تفسير سورة النحل

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها، معبّراً بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله :﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١ ]، وقال :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ [ القمر : ١ ]، وقوله :﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه، والضمير يعود على العذاب، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٥٣ ]، فإنهم استعجلوا العذاب قبل كونه استبعاداً وتكذيباً، ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد، تعالى وتقدس علواً كبيراً، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة، فقال :﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
يقول تعالى :﴿ يُنَزِّلُ الملائكة بالروح ﴾ أي الوحي كقوله :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ]، وقوله :﴿ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ وهم الأنبياء، كما قال تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وقال :﴿ الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس ﴾ [ الحج : ٧٥ ]، وقال :﴿ يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ]، وقوله :﴿ أَنْ أنذروا ﴾ أي لينذروا ﴿ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون ﴾ أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.
يخبر تعالى عن خلقه العالَم العلوي وهو السماوات والعالَم السفلي وهو الأرض بما حوت، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث به بل ﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى ﴾ [ النجم : ٣١ ]، ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له ثم نبّه على خلق جنس الإنسان ﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ أي مهينة ضعيفة، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً كقوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾ [ الفرقان : ٥٥ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ يس : ٧٧ ]. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن بشر بن جحاش قال : بصق رسول الله ﷺ في كفه، ثم قال :« يقول الله تعالى : ابن آدم! أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت : أتصدق، وأنَّى أوان الصدقة؟ »
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي ( الإبل والبقر والغنم ) وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة، ولهذا قال :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ﴾، وهو وقت رجوعها عشياً من المرعي، فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعاً، وأعلاه أسنمة، ﴿ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ أي غدوة حين تبعثونها المرعى، ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾ وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها، ﴿ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس ﴾ وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى ذلك، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل كقوله تعالى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾ [ غافر : ٧٩-٨٠ ]، ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم :﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كقوله :﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٧٢ ]، وقال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢ ]، قال ابن عباس :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ أي ثياب، ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ ما تنفعون به من الأطعمة والأشربة، ومنافع نسل كل دابة. وقال مجاهد :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ أي لباس ينسج ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ مركبٌ ولحم ولبن. وقال قتادة : دفء ومنافع يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبُلغة، وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده، يمتن به عليهم وهو ﴿ والخيل والبغال والحمير ﴾ التي جعلها للركوب والزينة بها وذلك أكبر المقاصد منها، ولما فصلها من الأنعام وأفردها بالذكر، استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذل على ما ذهب إليه فيها، كالإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير، وهي حرام، كما ثبتت به السنّة النبوية، وذهب إليه أكثر العلماء. وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس : أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول : قال الله تعالى :﴿ والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ النحل : ٥ ] فهذه للأكل، ﴿ والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَ ﴾ فهذه للركوب، ويستأنس لهذا بحديث رواه الإمام أحمد عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله ﷺ عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ولكن لا يقاوم ما ثبت في « الصحيحين » عن جابر بن عبد الله قال :« نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل »، وعن جابر قال :« ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله ﷺ عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل » وفي « صحيح مسلم » عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : نحرنا على عهد رسول الله ﷺ فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة فهذه أدل وأقوى وأثبت، وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف والله أعلم.
لما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبيَّن أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال :﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾، كقوله :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] وقال :﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [ الحجر : ٤١ ]، قال مجاهد في قوله :﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾، قال : طريق الحق على الله. وقال السدي :﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾ الإسلام، وقال ابن عباس : وعلى الله البيان أي يبين الهدى والضلالة. وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق، لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقاً تسلك إليه، فليس يصل إليها منها إلا طريق الحق، وهي الطريق التي شرعها ورضيها، وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ أي حائد مائل زائل عن الحق. قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وقرأ ابن مسعود :﴿ منكم جائر ﴾ ؛ ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته فقال :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، كما قال تعالى :« وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }، وقال :{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً » [ هود : ١١٨ ] الآية.
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب، وشرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء - وهو العلو - مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم فقال :﴿ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ ﴾ أي جعله عذباً زلالاً يسوغ لكم شرابه ولم يجعله ملحاً أجاجاً، ﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم، كما قال ابن عباس :﴿ تُسِيمُونَ ﴾ أي ترعون ومنه الإبل السائمة، والسوم : الرعي. روى ابن ماجه أن رسول الله ﷺ نهى عن السوم قبل طلوع الشمس. وقوله :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها، ولهذا قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإله مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [ النمل : ٦٠ ]، ثم قال تعالى.
ينبّه تعالى عباده على آياته العظام، ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان، والشمس والقمر يدوران، والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات، نوراً وضياء ليهتدي بها في الظلمات، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه، يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله كقوله :﴿ والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] ولهذا قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي دلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم، لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه. وقوله :﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ﴾ لما نبه تعالى على معالم السماء نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها وما فيها من المنافع والخواص ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها.
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج، ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه، وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة، وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه، وقيل : تمخر الرياح وكلاهما صحيح، الذي أرشد العباد إلى صنعتها، وهداهم إلى ذلك إرثاً عن نوح عليه السلام، فإنه أول من ركب السفن، وله كان تعليم صنعتها، ثم أخذها الناس عنه قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، يسيرون من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، لجلب ما هناك من الأرزاق، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي نعمه وإحسانه؛ ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات لتقر الأرض ولا تميد، أي تضطرب بما عليها من الحيوانات، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك، ولهذا قال :﴿ والجبال أَرْسَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٢ ] وقال الحسن : لما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا : ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصبحوا وقد خلقت الجبال، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال؟ وقال سعيد، عن قيس بن عبادة : إن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصبحت صبحاً وفيها رواسيها. وقوله :﴿ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً ﴾ أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى مكان آخر رزقاً للعباد ينبع في موضع، وهو رزق لأهل موضع آخر، فيقطع البقاع والبراري والقفار، ويخترق الجبال والآكام، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله، وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة وجنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ما بين صغار وكبار، وأودية تجري حيناً وتنقطع في وقت، وما بين نبع وجمع، وقوي السير وبطيئه بحسب ما أراد وقدّر وسخّر ويسر، فلا إله إلا هو ولا رب سواه، وكذلك جعل فيها ﴿ سُبُلاً ﴾ أي طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممراً ومسلكاً، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ] الآية. وقوله :﴿ وَعَلامَاتٍ ﴾ أي دلائل من جبال كبار وآكام وصغار ونحو ذلك يستدل بها المسافرون وبحراً إذا ضلوا الطرق. وقوله :﴿ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ أي في ظلام الليل، قاله ابن عباس، ثم نبّه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً بل هم يخلقون، ولهذا قال :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ ثم نبههم على كثرة نعمة عليهم وإسحانه إليهم فقال :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي يتجاوز عنكم ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير. وقال ابن جرير : يقول : إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، كما قال الخليل :﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٩٥-٩٦ ]، وقوله :﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾ أي هي جمادات لا أرواح فيها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي لا يدرون متى تكون الساعة فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ﴾ [ الزمر : ٥٤ ]، وقوله :﴿ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي عن ﴿ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ]، ولهذا قال هاهنا ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ أي حقاً، ﴿ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين ﴾.
يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين :﴿ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ﴾ معرضين عن الجواب ﴿ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ أي لم ينزل شيئاً إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين، أي مأخوذ من كتب المتقدمين، كما قال تعالى :﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ] أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة، كما قال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٨ ] وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ، وكانوا يقولون : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون، ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم المسمى بالوليد بن المغيرة لما ﴿ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر * فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤ ] أي ينقل، ويحكى : فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله، قال الله تعالى :﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾، أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم، أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث :« من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً »، روى العوفي عن ابن عباس في الآية :﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ إنها كقوله :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ]، وقال مجاهد : يحملون أثقالهم، ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.
قال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ قال : هو النمروذ الذي بنى الصرح؛ وقال زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض النمروذ، وقال آخرون، بل هو بختنصر، وقال آخرون : هذا من المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره، كما قال نوح عليه السلام :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٢ ] أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة، ﴿ بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] الآية. وقوله :﴿ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد ﴾ أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم، كقوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ﴾ [ المائدة : ٦٤ ]، وقوله :﴿ فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾ [ الحشر : ٢ ]، وقال الله هاهنا :﴿ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ ﴾ أي يظهر فضائحهم وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾ [ الطارق : ٩ ] أي تظهر وتشتهر، كما في « الصحيحين » عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ :« ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان » وهكذا هؤلاء يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً لهم وموبخاً :﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾ ؟ تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا؟ ﴿ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٣ ]، ﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ﴾ [ الطارق : ١٠ ]، فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة : وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار، ﴿ قَالَ الذين أُوتُواْ العلم ﴾ وهم السادة في الدنيا والآخرة :﴿ إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين ﴾ أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله، وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم القبض أرواحهم الخبيثة ﴿ فَأَلْقَوُاْ السلم ﴾ أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء ﴾، كما يقولون يوم المعاد :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك :﴿ بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين ﴾ أي بئس المقبل والمقام، والمكان، من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم ﴿ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا ﴾ [ فاطر : ٣٦ ]، كما قال الله تعالى :﴿ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ [ غافر : ٤٦ ].
هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء، فإن أولئك قيل لهم :﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ قالوا : معرضين عن الجواب، لم ينزل شيئاً إنما ها أساطير الأولين، وهؤلاء قالوا : خيراً أي أنزل خيراً، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به، ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله، فقال :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾ الآية، كقوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة، ثم أخبر بأن دار الآخرة خير، أي من الحياة الدنيا والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا، كقوله :﴿ وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٨ ]، وقال تعالى :﴿ والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ الأعلى : ١٧ ]، وقال لرسوله ﷺ :﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى ﴾ [ الضحى : ٤ ]، ثم وصف الدار الآخرة فقال :﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين ﴾، وقوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ بدل من دار المتقين، أي لهم في الآخرة جنات عدن أي مقام يدخلونها، ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي بين أشجارها وقصورها، ﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧١ ]، وفي الحديث :« إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم، فلا يشتهي أحد منهم شيئاً إلا أمطرته عليه، حتى إن منهم لمن يقول : أمطرينا كواعب أتراباً فيكون ذلك »، ﴿ كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين ﴾، أي كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله، ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] الآية.
يقول تعالى مهدداً للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم، قاله قتادة ﴿ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال. وقوله :﴿ كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين، حتى ذاوا بأس الله، وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال، ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ﴾ لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، ﴿ ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به؛ فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك، ﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ أي أحاط بهم من العذاب الأليم، ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله فلهذا يقال لهم يوم القيامة ﴿ هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الطور : ١٤ ].
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم :﴿ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾ أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك ممّا كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً، ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما أمكننا منه؛ قال تعالى راداً عليهم شبهتهم :﴿ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين ﴾ أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد ﷺ الذي طبقت دعوته لإنس والجن في المشارق والمغارب. ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول :﴿ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾ ؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله؛ وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ﴾ أي أسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق، كيف ﴿ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد : ١٠ ]، فقال :﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ ﴾ [ الملك : ١٨ ]، ثم أخبر الله تعالى رسوله ﷺ أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم، إذا كان الله قد أراد إضلالهم، كقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً ﴾ [ المائدة : ٤١ ]، وقال نوح لقومه :﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ [ هود : ٣٤ ]، وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾. كما قال تعالى :﴿ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ]، وقوله :﴿ فَإِنَّ الله ﴾ أي شأنه وأمره، ﴿ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾ أي من أضله، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي ينقذونه من عذابه ووثاقه ﴿ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ].
يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان أنه لا يبعث الله من يموت، أي استبعدوا ذلك وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك، وحلفوا على نقيضه. فقال تعالى مكذباً لهم وراداً عليهم :﴿ بلى ﴾ أي بلى سيكون ذلك، ﴿ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾ أي لا بد منه، ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر. ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال :﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ﴾ أي للناس، ﴿ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ أي من كل شيء، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴾ أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت. ثم أخبر تعالى عن قدتره على ما يشاء وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء كقوله :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ]، وقال :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ]، وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع، ولا يخالف، لأنه الواحد القهار، العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه، وقد وعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال :﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً ﴾، قال ابن عباس : المدينة، وقيل : الرزق الطيب، قاله مجاهد، ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع، فإن الله مكن لهم في البلاد، وحكمهم على رقاب العباد، وصاروا أمراء حكاماً وكل منهم للمتقين إماماً، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا فقال :﴿ وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ ﴾ أي مما أعطيناهم في الدنيا ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم قرأ هذه الآية :﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾، ثم وصفهم تعالى فقال :﴿ الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس : لما بعث الله محمداً ﷺ رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فأنزل الله :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس ﴾ [ يونس : ٢ ] الآية، وقال :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ يعني أهل الكتب الماضية أبشراً كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمد ﷺ رسولاً، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد ﷺ كانوا بشراً كما هو بشر، كما قال تعالى :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ]، وقال :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٩ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ ﴾ [ فصلت : ٦ ]، ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشراً إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذي سلفوا، هل كان أنبياؤهم بشراً أو ملائكة، ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم ﴿ بالبينات ﴾ أي بالحجج والدلائل ﴿ والزبر ﴾ وهي الكتب، قاله ابن عباس ومجاهد : والزبر : جمع زبور، تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر ﴾ [ القمر : ٥٢ ]، وقال :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر ﴾ يعني القرآن ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك، وحرصك عليه واتباعك له، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل والمراد بأهل الذكر أهل الكتاب، ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.
يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، كقوله تعالى :﴿ أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾ [ الملك : ١٦ ]، وقوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفار ونحوها من الأشغال الملهية، قال قتادة والسدي : تقلبهم أي أسفارهم؛ وقال مجاهد والضحّاك :﴿ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ في الليل والنهار، كقوله :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٧ ]، وقوله :﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه، وقوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ ﴾ أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد، ولهذا قال ابن عباس :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ ﴾ يقول : إن شئت أخذت على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك، ثم قال تعالى :﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم ﴾ أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في « الصحيحين » :« لا أجد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم »، وقال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير ﴾ [ الحج : ٤٨ ].
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها، جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي بكرة وعشياً فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عزّ وجلّ، وقوله :﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ أي صاغرون. وقال مجاهد أيضاً : سجود كل شيء فيؤه، وأمواج البحر صلاته، ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم، فقال :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ ﴾، كما قال :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال ﴾ [ الرعد : ١٥ ]، وقوله :﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ﴾ أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته، ﴿ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره، وترك زواجره.
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه ﴿ وَلَهُ الدين وَاصِباً ﴾، قال ابن عباس ومجاهد : أي دائماً، وعن ابن عباس أيضاً : أي واجباً، وقال مجاهد : أي خالصاً له، أي له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله :﴿ أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص ﴾ [ الزمر : ٣ ]، ثم أخبر أنه مالك النفع والضر، وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم، وإحسانه إليهم، ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو، فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه، وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به، كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وقال هاهنا :﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ قيل : اللام هاهنا لام العاقبة، وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم، مع أنه المسدي إليهم النعم، الكاشف عنهم النقم، ثم توعدهم قائلاً :﴿ فَتَمَتَّعُواْ ﴾ أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلاً ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي عاقبة ذلك.
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان نصيباً مما رزقهم الله، فقالوا :﴿ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] أي جعلوا لآلهتهم نصيباً مع الله وفضلوها على جانبه، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه، وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم فقال :﴿ تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة إناثاً وجعلوها بنات الله، فعبدوها معه، فنسبوا إليه تعالى الولد ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم، كما قال :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١-٢٢ ]، وقوله هاهنا :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ ﴾ أي عن قولهم وإفكهم، ﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى البنات على البنين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [ الصافات : ١٥١-١٥٤ ]، وقوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. فإنه ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾ أي كئيباً من الهم ﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن، ﴿ يتوارى مِنَ القوم ﴾ أي يكره أن يراه الناس، ﴿ مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب ﴾ أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها، ويفضل أولاده الذكور عليها، ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب ﴾ أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟ ﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ أي بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [ الزخرف : ١٧ ]، وقوله : هاهنا :﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء ﴾ أي النقص إنما ينسب إليهم ﴿ وَلِلَّهِ المثل الأعلى ﴾ أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه ﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾.
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي لأهلك دواب الأرض ومعهم بنو آدم، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر، وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً. وفي الحديث :« إن الله لا يؤخر شيئاً إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر » وقوله :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله، وقوله :﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى ﴾ إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا، كقوله :﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ]، وقوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ [ مريم : ٧٧ ] فجمع هؤلاء بين عمل السوء، وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً وهذا مستحيل، يعملون السيئات ويجزون الحسنات؟ أيجتنى من الشوك العنب؟ ولهذا قال تعالى رداً عليهم في تمنيهم ذلك :﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ أي حقاً لا بد منه، ﴿ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾ أي يوم القيامة، ﴿ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾، قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون، وهذا كقوله تعالى :﴿ فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا ﴾ [ الأعراف : ٥١ ] وعن قتادة أيضاً ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾ : أي معجلون إلى النار من الفرط وهو السابق إلى الورد، ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون.
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً فكذبت الرسل، فلك يا محمد في إخوتك من المرسلين أسوة فلا يُهمنَّك تكذيب قومك لك، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه ﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم ﴾ أي هم تحت العقوبة والنكال، والشيطان وليهم ولا يملك خلاصاً، ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم، ثم قال تعالى لرسوله إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه، ﴿ وَهُدًى ﴾ أي للقلوب، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي لمن تمسك به، ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي يفهمون الكلام ومعناه.
يقول تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ ﴾ أيها الناس ﴿ فِي الأنعام ﴾ وهي الإبل والبقر والغنم، ﴿ لَعِبْرَةً ﴾ أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه، ﴿ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ الضمير عائد على الحيوان، فإن الأنعام حيوانات، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان، وفي الآية الأخرى ﴿ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ] ويجوز هذا وهذا، كما في قوله :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ [ عبس : ١١-١٢ ]، وقوله :﴿ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً ﴾ أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته، من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فيصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله :﴿ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾ أي لا يغص به أحد، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه، ولهذا امتن به عليهم فقال :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ﴾، قال ابن عباس : السكر ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما، وفي رواية : السكر حرامه، والرزق الحسن حلاله، يعني ما يبس منهام من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ حلال يشرب قبل أن يشتد، كما وردت السنة بذلك ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ ناسب ذكر العقل هاهنا فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها وقال الله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [ يس : ٣٤-٣٥ ] ؟.
المراد بالوحي هنا ( الإلهام ) والهداية والإرشاد للنحل، أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها، ثم تصبح إلى مراعيها. وقوله تعالى :﴿ فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ﴾ أي فاسلكيها مذللة لك، نص عليه مجاهد، وقوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾ ما بين أبيض وأصفر وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله :﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾ أي في العسل شفاء الناس، أي من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكل من عن الطب النبوي : لو قال فيه الشفاء للناس لكن دواء كل داء؛ ولكن قال : فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار، والشيء يداوى بضده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال إن أخي استطلق بطنه، فقال :» اسقه عسلاً « فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً. قال :» اذهب فاسقه عسلاً «، فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال : يا رسول ما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله ﷺ :» صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً «، فذهب فسقاه عسلاً فبرئ » وقال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالاً، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضدة بالبدن استمسك بطنه وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. وفي « الصحيحين » « عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان يعجبه الحلواء والعسل » وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي ».
وقال البخاري، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن كان في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي »
1377
وفي الحديث :« عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن »، وعن علي بن أبي طالب أنه قال :« إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحفة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلاً فليشربه كذلك فإنه شفاء »، أي من وجوه : قال الله تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ]، وقال :﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً ﴾ [ ق : ٩ ] وقال :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ [ النساء : ٤ ]، وقال في العسل :﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل وهو أطيب الأشياء لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم.
1378
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم. وقد روي عن علي رضي الله عنه ﴿ أَرْذَلِ العمر ﴾ : خمس وسبعون سنة. وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم، ولهذا قال :﴿ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾ أي بعد ما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفند والخرف، ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كان يدعو :« أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات ».
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنها عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فقال تعالى منكراً عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم؟ قال ابن عباس في هذه الآية : لم يكونوا ليشروكوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي مععي في سلطاني؟ فذلك قوله :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾. وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟ وقال مجاهد : هذا مثل الآلهة الباطلة. وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه منك، وقوله :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ أي كيف جحدوا نعمته وأشركوا معه غيره. وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري :( واقنع برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلا، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله ).
يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً، وجعل الإناث أزواجاً للذكور، ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين، عن ابن عباس :﴿ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ هم الولد وولد والولد، وقال مجاهد :﴿ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ ابنه وخادمه، وقال طاووس وغير واحد : الحفدة الخدم. وعن عكرمة أنه قال : الحفدة من خَدَمك من ولدك وولد ولدك، قال الضحّاك : إنما كانت العرب تخدمها بنوها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الأصهار، قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة وهو الخدمة، ومنه قوله في القنوت :( وإليك نسعى ونحفد ) ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار فالنعمة حاصلة بهذا كله، ولهذا قال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾، قلت : فمن جعل ﴿ وَحَفَدَةً ﴾ متعلقاً بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد أو الأصهار، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة، فإنهم يكونون غالباً تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته، وأما من جعل الحفدة الخدم فعنده أنه معطوف على قوله :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدماء، وقوله :﴿ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات ﴾ أي من المطاعم والمشارب، ثم قال تعالى منكراً على من أشرك في عباده المنعم غيره :﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ وهم الأنداد والأصنام ﴿ وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ ؟ أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره.
يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ﴿ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً ﴾ أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر، ولا يملكون ذلك لأنفسهم، أي ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال ﴾ أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً ﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.
قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن. وكذا قال قتادة، واختاره ابن جرير، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن، وقال مجاهد : هو مثل مضربو للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهراً واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى :﴿ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
قال مجاهد : وهذا أيضاً المراد به الوثن والحق تعالى، يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال ولا فعال، وهو مع هذا ﴿ كَلٌّ ﴾ أي عيال وكلفة على مولاه ﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ ﴾ أي يبعثه ﴿ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾ ولا يجح مسعاه ﴿ هَلْ يَسْتَوِي ﴾ من هذه صفاته ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾ أي بالقسط فمقاله حق وفعاله مستقيمة ﴿ وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، وقال ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضاً كما تقدم : وقال ابن جرير : نزلت في رجل من قرليش وعبده يعني قوله :﴿ عَبْداً مَّمْلُوكاً ﴾ [ النحل : ٧٥ ] الآية، وفي قوله :﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾ إلى قوله ﴿ وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ قال : هو عثمان بن عفان، قال : والأبكم الذي أينما يوجه لا يأت بخير قال : هو مولى لعثمان بن عفان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما.
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السماوات والأرض واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون كما قال :﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر ﴾ أي فيكون ما يريد كطرف العين، وهكذا قال هاهنا :﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة وهي العقول، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً، كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده، وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عباده ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه، كما جاء في « صحيح البخاري » عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« يقول تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه » فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزَّ وجلَّ، فلا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا الله أي ما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلاّ في طاعة الله عزَّ وجلَّ مستعيناً بالله في ذلك كله. ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح :« فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي »، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، كقوله تعالى في الآية الأخرى :﴿ قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [ الملك : ٢٣ ]، ثم نبّه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ما يملكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها، وبسير الطير كذلك كما قال تعالى في سورة الملك :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾ [ الملك : ١٩ ]، وقال هاهنا :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستترون بها وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع. وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً، أي من الأدم يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر. ولهذا قال :﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ﴾ أي الغنم، ﴿ وَأَوْبَارِهَا ﴾ أي الإبل، ﴿ وَأَشْعَارِهَآ ﴾ أي المعز، والضمير عائد على الأنعام ﴿ أَثَاثاً ﴾ أي تتخذون منه أثاثاً، وهو المال وقيل : المتاع، وقيل : الثياب، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالاً وتجارة. وقوله :﴿ إلى حِينٍ ﴾ أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم. وقوله :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾. قال قتادة، يعني الشجر ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً ﴾ أي حصوناً ومعاقل كما ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ وهي الثياب من القطن والكتان والصوف ﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك، ﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ أي من الإسلام، وقوله :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي أبعد هذا البيان وهذا الامتنان فلا عليك منهم، ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين ﴾ وقد أديته إليهم، ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾، عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي ﷺ فسأله فقرأ عليه رسول الله ﷺ ﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾ فقال الأعرابي : نعم، قال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً ﴾ الآية، قال الأعرابي : نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك، يقول الأعرابي : نعم، حتى بلغ :﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ فولَّى الأعرابي، فأنزل الله :﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ الآية.
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة، وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى :﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه كقوله :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥-٣٦ ] فلهذا قال :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ ﴾ أي الذين أشركوا ﴿ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ﴾ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة ﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ أي لا يؤخر عنهم، بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب، ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال :﴿ وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ ﴾ أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ﴿ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي قالت لهم الآلهة كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٥ ] وقوله :﴿ وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم ﴾ قال : قتادة وعكرمة : ذلوا واستسلموا يومئذٍ، أي استسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلاّ سامع مطيع. وكقوله :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذٍ، وقال :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ﴾ [ السجدة : ١٢ ] الآية، وقال :﴿ وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾ [ طه : ١١١ ] أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله :﴿ وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير، ثم قال تعالى :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً ﴾ الآية، أي عذاباً على كفرهم وعذاباً على صدهم الناس عن اتباع الحق، وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ].
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء ﴾ يعني أمتك، أي اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع، وهذه الآية شبيهة بقوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ]، وقوله :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ قال ابن مسعود : قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء، وقال مجاهد : كل حلال وكل حرام. وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم، ﴿ وَهُدًى ﴾ أي للقلوب، ﴿ وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾.
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط، ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، وقال :﴿ والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال ابن عباس ﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل ﴾ قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله، وقال سفيان بن عيينة : العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته، وقوله :﴿ وَإِيتَآءِ ذِي القربى ﴾ أي يأمر بصلة الأرحام، كما قال :﴿ وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ﴾ [ الإسراء : ٢٦ ]، وقوله :﴿ وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر ﴾، فالفواحش المحرمات والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها، ولهذا قال في الموضع الآخر :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ]، وما البغي فهو العدوان على الناس. وقد جاء في الحديث :« ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم »، وقوله :﴿ يَعِظُكُمْ ﴾ أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾. وقال الشعبي : عن ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان ﴾ الآية، وقال قتادة : ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلاّ نهى الله عنه وقدم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها، وفي الحديث :« إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سَفْسَافها » وقال الحافظ أبو يعلى عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال :« بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي ﷺ فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه، قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان، فأتيا النبي ﷺ فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال رسول الله ﷺ :» أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله «، قال : ثم تلا عليهم هذه الآية :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان ﴾ الآية، قالوا : ردد علينا هذا القول، فردد عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا : أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطاً في مضر - أي شريفاً - وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً »، وعن عثمان بن أبي العاص قال :« كنت عند رسول الله ﷺ جالساً إذ شخص بصره فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان ﴾ » الآية.
هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، ولا تعارض بين هذا وبين قوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ] الآية، وبين قوله تعالى :﴿ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ واحفظوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] أي لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في « الصحيحين » أنه ﷺ قال :« إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها، وفي رواية : وكفرت عن يميني » « لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ يعني الحلف، أي حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال، قال رسول الله ﷺ :» لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلاّ شدة «، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. وقال ابن جرير، عن بريدة في قوله :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ قال : نزلت في بيعة النبي ص ﷺ على الإسلام، فقال :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام، ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وقوله :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها وقوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ﴾. قال السدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وقال مجاهد وقتادة : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرجح وأظهر، ساء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا، وقوله :﴿ أَنكَاثاً ﴾ أي انقاضاً، ﴿ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ أي خديعة ومكراً ﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم، فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى، قال ابن عباس :﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ : أي أكثر، وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك، وقوله :﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ ﴾ قال ابن جرير : أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.
يقول الله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ ﴾ أيها الناس ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء، ﴿ ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير، ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً : أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم ﴿ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ مثلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصد عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فيصد بسببه عن الدخول في الإسلام، ولهذا قال :﴿ وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم الدنيا فحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده، ولهذا قال :﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ﴾ أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود، ﴿ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ﴾ أي وثوابه لكم في الجنة باق ولا انقطاع ولا نفاد له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قسم من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها.
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيّه ﷺ من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب وعن علي بن أبي طالب يطيب لأحد حياة إلاّ في الجنة. وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا. والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه » وفي رواية :« قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به » وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطي بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً ».
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيّه ﷺ، إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، وهذا أمر ندب ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ولله الحمد والمنة. وقوله :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منن وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم، وقال آخرون كقوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾ [ الحجر : ٤٠ ]، ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾. قال مجاهد : يطيعونه، وقال آخرون : اتخذوه ولياً من دون الله ﴿ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾، أي أشركوه في عبادة الله، ويحتمل أن تكون الباء سببية أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى.
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان. وقد كتب عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله ﷺ :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ ﴾ أي كذاب، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مجاهد :﴿ بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ : أي وفعناها وأثبتنا غيرها. وقال قتادة : هو كقوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] الآية، فقال تعالى مجيباً لهم :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس ﴾ أي جبريل ﴿ مِن رَّبِّكَ بالحق ﴾ أي بالصدق والعدل، ﴿ لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ ﴾ فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً وتخبت له قلوبهم، ﴿ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ أي وجعله هادياً وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله ﷺ يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، فلهذا قال الله تعالى راداً عليهم في افترائهم ذلك :﴿ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي القرآن، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكه من العقل. قال محمد بن إسحاق : كان رسول الله ﷺ - فيما بلغني - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له ( جبر ) عبد لبعض بني الحضرمي، فأنزل الله :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾. وعن عكرمة وقتادة كان اسمه ( يعيش )، وقال ابن جرير، عن ابن عباس قال : كان رسول الله ﷺ يعلم قيناً بمكة، وكان امسه بلعام، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله ﷺ يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا : إنما يعلمه بلعام فأنزل الله هذه الآية :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾.
يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره، وتغافل عما أنزله على رسوله ﷺ ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته، وما أرسل به رسله في الدنيا ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة، ثم أخبر تعالى أن رسوله ﷺ ليس بمفتر ولا كذاب لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله ﷺ شرار الخلق ﴿ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله ﴾ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد ﷺ كان أصدق الناس، وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً، وإيماناً وإيقاناً، معروفاً بالصدق في قومه لا يشك في ذلك أحد منهم، بحيث لا يدعى بينهم إلاّ بالأمين محمد؛ ولهذا قال هرقل ملك الروم، لأبي سفيان :( فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عزَّ وجلَّ ).
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر، واطمأن به، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، فهم غافلون عما يراد بهم، ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته، ﴿ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون ﴾ أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة - وأما قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ﴾ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ( عمار بن ياسر ) حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد ﷺ، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي ﷺ فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن جرير :« أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ :» كيف تجد قلبك؟ « قال : مطمئناً بالإيمان، قال النبي ﷺ :» إن عادو فعد «، وفيه أنه سب النبي ﷺ، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي ﷺ فقال :» كيف تجد قلبك؟ « قال : مطمئناً بالإيمان، فقال :» إن عادوا فعد « وفي ذلك أنزل الله :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ﴾، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : أحد، أحد، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسليمة الكذاب : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول : نعم، فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك.
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ( عبد الله بن حذافة السهمي ) أحد الصحابة أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد ﷺ طرفة عين ما فعلت، فقال : إذاً اقتلك، فقال أنت وذاك، قال : فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر من نحاس، فأحميت وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها ففع في البكرة ليلقى فيها، فبكى، فطمع فيه ودعاه، فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.
1397
وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير. فلم يقربه، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال : أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك : فقبلْ رأسي، وأنا أطلقك، فقال : وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال : نعم، فقبّل رأسه فأطلقه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
1398
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة، إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين وصبروا، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ ﴾ أي تحاج ﴿ عَن نَّفْسِهَا ﴾ ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة ﴿ وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾ أي من خير وشر ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا ينقص من ثواب الخير، ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيراً.
هذا مثل أريد به أهل مكة؟ فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ﴾ [ القصص : ٥٧ ]، وهكذا قال هاهنا ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً ﴾، أي هنيئاً سهلاً، ﴿ مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله ﴾ أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد ﷺ إليهم، كما قال تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار ﴾ [ إبراهيم : ٢٨-٢٩ ] ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال :﴿ فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف ﴾ أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله ﷺ وأبو إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العلهز، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه. وقوله :﴿ والخوف ﴾ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله ﷺ وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال، حتى فتحها الله على رسوله، ﷺ وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول ﷺ الذي بعثه الله فيهم منهم وامتن به عليهم في قوله :﴿ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] الآية. وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة والزهري رحمهم الله.
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك، فإنه المنعم المتفضل به ابتداء، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير، ﴿ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ﴾ أي ذبح على غير اسم الله ومع هذا، ﴿ فَمَنِ اضطر ﴾ إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان، ﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته ولله الحمد. ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا، بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه وابتدعوه في جاهليتهم، فقال :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب ﴾ ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه، ثم توعد على ذلك فقال :﴿ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ أي في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فمتاع قليل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩-٧٠ ].
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانو فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج فقال :﴿ وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ﴾ أي في سورة الأنعام ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ أي فيما ضيقنا عليهم ﴿ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ أي فاستحقوا ذلك، كقوله :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً ﴾ [ النساء : ١٦٠ ]، ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ ﴾ قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو حاجل ﴿ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا ﴾، أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾ أي تلك الفعلة والزلة ﴿ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية فقال :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ﴾، فأما الأمة : فهو الإمام الذي يقتدى به، والقانت : هو الخاشع والمطيع، والحنيف المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال :﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين ﴾، قال عبد الله بن مسعود : الأمة معلم الخير، والقانت المطيع لله ورسوله. وقال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم. وقال مجاهد ﴿ أُمَّةً ﴾ أي أمة وحده، والقانت : المطيع. وعنه كان مؤمناً وحده الناس كلهم إ ذاك كفار. وقال قتادة كان إمام هدى، والقانت : المطيع لله، وقوله :﴿ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ﴾ أي قائماً بشكر نعم الله عليه، كقوله تعالى :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ [ النجم : ٣٧ ] أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به. وقوله :﴿ اجتباه ﴾ أي اختاره واصطفاه كقوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٥١ ]، ثم قال :﴿ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ وهو عباده الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً ﴾ أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة، ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ &
١٦٤٩; لصَّالِحِينَ ﴾
وقال مجاهد في قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً ﴾ أي لسان صدق وقوله :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء ﴿ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾، كقوله في الأنعام :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ الآية : ١٦١ ]، ثم قال تعالى منكراً على اليهود.
لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوماً من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه، وتمت النعمة على عباده، ويقال إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موىس، فعدلو عنه، واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئاً من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به، وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد ﷺ إذا بعثه وأخذ مواثيقهم وعهودهم على ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ ﴾، قال مجاهد : اتبعوه وتركوا الجمعة، وقد ثبت في « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال :« نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد ».
يقول تعالى آمراً رسوله محمداً ﷺ أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير : وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة والموعظة الحسنة، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى، وقوله ﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ] الآية، فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ]. وقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ الآية، أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه فادعهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ وعلينا الحساب، ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]، ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ].
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق، قال ابن سيرين : إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله، وكذا قال مجاهد والحسن البصري واختاره ابن جرير، وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة، فقالوا : يا رسول الله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزلت هذه الآية ثم نسخ ذلك بالجهاد، قال عطاء بن يسار : نزلت سورة النحل كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها، نزلت بالمدينة، بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به، فقال رسول الله ﷺ :« لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم، فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فأنزل الله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ إلى آخر السورة، وقال الحافظ أبو بكر البزار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، أو قال لقلبه، فنظر إليه وقد مُثل به، فقال :» رحمة الله عليك، إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات. والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة نحوها - أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك «، فنزل جبريل على محمد ﷺ بهذه السورة وقرأ :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ إلى آخر الآية، فكفر رسول الله ﷺ يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك. وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ثم قال :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] الآية. وقال :﴿ والجروح قِصَاصٌ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، ثم قال :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، وقال في هذه الآية :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، ثم قال :﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله ﴾ تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلاّ بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك، ﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ ﴾ أي غم، ﴿ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم، وقوله ﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾، أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه.
Icon