ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من قالها وجد جمالها، ومن شهدها شهد جلالها.
وليس كلّ من قالها نالها، ولا كلّ من احتالها «١» عرف جلالها.
كلمة رفيعة عن إدراك الألباب منيعة، كلمة على الحقيقة الصمدية دالّة، كلمة لا بدّ للعبد من ذكرها في كل حالة.
قوله جل ذكره:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)الباء في «بِعَذابٍ» بمعنى عن، أي سأل سائل «٢» عن هذا العذاب لمن هو؟
فقال تعالى:
«لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» هذا العذاب للكافرين ليس له دافع من الله ذى المعارج فهذا العذاب من الله.
ومعنى «ذِي الْمَعارِجِ» ذى الفضل ومعالى الدرجات التي يبلغ إليها أولياءه.
قوله جل ذكره: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».
(٢) هو النضر بن الحارث قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وربما تكون سأل بمعنى دعا، ويكون السائل هو النبي (ص).
ويقال: معناه يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة، والله يجرى ذلك ويمضيه في يوم واحد.
ويقال: من أسفل المخلوقات إلى أعلاها مسيرة خمسين ألف سنة للناس فالملائكة تعرج فيه من أسفله إلى أعلاه في يوم واحد.
قوله جل ذكره:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٥ الى ١٠]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠)
فاصبر- يا محمد «١» - على مقاساة أذاهم صبرا جميلا. والصبر الجميل ما لا شكوى فيه.
ويقال: الصبر الجميل ألا تستثقل الصبر بل تستعذبه.
ويقال: الصبر الجميل ما لا ينتظر العبد الخروج منه، ويكون ساكنا راضيا.
ويقال: الصبر الجميل أن يكون على شهود المبلى.
ويقال: الصبر الجميل ما تجرّد عن الشكوى والدّعوى.
قوله جل ذكره: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» إنّ ما هو آت فقريب، وما استبعد من يستبعد إلّا لأنّه مرتاب فأمّا الواثق بالشيء فهو غير مستبعد له.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» الإشارة فيه أنه في ذلك اليوم من كان في سموّ نخوته ونبوّ صولته يلين ويستكين ويضعف من كان يشرف، ويذلّ من كان يذلّ.
قوله جل ذكره: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» لا يتفرّغ قريب إلى قريب فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١١ الى ١٩]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥)
نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩)
«يُبَصَّرُونَهُمْ» أي يعرفون أقاربهم، ولكن لا ترقّ قلوب بعضهم على بعض.
ويتمنّى المجرم يومئذ أن يفتدى من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من قريب ونسيب وحميم وولد، وبكلّ من في الأرض حتى يخلص من العذاب.
«كَلَّا إِنَّها لَظى» اسم من أسماء جهنم.
«نَزَّاعَةً لِلشَّوى» «١» قلّاعة للأطراف. تكشط الجلد عن الوجه وعن العظم.
قوله جل ذكره: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى» تقول جهنم للكافر والمنافق: يا فلان... إليّ إليّ.
والإشارة فيه: أنّ جهنم الدنيا تعلق بقلب المرء فتدعوه بكلاب الحرص إلى نفسه وتجرّه إلى جمعها حتى يؤثرها على نفسه وكلّ أحد له حتى لقد يبخل بدنياه على أولاده وأعزّته...
وقليل من نجا من مكر الدنيا وتسويلاتها.
قوله جل ذكره: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً».
قالت قتيلة: ماله... قد جللت شيبا شواته
وجاء في الصحاح: الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه أي لم يصب المقتل.
وقال الضحاك: تفرى الجلد واللحم عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. ونرى أن المقصود- والله أعلم.
أن العذاب لا يقضى عليهم، حتى يستمر واقعا بهم إلى الأبد.
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)
والهلع شدّة الحرص مع الجزع. ويقال هلوعا: متقلّبا في غمرات الشهوات.
ويقال: يرضيه القليل ويسخطه اليسير.
ويقال: عند المحنة يدعو، وعند النعمة ينسى ويسهو.
«إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» استثنى منهم المصلين- وهم الذين يلازمون أبدا مواطن الافتقار من صلى بالمكان «١».
«وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» وهو المتكفّف والمتعفّف.
وهم على أقسام: منهم من يؤثر بجميع ماله فأموالهم لكلّ من قصد، لا يخصّون سائلا من عائل. ومنهم من يعطى ويمسك- وهؤلاء «٢» منهم- ومنهم من يرى يده يد الأمانة فلا يتكلّف باختياره، وإنما ينتظر ما يشار عليه به من الأمر إمّا بالإمساك فيقف أو ببذل الكلّ أو البعض فيستجيب على ما يطالب به وما يقتضيه حكم الوقت...
وهؤلاء أتمّهم.
(٢) أي الذين تتحدث عنهم الآية.
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٢٦ الى ٣٣]
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠)فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)
وأمارتهم الاستعداد للموت قبل نزوله، وأن يكونوا كما قيل:
مستوفزون على رجل كأنهمو | فقد يريدون أن يمضوا فيرتحلوا |
قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» يحفظون الأمانات التي عندهم للخلق ولا يخونون فيها. وأمانات الحق التي عندهم أعضاؤهم الظاهرة- فلا يدنّسونها بالخطايا فالمعرفة التي في قلوبهم أمانة عندهم من الحق، والأسرار التي بينهم وبين الله أمانات عندهم. والفرائض واللوازم والتوحيد.. كل ذلك أمانات.
ويقال: من الأمانات إقرارهم وقت الذّرّ. ويقال: من الأمانات عند العبد تلك المحبة التي أودعها الله في قلبه.
قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» شهادتهم لله بالوحدانية، وفيما بينهم لبعضهم عند بعض- يقومون بحقوق ذلك كله.
قوله جل ذكره:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣)
والإهطاع أن يقبل ببصره إلى الشيء فلا يرفعه عنه، وكذلك كانوا يفعلون عند النبي ﷺ و «عِزِينَ» : أي خلقا خلقا، وجماعة جماعة.
«فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ..» لا- هنا صلة، والمعنى أقسم. وقد مضى القول فى المشارق والمغارب- «إِنَّا لَقادِرُونَ» على ذلك.
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا» غاية التهديد والتوبيخ لهم.
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً» كأنهم يسرعون إلى أصنامهم، شبّه إسراعهم حين قاموا من القبور بإسراعهم إلى النّصب- اليوم- كى يقوموا بعبادتهم إياها.