تفسير سورة الحجر

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (بزيادة صفة) أي وهي قوله: ﴿ مُّبِينٍ ﴾.
قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان، ولغتان في رب. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي من أهل مكة وغيرهم. قوله: (وإذا عاينوا حالهم) أي من العذاب. قوله: (وحال المسلمين) أي من النعيم المقيم. قوله: ﴿ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ يصح في ﴿ لَوْ ﴾ أن تكون امتناعية، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك، أو مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر معمول ليود، والتقدير ربما يود الذين كفروا كونهم مسلمين. قوله: (ورب للتكثير) أي وما كافة لها عن الجر. إن قلت: إن (رب) إذا دخلت عليها ما الكافة، اختصت بالفعل الماضي، وهنا قد دخلت على المضارع. أجيب: بأن المضارع بالنسبة لعلم الله واقع ولا شك، فلا تفاوت بين ماض ومستقبل بالنسبة لعلمه تعالى، وإنما ذلك بالنظر لعقولنا. قوله: (وقيل للتقليل) أي باعتبار الأوقات التي يفيقون فيها من الدهشة، فالكفار من شدة الهول يدهشون، فلا يفيقون إلا في بعض الأوقات، فإذا أفاقوا كثر منهم التمني.
قوله: ﴿ ذَرْهُمْ ﴾ لم يستعمل لهذا الأمر ماض استغناء عنه بترك، بل يستعمل منه المضارع، وقد جاء منه الماضي قليلاً، قال عليه الصلاة والسلام" ذروا الحبشة ما وذرتكم "قوله: ﴿ يَأْكُلُواْ ﴾ مجزوم بحذف النون في جواب الأمر، وكذا قوله: ﴿ وَيَتَمَتَّعُواْ ﴾.
قوله: ﴿ وَيُلْهِهِمُ ﴾ مجزوم أيضاً بحذف الياء، وفيه ثلاث قراءات سبعية. كسر الهاء الثانية والميم وضمهما، وكسر الهاء وضم الميم، وأما الهاء الأولى فمكسورة لا غير، لأنها من بنية الكلمة. قوله: ﴿ ٱلأَمَلُ ﴾ فاعل ﴿ وَيُلْهِهِمُ ﴾.
قوله: (عاقبة أمرهم) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ محذوف. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي قوله: ﴿ ذَرْهُمْ ﴾ الخ فهذه الآية منسوخة بآية القتال. قوله: (زائدة) أي في المفعول. قوله: (أريد أهلها) أي ففيه مجاز، إما بالحذف، أو مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه. قوله: ﴿ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ الجملة حالية، والمعنى وما أهلكنا قرية في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكون لها كتاب، أي أجل مؤقت لهلاكها، وجعلنا الواو حالية، أسهل من جعلها زائدة بين الصفة والموصوف. قوله: ﴿ مِنْ أُمَّةٍ ﴾ فاعل تسبق، و ﴿ مِنْ ﴾ لا زائدة في الفاعل للتأكيد قوله: ﴿ أَجَلَهَا ﴾ أي وهو الكتاب المتقدم. قوله: (يتأخرون عنه) أي الأجل. قوله: ﴿ وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ ﴾ نادوه صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء، لا إقرار بأنه نزل عليه الذكر، ولذا قال المفسر (في زعمه) فدفع به ما قد يقال، إن في الآية مضاربة أولها لآخرها. قوله: ﴿ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ أي إنك لتقول قول المجانين، حيث تدعي أن الله نزل عليك الذكر، وقولهم هذا كقول فرعون﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾[الشعراء: ٢٧] والحاصل أنهم قالوا مقالتين: الأولى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ ﴾، والثانية ﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ ﴾ وقد رد الله ذلك على سبيل اللف والنشر والمشوش فقوله:﴿ مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ ﴾[الحجر: ٨] رد للثانية، قوله:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ ﴾[الحجر: ٩] رد للأولى. قوله: ﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا ﴾ تستعمل ﴿ لَّوْ مَا ﴾ حرف تحضيض، وحرف امتناع لوجود، فالتحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً، والامتناعية لا يليها إلا الأسماء لفظاً أو تقديراً، إذا علمت ذلك فهي هنا للتحضيض، ولذا فسرها بهلا. قوله: ﴿ بِٱلْمَلائِكَةِ ﴾ أي لتخبرنا بصدقك.
قوله: (فيه حذف إحدى التاءين) أي والأصل تتنزل، وفي قراءة سبعية أيضاً، ننزل بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الزاي المشددة، ونصب الملائكة على المفعولية، وقرىء شذوذاً ما تنزل، بفتح التاء وسكون النون وكسر الزاي، و ﴿ ٱلْمَلائِكَةَ ﴾ فاعل. قوله: ﴿ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ﴾ أي إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق لا بما قلتم واقترحتم، والمعنى جرت عادة الله في خلقه، أنه لا يظهر الملائكة إلا لمن يريد إهلاكهم، وهو لا يريد ذلك مع أمته صلى الله عليه وسلم لعلمه بقاءها، وأنه يخرج منها من يعبد الله ويوحده إلى يوم القيامة، فهم لا يجابون لما اقترحوا. قوله: ﴿ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾ أصل إذن إذ بمعنى حين، فضمت لها أن فصار إذ إن، فاستثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن، ومجيء لفظة أن، دليل على إضمار فعل بعدها، والتقدير وما كانوا إذ كان ما طلبوه، الخ. قوله: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ ﴾ أي وليس إنزاله بزعمك كما اعتقدوا. قوله: (أو فصل) أي ضمير فصل، واعترض بأن ضمير الفصل لا يكون إلا ضمير غيبة، ولا يقع إلا بين اسمين، وهنا ليس كذلك، وحينئذ فالمناسب للمفسر أن يقتصر على الأول. قوله: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ أي حيث جعله معجزاً للبشر، مغايراً لكلامهم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، باق على مرّ الدهور، سيما وقد جعل الله له خدمة من البشر يحفظونه، فترى الكبير العظيم إذا غلط وهو يقرأ، يرده أصغر صغير في المجلس، مع عدم العيب في ذلك، بخلاف الكتب السماوية، فقد دخل فيها التبديل والتغيير، والزيادة والنقص، ومن معنى هذه الآية قوله تعالى:﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ ﴾[الإسراء: ١٠٦] الآية. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: (رسلاً) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ أَرْسَلْنَا ﴾ محذوف، وعدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر، وقيل لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قوله: ﴿ فِي شِيَعِ ﴾ جمع شيعة، والمراد بها هنا الفرقة المتفقة في المذهب كان حقاً أو باطلاً، وإضافة شيع للأولين على حذف مضاف، أي في شيع الأمم الأولين. قوله: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِم ﴾ قدر المفسر (كان) إشارة إلى أن المضارع بمعنى الماضي، وأتى به مضارعاً، استحضاراً للحال الماضية للتعجب منها. قوله: ﴿ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي يسخرون. قوله: ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ﴾ السلك بالفتح إدخال الخيط في اللؤلؤة، وبالكسر نفس الخيط. قوله: (أي مثل إدخالنا التكذيب) أي الذي دل عليه بقوله: { ﴿ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾.
قوله: ﴿ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ أي طريقتهم، والجملة مستأنفة. قوله: (وهؤلاء مثلهم) أي فانتظر ما ينزل بالمكذبين من العذاب. قوله: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم ﴾ أي على كفار مكة. قوله: ﴿ فَظَلُّواْ ﴾ الضمير إما عائد على المشركين، والمعنى فتحنا باب السماء لهؤلاء المشركين، ولو صعدوا إلى السماء ورأوا عجائبها لقالوا إلخ، أو على الملائكة، والمعنى لو كشفنا عن أبصار الكفار، فرأوا باب السماء مفتوحاً، والملائكة تصعد منه لما آمنوا.
قوله: ﴿ إِنَّمَا سُكِّرَتْ ﴾ بالتخفيف والتشديد، قراءتان سبعيتان. قوله: (سدت) أي فيقال سكرت النهر، من باب قتل سدته، والسكر بالكسر ما يسد به، والمعنى بسد أبصارنا عن محسوساتنا المعتادة بتلك التخيلات. قوله: ﴿ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ إضراب انتقالي عما أفاده أولاً من خصوص سحر العين بالحصر، والمعنى أنهم يقولون: إنما سدت أبصارنا، فخيل لها أمر لا حقيقة له، ولم يتجاوزها لقلوبنا، ثم أضربوا عن ذلك، وجعلوا السحر واصلاً لقلوبهم. قوله: ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً ﴾ هذا من أدلة توحيده سبحانه وتعالى، والبروج جمع برج، والمراد منازل وطرق تسير فيها الكواكب السبعة. قوله: (اثني عشر برجاً) أي وقد جمعها بعضهم في قوله: حمل الثور جوزة السرطان   ورمى الليث سنبل الميزانورمى عقرب بقوس الجدي   نزح الدلو بركة الحيتانقوله: (وهي منازل الكواكب) أي محل سيرها. قوله: (المريخ) بكسر الميم نجم في السماء الخامسة، وقد جمع الكواكب بعضهم في قوله: زحل شرى مريخه من شمسه   فتزاهرت لعطارد الأقمارفزحل في السماء السابعة، والمشتري في السادسة، والمريخ في الخامسة، والشمس في الرابعة، والزهرة في الثالثة، وعطارد في الثانية، والقمر في الأولى، وهي سماء الدنيا. قوله: (والشمس ولها الأسد) أي بيتها المنسوب لها، فلا ينافي أنها تسير في البروج كلها، المتقسمة لثمان وعشرين منزلة، لكل برج منزلتان وثلث، وتقطعها الشمس في سنة، والقمر في شهر، وقد جعل الله بهذه الكواكب، النفع في العالم السفلي، كالأكل والشرب، يوجد النفع عندها لا بها، فهي أسباب عادية. قوله: ﴿ وَزَيَّنَّاهَا ﴾ (بالكواكب) أي جعلنا الكواكب زينة للسماء، وهل الكواكب في السماء الدنيا، أو ثوابت في العرش، قولان للعلماء. قوله: ﴿ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ أي المتأملين بأبصارهم وبصائرهم. قوله: ﴿ وَحَفِظْنَاهَا ﴾ أي السماء. قوله: ﴿ مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ أي وذلك لأن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات، فيدخلونها ويأتون بأخبارها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى، منعوا من ثلاث سماوات، ولما ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، ولما بعث رميت عليهم الشهب، فكانت تخطىء وتصيب، فلما عرج به صلى الله عليه وسلم صارت لا تخطئهم أبداً.
قوله: ﴿ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ ﴾ استثناء منقطع، لأن ما قبل الاستثناء دخولهم السماء، وما بعده استراقهم من خارجها، والمعنى أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً، يريدون الاستراق، فتكون الشهب بالمرصاد لهم، كما صرحت به سورة الجن في قوله:﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا ﴾[الجن: ٩] الخ. قوله: (كوكب مضيء) وقيل الشهاب، شعلة نار تنفصل من الكوكب، وهو الصحيح. قوله: (أو يخبله) أي يفسد أعضاؤه، فيصير غولاً في الوادي يضل الناس. قوله: ﴿ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾ الأرش منصوب بفعل محذوف يفسره ﴿ مَدَدْنَاهَا ﴾.
قوله: (بسطناها) أي على الماء. قوله: (لئلا تتحرك بأهلها) أي لأن الله لما خلقها وبسطها على الماء، تحركت واضطربت، فثبتها بالجبال الرواسي فسكنت. قوله: (معلوم) أي الله، فيعلم قدر ما يحتاج إليه الخلق في معاشهم. قوله: ﴿ مَعَايِشَ ﴾ جمع معيشة، وهي ما يعيش بها الإنسان، من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك. قوله: (بالياء) أي بإتفاق السبعة، لأنها في المفرد أصلية، فلا تقلب في الجمع همزة، بل تبقى على حالها، بخلاف المد الزائد في المفرد، فإنه يقلب همزة في الجمع، قال ابن مالك: والمد زيد ثالثاً في الواحد   همزاً يرى في مثل كالقلائدوقرىء شذوذاً بالهمزة على التشبيه بشمائل. قوله: ﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ مشى المفسر على أنه معطوف على ﴿ مَعَايِشَ ﴾ حيث قدر قوله جعلنا لكم. قوله: (من العبيد) أي والخدم وغيرهم، فأنتم تنتفعون بتلك الأشياء، ولستم برازقين لها، وإنما رزقها على خالقها. قوله: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ كالدليل لقوله: ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾ و ﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ فهو إعلام بسعة فضله سبحانه وتعالى، قوله: ﴿ شَيْءٍ ﴾ نكرة في سياق النفي، فنعم كل شيء كان في الدنيا أو الآخرة، جليلاً أو حقيراً. قوله: ﴿ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ أي إلا يوجده الله، إذا تعلقت قدرته وإرادته به، ففي الكلام مجاز، حيث شبه سرعة إيجاده الأشياء بحصولها بالفعل، وجعلها في خزائن، والجامع بينهما سرعة الحصول في كل، فالمعنى بيده الأشياء كلها، خيرها وشرها، جليلها وحقيرها، فإذا أراد الله شيئاً حصل، فلا يطلب الإنسان من غيره بل بطلب المفاتيح ممن بيده الخزائن، والمفاتيح كناية عن التسهيل، فمن أراد الله شيئاً أعطاه مفتاحه، بمعنى سهل أسبابه. قوله: ﴿ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ أي فيسعد هذا ويشقي هذا، ويفقر هذا ويغنى هذا، على حسب ما قدره الله، إذا علمت ذلك، فالمناسب للمفسر أن يقول على حسب تقدير الله، فإن الله تعالى ليس مراده مقيداً بمصالح عباده، بل أفعاله على حسب ما أراده وعلمه، وإلا فنجد الكافر يطول عمره، وهو في فقر ومرض، ثم يختم له بالكفر ويكون في النار، فأي مصلحة في ذلك؟
قوله: ﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ ﴾ جمع ريح، وهو جسم لطيف منبث في الجو سريع المرور. قوله: ﴿ لَوَاقِحَ ﴾ إما جمع ملقح من ألقح، وحينئذ فجمعه ملاقح، حذفت الميم تخفيفاً، أو جمع لاقح من لقح، يقال لقحت الريح إذا حملت الماء إلى السحاب، وأعلم أن الله سبحانه وتعالى، يرسل الرياح الأربعة لخدمة المطر، فريح الصبا تثير السحاب من ثمر شجرة في الجنة، وريح الشمال تجمعه، وريح الدبور تفرقه. قوله: (تلقح السحاب) أي تمج الماء فيه. قوله: (السحاب) أي فالمراد بالسماء كل ما علا وارتفع، ويصح أن يراد بالسماء حقيقتها، لأن أصل ماء المطر من السماء. قوله: ﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾ الكاف مفعول أول، والهاء مفعول ثاني، والمعنى جعلناه سقياً لكم ولأرضكم ومواشيكم. قوله: (أي ليست خزائنه بأيديكم) أي بل خزائنه عند الله، فهو من مشمولات. قوله:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾[الحجر: ٢١].
قوله: ﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ﴾ أي جميع الخلق، وإن حرف توكيد ونصب، ونا اسمها، وجملة ﴿ نُحْيِي ﴾ خبرها، وقوله: ﴿ لَنَحْنُ ﴾ ضمير منفصل توكيد لنا، لا ضمير فصل، لما تقدم أنه مردود بأن ضمير الفصل لا يقع إلا بين اسمين، وهنا ليس كذلك. قوله: ﴿ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ ﴾ الوارث في الأصل، هو الذي يأخذ المال بعد موت مورثه، ثم أطلق الإرث وأريد لازمه، وهو البقاء بعد فناء غيره، فإنه يلزم من أخذ الوراث مال الموروث بقاؤه بعد موت صاحبه، فهو سبحانه وتعالى وارث جميع الخلق بمعنى أنه يبقى بعد فنائهم. قوله: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ ﴾ أي علماً تفصيلياً، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قوله: (المتأخرين) أشار بذلك إلى أن السين والتاء في المستقدمين والمستأخرين زائدتان، والمعنى أن عمله محيط بجميع خلقه، متقدمهم ومتأخرهم، طائعهم وعاصيهم، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه. قوله: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ أي يجمعهم للحساب، ثم بعد ذلك ينقسمون فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. قوله: ﴿ مِن صَلْصَالٍ ﴾ الصلصال بمعنى المصلصل، كالزلزال بمعنى المزلزل، ووزنه فعلال بتكرار اللام، فقلبت الأولى منهما من جنس فاء الكلمة، والصلصال طور رابع من أطوار آدم الطينية، لأنه أولاً كان تراباً ثم عجن بأنواع المياه فصار طيناً، ثم ترك حتى أنتن واسود، فصار حماً مسنوناً، ثم يبس بعد تصويره فصار صلصالاً، ثم نفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين سنة، أربعين وهو طين، وأربعين وهو حماً مسنون، وأربعين وهو صلصال مصور، وهكذا أطوار أولاد آدم، تمكث النطفة في الرحم أربعين يوماً، ثم تصير علقة مثل ذلك، ثم تصير مضغة مثل ذلك، ثم تنفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً. قوله: (متغير) أي من طول مكثه حتى يتخمر.
قوله: (أبا الجن وهو إبليس) هذا أحد قولين، وقيل هو أبو الشياطين، فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد، والجان هو أبو الجن، وعلى هذا تكون الأصول ثلاثة: آدم وهو أبو البشر، وإبليس وهو أبو الشياطين، والجان وهو أبو الجن، وعلى ما مشى عليه المفسر يكونان أصلين فقط: آدم وإبليس. قوله: (هي نار لا دخان لها) أي ومنها تكون الصواعق. قوله: (تنفذ في المسام) أي تدخل فيها، للطف المسام وشدة حرارة النار، فإذا دخلت في الإنسان قتلته. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ﴾ ﴿ وَإِذْ ﴾ ظرف معمول لمحذوف، قدره المفسر بقوله: (اذكر) قوله: ﴿ مِّن صَلْصَالٍ ﴾ ﴿ مِّنْ ﴾ لابتداء الغاية. قوله: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾ أي صورته إنساناً كاملاً، معتدل الأعضاء والطبائع. قوله: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ أي افضت عليه روحاً من الأرواح التي خلقتها، فصار بها حياً، وليس المراد النفخ حقيقة لاستحالته على الله. قوله: (وإضافة الروح إليه) أي كما يقال: بيت الله وناقة الله. قوله: ﴿ فَقَعُواْ ﴾ الفاء واقعة في جواب إذا، وقعوا فعل أمر من وقع يقع، بمعنى سقط وخر. قوله: (بالانحناء) أي لا بوضع الجبهة، وهذا أحد قولين، وقيل المراد بالسجود حقيقته، وآدم كالقبلة، والسجود لله، أو يقال إن السجود لذات آدم، وقولهم السجود لغير الله كفر، محله في غير ما أمر الله به، وأما في مثل هذا، فالكفر في المخالفة. قوله: (فيه تأكيدان) أي للمبالغة وزيادة الاعتناء، فبالتأكيد الأول اندفع توهم المجاز، وبالثاني استفيد أنهم سجدوا جملة واحدة، قوله: (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى صحة الاستثناء، ثم هم يحتمل أن يكون منقطعاً، لأنه لم يكن منهم حقيقة أو متصلاً، باعتبار أنه كان متصفاً بصفاتهم، وقيل إنه منهم، والتحقيق خلافه. قوله: ﴿ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ استئناف مبين لكيفية عدم السجود. قوله: ﴿ قَالَ ﴾ (تعالى). إن قلت: إن مكالمة الله تعالى بدون واسطة شرف وتعظيم، وإبليس ليس من أهل ذلك. أجيب: بأن محل كونها شرفاً إن كانت على سبيل الإكرام، وأما كلام الله تعالى لإبليس، فهو على سبيل الإهانة والطرد، فلم يكن تشريفاً. قوله: (ما منعك) الخ، حمله على هذا التفسير قوله في الآية الأخرى﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾[ص: ٧٥] ولذا قال: ﴿ لأَ ﴾ (زائدة) ويصح أن تكون غير زائدة، والمعنى أي شيء ثبت لك في عدم كونك مع الساجدين. قوله: (لا ينبغي لي) أي لا يصح ولا يليق. قوله: ﴿ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ ﴾ الخ، أي وخلقتني من نار فأنا خير منه، لأن النار جسم لطيف نوراني، والصلصال جسم كثيف ظلماني، والنوراني خير من الظلماني، هذا وجه تكبره عن السجود، وادعائه الخيرية وهي مردودة، بأن آدم مركب من العناصر الأربع، بخلاف إبليس، وأيضاً فالفضل بيد الله يعطيه لمن يشاء.
قوله: (وقيل من السماوات) وهذا الخلاف مرتب على الخلاف في أن السجود لآدم، هل كان في الجنة أو خارجها، فمن قال بالأول، جعل الضمير في منها عائداً على الجنة، ومن قال بالثاني، جعله عائداً على السماوات. قوله: ﴿ فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ أي مرجوم، والرجم كما في القاموس: اللعن والشتم والطرد والهجران. قوله: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ أي وبعد ذلك يزداد عذاباً على اللعنة التي هو فيها وقوله: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ قصد اللعين بذلك أنه لا يموت أبداً، لأنه إذا أمهل إلى يوم البعث، الذي هو يوم النفخة الثانية، فقد أمهل إلى الأبد، لانقطاع الموت حينئذ، وقصد أيضاً الفسحة في الأجل، لأجل الإغواء، فأجابه الله إلى الثانية دون الأولى. قوله: (وقت النفخة الأولى) أي فيموت في جملة الخلائق، ثم يبعث مع الناس، فمدة موته أربعون سنة، ولم يكن هذا الإمهال إكراماً له، بل إهانة وشقاوة ليزداد عذابه. قوله: (والباء للقسم) وقيل للسببية. قوله: ﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ ﴾ الضمير عائد على أولاد آدم، وإن لم يتقدم لهم ذكر للعلم بهم. قوله: ﴿ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾ أي الذين أخلصوا في أعمالهم، فلا تسلط لي عليهم. قوله: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ أي هذا دين مستقيم لا اعوجاج فيه، فعليّ حفظه تفضلاً وإحساناً. قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ حاصل ذلك، أن إبليس لما قال ﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾ أوهم بذلك أن له سلطاناً على غير المخلصين، فبين تعالى أنه ليس له سلطان على أحد من العباد، لا من المخلصين، ولا من غيرهم، بل من اتبعه، فهو من طرد الله لا من سلطنة إبليس، ويؤيده قوله في الآية الأخرى﴿ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾[النساء: ٧٦] وتقييد المفسر بالمؤمنين نظراً للصورة. قوله: (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع. قوله: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾ أي وأعلاها جهنم، وهي لعصاة المؤمنين، ثم لظى لليهود، ثم الحطمة للنصارى، ثم السعير للصابئين، ثم سقر للمجوس، ثم الجحيم لعباد الوثن، ثم الهاوية للمنافقين. قوله: ﴿ لِكُلِّ بَابٍ ﴾ أي طبقة من أطباقها. قوله: ﴿ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ أي حزب معد لها. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي الذين اتقوا الشرك، وهم المؤمنون ولو عصاة، لأن المتقي هو الآتي بالتقوى ولو مرة واحدة، غير أن العاصي، إذا مات مصراً على المعاصي تحت الشميئة، إن شاء الله عذبه مدة، ثم يعفو عنه بشفاعة النبي صلى لله عليه وسلم، وإن شاء لم يعذبه، وهذا مو مذهب أهل السنة والجماعة، وقال أبو هاشم الجبائي وجمهور المعتزلة: إن المتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي، فلا يثبت دخول الجنة، إلا لمن ترك جميع المعاصي، وهذا مذهب باطل، لمخالفته النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والذي يجب الإيمان به، أن الجنة تملك بالموت على كلمة التوحيد، ولو صحبها أمثال الجبال من المعاصي، غير أن أهل الجنة مراتب. قوله: ﴿ وَعُيُونٍ ﴾ يحتمل أن المراد بها الأنهار التي قال فيها﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ ﴾[محمد: ١٥] الآية، ويحتمل أن تكون زيادة عليها، وهل كل مؤمن له عدة بساتين وعدة أنهار، أو كل له بستان ونهر، لمقابلة الجمع بالجمع.
قوله: (ويقال لهم) أي إذا ارادوا الانتقال من محل إلى آخر، وإلا فهم مستقرون فيها، فأمرهم حينئذ بالدخول، تحصيل حاصل، والقائل يحتمل أن يكون الملائكة أو الله تعالى. قوله: ﴿ بِسَلامٍ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الواو في ادخلوا، أي ادخلوها حال كونكم مصحوبين بسلامة من الله من جميع المخاوف والمكاره، وهذا على المعنى الأول الذي ذكره المفسر، ويقال على المعنى الثاني: ادخلوها مصحوبين بسلام من بعضكم لبعض، ومن الملائكة، أي يسلم بعضكم على بعض، وتسلم الملائكة عليكم. (أي سلموا) تفسير للمعنى الثاني. قوله: ﴿ آمِنِينَ ﴾ قدر المفسر (ادخلوا) إشارة إلى أنه حال ثانية، وهي مرادفة للأولى، ولا حاجة لهذا التقدير. قوله: (من كل فزع) أي ومنه زوال ما هم فيه من النعيم المقيم، وقوله: ﴿ بِسَلامٍ آمِنِينَ ﴾ زيادة في سرور أهل الجنة، لأن النعيم إذا لوحظ فيه عدم الانقطاع، كان في غاية السرور، ولا شك أن الجنة كذلك، بخلاف الدنيا، فإن نعيمها ملاحظ فيه الانقطاع عند حصوله، فلذلك كانت دار هم وغم. قوله: ﴿ مِّنْ غِلٍّ ﴾ الغل هو من أمراض القلب، كالحسد والكبر والعجب والشحناء والبغضاء، روي أن المؤمنين يوقفون على باب الجنة وقفة، فيقتص بعضهم من بعض، ثم يؤمر بهم إلى الجنة، وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد، فهم يحبون بعضهم بحبهم لربهم، وشأن المحب أن لا يكون لمحبوبه غل في قلبه، بل بينهم الصفاء والوفاء. قوله: (حال من هم) أي من ضمير صدورهم من غل، حال كونهم متآخين في المودة والمحبة. قوله: ﴿ عَلَىٰ سُرُرٍ ﴾ جمع سرير وهو كما قال ابن عباس: من ذهب مكلل بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية. قوله: (حال أيضاً) أي من الضمير في ﴿ إِخْوَٰناً ﴾.
قوله: (لدوران الأسرة بهم) أي أنهم إذا اجتمعوا وتلاقوا، ثم أرادوا الانصراف، يدور سرير كل واحد منهم، بحيث يبقى مقابلاً بوجهه لمن كان عنده، وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير، وهذا أبلغ في الأنس والإكرام.
قوله: ﴿ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ﴾ أي إعياء بخلاف الدنيا، ففيها الاعياء والتعب والكدرات والمشقات. قوله: ﴿ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ أي بل هم خالدون فيها، لا يزالون ولا يحولون، فالجنة بلا زوال، وبقاء بلا فناء، وكمال بلا نقصان. قوله: ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي ﴾ الخ، أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين العاصين، بأني أنا الغفور الرحيم فلا يقنطون من رحمتي، ولا يخافون عذابي. وهذا من الله تعطف لعباده واستجلابهم للتوبة. وقد أكد هذه الجملة بألفاظ ثلاثة: أولها ﴿ أَنِّي ﴾ وثانيها ﴿ أَنَا ﴾، وثالثها تعريف الجملة بأل. ولما ذكر العذاب لم يقل وإني أنا المعذب، وهذا يدل على أن الرحمة تغلب الغضب، فلا يستبعد العاصي رحمة الله، بل يقبل على سيده بالتوبة والإنابة، فإنه هو الغفور الرحيم، فمتى كان في العبد أوصاف متعددة، تقتضي الغضب، ووصف واحد يقتضي الرحمة، فإن وصف الرحمة يغلب. قوله: ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ ﴾ أي بهذه الآية لمناسبة ذكر النار أولاً، فقد ذكر النار والجنة ثم ذكر ما يناسب كلاً على سبيل اللف والنشر المشوش، واستفيد من هذه الآية، أن العبد يكون بين الرجاء والخوف، ففي الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال" لو يعلم العبد قدر عفو الله، ما تورع عن حرام، ولو يعلم قدر عذابه، لجمع نفسه إلى قتله "وعنه صلى الله عليه وسلم" نه مر بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم النار "؟ فنزل ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي ﴾ الخ. قوله: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي ﴾ الخ، والمعنى وأخبر عبادي عن قصة ضيوف إبراهيم الخ، واعلم أنه في هذه السورة، أثبت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم أتبع ذلك بذكر أدلة التوحيد، ثم خلق آدم وما يتعلق به، ثم بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، ثم أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء، ليكون عبرة للمعتبرين، وأوقع في نفسه المتعظين، وقد ذكر هنا أربع قصص: قصة إبراهيم، ثم قصة لوط، ثم قصة شعيب، ثم صالح على سبيل الاختصار وقد تقدمت في سورة هود بأبسط مما هنا. قوله: ﴿ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الضيف في الأصل الميل، سمي النازل للقرى بذلك، لميله إليك ونزوله عندك، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وقد يجمع ويثني. قوله: (منهم جبريل) أي على كل من الأقوال الثلاثة. قوله: ﴿ إِذْ دَخَلُواْ ﴾ ﴿ إِذْ ﴾ ظرف معمول لمحذوف تقديره اذكر. قوله: (أي هذا اللفظ) أي لفظ ﴿ سَلاماً ﴾ وهو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره سلمنا عليك، أو سلم الله عليك سلاماً، ولم يذكر هنا رد السلام، ولا بقية القصة اختصاراً. قوله: ﴿ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ تقدم أن سبب خوفه منهم، أنه رأى فيهم جلال الله وهيبته. قوله: ﴿ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ ﴾ قرأ السبعة بفتح التاء والجيم، وفعله وجل كعلم، وقرىء شذوذاً بالبناء للمفعول، ولا تأجل بقلب الواو ألفاً، ولا تؤاجل بضم التاء وزيادة ألف بعد الواو، فالقراءات الشاذة ثلاث.
قوله: ﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي ﴾ هكذا بهمزة الاستفهام في قراءة الجمهور، وقرىء شذوذاً بحذفها، فيحتمل الإخبار والاستفهام، وحذفت أداته للعلم بها. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ ﴾ أي فكان عمره إذ ذاك مائة واثنتي عشرة سنة. قوله: ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ الجار والمجرور متعلق بتبشرون، وقدم لأن الاستفهام له صدر الكلام، وقرأ العامة بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع، وقرأ نافع بكسرها مخففة، وابن كثير بكسرها مشددة. قوله: (استفهام تعجب) أي من أن يولد له ولد مع مس الكبر إياه، وتعجبه بالنظر للعادة لا بالنظر لقدرة الله تعالى، ولذا دفع ذلك بقوله: ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ ﴾.
قوله: ﴿ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي اليقين الذي لا لبس فيه. قوله: (أي لا) ﴿ يَقْنَطُ ﴾ أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (بكسر النون وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وقرىء شذوذاً بضم النون. قوله: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾ أي الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة فإن البشارة يكفي فيها واحد، فلا تحتاج لعدد. قوله: ﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ ﴾ يحتمل أن يكون مستثنى من الأرسال، والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط، فلم نرسل لهلاكهم، بل أرسلنا لنجاتهم، وحينئذ يكون الاستثناء متصلاً، أو مستثنى من قوم مجرمين، فهو منقطع، لأنهم لم يدخلوا في القوم المجرمين، ويشير للثاني قول المفسر لإيمانهم. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ ﴾ الأقرب أنه مستثنى من ضمير منجوهم. قوله: ﴿ قَدَّرْنَآ ﴾ إسناد التقدير للملائكة مجاز، إذ المقدر حقيقة هو الله تعالى، وهذا كما يقول خواص الملك: أمرنا بكذا، والآمر هو الملك. قوله: (الباقين في العذاب) أي فيقال غبر الشيء بقي، ويقال أيضاً مضى، فهو من الأضداد. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ﴾ أي بعد أن خرجوا من عند إبراهيم، وسافروا لقرية لوط، وكان بينهما أربعة فراسخ. قوله: (أي لوطاً) أشار بذلك إلى أن لفظة آل زائدة، بدليل الآية الأخرى﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً ﴾[هود: ٧٧].
قوله: ﴿ مُّنكَرُونَ ﴾ أي تنكركم نفسي وتجزع منكم، وإنما جزع منهم، لخوفه من قومه عليهم، بدليل آية هود﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾[هود: ٧٧].
قوله: ﴿ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾ الباء للملابسة أي متلبسين بالحق. قوله: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾ أي وهم بنتاه، فلم يخرج من قريته إلا هو وبنتاه. قوله: ﴿ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ ﴾ أي جزء منه. قوله: (امش خلفهم) أي لتطمئن عليهم. قوله: (لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم) أي فينزعج من ذلك. قوله: (وهو الشام) أي فطوى الله لهم الأرض في الوقت حتى نجوا، ووصلوا إلى إبراهيم. قوله: (أوحينا) أشار بذلك إلى أن ﴿ وَقَضَيْنَآ ﴾ ضمن معنى (أوحينا) فعدي بما تعدى به. قوله: ﴿ وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ الواو لا تقضي ترتيباً ولا تعقيباً، فإن هذا المجيء قبل إعلام الملائكة به بأنهم رسل الله، فالقصة هنا على خلاف الترتيب الواقعي، بخلافها في هود. قوله: (مدينة سذوم) بالسين المهملة والذال المعجمة، وأخطأ من قال بالمهملة. قوله: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي يبشر بعضهم بعضاً بأضياف لوط، وتقدم أن المخبر لهم بالضيوف امرأة لوط. قوله: ﴿ فَلاَ تَفْضَحُونِ ﴾ أي لا تسيئوني فيهم. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي خافوا عقابه. قوله: ﴿ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي عن تضييف أحد من الغرباء، وكانوا يمنعونه من مخالطة الناس وإضافتهم، خوفاً من أن يؤلفهم ويستعين بهم عليهم. قوله: (فتزوجوهن) أي إن أسلمتم، ويحتمل أنه كان في شريعته، يحل تزوج الكافر بالمسلمة، وتقدم في هود أنه يحتمل أن المراد نساء أمته. قوله: ﴿ لَعَمْرُكَ ﴾ بفتح العين لغة في العمر بضمتين، وهو مدة حياة الإنسان في الدنيا، ولكن لم يرد القسم في كلام العرب إلا بالفتح. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ أي قوم لوط، وقيل المراد قريش، وعلى كل حال فهذه الجملة معترضة بين قصة قوم لوط. قوله: (أي وقت شروق الشمس) أي طلوعها، وهذا بيان لانتهاء العذاب، وابتداؤه كان وقت الصباح. قوله: ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا ﴾ أي وجه الأرض وما عليه. قوله: (أي قراهم) أي وكانت أربعة، فيها أربعمائة ألف مقاتل، وقيل خمسة وفيها أربعة آلاف ألف، قوله: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ تقدم في هود أنه يحتمل أن المطر كان على من كان غائباً عن القرى، ويحتمل أنه عليهم بعد قلبها بهم.
قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ (المذكور) أي من قصة إبراهيم ولوط. قوله: ﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ أي المتفكرين الذين يتأملون الشيء فيعرفون حقيقته. قوله: (لم تندرس) أي آثارهم. قوله: (لعبرة) ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك. قوله: ﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ﴾ شروع في ذكر قصة شعيب مع قومه أصحاب الأيكة، وذكرت هنا مختصرة، وسأتي بسطها في سورة الشعراء. قوله: (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن، و ﴿ كَانَ ﴾ ناقصة، و ﴿ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ﴾ اسمها، و ﴿ لَظَالِمِينَ ﴾ خبرها، واللام للتوكيد، والجملة خبر ﴿ وَإِن ﴾.
قوله: (هي غيضة شجر) الغيضة في الأصل اسم للشجر الملتف، والمراد بها هنا، المكان الذي فيه الشجر الكثير، ونسبوا لها لملازمتهم لها وإقامتهم عندها، وكان عامة شجرهم المقل أي الدوم. قوله: (بتكذيبهم شعيباً) أي وبخسهم الكيل والميزان وقطعهم الطريق. قوله: (بشدة الحر) أي فسلطها الله عليهم سبعة أيام، حتى قربوا من الهلاك، فبعث الله لهم سحابة كالظلة، فالتجؤوا إليها، واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم جميعاً، فإهلاكهم أولاً بشدة الحر، ثم بالظلة، وأما أهل مدين، فأهلكوا بالصيحة، كما تقدم في سورة هود، من أنه أرسل لأهل مدين ولأصحاب الأيكة. قوله: (طريق) ﴿ مُّبِينٍ ﴾ أي وسمي الطريق إماماً، لأنه يؤم ويتبع، لأن الإنسان إذا أراد الانتقال من موضع لآخر، فإنه يأتم بالطريق حتى يصل إلى الموضع الذي يريده. قوله: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ﴾ شروع في قصة صالح. قوله: (واد بين المدينة والشام) أي وآثاره باقية، يمر عليها الذاهب من الشام للحجاز. قوله: (لأنه تكذيب لباقي الرسل) جواب عما يقال: لم جمع المرسلين مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً. قوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ ﴾ أضاف الايتاء لهم، وإن كان لصالح لأنه مرسل لهم. قوله: (في الناقة) أشار بذلك إلى أن الناقة، وإن كانت آية واحدة، إلا أنها اشتملت على آيات، كخروجها من الصخرة، وعظم جثتها، وغزارة لبنها، وولادتها فصيلاً قدرها. قوله: (لا يتفكرون) أي لا يتأملون ولا ينظرون فيها. قوله: ﴿ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً ﴾ أي ينقرون الجبال بالمعاويل، حتى تصير بيوتاً من غير بنيان. قوله: ﴿ آمِنِينَ ﴾ أي من وصول اللصوص لهم، ومن تخريب الأعداء لبيوتهم لشدة اتقانها. قوله: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ ﴾ أي من السماء، والزلزلة من الأرض، لما عقروا الناقة، وتقدم في هود، أن صالحاً قال لهم قبل نزول العذاب بهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. قوله: (وقت الصباح) أي بعد مضي الثلاثة الأيام.
قوله: ﴿ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ ﴿ مَّا ﴾ اسم موصول أو مصدرية أو نكرة موصوفة فاعل أغنى؛ والتقدير الذي كانو يكسبونه أو كسبهم أو شيء يكسبونه. قوله: (من بناء الحصون) الخ، بيان لما. قوله: ﴿ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي خلقاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة والمنافع للعباد، ودلائل على وحدانية الله. قوله: ﴿ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ ﴾ أي القيامة. قوله: (فيجازي كل واحد بعمله) أي فينتقم من المسيء، وينعم على المحسن. قوله: (وهذا منسوخ) أي قوله: فاصفح الصفح الجميل؛ وهو أحد قولين، والثاني أن الآية محكمة، ولا ينافي أمره بالقتال، فإن المقصود أمره بأن يصفح عن الخلق الصفح الجميل، ويعاملهم بالخلق الحسن، فيعفو عن المسيء، ويسامح المذنب، وإن كان مأموراً بقتال المشركين، فقتاله للأمر به لا لهوى نفسه، ولذا قال البوصيري: ولو أن انتقامه لهوى النفـ   ـس لدامت قطيعة وجفاءقوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي ﴾ سبب نزولها أن سبع قوافل، أتت من بصرى وأذرعات في يوم واحد، ليهود قريظة والنضير، فيها أنواع من البز والطيب والجواهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها، وأنفقناها في سبيل الله فنزلت، والمعنى قد أعطيتكم سبع آيات، خير لكم من سبع قوافل. إن قلت: إن مقتضى ذلك، أن تكون الآية مدنية، مع أنه تقدم أن السورة مكية بإجماع. أجيب: بأنه لا مانع أن هذه الآية نزلت مرتين، مرة بمكة مرة بالمدينة. قوله: (هي الفاتحة) أي لأنها سبع آيات، فمن عد البسملة آية منها، تكون الآية الأخيرة.﴿ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ ﴾[الفاتحة: ٧] الخ، ومن لم يعدها آية، تكون السابعة قوله:﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾[الفاتحة: ٧ ]، وهذا القول هو الراجح، وعليه فيكون عطف قوله: ﴿ وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ ﴾ من عطف الكل على الجزء، أو من عطف العام على الخاص، وقيل المراد بالسبع المثاني الحواميم، وقيل السبع الطوال أولها البقرة، وآخرها مجموع الأنفال من براءة، وقيل جميع القرآن، وعليه يكون العطف مرادفاً. قوله: (لأنها تثنى في كل ركعة) أي تعاد في كل ركعة، وهذا أحد الوجوه في سبب تسميتها بالمثاني، وقيل سميت بذلك، لأنها مقسومة بين العبد وبين الله نصفين، فنصفها الأول ثناء على الله، ونصفها الثاني دعاء، وقيل لأن كلماتها مثناة مثل قوله:﴿ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾[الفاتحة: ١]﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[الفاتحة: ٥] إلى آخرها، وقيل لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، معها سبعون ألف ملك.
قوله: ﴿ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ أي لا ترغب فيما متعنا به أصنافاً من الكفار، فإنه مستحقر، وفي الحديث عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من أوتي القرآن، فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغر عظيماً، وعظم صغيراً "قوله: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي لأجلهم. قوله: (ألن جانبك) أي تواضع لهم وارحمهم، كالطائر الذي يخفض جناحه على أفراخه، رحمة بها وشفقة عليها، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ما أمر به، قال البوصيري في هذا المعنى: أحل أمته في حرز ملته   كالليث حل مع الأشبال في أجمقوله: ﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا ﴾ الكاف حرف تشبيه وجر، وما اسم موصول في محل جر، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، والتقدير: وقل: إني أنا النذير لكم بالعذاب، كالعذاب الذي أنزلناه على المقتسمين والماضي بمعنى المستقبل، إذ الذي نزل بأهل مكة لم يكن واقعاً حين نزول الآية، بل وقع بعد الهجرة، وكذا ما وقع للمقتسمين طرق مكة لم يكن واقعاً حينئذ، بل وقع يوم بدر، إن قلت: إن العذاب المنذر، ينبغي تشبيهه بشيء قد وقع ليحصل به الاتعاظ. أجيب: بأنه سهل ذلك تحتم نزوله، فكأنه واقع ولا بد، وقد تحقق ذلك يوم بدر. قوله: (اليهود والنصارى) أي حيث اقتسموا كتبهم، فآمنوا ببعضها الذي وافق هواهم، وكفروا بالبعض الذي خالفه. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ﴾ بيان للمقتسمين. قوله: ﴿ ٱلْقُرْآنَ ﴾ المراد به على هذا التفسير معناه اللغوي، فحينئذ صح تفسير المفسر له بكتبهم المنزلة عليهم. قوله: ﴿ عِضِينَ ﴾ جمع عضة، وأصلها قيل عضو، وقيل عضة، فعلى الأولى يكون: من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء، أي أجزاء متفرقة. وعلى الثاني يكون: من عضه إذا كذب، والمعنى جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، أو جعلوه أكاذيب. قوله: (وقيل المراد بهم الذين اقتسموا طرق مكة) أي وهم ستة عشر رجلاً، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أعتاب مكة وأنقابها وفجاجها ويقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكماً على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك، وما ذكره المفسر قولان من سبعة ذكرها القرطبي. قوله: (وقال بعضهم) معطوف على اقتسموا، فالضمير في بعضهم عائد على الذين اقتسموا، وهو إشارة إلى أن المراد بالقرآن على هذا القول، الكتاب المنزل على سيدنا محمد فجعلوه أجزاء، وحيث اختلفت أقوالهم فيه، فقال بعضهم سحر، وبعضهم كهانة، أو المراد جعلوه أكاذيب فلم يؤمنوا به. قوله: (سؤال توبيخ) جواب عما يقال: إنه أثبت سؤالهم هنا، ونفاه في سورة الرحمن حيث قال﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾[الرحمن: ٣٩] فحاصل الجواب: أن المنفي هناك سؤال الإكرام والاحترام، والمثبت هنا سؤال التوبيخ والتقريع.
قوله: ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ سبب نزولها: أن رسول الله أول أمره، كان يدعو إلى الله مختفياً، ويأمر كل من آمن به بالاختفاء، فلما نزلت هذه الآية، أظهر أمره وبالغ في إظهاره. قوله: (هذا قبل الأمر بالجهاد) أي فتكون الآية منسوخة، وقيل ليست منسوخة بل هي محكمة، والمعنى لا تلتفت لهم ولا تبال بهم. قوله: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ أي وهم جماعة من قومه، كانوا يسخرون به ويبالغون في إيذائه، وإنما عجلت لهؤلاء العقوبة، لشدة إيذائهم لرسول الله وبغضهم له، وإلا فالمستهزئون كثير، كأبي لهب وزوجته وولده، وأبي جهل. قوله: (وهم الوليد بن المغيرة) أي وقد مر برجل نبال وهو يجر إزاره، فتعلقت قطعة من النبل بإزار الوليد، فمنعه الكبر أن يطاطىء رأسه وينزعها، فجعلت تضرب في ساقه فخدشته، فمرض منها فمات، وقوله: (والعاصي بن وائل) خرج على راحلته يتنزه، فدخل شعباً فدخلت شوكة في أخمص رجله، فانتفخت حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه، وقوله: (وعدي بن قيس) الصواب الحرث بن قيس بن الطلاطلة، كما ذكره في الهمزية وشراحها، والخازن وغيره من كتب التفسير، وقد هلك بأن صار القيح يجري من أنفه وعينه وفمه حتى مات، وقوله: (والأسود بن المطلب) رماه جبريل بورقة خضراء، فذهب بصره ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك، وقوله: (والأسود بن عبد يغوث) أصابه مرض الاستسقاء فمات به، وقيل إن النبي شكا هؤلاء الخمسة لجبريل عليه السلام، فكفاه الله شرهم، وقد أجاد صاحب الهمزية حيث قال في حقهم: كفاه المستهزئين وكم سا   ء نبياً من قومه استهزاءورماهم بدعوة من فناء الـ   ـبيت فيها للظالمين فناءخمسة كلهم اصيبوا بداء   والردى من جنوده الأدواءفدهى الأسود بن المطلب   أي عمى ميت به الأحياءودهى الأسود بن عبد يغوث   أن سقاه كاس الردى استسقاءواصاب الوليد خدشة سهم   قصرت عنها الحية الرقطاءوقضت شوكة على مهجة العا   ص فلله النقعة الشوكاءوعلى الحرث القيوح وقد سا   ل بها رأسه وساء الوعاءخمسة طهرت بقطعهم الأر   ض فكف الأذى بهم شلاءقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ ﴾ أي يشركون في عبادته غيره. قوله: ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ هذا تهديد ووعيد لهم.
قوله: ﴿ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ أي بسبب قولهم وتكلمهم في شأنك، فإن شأن ذلك، يضيق منه الصدر بحسب الطبيعة البشرية. قوله: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ أي فافزع إلى ربك والتجىء إليه، يكفك ما يهمك من أمور الدنيا والآخرة، ففي الحديث" اعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه "قوله: (أي قل سبحان الله وبحمده) أي تنزيهاً له عن كل نقص، واتصافاً له بكل كمال. قوله: (المصلين) أشار بذلك إلى أن الكلام فيه مجاز، من إطلاق الجزء على الكل، وخص السجود بالذكر، لأنه أشرف أركانها. قوله: ﴿ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ ﴾ عطف عام على خاص، والمعنى دم على عبادته. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ﴾ أي أعبد ربك في جميع زمن حياتك، ولا تخل لحظة من عمرك من غير عبادة، فإن العمر ساعة فاجعله طاعة، وهذا الخطاب وإن كان للنبي، إلا أن المراد منه العموم. قوله: (الموت) أي وسمي يقيناً، لأنه متيقن الوقوع والنزول.
Icon