اللغَة:
﴿بَاخِعٌ﴾ مهلك وقال وأصل البخع: أن يبلغ بالمذبوح البخاع وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وهو أقصى حدِّ الذبح
﴿فَعْلَتَكَ﴾ الفَعْلة بفتح الفاء المرة من الفعل
﴿تَلْقَفُ﴾ تبتلع
﴿يَأْفِكُونَ﴾ من الإِفك وهو الكذب
﴿لاَ ضَيْرَ﴾ لا ضرر، والضرُّ والضير بمعنى واحد قال الجوهري: ضارة يضوره ضيْراً أي ضرَّه قال الشاعر:
فإِنك لا يضورك بعد حولٍ | أظبيٌ كان أمك أم حمار |
﴿مُنقَلِبُونَ﴾ راجعون
﴿مِّنْ خِلاَفٍ﴾ أي يخالف بين الأعضاء فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
التفسِير:
﴿طسم﴾ إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية
﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر إعجازه لمن بأمله
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي لعلك يا محمد مهلكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إِيمانهم
﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً﴾ أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً
﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي: املعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب
﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن﴾ أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن
﴿مُحْدَثٍ﴾ أي جديد في النزول، ينزل وقتاً بعد وقت
﴿إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا بما فيه من المواعظ والعِبَر
﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزءوا به، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه، وجلاله قدره في مخلوقاته ومصنوعاته، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود، كثير الخير والمنفعة؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي هو سبحانه الغالب القاهر، القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية: العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره، الرحيم على بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي: إنما قدم ذكر
﴿العزيز﴾ على
﴿الرحيم﴾ لأنه ربما قيل: إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإِنه رحيم بعباده، فإِن الرحمة إذا كانت
344
مع المقدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً
﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى﴾ أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه
﴿أَنِ ائت القوم الظالمين﴾ أي بأن أئت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل
﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾ أي هم قوم فرعون، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد
﴿أَلا يَتَّقُونَ﴾ ؟ أي ألا يخافون عقاب الله؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان
﴿قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة
﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ أي ويضيق صدري من تكذيبهم أياي
﴿وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي﴾ أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل
﴿فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ﴾ أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون: التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسه كما في قوله
﴿واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي﴾ [طه: ٢٧ - ٢٨] ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله
﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أن قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به
﴿قَالَ كَلاَّ﴾ أي قال الله تعالى له: كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي: وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإِنهم لا يقدرون على قتلك
﴿فاذهبا بِآيَاتِنَآ﴾ أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة
﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ﴾ أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به، وصيغةُ الجمع
«معكم» أريد به التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظيماً
﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ أي فائتيا فرعو الطاغية وقولا لا: إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى
﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سييلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام
﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾ في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ: ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول: ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه؟
﴿وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك؟ قال مقاتل: ثلاثين سنة
﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ﴾ أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر، ومرادُه قتل القبطي
﴿وَأَنتَ مِنَ الكافرين﴾ أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس: من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر
﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ أي قال موسى: فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم
345
أتعمد قتله ولكنْ أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس:
﴿وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ أي الجاهلين
﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه
﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً﴾ أي فأعطاني الله النبوة والحكمة
﴿وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين﴾ أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ
﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليِّ وقد استعبدتَ قومي؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً؟
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين﴾ أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه
﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]
﴿قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ أي قال موسى: هو خالق السماوات والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة
﴿إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي
﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ﴾ أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة
﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلٌ عن التعريف الام إلى التعريف الخاص لأنَّ الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل
﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون
﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ ثالث أوضح من الثاني
﴿قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال
﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمروذ
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداً بالبطش والعنف
﴿قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل
«لأسجننَّك» وإِنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان
346
أشدَّ من القتل قال في التسهيل: لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال
﴿وَمَا رَبُّ العالمين﴾ أجابه موسى بقوله
﴿رَبُّ السماوات والأرض﴾ فقال
﴿أَلاَ تَسْتَمِعُونَ﴾ ؟ تعجباً من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله
﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله
﴿قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب﴾ لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحداً جحدها ولا أن يدعيها لغير الله، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه
﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾ أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ، وبرهان قاطع تعرف به صدقى؟
﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك
﴿فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي رمى موسى عصاه فإذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج
﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق
﴿قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله: إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر.
. أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برمية بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا
﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم
﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ أي فأي شيء تأمروني وبما تشيرون عليَّ أن أصنع به؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزَّل إلأى مشاورتهم بعد أن كان مستبدأ بالرأي والتدبير
﴿قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ أي أخِّرْ أمرهما
﴿وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ﴾ أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان
﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ أي يجيئوك بكل ساحر ماهرٍ، عليم بضروب السحر قال ابن كثير: وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة
﴿فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدَّده موسى، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رءوس الأشهاد كما قال تعالى
﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ [طه: ٥٩]
﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين﴾ أي قيل للناس: بادروا إلى الإِجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى
﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين﴾ أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل؟
﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين﴾ أي قال لهم فرعون: نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من القربين عندي ومن خاصة جلسائي
﴿قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ في الطلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره: فقالوا لموسى عند ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون نحن الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله
﴿أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ أي
347
ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ
﴿فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون﴾ أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا الغالبون لموسى
﴿فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ أي فألقى موسى العصى فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصيّ التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً
﴿فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾ أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة
﴿قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾ أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه
﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني؟
﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر﴾ أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله
﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به
﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾ أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى
﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة واتركه حتى الموت
﴿قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه
﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ﴾ أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها
﴿أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين﴾ أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي: ١ - الكناية اللطيفة
﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ كنّى به عن الذل والهوان الذي يلحقهم بعد العز والكبرياء. ٢ - الوعيد والتهديد
﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾. ٣ - التوبيخ
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض﴾ الاستفهام للتوبيخ على تركهم النظر بعين الاعتبار. ٤ - المقابلة اللطيفة بين
﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ ﴿وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي﴾. ٥ - جناس الاشتقاق
﴿رَسُولُ.. أَرْسِلْ﴾. ٦ - الجناس الناقص
﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ﴾ فقد اتفقت الحروف بين (فعلتَ وبين فعْلة) واختلف الشكل فأصبح جناساً غير تام. ٧ -
348
الإِيجاز بالحذف
﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾ دلَّ على هذا الحذف السياق تقديره فأتيا فرعون فقالا له ذلك فقال لموسى
﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ﴾ وكذلك هناك إيجاز في
﴿فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ﴾ قال الزمخشري: أصلُه أرسلْ جبريل إلى هارون واجعله نبياً وآزرني به واشدد به عضدي فأحسن في الاختصار غاية الإِحسان. ٨ - صيغة التعجيب
﴿أَلاَ تَسْتَمِعُونَ﴾. ٩ - التأكيد بإِنَّ واللام لأن السامع متشكك ومتردد
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ ومثله قول السحرة في بدء المناظرة
﴿إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون﴾ وهذا من خصائص علم البيان. ١٠ - الطباق بين
﴿المشرق.. والمغرب﴾ ثم توافق الفواصل وهو من السجع البديع. لطيفَة: إن قيل كيف قال موسى في بدء مناظرته لفرعون وقومه
﴿إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ ثم قال آخراً
﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فالجواب أنه تلطَّف ولاين أولاً طمعاً في إِيمانهم، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله
﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ.. لَمَجْنُونٌ﴾ فسلك موسى طريق الحكمة.
349
المنَاسَبَة: ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، وثانيها قصة إبراهيم، وثالثها قصة نوح، ورابعها قصة هود، وخامسها قصة صالح وسادسها قصة لوط وسابعها قصة شعيب، وكل تلك القصص لتسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عما يلقاه من المشركين، ولا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى عليه السلام. اللغَة:
﴿أَسْرِ﴾ من الإِسراء وهو السير ليلاص فلا يقال لمن سار نهاراً أسرى وإِنما هو خاصٌ بالليل
﴿شِرْذِمَةٌ﴾ الشرذمة: الجمع القليل الحقير والجمع شراذم قال الجوهري: الشرذمة الطائفةُ من الناس، والقطعةُ من الشيء، وثوبٌ شراذم أي قطع
﴿أَزْلَفْنَا﴾ قرَّبنا ومنه
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي قُرّبت قال الشاعر:
وكلُّ يوم مضى أو ليلةٍ سلفَتْ | فيها النفوسُ إلى الآجال تزَّدلفُ |
﴿فَكُبْكِبُواْ﴾ كَبْكَبَ الشيء: قلبَ بعضه على بعض قال ابن عطية: وهو مضاعف من كبَّ وهو قول الجمهور مثل صرّ، وصَرْصَر، وقال الزمخشري: الكبكبة: تكرير الكبِّ جُعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا أُلقي في جهنم ينكبُّ مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها
﴿فَكُبْكِبُواْ﴾ الحميم: الصديق الخالص الذي يهمه ما أهمَّك
﴿كَرَّةً﴾ الكرة: العودة والرجوع مرة أُخرى.
التفسِير:
﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي﴾ أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يسير ليلاً إلى جهة البحر ببني إسرائيل قال القرطبي: أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى
﴿إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ﴾ أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم إلى أرض مصر ويقتلوكم
﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ﴾ أي أرسل فرعون في طلبهم حين أَخبر بمسيرهم وأمر أن يُجمع له الجيش من كل المُدُن قائلاً لهم
﴿إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ أي طائفة قليلة قال الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة وسبعين ألفاً ولكنه قلَّلهم بالنسبة إلى كثرة جيشه
﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ﴾ أي وإنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا
﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ أي ونحن قوم متيقظون منتبهون، من عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلايُظنَّ به ما يكسر من قهره وسلطانه، قال تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن
350
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أخرجنا فرعون وقومه من بساتين كانت لهم وأنهار جارية
﴿وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ أي وأخرجناهم من الأموال التي كنزوها من الذهب والفضة، ومن المنازل الحسنة والمجالس البهية
﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي مثل ذلك الإِخراج الذي وضعناه فعلنا بهم، وأورثنا بني إسرائيل ديارهم وأموالهم بعد إغراق فرعون وقومه
﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ أي فلحقوهم وقت شروق الشمس
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان﴾ أي فلما رأى كلٌّ منهما اللآخر، والمراد جمعُ موسى وجمع فرعون
﴿قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ إي مُلحقون يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، قالوا ذلك حين رأوا فرعون الجبار وجنوده وراءهم، والبحر أمامهم، وساءت ظنُونُهم
﴿قَالَ كَلاَّ﴾ أي قال موسى كلاَّ لن يدركوكم فارتدعوا عن مثل هذا الكلام وانزجروا
﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ إنَّ ربي معي بالحفظ والنصرة، وسيهديني إلى طريق النجاة والخلاص قال الرازي: قوَّى نفوسهم بأمرين: أحدهما أن ربه معه وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني قوله
﴿سَيَهْدِينِ﴾ أي إلأى طريق النجاة والخلاص، وإِذا دلَّه على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة
﴿فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾ أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يضرب البحر بعصاه
﴿فانفلق﴾ أي فضربه فانشق وانفلق
﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾ أي فكان كل جزء منه كالجبل الشامخ الثابت قال ابن عباس: صار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبطٍ منهم طريق
﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين﴾ أي وقربنا هناك فرعون وجماعته حتى دخلوا البحر على إثر دخول بني إسرائيل
﴿وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ﴾ أي أندينا موسى والمؤمنين معه جميعاً
﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين﴾ أي أغرقنا فرعون وقومه قال المفسرون: لما انفلق البحر جعله الله يبَساً لموسى وقومه، وصار في اثنا عشر طريقاً ووقف الماء بينها كالطود العظيم، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل دخول أصحاب فرعون أمر الله البحر أن يطبق عليهم فغرقوا فيه، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون! فبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إنَّ في إغراق فرعون وقومه لعبرة عظيمة على إِنجاء الله لأوليائه، وإِهلاكه لأعدائه
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي ومع مشاهدة هذه الآية العظمى لم يؤمن أكثر البشر، وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ لمن عصاه
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه
﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ هذه بداية قصة إبراهيم أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم الهام وشأنه العظيم
﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَِ﴾ أي حين قال لأبيه وعشيرته أيَّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبيّن لهم سفاهة عقولهم في عبادة ملا لا ينفع، ويقيم عليهم الحجة
﴿قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ أي نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها،
351
قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا: نعبد الأصنام ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما يصنع
﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ أي قال هم إبراهيم على سبيل التبكيت والتوبيخ: هل يسمعون دعاءكم حين تلجأون إليهم بالدعاء؟
﴿أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ أي وهل يبذلونلكم منفعة، أو يدفعون عنكم مضرة؟
﴿قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ أي وجدنا آباءنا يعبدونهم ففعلنا مثلهم قال أبو السعود: اعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر بالمرَّة، واضطروا إلى إظهار الحقيقة وهي انه لا سند لهم سوى التقليد، وهاذ من علامات انقطاع الحجة
﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون﴾ أي قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولون؟
﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين﴾ أي فإِن هذه الأصنام أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله ربَّ العالمين فهو وليي في الدنيا والآخرة، أسند العداوة لنفسه تعريضاً به وهو أبلغ في النصيحة من التصريح
﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ أي اللهُ الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد لا هذه الأصنام
﴿والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المُزْن، وأنزل المطر، وأخرج به أنواع الثمرات رزقاً للعباد
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ أي وإِذا أصابني المرض فإِنه لا يقدر على شفائي أحدٌ غيره، وإنما أسند المرض إلى نفسه
﴿مَرِضْتُ﴾ وأسند الشفاء إلى الله رعايةً للأدب، وإلاّ فالمرض والشفاء من الله جل وعلا فاستعمل في كلامه حسن الأدب
﴿والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين﴾ أي وهو تعالى المحيي المميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي
﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ أي أرجو من واسع رحمته أن يغفر لي ذنبي يوم الحساب والجزاء حيث يُجازى العباد بأعمالهم، وفيه تعليم للأمة أن يستغفروا من ذنوبهم ويقرُّوا بخطاياهم
﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ أي هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادك الصالحين
﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ﴾ أي اجعلْ لي ذكراً حسناً وثناءً عاطراً
﴿فِي الآخرين﴾ أي فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكر به ويُقتدى بي قال ابن عباس: هو اجتماعُ الأمم عليه، فكلُّ أمةٍ تتمسك به وتُعظّمه
﴿واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم﴾ أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جناتِ الخُلد
﴿واغفر لأبي﴾ أي اسفح عنه واهده إلى الإيمان
﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين﴾ أي ممن ضلَّ عن سبيل الهدى قال الصاوي: وقد أجابه الله تعالى في جميع دعواته سوى الدعاء بالغفران لأبيه وقال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به فلذلك استغفر له، فلما بان له انه لا يفي تبرأ منه
﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ أي لا تُذلَّني ولا تُهِنيِّي يومَ بتعث الخلائق للحساب، وهذا تواضعٌ منه امام عظمة الله وجلاله وإلا فقد أثنى الله عليه بقوله
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] الآية
﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ أي في ذلك اليوم العصيب لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد
﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى﴾ إي إلا من جاء ربَّه في الآخرة
﴿الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أي بقلب نقيٍّ
352
طاهر، سليم من الشرك والنفاق، والحسد والبغضاء، وإِلى هنا تنتهي دعوات الخليل إبراهيم ثم قال تعالى
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي قُرِّبت الجنة للمتقين لربهم ليدخلوها قال الطبري: وهم الذين اتقوا عقابَ الله بطاعتهم إيّاه في الدنيا
﴿وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ﴾ أي وأُظهرتِ النارُ للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنون يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المساءة والأحزان
﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ أي قيل للمجرمين على سبيل التقريع والتوبيخ
﴿أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي أين آلهتكم الذين عبدتموهم من الأصنام والأنداد؟
﴿هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ﴾ أي هل ينقذونكم من عذاب الله، أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسه؟ وهذا كله توبيخ
﴿فَكُبْكِبُواْ فِيهَا﴾ أي أُلقوا على رءوسهم في جهنم قال مجاهد: دُهوروا في جهنم وقال الطبري: رُمي بعضُهم على بعض، وطُرح بعضُهم على بعض منكبين على وجوههم
﴿هُمْ والغاوون﴾ أي الأصنامُ ولامسركون والعابدون والمعبودون كقوله
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨]
﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ﴾ أي وأتباعُ إبليس قاطبة من الإِنس والجن
﴿قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ﴾ أي قال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون
﴿تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي نقسم بالله لقد كنا في ضلالٍ واضح وبعدٍ عن الحق ظاهر
﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين﴾ أي حين عبدناكم من عربّالعلامين وجعلناكم مثله في استحقاق العبادة
﴿وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون﴾ أي وما أضلنا عن الهدى إلاّ الرؤساء والكبراء الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي
﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ﴾ أي ليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم
﴿وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ أي ولا صديقٍ خالص الود ينقذنا من عذاب الله
﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أي لو أن لنا رجعةً إلى الدنيا
﴿فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرةً يعتبر بها أولو الأبصار
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ اي وما كان أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإِسلام بمؤمنين
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِيجاز بالحذفِ
﴿فانفلق﴾ أي فضرب البحر فانفلق.
٢ - التشبيه المرسل المجمل
﴿كالطود العظيم﴾ أي كالجبل في رسوخه وثباته ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
٣ - الطباق بين
﴿يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ وكذلك بين
﴿يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾.
٤ - مراعاة الأدب
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ لم يقل: وإِذا أمرضني بل أسند المرض لنفسه تأدباً مع الله لأنَّ الشرَّ لا يُنسب إليه تعالى أدباً، وإِن كان المرضُ والشفاء كلاهما من الله.
٥ - الاستعارة اللطيفة
﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ﴾ استعار اللسان للذكر الجميل والثناء الحسن وهو من ألطف الاستعارات.
353
٦ - المقابلة البديعة
﴿وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ﴾ مقابل قوله عن السعداء
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾.
٧ - مراعاة الفواصل في أواخر الآيات مثل
﴿الْمُتَّقِينَ، الْغَاوِينَ، ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ وهو من السجع الحسن الذي يزيد في جمال البيان.
تنبيه:
«روي أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترةٌ وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصن! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب: إنك وعدتني ألاّ تخزني يوم يُبعثون، فأي خزيٍ أخزى من ابي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول يا إبراهيم: انظر تحت رجلك فينظر فإِذا هو بذيخ - ذكر من الضباع - متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» رواه البخاري.
354
المنَاسَبَة: لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله عقاب المكذبين.
اللغَة:
﴿المشحون﴾ المملوء يقال: شحنَ السفينةَ أي ملأها بالناس والدواب والطعام
﴿رِيعٍ﴾ الرِّيع: ما ارتفع من الأرض، والرِّيعُ: الطريق
﴿مَصَانِعَ﴾ المراد بها الحصون المشيَّدة وهو قول ابن عباس قال الشاعر:
تركنا ديارهم منهم قِفازاً | وهدَّمنا المصانع والبروجا |
﴿بَطَشْتُمْ﴾ البطش: السطوةُ والأخذ بالعنف يقال: بطَش يبطِشُ إذاأخذه بشدة وعنف
﴿الجبلة﴾ الخليقة قال الهروي: الجبلَّة والجِبلُّ: الجمع ذو العدد الكثير من الناس ومنه قوله
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ [يس: ٦٢] أي ناساً كثيرين ويقال: جُبل فلانٌ على كذا أي خُلق
﴿كِسَفاً﴾ جمع كِسْفة وهي القطعة من الشيء.
355
التفسِير:
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ أي كذِّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال
﴿المرسلين﴾ لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ﴾ أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحاداً منهم لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذامن قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ومنه بيت الحماسة
«لا يسألون أخاهم حين يندبهم» ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام؟
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب
﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي خافوا عذاب الله وأطيعوا أمري
﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى
﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ كرره تأكيداً وتنبهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه
﴿قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ﴾ أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول
﴿واتبعك الأرذلون﴾ أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم، وقصور رأيهم فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بدعوة نوح
﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما إليَّ ظاهرهم
﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك
﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين﴾ أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطرد من آمن من الضعفاء
﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءٌ كان شريفاً أو وضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً
﴿قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين﴾ أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم
﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ أي قال نوح يا ربّ إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا بي
﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل
﴿وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين﴾ أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون﴾ أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان
﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين﴾ أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي وما أكثر الناس بمؤمنين
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة، ثم شرع تعالى في ذكر قصة
«هود» فقال
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين﴾ أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً
356
فقد كذب جميع المرسلين
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره!
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين
﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري
﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بلك موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث؟ قال ابن كثير: الرَّيع المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهرة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضيينعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة
﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون؟
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول دعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئه
﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكْرهم نعم الله فقال
﴿واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات
﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والنهار، وأغذق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر
﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم واشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان.
. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم
﴿قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين﴾ أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قولهوعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وانه كاذبٌ فيما ادَّعاه
﴿إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين
﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذاتِ البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم
357
كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعباده المؤمنين، ثم شرع تعالى في ذكر قصة
«صالح» فقال
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين﴾ أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم
«صالحاً» ومن كذَّب رسولاً ققد كذب جميع المرسلين
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾ ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره!
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر
﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهنآ آمِنِينَ﴾ أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى
﴿واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١] فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت
﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي في بساتين وأنهار جاريات
﴿وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل الرطب اللين؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكّرهم صالحٌ بنعم اله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى
«الهضيم» اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج
﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ﴾ أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم
«هود» هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم
«صالح» هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبينة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف
﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم
﴿وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين﴾ أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين
﴿الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله
﴿وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ [النمل: ٤٨]
﴿قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ أي من
358
المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسَّر مبالغةٌ من المسحور
﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله
﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك
﴿قَالَ هذه نَاقَةٌ﴾ أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين توسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم
﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربُهم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى
﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾ أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب
﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالئوا على قتلها وعقرها
﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ﴾ أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل
﴿فَأَخَذَهُمُ العذاب﴾ أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي لعظةٌ وعبرة لمن عقل وتدبَّر
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ تقدم تفسيرهخا فيما سبق، ثم شرع تعالى في ذكر قصة
«لوط» فقال
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين﴾ أي كذبوا رسولهم لوطاً
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره!
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط
﴿أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين﴾ استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق؟
﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ قال لمجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال
﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من
359
الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان
﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين﴾ أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد
﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين﴾ أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم
﴿رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ اي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى
﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين﴾ أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته
﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين﴾ أي أهلكناهم اشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً﴾ أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر
﴿فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾ أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر
﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ تقدم تفسيره، ثم شرع تعالى في ذكر قصة
«شعيب» فقال:
﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين﴾ أي كذَّب أضحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ سبق تفسيره
﴿أَوْفُواْ الكيل﴾ أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن
﴿وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾ أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان
﴿وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم﴾ أي زنوا بالميزان العدل السويّ
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ أي لا تُنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبنأو الغصب ونحو ذلك
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب
﴿واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين﴾ أي خافوا الله لاذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين
﴿قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك
﴿وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول
﴿وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين﴾ أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله
﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ أي أنزلْ علينا العذاب قِطِعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب
﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب
﴿قَالَ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإِن كنتم تستحقون عقاباص آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة﴾ أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذاب يوم الظلة وهي السحابة التي أظلتهم، قال المفسرون: بعث الله
360
عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال
﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإِنما كرر في نهاية كل قصة قوله
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - إطلاق الكل وإِرادة البعض
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ أراد بالمرسلين نوحاً وإِنما ذكره بصيفة الجمع تعظيماً له وتنبيهاً على أن من كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين.
٢ - الاستفهام الإِنكاري
﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ ؟
٣ - الاستعارة اللطيفة
﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل، استعار الفتاح للحاكم والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر ففيه استعارة تبعية.
٤ - الطباق
﴿يُفْسِدُونَ.. وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾.
٥ - الجناس غير التام
﴿قَالَ.. القالين﴾ الأول من القول والثاني من قلى إذا أبغض.
٦ - الإِطناب
﴿أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾ لأن وفاء الكيل هو في نفسه نهي عن الخسران، وفائدته زيادة التحذير من العدوان.
٧ - المبالغة
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ والمسحَّر مبالغة عن المسحور.
٨ - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل
﴿يُفْسِدُونَ، يُصْلِحُونَ، الأرذلون﴾.
361
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتبعه بذكر ما يدل على نبوته من تنزيل هذا القرآن المعجز على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين.
اللغَة:
﴿زُبُرِ﴾ الزُّبُر: الكُتُب جمع زَبور كرسول ورُسُل
﴿الأعجمين﴾ جمع أعجمي وهو الذي لا يُحسن العربية، يقال: رجل أعجمي إذا كان غير فصيح وإِن كان عربياً، ورجلٌ عجمي أي غير عربي وإن كان فصيح اللسان
﴿بَغْتَةً﴾ فجأة
﴿مُنظَرُونَ﴾ مؤخرون وممهلون يقال: أنْظره أي أمهله
﴿أَفَّاكٍ﴾ كذَّاب
﴿مُنقَلَبٍ﴾ مصير.
التفسِير:
﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ أي وإِن هذا القرآن المعجز لتنزيلُ ربٌ الأرباب
﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ أي نزل به أمين السماء جبريل عليه السلام
﴿على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾ أي أنزله على قلبك يا محمد لتحفظه وتُنذر بآياته المكذبين
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ أي بلسانٍ عربي فصيح هو لسان قريش، لئلا يبقى لهم عذر فيقولوا: ما فائدة كلامٍ لا نفهمه؟ قال ابين كثير: أنزلناه باللسان العربي الفصيح، الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً، قاطعاً للعذر مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة
﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين﴾ أي وإن ذكر القرآن وخبره لموجودٌ في كتب الأنبياء السابقين
﴿أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أولم يكن لكفار مكة علامة على صحة القرآن
﴿أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم كعبد الله بن سلام وأمثاله
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين﴾ أي لو نزلنا هذا القرآن بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية
﴿فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ أي فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضم إعجاز القرآن إلى إعجاز المقروء ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم
﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين﴾ أي كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه ثم لم يؤمنوا به وجحدوه
﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي لا يصدّقون بالقرآن مع ظهور إعجازه
﴿حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ أي حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حيث لا ينفع الإِيمان
﴿فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً﴾ أي فيأتيهم
362
عذاب الله فجأة
﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ اي وهم لا يعلمون بمجيئه ولا يدرون
﴿فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ﴾ أي فيقولوا حين يفجأهم العذاب - تحسراً على ما فاتهم من الإِيمان وتمنياً للإمهال - هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدّق
﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ إِنكارٌ وتوبيخ أي كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون ويقولون
﴿ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] وحالُهم عند نزول العذاب أنهم يطلبون الإِمهال والنظرة؟
﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ أي أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش
﴿ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ أي ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به
﴿مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ﴾ ؟ أي ماذا ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم، وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن، أو دفع العذاب؟
﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى، ولا أُمةً من الأمم
﴿إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ﴾ أي إلاّ بعدما ألزمناهم الحجة بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين
﴿ذكرى﴾ أي ليكون إهلاكهم تذكرةً وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم
﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي وما كنا ظالمين في تعذيبهم، لأننا أقمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم.
. ثم إنه تعالى بعد أن نبّه على إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد عليه السلام ردَّ على قول من زعم من الكفار أن القرآن من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فقال
﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين﴾ أي وما تنزَّلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمين
﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي وما يصح ولا يستقيم أن يتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلاً
﴿إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ﴾ أي أنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد عليه اسلام، وحيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به؟ قال ابن كثير: ذكر تعالى أنه يمتنع ذلك عليهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإِضلال العباد، وهذا فيه نورٌ وهدى وبرهان عظيم، الثاني: أنه لو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، وهذا من حفظ الله لكتابه وتأييده لشرعه الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزلٍ عن استماع القرآن، لأن السماء مُلئت حرساً شديداً وشهباً، فلم يخلص أحد من الشياطين لاستماع حرفٍ واحد منه لئلا يشتبه الأمر
﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره أي لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر
﴿فَتَكُونَ مِنَ المعذبين﴾ أي فيعذبك الله بنار جهنم قال ابن عباس: يُحذّر به غيره يقول: أنتَ أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك، ثم أمر تعالى رسوله بتبليغ الرسالة فقال
﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ أي خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قام حين نزلت عليه
﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ فقال:
«يا معشر قريشٍ اشتروا أنفسكم من اللَّهِ لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنك من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بنَ عبدِ المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً» قال المفسرون: وإِنما أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإنذار أقاربه
363
أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباه واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع
﴿واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾ أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين
﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم
﴿وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم﴾ أي فوّض جميع أمورك إلأى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته
﴿الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة
﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة
﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين﴾ ؟ أي قل يا محم لكفار مكة: هل أخبركم على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين
﴿تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا علىسيّد ولد عدنان
﴿يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث
«تلك الكلمةُ من الحقِّ يخْطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبه» ﴿يُلْقُونَ السمع﴾ هم الشياطين كانواقبل أن يُحجبوا بالرجم يسمَّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة «وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال
﴿والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾ أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين
﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال
﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم
﴿وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً﴾ أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم وديدنهم
﴿وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ أي هجوا المشركين دفاعاً عن
364
الحق ونصرةً للإِسلام
﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا﴾ وعيدٌ عام في كل ظالم، تتفتت له القلوب وتتصدع لهوله الأكباد أي وسيعلم الظالمون والمعادون لدعوة الله ومعهم الشعراء الغاوون
﴿أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ؟ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه؟ وأي مصير يصيرون إليه؟ فإِنَّ مرجعهم إلى العقاب وهو شرُّ مرجع، ومصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التأكيد بإِنَّ واللام
﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ لأن الكلام مع المتشككين في صحة القرآن فناسب تأكيده بأنواع من المؤكدات.
٢ - الاستفهام للتوبيخ والتبكيت
﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ ؟
٣ - جناس الاشتقاق
﴿يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ﴾.
٤ - المجاز المرسل
﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ المراد به أهلها.
٥ - أسلوب التهييج والإلهاب
﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَر﴾ الخطابُ للرسول بطريق التهييج لزيادة إخلاصه وتقواه.
٦ - الاستعارة التصريحية
﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ شبه التواضع ولين الجانب بخفض الطائر جناحه عند إرادة الانحطاط فأطلق على المشبّه اسم الخفض بطريق الاستعارة المكنيَّة.
٧ - صيغتا المبالغة
﴿أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ لأن فعّال وفعيل من صيغ المبالغة أي كثير الكذب كثير الفجور.
٨ - الطباق بين
﴿يَقُولُونَ.. ويَفْعَلُونَ﴾ وبين
﴿انتصروا.. وظُلِمُواْ﴾.
٩ - الاستعارة التمثيلية البديعة
﴿فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ مثَّل لذهابهم عن سنن الهدى وإِفراطهم في المديح والهداء بالتائه في الصحراء الذي هام على وجه فهو لا يدري أين يسير، وهذا من ألطف الاستعارات، ومن أرشقها وابدعها.
١٠ - جناس الاشتقاق
﴿مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾.
١١ - مراعاة الفواصل مما يزيد في جمال الكلام ورونقه مثل
﴿يَهِيمُونَ، يَنقَلِبُونَ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ الخ.
لطيفَة: ذُكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ قوله تعالى
﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ﴾ ؟ ثم يبكي وينشد:
نهارُك يا مغرور سهْوٌ وغفلة | وليلُك نومٌ والرَّدى لك لازم |
تُسرُّ بما يَفنى وتفرح بالمُنى | كما سُرَّ باللَّذات في النوم حالمُ |
وتسْعى إلى ما سوف تكره غبَّه | كذلك في الدنيا تعيشُ البهائم |
تنبيه: الشعر بابٌ من الكلام حسنُه حسنٌ، وقبيحُه قبيحٌ، وإِنما ذمَّ تعالى الشعر لما فيه من المغالاة والإِفراط في المديح أو الهجاء، ومجاوزة حدِّ القصد فيه حتى يفضّلوا أجبن الناس على
365
عنترة، وأشحَّهم على حاتم، ويبهتوا البريء ويفسّقوا التقي، وربما رفعوا شخصاً إلى الأوج ثم إِذا غضبوا عليه أنزلوه إلى الحضيض، وهذا مشاهد ملموس في أكثر الشعراء إلا من استثناهم الله عَزَّ وَجَلَّ، والشاعر قد يمدح الشيء ويذمه بحلاوة لسانه وقوة بيانه، ومن ألطف ما سمعتُ من بعض شيوخي ما قاله بعض الشعراء في العسل:
تقولُ: هذا مُجاج النَّحل تمدحُه... وإِنْ تعب قلت: ذا قيءُ الزنابير
مدحاً وذماَ وما جاوزت وصفهما | سحرُ البيان يرى الظلماء كالنور |
لطيفَة: ذُكر أن الفرزدق أنشد أبياتاً عند
«سليمان بن عبد الملك» وكان في ضمنها قوله في النساء العذارى:
فبتْن كأنهنَّ مُصرَّعاتٌ | وبتُّ أَفُضُّ أغلاقَ الخِتام |
فقال له سليمان: قد وجب عليك الحد، فقال أمير المؤمنين إن الله قد درأ عني الحدَّ بقوله
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ فعفا عنه.
366