بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم عليه السلاموهي مكية١
إلا آيتين منها٢ نزلتا بالمدنية٣، في من قتل٤ من المشركين يوم بدر، وهما قوله ( تعالى )٥ :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا ﴾[ ٣٠-٣١ ] إلى آخر الآيتين- قاله قتادة٦.
إبراهيم ٣٠-٣٢ وانظر: معاني الزجاج ٣/١٥٣، وناسخ النحاس ١/٢١٢، والمحرر ١٠/٥٧، والجامع ٢٢٢ والإتقان ١٥..
٢ ق: نزلا..
٣ ط: في المدينة..
٤ ق: فيمن قتلا..
٥ ساقط من ط..
٦ انظر: ناسخ النحاس ١/٢١٢..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم عليه السلاموهى مكية
إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، فى من قتل من المشركين يوم بدر، وهما قوله (تعالى):
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا)
إلى آخر الآيتين - قاله قتادة.
قوله: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ إلى قوله ﴿ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ قد تقدم الكلام في ﴿الر﴾ والمعنى: هذا الكتاب أنزلناه إليك يا محمد، لتخرج به الناس من الضلال
ولم يقل للناس، وقال في الفرقان: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ١]، ولم يقل للعرب. وقال لموسى عليه السلام ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ [إبراهيم: ٥]، ولم يقل للناس كما قال لمحمد ﷺ: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: ٢٨]، ولم يقل: للعرب.
وقوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾: أي: يخرجهم بإذن ربهم، أي: بتوفيقه لهم
ثم بين النور ما هو فقال: ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾: أي: إلى طريق الله، تعالى المستقيم، وهو دينه الذي ارتضاه لخلقه.
" والحميد ": فعيل مصروف من " مفعول " المبالغة، ومعناه، المحمود بآلائه. وأضاف الإخراج إلى النبي ﷺ ( لأنه) المنذر المرسل بذلك. و (الله)، ( تعالى) هو المخرج لهم، والهادي على الحقيقة.
ثم بين العزيز الحميد من هو؟ فقال: ﴿الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات﴾ أي: وهو الذي يملك جميع ما في السماوات، وجميع ما في الأرض. فأعلم الله، ( تعالى) نبيه ﷺ أنه إنما أنزل عليه كتاب ليدعو عبادة إلى عبادة من هذه صفته، ويتركوا عبادة
ثم توعد الله ( تعالى)، من لا يؤمن بما جاء (ب) هـ نبيه ﷺ: فقال: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾: وقد تقدم بيان معنى (ويل). وأكثر المفسرين على أن ويلاً واد في جهنم، فيه عقارب كالنجب، وفيه ألوان من العذاب.
ثم بين صفة الكافرين، فقال: ﴿الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة﴾ أي: يختارون زينة الحياة الدنيا، فيعصون الله، ويتركون طاعته، وهم مع ذلك
﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾: أي: يمنعون من أراد الإيمان بالله، ( تعالى) واتباع رسوله.
﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾: أي: يلتمسون العوج لدين الله، (سبحانه)،
﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾، أي: هؤلاء المذكورون في ذهاب عن الحق بعيد.
قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ إلى قوله ﴿(مِّن رَّبَّكُمْ) عَظِيمٌ﴾: المعنى: وما أرسلنا رسولاً إلا بلغه ليفهموا عنه، فالمعنى: وأرسل النبي ﷺ، بلغة سعد ابن بكرٍ بن هوازن: وهي أفصح اللغات. فالمعنى: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم من قبل محمد ( ﷺ من رسول) إلا بلسان الأمة التي أرسل إليها، ليبين لهم ما أرسله
﴿وَهُوَ العزيز﴾: أي: الممتنع ممن أراده (ولا يمتنع عليه أحد) [إن] أراد خذلا (نه)، لأنه الحكيم في توفيقه للإيمان من أراد أن يوفقه.
فإن قيل: فيجب ألا تلزم الحجة من كان من العجم، لأنهم لا يفهمون لسان العرب، فالجواب: أنه إذا ترجم ما جاءهم به النبي ﷺ بلسانهم، وفهموا الدعوة لزمتهم الحجة، لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ ٢٨]، ولقوله: ﴿(لأُنذِرَكُمْ) بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] ولقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
فكل من بلغته دعوة النبي ﷺ، وفهم ما دعاه إليه
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ (مِنَ الظلمات إِلَى النور)﴾: قوله: ﴿أَنْ أَخْرِجْ﴾ " أن " في موضع نصب على تقدير حذف (حرف) الجر. والتقدير: بأن أخرج.
(وقيل: " أن " زائدة، ومثله: كتبت إليه أن قم): ومعنى الآية ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى﴾ من قبل محمد ﷺ، بالأدلة والحجج، والآيات، وهي التسع آيات المذكورة في القرآن. بأن يخرج قومه من الكفر إلى الإيمان، ويذكرهم: ﴿بِأَيَّامِ الله﴾: أي: بنعم الله عليهم في الأيام الخالية، إذ أنقذهم من آل فرعون،
(وكذلك رواه ابن عباس، عن النبي ﷺ أنه قال: بأيام الله: بنعم الله).
قال مالك، ( C) ﴿ بِأَيَّامِ الله﴾: ببلاء الله الحسن عندهم، وأياديه.
وقال ابن زيد: المعنى: وذكرهم بالأيام التي انتقم الله، فيها من الأمم الماضية، فيتعظوا، ويزدجروا، ويخافوا أن يصيبهم مثل ما أصاب من كان
وقال قتادة عند تلامة هذه الآية: " نِعْم العبدُ عبدٌ إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر ".
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا﴾: أي: واذكر يا محمد! إذ قال موسى لقومه: ﴿اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾: (أي): يذيقونكم شديد العقاب. وقد يجوز (مع ذلك) أبناءكم، ودخلت الواو مع
وروي أن فرعون كان يذبح كل غلام، ويستحي النساء، وكانت الحوامل عنده مدونات، والقوابل يغدون عليهن ويرحن. وعندهم رجال قد شدوا أوساطهم، وجعلوا فيها السكاكين التي يذبحون بها الولدان. وأيديهم مخضبة بالدماء.
ثم قال (تعالى): ﴿وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ﴾: أي: اختبار لكم من ربكم. ويكون البلاء هنا النعمة، فيكون المعنى: (إن) في إنجائه
وقيل: المعنى: وفيما جرى عليكم بلية عظيمة.
قوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ والمعنى: واذكروا إذا تأذن ربكم. (أي): أعلمكم ربكم. ومنه الأذان، أنه إعلام. " وتفعل " يقع على موضع " أفعل "، والعرب تقول: أوعدته، وتوعدته، بمعنى واحد.
وقال ابن مسعود: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾: أي: قال ربكم. وكذلك قال ابن زيد: معناه: قال ربكم ذلك التأذن.
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ﴾: معناه: القسم، والمعنى: ولئن شكرتم ربكم بطاعتكم إياه، فيما أمركم به، ونهاكم عنه، ليزيدنكم من النعم.
وقال سفيان بن عيينة: (قال سفيان): ليست الزيادة من الدنيا، أهون على الله من أن يجعلها ثواباً لطاعته، ولا أثاب (بها) أحداً من رسله وأهل طاعته، وهم أشكر الخلق.
وقيل: المعنى: لئن أطعتموني بالشكر، لأزيد (نك) م من أسباب الشكر ما يعينكم عليه.
وقيل: إن المعنى: لأزيد (نك) م من الرحمة والتوفيق والعصمة.
وقوله: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ﴾: أي: (إن) كفرتم النعمة، فجحدتموها بترك الشكر عليها.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾.
أي: قال لقومه: إن تكفروا، فتجحدوا نعمة الله عليكم، ويفعل مثل ذلك كل من في الأرض ﴿فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ﴾ عنكم وعنهم. ﴿حَمِيدٌ﴾: أي: ذو حمد إلى خلقه بما أنعمه عليهم.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾.
والمعنى: إن الله تعالى أخبرنا خبر الأمم الماضية، الذين لا يحصى عددهم إلا الله ( تعالى) ﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾: بالآيات الظاهرات، يدعونهم إلى الله (سبحانه) وإلى طاعته.
﴿فردوا أَيْدِيَهُمْ / في أفواههم﴾: أي: عضت الأمم على أصابعها، تغيظاً
وقال ابن زيد: هو مثل: ﴿عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ [آل عمران: ١١٩].
وقيل: المعنى: أنهم لما سمعوا كتاب الله تعالى عجبوا منه، و (و) ضعوا أيديهم على أفواههم تعجباً. قاله ابن عباس.
وقيل: المعنى: كذبوهم بأفواههم، وردوا عليهم. قاله مجاهد.
وقال قتادة: كذبوا الرسل، وردوا عليهم بأفواههم، فقالوا: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾. وهو مثل قول مجاهد.
وقيل: معناه: إنهم كانوا يشيرون بأيديهم إلى أفواههم، يسكتون الرسل إذا دعوهم إلى الإيمان أن اسكتوا تكذيباً لهم، ورداً لقولهم.
وقيل: المعنى: إنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل، رداً لقولهم،
وقيل: هو مثل يراد به السكوت، لأن العرب تقول: سألت فلاناً (في) حاجة فرد يدع في فيه، إذا سكت عنه فلم يجبه.
فالمعنى: أنهم يسكتون إذا دعتهم الرسل إلى الله، فلا يقبلون الدعاء وقيل: المعنى: (فردوا أيدي الرسل) في أفواههم، أي: ردوا نعم الله، الت يأتتهم على ألسنة الرسل بأفواههم فتكون " في " بـ (معنى) " الباء "، واليد تكون في كلام العرب: النعمة، يقال: لفلان عندي (يد: نعمة، وكان (.
..) على هذا القول (...) يكون على وزن (...) لأن جمع يد (النعمة):
وقوله: ﴿بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾ يدل على كثرة من مضى من الخلائق.
قال ابن مسعود: وكذب النسَّابون.
قال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يدري ما وراء عدنان.
وقال ابن عباس: بين عدنان، وإسماعيل ثلاثون أباً لا يُعرفون.
ثم أخبر عنهم تعالى بما قالوا للرسل (فقال): ﴿وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾: أي " كفرنا بما جئتمونا من ترك عبادة الأوثان [وقالوا]: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ﴾ أي: لفي شك من توحيد الله الذي تأمروننا (به).
قوله (تعالى): ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات﴾ إلى قوله ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾: والمعنى: أن الله ( تعالى) أعلمنا بجواب الرسل للأمم، إذ شكت في توحيد الله سبحانه، وأنها قالت للأمم: ﴿أَفِي الله شَكٌّ﴾: أي (أ) في توحيد الله شك وهو خلق السماوات والأرض، يدعوكم إلى توحديه، وطاعته، ليغفر لكم من ذنوبكم، إن أنتم آمنتم به، واتبعتم أمره، وقبلتم نهيه. فلا يعذبكم على ما ستر عليكم من ذنوبكم، ويؤخر آجالكم، فلا يعاقبكم في العاجل فيهلككم، ولكن يؤخركم إلى الوقت الذي كتب (عليكم) في أم الكتاب.
و" من " في قوله: ﴿مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾، قال أبون عبيدة: هي زائدة، والمعنى:
والمعنى: يغفر لكم / بعضها، إذ لا يأتي أحد يوم القيامة إلا بذنب، إلا النبي محمداً ﷺ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر في الدنيا.
والمغفرة لغيره إنما تكون في الآخرة. فأما قوله في الصف: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الصف: ١٢]، فإنما ذلك على الشرط الذي تقدم من الله لهم. فقالت الأمم لهم: ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾: أي: ما أنتم أيها الرسل إلا بشر مثلنا في الصورة، ولستم ملائكة تريدون بقولكم هذا أن تصرفونا: ﴿عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ [آبَآؤُنَا]﴾: من الأوثان، ﴿فَأْتُونَا﴾ على قولكم: ﴿بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾: أي: بحجة ظاهرة.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾: أي: صدقتم في قولكم لنا: ما أنتم إلا بشر مثلنا.
﴿ولكن يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾: فيهديه، ويوفقه للحق، ويرسله إلى
﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ﴾: أي: بحجة وبرهان على ما ندعوكم إليه من توحيد الله ( تعالى)، وطاعته (جلت عظمته).
﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾: أي بأمره، ﴿وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ / المؤمنون﴾: أي: عليه فليتوكل من آمن به، وأطاعه. فهذا كلام ظاهره الحظر والمنع، ولا يحظر (على فعل شيء لا يقدر) عليه البتة، ولا في الطاقة فعله، ولكن معناه: وما كنا لنأتي بسلطان ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾: نفوا ذلك عن أنفسهم، إذ، لا قدرة لهم عليه. ولو حمل على ظاهره لكان معناه: إنهم يقدرون على الإتيان بالسلطان، وهو الحجة. ولكن لا يفعلونه إلا بإذن الله، وليس الأمر كذلك (إذ) لا مقدورة لهم على ذلك البتة، فلا يتم المعنى حتى يحمل على النفي.
ثم قال تعالى: قالت لهم الرسل: ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله﴾: (أي: شيء لنا في ترك التوكل على الله)، ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾. أي: قد بصرنا طريق النجاة من عذابه.
فقالت الأمم للرسل: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ﴾: أي: لنطردنكم من مدينتنا، ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾: أي: إلا أن تدخلوا في ديننا. و " أو " عند بعض أهل اللغة بمعنى: " إلا ". وقيل: معنى " أو ": حتى تعودوا ودخلت اللام في " لتعودن " لأن في الكلام معنى الشرط، كأنه جواب لليمين. والتقدير: لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، كما تقول: لأضربنك أو تُقِرَّ لي.
﴿فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾: أي: أوحى الله إلى الرسل.
﴿رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين﴾: وهو قسم من الله، (وهو) كله وعيد وتهدد لقريش (ومن يليهم من العرب، وتنبيه للنبي ﷺ، ليعلم ما لقيت الرسل مثله من
ثم قال تعالى للرسل: ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ﴾: أي: لنسكنن من آمن بكم الأرض، ومن بعد إهلاك الظالمين. فوعدهم تعالى بالنصر في الدنيا.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾: أي: ذلك النصر يكون لمن خاف مقامي بين يدي الله ( تعالى) في الآخرة، فاتقى الله، وعمل بطاعته.
والمصدر يضاف إلى الفاعل مرة، وإلى المفعول به أخرى. فهو هنا مضاف إلى الفاعل.
ثم قال: ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾: أي: خاف تهددي.
قوله: ﴿واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾.
والمعنى: واستفتحت الرسل على قومها لما كذبوهم: أي: استنصروا الله عليها لما وعدهم بالنصر على الأمم، وأنه يسكنهم الأرض من بعد الأمم.
هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
فالاستفتاح عنده مسألة العذاب.
وقد روي أنه قيل لقريش حين استفتحوا / العذاب: إن لهذا أجراً يؤخر إلى يوم القيامة، فقالوا: ﴿رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ [ص: ١٦]: أي: عجل لنا نصيبنا من العذاب على (طريق) التكذيب به، (و) على هذا أتى قوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ [العنكبوت: ٥٣] الآية.
قال المفسرون: هو من امتنع أن يقول: لا إله إلا الله.
وقال قتادة: العنيد: الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله ".
وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقاً.
وقيل: هو أبو جهل لعنه الله وُنَظَراؤُهُ.
ويقال: جبار بين الجبرية والجَبْرِيَّة بكسر الجيم، والباء، والجَبَرُوةُ والجَبْرُوَّة، والجبروت، والعنيد: المعاند للحق.
وقوله: ﴿ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾: الصديد: الدم، والقيح يتجرعه ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي: يتحساه، ولا يكاد يزدرده من شدة كراهيته، أي: لا يقدر يبلعه.
وروي عن النبي ﷺ: أنه قال في قوله: ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾. قال يقرب إليه فيكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه. فإذا شربه، قطع
ثم قال تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾: أي: يأتيه الموت عن يمينه، وشماله، وخلفه، وقدامه.
وقيل: معناه: من كل مكان في بدنه من شدة عذابه.
﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾: أي: لا تخرج نفسه، والمعنى: يأتيه ما يُمات منه من كل جانب، وليس يموت.
قال: ابن جريج: " تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فيجد لذلك راحة ".
ثم قال: ﴿وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾: أي: من وراء ما هو فيه من العذاب، - يعني - أمامه (عذاب غليظ).
قال الفضيل: هو حبس الأنفاس.
وقال القرظي: محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآن، مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتاتٍ. فهو قوله: ﴿(وَيَأْتِيهِ) الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾.
قوله (تعالى): ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ - إلى قوله - ﴿عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾، التقدير عند سيبويه، والأخفش، وفيما نَقُص عليكم مثل الذين كفروا، كما قال: ﴿مَّثَلُ الجنة﴾ [الرعد: ٣٥].
ومعنى الآية: أنه مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة، وأنها مثل رماد ضربته ريح عاصف. فماذا تبقى منه؟ (كذلك) لا يبقى للكفار من أعمالهم شيء ينتفعون به، لأنهم أرادوا بها غير ذلك (سبحانه).
ووصف (يوم) بالعصوف، (وحقيقته) للريح، وإنما جاز ذلك لأنه بمعنى النسب. تقديره: في يوم عصف، (وتقديره) عند الفراء: في يوم عاصف الريح، وحذفت الريح لتقدم ذكرها.
﴿لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ﴾: أي: لا يقدرون أن ينفعهم شيء من أعمالهم، كما لا يقدرون على النفع بشيء، ومن رماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ والمعنى: ألم تر يا محمد بعين قلبك أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق، أي انف (ر) د بذلك من غير ظهير، (ولا) معين.
﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾: أي: يفنيكم، ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ عوضاً منكم، ﴿وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾: أي: ومت ذهابكم، وخلق عوضكم بممتنع على الله ( تعالى)، لأنه القادر على ما يشاء.
فأول الآية خطاب للنبي ﷺ، والمراد به أمته دلّ على ذلك أنه رد الخطاب في آخر الآية إليهم، فقال: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾.
﴿فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا﴾: أي قال التباع للمتبوعين المستكبرين في الدنيا عن عبادة الله تعالى.
﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾، في الدنيا، أي: نتبع أمركم لنا بمعصية الله، تعالى، وترك اتباع الرسل.
﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ﴾: أي: دافعون عنا (من العذاب) شيئاً. قال المتبوعون، وهم القادة للعضفاء، وهم التابعون: ﴿لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ﴾: أي: لو أن لنا شيئاً ندفع به عذابه عنا اليوم، لبيناه حتى تدفعوا به العذاب عن أنفسكم.
قال محمد بن كعب القُرظي: بلغني أن أهل النار، يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما ترون، فلهم فلنصبر، فلعل الله ينفعنا كما صبر أهل لدنيا على طاعة الله ( تعالى)، فنفعهم الصبر. فأجمعوا رأيهم على الصبر، فصبروا، فطال صبرهم، ثك جزعوا فنادوا: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ /: (أي) من ملجأ.
وقال ابن زيد: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالو فإنما أدرك أهل
وروى مالك (Bهـ)، عن زيد بن أسلم أنه قال: صبروا (مائة) عام، ثم بكوا مائة عام. فقالوا: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾.
وروى كعب ابن مالك، عن أبيه، ورفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: " يقول أهل النار إذا اشتد بهم العذاب: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم، قالوا: هلم فلنجزع، فيجزعون ويضجون خمسمائة عام، فلما رأوا
ثم قال تعالى: (ذكره): ﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر﴾. أي: قال إبليس لما دخل أهل الجنة، وأهل النار النار، واستقر بكل فريق قراره.
﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ﴾: أيها الأتباع النار، ﴿وَوَعَدتُّكُمْ﴾: النصرة.
وقيل، معنى: ﴿وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾: أي: وعد من أطاع (هـ) الجنة، ومن عصاه النار.
ووعدتكم أنا خلاف ذلك ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ وعدي، وفي لكم الله بوعده.
﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾: أي: ما كان لي عليكم فيما وعدتكم به من النصرة حجة، تنبتُ لي عليكم بالصدق قول (ي).
أي: بمغيثي يقال: أصرخت الرجل إصراخاً: أغثته.
﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ أي: إني جحدت أن أكون شريكاً لله، (سبحانه) فيما أِركتموني فيه من عباد (ت) كم (من قبل): في الدنيا.
وقال قتادة: معناه: إني عصيت الله فيكم.
وقيل: (من قبل): أي: بطاعتكم إياي في الدنيا، وفيه بعد.
﴿إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي، إن الكافرين لهم اليوم عذاب موجع.
روي أن إبليس اللعين يقوم فيقول: أين أوليائي فيجتمعون إليه فيقول: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾.
قال الحسن: إذا كان يوم القيامة يقوم إبليس خطيباً على منبر من نار فيقول: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ / وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾.
وقال قتادة: رحمة الله عليه في قوله: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾: معناه: إني " عصيت الله قبلكم ".
وقال سفيان الثوري (نظر الله إلى وجهه): {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ (أَشْرَكْتُمُونِ)
وقال ابن عباس: ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ﴾: أي بنافعكم، وما أنتم بنافعي.
وقال الربيع بن أنس ( C) :( ما) أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجي.
وقال محمد بن كعب: إنما قال ذلك، حين قال أهل الجنة: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا﴾.
وروي (عن): عقبة بن عامر الجهني (Bهـ): ، قال: سمعت رسول الله يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين، وفرغ من (القضاء): بين الناس، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا. فمن يشفع لنا عند ربنا، فيقول: انطلقوا بنا إلى من خلقه الله، وكلمه آدم. فيأتونه، فيقولون: اشفع لنا لى ربنا، فيقول: عليكم بنوح
﴿خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾: أي: ماكثين فيها أبداً بأمر ربهم.
﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾: يعني: الملائكة يسلمون عليهم فيها.
فالضمير في تأويل مفعول لم يسم فاعله. أي: يحيون بالسلام (يعني الملائكة يسلمون): (ويجوز) أن يكون الضمير فاعلاً، والمعنى: ويحيي بعضهم بعضاً بالسلام.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ /، (أي): ألم تر بعين
قال ابن عباس ( C) :﴿ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾: يهمي أن شهادة (أن) لا إله إلا الله، ﴿كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾، هي المؤمن، أصلها ثابت: هو قول لا إله إلا الله. ثابت في قلبه ﴿وَفَرْعُهَا فِي السمآء﴾ أي: يرتفع بها عمل المؤمن في السماء.
وقال مجاهد: ﴿كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾: يعني: النخلة.
وقيل: الكلمة الطيبة أصلها ثابت، هي ذات أصل في القلب، يعني التوحيد.
وقال عطية العوفي: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيب، وعمل صالح، يصعد إلى الله تعالى.
وقال الربيع بن أنس: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ في الأرض: ذلك المؤمن ضرب مثله.
وقيل: معنى: وفرعها في السماء: بركتها وثوابها لمعتقدها صاعد إلى الله ( تعالى)، وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(و) قال: مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن جبير، وابن عباس: الشجرة هنا النخلة.
وعن الضحاك أنه قال: هذا مثل ضربه الله ( تعالى) : ، للمؤمن يطيع الله بالليل، ويطيعه بالنهار، (و) يطيعه: كل حين، (كما): أن هذه الشجرة تؤتي أكلها كل حين.
وقوله: ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾: مثل الكافر عمله خبيث، وجسده خبيث، وروحه خبيث. وليس لعمله قرار في الأرض، ولا يصعد إلى السماء.
وقيل: الشجرة هنا: شجرة في الجنة، روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهـ.
وقيل: كل حين: كل وقت، وهو المؤمن يطيع الله، ( تعالى) : بالليل والنهار، وفي كل وقت.
وقال الربيع بن أنس ( C) ( كل حين): كل وقت يصعد عمل المؤمن من أول النهار وآخره.
وقيل: الحين هنا: ستة أشهر، من حيث تُصرْمُ النخلة إلى حين تُطْلِع وذلك ستة أشهر.
وقال سعيد بن المسيب: الحين: شهران، وهو ما دام التمر في النخل، وذلك شهران.
واختلفوا في رجل حلف ألا يكلم رجلاً إلى حين، وألا يدخل الدار إلى حين، على مثل ما اختلفوا في الآية.
والحين عند أهل اللغة: اسم للوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها طالت، أو
واختيار الطبري قول من أن الحين غدوة وعشية، وكل ساعة، على أن الشجرة شجرة في الجنة، لأن الله ( تعالى) ضرب ما تؤتى هذه الشجرة كل حين من الأكل لعمل المؤمن، وكلامه مثلاً. ولا شك أن المؤمن يرتفع له إلى الله، تعالى، في كل يوم عمل صالح.
واختار النحاس أن يكون الحين سنة، على أن الشجرة: النخلة، تؤتي ثمرها من سنة إلى سنة.
والحين عند مالك، ( C) : سنة، ولو نذر رجل أن يصوم حيناً (لصام) سنة وهو قول مجاهد.
وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وأصحاب الرأي: الحين ستة أشهر، فمن نذر صوم حين، صام ستة أشهر.
ثم قال تعالى: ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾، معناه: ومثل الشرك بالله، سبحانه وهي الكلمة الخبيثة: كشجرة خبيثة، وهي: الحنظلة، قال (هـ) مجاهد، وأنس بن مالك وروي عن ابن عباس.
ومعنى: ﴿اجتثت مِن فَوْقِ الأرض﴾، أي استؤصلت.
ومعنى: ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾: أي: ليس من أصل في الأرض تثبت عليه وتقوم. فليس لكفر الكافر ومعصيته ثباتن ولا نفع.
وقيل: الشجرة الخبيثة: الثوم: وقيل: الكثوث.
قوله: ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت﴾ - إلى قوله - ﴿وَلاَ خِلاَلٌ﴾.
ومعناه: يثبت الله الذين آمنوا به وبرسله وكتبه بقوله لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله: أي: يثبتهم (بذلك في الحياة الدنيا: أي: في قبورهم قبل قيام الساعة.
﴿وَفِي الآخرة﴾: قال البراء بن عازب: يثبت الله الذين آمنوا بالشهادة في القبر، إذ أتاهم الملكان، فقالا: من ربك؟ فيقول ربي (الله فيقولان) ما دينك؟ فيقول: دين (ي) الإسلام، فيقولان من نبيك؟
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتفرق عنه أًحابه جاءه ملك بيده مِطْرَاقٌ، فأقعده فقال (له): ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً: قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقول له: صدقت
. فيفتح له باب إلى النار، فيقال (له): هذا منزلك لو كفرت بربك. فأما إذ آمنت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض
ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ زائدة على ما ذكرنا، وناقصة (عن) ما
وقيل: معنى الآية: يثبتهم الله في الحياة على الإيمان، حتى يموتوا عليه ﴿وَفِي الآخرة﴾ المساءلة في القبر، قاله طاووس، وقتادة وهو اختيار جماعة من العلماء.
ومعنى ﴿وَيُضِلُّ الله الظالمين﴾: أي: لا يوفقهم في الحياة الدنيا إلى الإيمان، ولا في الآخرة عند المساءلة في القبر.
وقوله: ﴿وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ﴾: أي: بيده الهداية والضلالة يضل من يشاء فلا يوفقه، ويهدي من يشاء فيوفقه.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾: أي: غيّروا نعمة الله، وهي كون محمد ﷺ من قريش وإرساله إليهم، فجعلوا النعمة كفراً.
قوله: ﴿وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار﴾: أي: أنزلوا قومهم من مشركي قريش دار الهلاك. يقال: بار الشيء: إذا هلك، ثم بينها فقال: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار﴾: أي: بئس المستقر لمن صلاها.
ووقيل: نزلت في المشركين يوم بدر قاله ابن عباس.
﴿وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار﴾: يعني: الذين اتبعوهم.
وقيل: نزلت في أهل مكة عامة: أسكنهم الله تعالى حرمه، وآتاهم نعمه، وجعلهم قوام بيته. فبدلوا ذلك كفراً.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾: أي: جعل هؤلاء الذين
قال ابن مسعود: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصُباً، يعني: تمثالاً، تعبدها قريش من دون الله: فهي الأنداد.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾: أي: قل لهم يا محمد! تمتعوا في هذه الحياة الدنيا، وهذا على طريق التهدد، والوعيد.
﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار﴾: أي عاقبتكم إلى النار تكون.
وقيل: معناه: إن الكافر لو كان في الدنيا مريضاً سقيماً، طول عمره لا يجد ما
ثم قال تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة﴾:
ومعناه: قل يا محمد! لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات الخمس بحدودها.
﴿وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾: أي: مما خولناهم: يعني: الزكاة. سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه، أي: لا يباع ما وجب عليه من العقاب بفدية (ولا عوض).
قال أبو عبيدة: البيع هنا: الفدية.
وقال ابن عباس: ﴿يُقِيمُواْ الصلاة﴾ يعني: الصلوات الخمس، ﴿وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾: يعني: زكاة أموالهم.
قوله: ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات﴾ - إلى قوله - ﴿كَفَّارٌ﴾: والمعنى: " الله الذي أنشأ السماوات والأرض من غير شيء.
﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ﴾: أي: أحيى به الأرض والشجر،
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك﴾ وهي السفن: ﴿لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ﴾ ومعنى " بأمره " لكم، تركبونها، وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار﴾: أي: سخر ماءها شراباً وسقياً لكم.
﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ﴾: أي: متعاقبين عليكم أيها الناس بالليل والنهار لصلاح أنفسكم ومعايشكم.
وقيل: معنى دائبين: متماديان في اختلافهما عليكم. وقال ابن عباس ( C) : هو دؤوبهما في طاعة الله، تعالى، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار﴾: أي: بسخر تعاقبهما عليكم لمنافعكم، وصلاح أحوالكم.
وقال الأخفش: " من كل ما سألتموه (شيئاً)، وحذف شيئاً لدلالة لفظ التبعيض عليه، ولدلالة " ما " التي أضيف إليها " كل " لأنها بمعنى شيء.
وقيل: هذا لفظ عام، ويراد به الخصوص، كما يقال: فلان يعلم كل شيء، وأتاني كل إنسان: يريد البعض، ومثله ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤]
قال مجاهد: معناه: وآتاكم من كل ما رغبتم إليه فيه.
وقيل: المعنى: وآتاكم من كل الذي سألتموه، والذي لم تسألوه.
وقيل: معناه: إن الناس قد سألوا الأشياء عن تفرق أحوالهم، فخوطبوا على ذلك: أي: قد أوتي بعضهم منه شيئاً، وأوتي الآخر منه شيئاً آخر، مما قد سأله.
قال الضحاك ( C) : فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه، ولا طلبناه، ولا خطر لنا على بال.
وجعل الحسن " ما " بمعنى " الذي " مع التنوين. وقال في معناه: وآتاكم من كل ما سألتموه: أي: أعطاكم من كل الأشياء الذي سألتموه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾: أي: (إن) تعدوا نعم الله
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، الإنسان: اسم للجنس وظلوم بني للمبالغة.
والمعنى أن الإنسان غير شاكر من أنعم عليه، وقد وضع الشكر في غير موضعه، يعبد غير من أنعم عليه.
كفار: جحود نعمة من أنعم عليه.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾ - إلى قوله - ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
المعنى: واذكر يا محمد! إذ قال إبراهيم: رب اجعل مكة " بلداً " آمناً، سكانه وأهله. فهذا إشارة إلى البلد، والبلد نعت لهذا، أو عطف بيان. و " آمنا " مفعول
ثم قال تعالى حكاية عن قول إبراهيم ﷺ وعلى نبينا محمد وسلم: ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾: أي: اجعلني وإياهم جانباً عن عبادتها.
وقيل: معناه أنقذني، وإياهم من عبادة الأصنام. والصنم: التمثال المصور، فإن لم يكن مصوراً فهو وثن.
قال مجاهد: أجاب الله، جل ذكره، دعوة إبراهيم في ولده، فلم يعبد أحد منهم صنماً.
ثم قال تعالى، ذكره: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾: أي: إن الأصنام أضللن كثيراً من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن فكفروا بك. وأضاف الفعل إلى الأصنام على ما تعرف العرب من مخاطبتها. يقول العرب: أفتنتني الدار، والمعنى: استحسنتها.
﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، أي: من تبع ما أنا عليه من الإيمان بالله، ( تعالى)، وإخلاص العبادة (له فهو من): أي: من أهل ديني.
﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ فخالف أمري ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ﴾ لذنوب المذنبين. أي: ستار لها إذا تابوا منها بالإيمان. وهذا قريب من قول عيسى ﷺ: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ [المائدة: ١١٨]- الآية -: أي: إن تغفر لهم ذنوبهم بعد توبتهم وإيمانهم. (وفي) ذلك أقوال غير هذا، قد ذكرتها في المائدة.
وغير جائز أن يتأول أحد أن المغفرة ترجى لمن مات على كفره، لقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨، ١١٦]،
وقوله: رحيم: أي: رحيم بعبادك إذا آمنوا قبل موتهم.
قوله: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي / زَرْعٍ﴾ - إلى قوله - ﴿يَوْمَ يَقُومُ الحساب﴾. معنى الآية: إنه دعاء من إبراهيم ﷺ بمكة، وذلك حين أسكن إٍماعيل، وأمه هاجر مكة.
قال ابن عباس: إن أول من سعى بين الصفا والمروة لأم اسماعيل (وإن)
فجعل إبراهيم لا يرد عليها عيناً، فقالت: (آلله) أمرك بهذا؟ قال نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء. أقبل على الوادي، فدعا، فقال: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ - الآية - قال: وكان كع هاجر شن، فيه ماء. فنفد الماء فعطشت، فانقطع اللبن. فعطش الصبي، فنظرت أي: الجبال أدنى من الأرض، فصعدت الصفا، فتسمعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً. فلم تسمع شيئاً، فانحدرت. فلما أتت إلى الوادي سعت وما تريد السعي،
وقد تقدم منه ذكر (كثير) في البقرة. ومعنى: ﴿بَيْتِكَ المحرم﴾: أي: المحرم من استحلال حرمات الله (تعالى) فيه، والاستخفاف بحقه.
وقوله: ﴿فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ﴾: أي: اجعل قلوب بعض خلقك تنزع إليهم، فلذلك قلوب الناس إلى الآن تنزع إلى الحج، ولا تقدر على التخلف.
قال مجاهد ( C) : لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس، والروم، ولكنه قال: من الناس.
والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، وسمي القلب فؤاداً لتفاؤده:
أي: لتوقده، والتفاؤد: التوقد، والمقتاد: موضع وقود النار.
قال عكرمة، وطاووس، وعطاء: قلوبهم تهوى إلى البيت حتى يأتونه: (أي) يحجون، وهو قول ابن عباس.
وهذا المعنى إنما يكون على قراءة من قرأه بفتح الواو، وهي قراءة مروية عن مجاهد.
ولما دعا إبراهيم بأن يرزقهم من الثمرات نقل الله ( تعالى)، الطائف من فلسطين إلى موضعها الآن، ففيها من من كل الثمرات.
روي أن إبراهيم ﷺ لما دعا بهذا بعث الله جل ذكره، جبريل عليه السلام، فاقتلع الثمار من الشام من موضع يقال له الأردن، وهو نهر، ثم أقبل بالثمار حتى طاف بها حول البيت أسبوعاً، ثم أنزلها جبال تهامة وهي الطائف.
﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾: أي: يشكرون نعمك.
ثم حكى الله ( تعالى)، عنه أنه قال: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾: أي: تعلم ما نخفي في قلوبنا عند مسألتنا إياك وما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا.
﴿وَمَا نُعْلِنُ﴾ من دعائنا، فنجهر به. وغير ذلك من أحوالنا.
﴿وَمَا يخفى﴾ عليك يا رب (من) شيء في الأرض، ولا في السماء
ثم قال جل ذكره ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي﴾ - الآية -
قال ابن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد تسع عشرة ومائة (سنة)
(وقوله): ﴿رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة﴾: أي: مؤدياً ما ألزمتني من فرائضك،
ثم قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ﴾: الدعاء هنا العبادة. والمعنى: " وتقبل عملي الذي أعمله لك، وعبادتي إياك، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠]
. فالمعنى: اعبدوني أستجب لكم، على ذلك قوله: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ [غافر: ٦٠].
﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾: استغفر إبراهيم لأبيه من أجل ﴿مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤]: أي: مات على كفره.
وقيل: عني بوالديه: آدم وحواء (عليهما السلام).
وقرأ ابن جبير: " ولوالدي " يعني أباه وجده.
قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً﴾ - إلى قوله - ﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾:
المعنى: ولا تحسبن الله يا محمد ساهياً عن عمل هؤلاء المشركين من قومك. بل هو عالم بهم، يحصي عليهم جميع أعمالهم، ليجازيهم عليها.
وهذه الآية " وعيد للظالم / وتعزية للمظلوم ".
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار﴾: أي: إنما يؤخر عقابهم
ثم قال تعالى: ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾.
قال قتادة: مهطعين: مسرعين.
وقال ابن جبير، عن قتادة: " مهطعين منطلقين، عامدين إلى الداعي.
وقال ابن عباس ( C) : مهطعين: مديمي النظر، من غير أن تطرف أبصارهم. وقاله مجاهد.
وقال ابن زيد: المهطع: الذي لا يرفع رأسه، والإهطاع في كلام العرب: الإسراع.
وأصل الأهطاع: الإقبال على الشيء بالنظر، ينظر دائماً، لا يرفع بصره، ولا يطرف. وهو بمعنى قول مجاهد، والضحاك، وهو قول الخليل: ودليله قوله:
﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾: أي: يديمون النظر، لا يطرفون.
قال الحسن: " وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحد - إلى أحد. والمقنع في اللغة: الرافع رأسه.
حكى أبو العباس: أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ رأٍه ذلاً وخضوعاً. فتحتمل الآية القولين جميعاً. قال: ويجوز أن يرفع رأسه مديماً للنظر، ثم يطأطأه ذُلاّ وخضوعاً.
ومن الارتفاع قيل: مقنعة للتي يجعلها النساء على رؤوسهن، لارتفاعها
ثم قال تعالى: ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾: والمعنى عند ابن عباس رضي الله عنهـ: " لا ترجع إليهم لشدة النظر أبصارهم ": أي: هي شاخصة. ومعنى: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾: أي: منحرفة، لا تعي من الخير شيئاً، قاله ابن عباس. كما تقول: ليس في البيت شيء، إنما هو هواء.
قال ابن عباس: وليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة.
وقال ابن زيد: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ الأفئدة: القلوب ليس فيها عقل، ولا
وقيل: معناه: لا تستقر في مكان، فر ترتد في أجوافهم.
قال ابن جبير: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾: " تمور في أجوافهم، ليس لها مكان تستقر فيه ".
وقال الضحاك: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ معناه: " ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم "، وقاله السدي.
قال قتادة: " انتزعت حتى صارت في حناجرهم، لا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أمكنتها.
وأصل الهواء في اللغة: المجوف الخال (ي).
ثم قال تعالى لنبيه ﷺ: ﴿ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾، والمعنى: وأنذر الناس الذين أرسلت إليهم يا محمد ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾: وهو يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾.
قال محمد بن كعب القرظي، C: بلغني أن (أهل) النار ينادون:
﴿رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾ فرد عليهم: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ - إلى قوله - ﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾: هذا تقريع من الله ( تعالى) للمشركين من قريش. أعلمنا أنه يقال لهم بعد أن دخلوا النار بإنكارهم البعث في الدنيا، إذ سألوا رفع العذاب (عنهم)، وتأخيرهم لينيبوا، أو يتوبوا.
﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وإنكم إنما تموتون، ولا تبعثون.
ثم قال جل ذكره حكاية عما يقول للمشركين في الآخرة:
﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾: أي: سكنتم في الدنيا في مساكن الأمم، الذين أهلكوا بظلمهم لأنفسهم، فلم تعتبروا بهم، ولا اتعظتم.
ومعنى ﴿ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾: أي: " كفروا بالله (سبحانه)، فظلموا بذلك أنفسهم.
﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾: أي: أعلمتم كيف أهلكناهم حين كفروا بربهم.
قال قتادة: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾: أي، اسكن الناس في مساكن قوم نوح، وعاد، وثمود.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ﴾.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ: أخذ الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين فرباهما، حتى استعجلا واستغلظا وشبا. ثم أوثق رجل كل واحد منهما في وتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت. ورفع من التابوت عصاً على رأسها لحم، فطارا بالتوابوت، وجعل يقول لصاحبه: انظر ماذا ترى؟ فيقول: أرى كذا، وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كأنها ذباب. فقال له: صوب العصا، فصوبها فهبطا: فهو مكرهم الذي أرادت الجبال أن تزول منه.
وقال ابن جبير: هو نمرود.
وقيل: مكرهم هنا، هو شركهم بالله سبحانه، وافتراؤهم عليه. روي ذلك أيضاً عن ابن عباس.
وقال الضحاك هو كقوله ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ [مريم ٨٨ - ٨٩]- الآية -.
(فيكون معنى القراءة عندهم أضعف)، وأوهن من أن تزول منه الجبال، ويدل على صحة قوله إن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
ومن فتح اللام جعلها لام تأكيد، ومعناه: إنه عظم مكرهم وكبرهم. فأخبر
وقيل: إن المراد بهذه الآية قريش، نفى الله تعالى، أن تزول لمكرهم الجبال، والجبال كناية عن القرآن، والتقدير: وما كان مكر قريش وكفرهم ليزول منه القرآن إذا أنكروه، وكفروا به. بل فعلهم ذلك لا يضر القرآن، ولا يزيله من قلوب المؤمنين حتى يبلغ جميع الأمم الكائنة إلى يوم القيامة. فيجاز (ى) المؤمن به على إيمانه، والكافر به على كفره.
وقوله: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾: - إلى قوله - ﴿سَرِيعُ الحساب﴾، والمعنى: ولا تحسبن الله يا محمد مخلف رسله، وعده الذي وعدهم من عقوبة من
﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾: أي: إن الله لا يمتنع منه شيء أراد عقوبته ﴿ذُو انتقام﴾ لمن كفر به وكذب رسله.
ثم أخبرنا تعالى، متى يكون هذا الانتقام، فقال ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾: أي: ينتقم من الظالمين في هذا اليوم. ومعنى ﴿تُبَدَّلُ الأرض (غَيْرَ الأرض)﴾: أي تصير هذه الأرض أرضاً بيضاء، كالفضة لم يسفك عليها دم، ولا عمل عليها خطيئته، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر حفاة، عراة، قياماً، كما خلقوا حتى يلجمهم العرق. قاله ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومجاهد، والحسن.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ: تبدل الأرض من فضة، والجنة من ذهب.
وكذلك قال أبو جعفر بن محمد بن علي، (نضر الله وجهه): تبدل الأرض خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام﴾ [الأنبياء: ٨].
وقال أنس بن مالك رضي الله عنهـ: تبدل الأرض بأرض من فضة، لم يعمل فيها الخطايا.
وقيل: تبديل الأرض: هو تسيير جبالها، وتهجير بحارها، وكونها مستوية: ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٨]، وتبدل السماوات: انتثار كواكبها، وانفطارها، وانشقاقها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها.
قال النبي ﷺ: " تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، ويمدها مد الأديم العُقاظي، لا ترى فيها عوجاً، ولا أمتاً، ثم يزدجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه
﴿كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ " [الأنبياء: ١٠٤] ثم يدحوهما ثم يبدلهما ".
" وسألت عائشة، رضي الله عنها، النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله: إذا بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار. أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط ".
ومعنى ﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾: وخرجوا من قبورهم أحياء لموقف الحساب بين يدي الله (عز جل).
﴿الواحد الْقَهَّارِ﴾ أي: المنفرد بالقدرة على خلقه، الذي يقهر كل شيء.
وعن علي (Bهـ) أنه قال: تبدل الأرض (بأرض) من فضة، والجنة من ذهب. وعن ابن عباس رضي الله عنهـ أنه قال: بلغنا، والله أعلم، أن الأرض تبدل بأرض بيضاء، لم يعمل عليها معصية، ولم يسفك عليها دم حرام.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾: أي: وترى يا محمد الذين
﴿فِي الأصفاد﴾: أي: في الوثاق، من غل سلسلة، أو قيد. وأحدها صفد كحبل. أو صفد كعدل والأصفاد: القيد. /
وعن ابن عباس، رضي الله عنهـ: الأصفاد السلاسل.
قال الضحاك: ( C) الأصفاد: السلاسل.
وقال قتادة ( C) : هي القيود، والأغلال.
وقال الحسن: ما في جهنم واد، ولا مغارة، ولا قيد، ولا سلسلة إلا واسم صاحبه عليه مكتوب.
من قطران: قال الحسن ( C) : هو قطران الإبل، ويقال قَطَرَان وقِطرَان بفتح القاف وكسرها.
وقرأ مجاهد، C، قطران (عليه) نحاس، ومثله عن ابن عباس. وعن ابن عباس، وعكرمة، ( رحمه الله عليهما)، إنهما قرآ: (من) قِطْرٍ آنٍ: أي: من نحاس قد انتهى حره في الشدة، وقد قالوا قطران في الواحد، ولو جمع قطران، لقيل: قطارين كضربان وضرابين.
﴿لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾: أي: ما كسبت من الأثام في الدنيا (أ) ومن الحسنات.
﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾: أي عالم بعلم كل عامل، لا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى معاناة وحساب. قد أحاط بها علماً.
قوله: ﴿هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ﴾ (الآية وهذا القرآن)، (وهذا) الوعظ بلاغ للناس: أي: أبلغ الله جل ذكره إليهم في الحجة عليهم، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من موعظة وعبرة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ أي: عذاب الله أنزله على محمد ﷺ.
وواحد الألباب لب، ولب كل شيء: خالصة، فافهم.
(والله الموفق المعين لمن استعانه، وكفى به حسيبا على من خلقه)
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٤٣٧ هـ
المجلد السادس
الحجر - الكهف
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م