِلْكَ ﴾ أي : هذه الجنة، ﴿ عُقْبَى ﴾ : مآل، ﴿ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ ٢النَّارُ ﴾.
١ المثل على الوجه الخير بمعناه اللغوي وعلى الوجهين الأولين بمعنى الصفة/١٢ منه..
٢ ولما بين حال القسمين وما أعد لهما عقب ببعض من القسمين فقال: "والذين آتيناهم الكتاب" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ المراد مسلموا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ : من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، ﴿ وَمِنَ الأَحْزَابِ ﴾ أي : ومن أحزاب اليهود والنصارى، ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ أي : ما يخالف كتبهم أو رأيهم، قال بعضهم : هذا في مؤمني أهل الكتاب حزنوا بقلة ذكر لفظ الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما نزل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " ( الإسراء : ١١٠ )، فرحوا و كفر المشركون به فقالوا : وما الرحمن، ﴿ قُلْ ﴾ : لهم، ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُد١ اللّهَ ﴾ : وحده، ﴿ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ : لا إلى غيره، ﴿ وَإِلَيْهِ ﴾ : لا إلى غيره، ﴿ مَآبِ ﴾ : مرجعي للجزاء، يعني قل لهم : هذا شغلي و أمري حتى يعلموا أن إنكارهم عبادة الله مع ادعائهم واتفاقهم وجوبها.
١ قوله: "أن أعبد الله و لا أشرك به" هذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية ودخل فيه إبطال كل من أثبت معبودا سو ى الله ـ تعالى ـ سواء كان ذلك المعبود هو الشمس والقمر أو الكواكب، أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان من على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية و كما يجب عبادة الله وحده فكذلك يجب الدعوة إلى عبودية الله وحده كما قال: "إليه أدعوا وإليه متاب" /١٢ مفاتيح الغيب المعروف بالكبير للإمام الرازي..
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ أي : كما أنزلنا على قلبك الكتاب بلغاتهم، ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ أي : القرآن حال كونه، ﴿ حُكْمًا عَرَبِيًّا ﴾ : حكمه مترجمة بلسان العرب، قال بعضهم : سماه حكما ؛ لأنه منه يحكم في الوقائع، أو لأن الله تعالى حكم على الخلق بقبوله، ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ : بحقيقة ما معك وبطلان ما معهم، ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ : ينصرك، ﴿ وَلاَ وَاقٍ ﴾ : يمنع العقاب عنك وهذا في الحقيقة وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ : نساء وأولاد كما هي لك، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ليست همة هذا الرجل إلا في النساء، ﴿ وَمَا كَانَ ﴾ : ما صح، ﴿ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ ﴾ : خارقة للعادة، ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ قيل : هذا جواب لسؤالهم توسيع مكة، ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ أي : لكل مدة مضروب كتاب بها وكل شيء عنده بمقدار.
﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ﴾، أي : ينسخ الله تعالى ما يشاء من الأقدار ويثبت منها ما يريد، عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره يمحو ما يشاء إلا الشقاء١ والسعادة والحياة، والموت وعن كثير من السلف : أنهم يدعون بهذا الدعاء٢ اللهم إن كتبتنا مع الأشقياء فامحه واكتبنا سعداء، و إن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ما تشاء وعندك أم الكتاب، ولكل وقت حكم يكتب على عباده٣ فيمحوا ما يشاء ويثبت بنسخ ما يستصوب نسخه، وإثبات ما يقتضيه حكمته، أو فيه تقديم وتأخير٤ تقديره لكل كتاب أي : منزل من السماء مدة مضروبة عند الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت حتى نسخت كلها بالقرآن، ويمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت بدلها الحسنات أو هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ثم يعوج بمعصيته فيموت على الضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت ما يشاء فلا يغفرها، أو يمحو الذنوب بالتوبة ويثبت هو الرجل يعمل بطاعته ويموت عليها أو يمحو لله ما يشاء من ديوان الحفظة كالمباحات ويثبت ما يتعلق به جزاء، أو قال٥ : قريش حين نزلت وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه تخويفا ووعيدا لهم، ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ هو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير، عن ابن عباس رضي الله عنهما الكتاب كتابان، كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وكتاب لا يغير منه شيء، أو المراد منه علم الله تعالى.
١ وإما أن السعادة والشقاء ومدة الحياة ووقت الأجل لا يغير و لا يمحى فالأحاديث دالة على خلاف ذلك فإن الصدقة وصلة الرحم تزيدان في العمر وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، و إلى هذا ذهب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وابن مسعود (*) وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن(*) جريج ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم /١٢ فتح البيان.
(*) تكررت لفظة: وابن في الأصل..

٢ هذا الدعاء المنقول عن كثير من السلف كعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيرهما مخالف لما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ /١٢ منه..
٣ هذا غير الأول نسخ الأقدار كنسخ أحكام القرآن بعضه ببعض/١٢ منه..
٤ هذا قول الضحاك ويعني المراد من قوله لكل أجل كتاب بكل كتاب أجل/١٢ منه..
٥ نقله ابن أبي نجيع عن مجاهد/١٢ منه.
(*) تكرار رضي الله عنه ص٣٥٣..

﴿ وَإِن ١مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ﴾، أي : كيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم من عذابهم، ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ : قبل نزول عذابهم، ﴿ فإنمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ﴾ : ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، ﴿ وَعَلَيْنَا ﴾ : عليك، ﴿ الْحِسَابُ ﴾، أي : حسابهم وجزاؤهم فلا تستعجل بعذابهم ولا يهمنك إعراضهم،
١ ولما ذكر أن الأقدار يمحو ويثبت طمحت النفوس إلى العلم بأن إهلاك أعداء الدين هل هو من أي القسمين من المحو والإثبات فقال: "وإما نرينك بعض الذي نعدهم" الخ/١٢ وجيز..
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ ﴾ : أرض الكفر، ﴿ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ : بما نفتح على المسلمين من بلادهم ونزيد في دار الإسلام وما ذلك إلا من آيات نصرتهم، وقال١ بعضهم معناه : أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها فنخربها من أطرافها ونهلك أهلها، أو ننقص أهلها وثمارها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك، أو نقصانها موت٢ علمائها وذهاب فقهائها، ﴿ وَاللّهُ يَحْكُمُ ﴾ : بما يشاء، ﴿ لاَ مُعَقِّبَ ٣ : لا راد ﴿ لِحُكْمِهِ ﴾ والنفي مع المنفي في موضع الحال، أي : نافذا حكمه، ﴿ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ : فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا.
١ هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد و عكرمة/١٢ منه..
٢ هذا أيضا منقول عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد ـ رضي الله عنه ـ/ ١٢ منه..
٣ المعقب: الذي بكر على الشيء فيبطله /١٢ منه..
﴿ وَقَدْ ١مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي : الكفار الذين من قبل مشركي أهل مكة مكروا بأنبيائهم، ﴿ فَلِلّهِ الْمَكْرُ ٢جَمِيعًا ﴾، فإن مكر الماكرين في جنب مكر الله تعالى كلا مكر، فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره، أو هو خالق جميع المكر فلا يضر مكر إلا بإذنه، فلا تخف إلا من الله تعالى، ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾، ويعد لها الجزاء، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ : لمن تكون الدائرة والعاقبة المحمودة لهم أو للمسلمين في الدنيا والآخرة.
١ ولما ذكر إقبال المسلمين وإدبار الكافرين عقب شيئا هو السبب لإدبارهم فقال: ﴿وقد مكر الذين﴾/١٢ وجيز..
٢ وصف تعالى نفسه بالمكر والكيد في القرآن كما وصف عبده بذلك فقال: "و يمكرون ويمكر الله" (الأنفال: ٣٠) وقال: "إنهم يكيدون كيدا و أكيد كيدا" (الطارق: ١٦)، وليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد ولله المثل الأعلى، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير / ١٢ )*(.
)*( تكرر رقم / ١٢ بالأصل..

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾، هم من اليهود والنصارى، فإنهم عرفوا حقيته في التوراة والإنجيل، أو من عنده علم الكتب هو الله تعالى ويؤيده قراءة من قرأ من عنده بكسر الميم والدال قال بعضهم المراد مؤمنو أهل الكتاب، ثم اعترض عليه بأن هذه الآية مكية ومن آمن منهم ما آمن إلا بعد الهجرة والله سبحانه وتعالى أعلم.
Icon