تفسير سورة الكهف

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم في أول التفسير، أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة، عند فواتح الأمور وخواتمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم، محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بيناً جلياً، نذيراً للكافرين بشيراً للمؤمنين، ولهذا قال :﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ أي لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا زيغاً ولا ميلاً، بل جعله معتدلاً مستقيماً، ولهذا قال :﴿ قَيِّماً ﴾ أي مستقيماً، ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْه ﴾ أي لمن خالفه وكذبه، ولم يؤمن به، ينذهر بأساً شديداً عقوبة عاجلة في الدنيا، وآجلة في الآخرة، ﴿ مِّن لَّدُنْهُ ﴾ أي من عند الله ﴿ وَيُبَشِّرَ المؤمنين ﴾ أي بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ﴾ أي مثوبة عند الله جميلة، ﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ ﴾ في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه ﴿ أَبَداً ﴾ دائماً، لا زوال له ولا انقضاء، وقوله :﴿ وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً ﴾ قال ابن إسحاق : وهم مشركوا العرب، في قولهم نحن نعبد الملائكة، وهم بنات الله ﴿ وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً ﴾، أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه، ﴿ مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي لأسلافهم، ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾ كبرت كلمتهم هذه، وفي هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم. ولهذا قال :﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلاّ كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال :﴿ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ﴾.
وقد ذكر محمد بن إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عن ابن عباس قال :« بعثت قريش ( النضر بن الحارث ) و ( عقبة بن أبي معيط ) إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ﷺ ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلاّ فرجل متقول فتروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعون، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور؛ فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله ﷺ فقالوا : يا محمد! أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله ﷺ :» أخبركم غداً عما سألتم عنه «، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا : وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله ﷺ مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاء جبرائيل عليه السلام من الله عزَّ وجلَّ بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من خبر الفتية والرجل الطواف »
1495
، وقول الله عزَّ وجلَّ ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ] الآية.
1496
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ]، وقال :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ النمل : ٧٠ ]، وقال :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ]، باخع : أي مهلك نفسك بحزنك عليهم، ولهذا قال :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث ﴾ يعني القرآن، ﴿ أَسَفاً ﴾ يقول : لا تهلك نفسك أسفاً، قال قتادة : قاتلٌ نفسك غضباً وحزناً عليهم. وقال مجاهد : جزعاً، والمعنى متقارب أي : لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة الله فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ثم أخبر تعالى أنه جل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وذهابها، وخرابها، فقال تعالى :﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ أي وإنا لمصّيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكاً ﴿ صَعِيداً جُرُزاً ﴾ لا ينبت ولا ينتفع به، كما قال ابن عباس : يهلك كل شيء عليها ويبيد، وقال مجاهد ﴿ صَعِيداً جُرُزاً ﴾ بلقعاً. وقال قتادة : الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال ابن زيد : الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف ﴿ أَمْ حَسِبْتَ ﴾ يعني يا محمد ﴿ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ﴾ أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى؛ وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء - أعجب من أخبار أصحاف الكهف، كما قال مجاهد : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال ابن عباس : الذي آتيتك من العلم والسنّة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم، وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم، وأما الكهف : فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم : فقال ابن عباس : هو واد قريب من أيلة. وقال الضحّاك : أما الكهف فهو غار الوادي، والرقيم اسم الوادي، وقال مجاهد : الرقيم كتاب بنيانهم، ويقول بعضهم هو الوادي الذي فيه كهفهم. وقال ابن عباس : الرقيم الجبل الذي فيه الكهف، وقال سعيد بن جبير : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم الكتاب، ثم قرأ ﴿ كتاب مرقوم ﴾ وهذا هو الظاهر من الآية وهو اختيار ابن جرير، قال الرقيم فعيل بمعنى مرقوم، كما يقال للمقتول قتيل وللمجروح جريح. والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ﴾ يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار جبل ليختلفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم :﴿ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ﴾ أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا، ﴿ وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ﴾ أي اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث :« وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً » وفي المسند عن رسول الله ﷺ أنه كان يدعو :« اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة »، وقوله :﴿ فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً ﴾ أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ أي من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ﴾ أي المختلفين فيهم ﴿ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً ﴾ قيل : عدداً، وقيل : غاية.
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله ﷺ شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلاّ القليل، وهكذا أخبر تعالى على أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً. وقال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة، يعني الحلق، فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم، أي اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلاّ هو، ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ استدل بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى :﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾، كما قال :﴿ والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [ محمد : ١٧ ]، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض ﴾ يقول تعالى : وصبرناهم على مخالفة قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها، وكان لها ملك جبار عنيد يقال له ( دقيانوس ) وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز عنهم، واتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عزَّ وجلَّ، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله :﴿ وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها ﴾ و « لن » لنفي التأبيد : أي لا يقع منا هذا أبداً لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم :﴿ لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ﴾ أي باطلاً وكذباً وبهتاناً، ﴿ هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾ أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾، يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال إن ملكهم تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجّلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه كما جاء في الحديث :
1499
« يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن » ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله :﴿ وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله ﴾ : أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم، ﴿ فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ﴾ : أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ ﴾ الذي أنتم فيه، ﴿ مِّرْفَقاً ﴾ أي أمراً ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك، فيقال إنه لم يظفر بهم، وعمّى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمد ﷺ وصاحبه الصدّيق حين لجآ إلى ( غار ثور ).
1500
أخبر تعالى أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ﴿ ذَاتَ اليمين ﴾، قال ابن عباس ﴿ تَّزَاوَرُ ﴾ : أي تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال :﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال ﴾ أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا ما بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب. وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء من عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً؛ ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه ولله الحمد. وقال ابن عباس ومجاهد :﴿ تَّقْرِضُهُمْ ﴾ تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال ﷺ :« ما تركت شيئاً بقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به » فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال :﴿ وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ﴾، قال مالك : تميل، ﴿ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي في متسع منه داخلاً، بحيث لا تصيبهم، إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم، قاله ابن عباس، ﴿ ذلك مِنْ آيَاتِ الله ﴾ حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم، ولهذا قال تعالى :﴿ ذلك مِنْ آيَاتِ الله ﴾ ثم قال :﴿ مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد ﴾ أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.
ذكر أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، وقوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال ﴾، قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس : لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض، وقوله :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد ﴾ الوصيد الفناء، وقال ابن عباس : بالباب، قال ابن جريج : يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته حث يربض ببابهم، كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، كما ورد في « الصحيح »، ولا صورة ولا جنب، وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن، وقوله تعالى :﴿ لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلاّ هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة.
يقول تعالى : كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم، وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً، وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم ﴿ كَم لَبِثْتُمْ ﴾ ؟ أي كم رقدتم؟ ﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ لأنه كان دخلوهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا :﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾ أي أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا ﴿ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ﴾ أي فضتكم هذه، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا ﴿ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة ﴾ أي مدينتكم التي خرجتم منها ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً ﴾ أي أطيب طعاماً، كقوله :﴿ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ [ النور : ٢١ ]، وقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾ [ الأعلى : ١٤ ]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره. وقوله :﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ أي في خروجه وإيابه، يقولون وليختف كل ما يقدر عليه، ﴿ وَلاَ يُشْعِرَنَّ ﴾ أي ولا يعلمن ﴿ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ﴾ أي إن علموا بمكانكم ﴿ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾ يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونكم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوكم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال :﴿ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً ﴾.
يقول تعالى :﴿ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ : أي أطلعنا عليهم الناس ﴿ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾ ذكر غير واحد من السلف، أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك، وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه، تنكّر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، فجعْل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول إن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة، لعله وجدها من كنز، وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس، وفيها دقيانوس فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف - ملك البلد وأهلها - حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل، فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال : بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك وأعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عزَّ وجلَّ. وقوله ﴿ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ : أي كما أرقدناهم وأيقظانهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان ﴿ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾ أي في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكِّر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم ﴿ فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾ أي سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم ﴿ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً ﴾. حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين ( أحدهما ) : أنهم المسلمون منهم، و ( الثاني ) : أهل الشرك منهم، فالله أعلم.
يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، ولما ضعف القولين الأولين بقوله ﴿ رَجْماً بالغيب ﴾ أي قولاً بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله ﴿ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾، فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر، وقوله :﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ﴾ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلاّ وقفنا، وقوله ﴿ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ : أي من الناس. قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عزَّ وجلَّ، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول : عدتهم سبعة. فكانوا ليلهم ونهارهم في عبادة الله، يبكون ويستغيثون بالله. قال تعالى :﴿ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً ﴾ أي سهلاً هيناً، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة، ﴿ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ﴾ : أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلاّ ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب، أي من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.
هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله الله ﷺ إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد إلى مشيئة الله عزَّ وجلَّ علام الغيوم، كما ثبت في « الصحيحين » عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال :« قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له - وفي رواية قال له الملك : قل إن شاء الله، فلم يقلن فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله ﷺ - والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته » وفي رواية :« ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي ﷺ لما سئل عن قصة أصحاب الكهف :« غداً أجيبكم »، فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً، وقوله :﴿ واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ : قيل معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له، وقال ابن عباس في الرجل يحلف. له أن يستثنى ولو إلى سنة، وكان يقول ﴿ واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ ذلك، ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة فالسنة له أن يقول ذلك ليكون آتياً بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث، قاله ابن جرير رحمه الله ونص على ذلك، لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم. وقال عكرمة ﴿ واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ : إذا غضبت. وقال الطبراني، عن ابن عباس في قوله ﴿ واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ أن تقول إن شاء الله. وروى الطبراني أيضاً عنه استثن إذا ذكرت، وقال هي خاصة برسول الله ﷺ وليس لأحد منا أن يستثني إلاّ في صلة من يمينه، ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى، لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى :﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [ الكهف : ٦٣ ] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للذكر، ولهذا قال ﴿ واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾. وقوله :﴿ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ﴾ أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك.
هذا خبر من الله تعالى لرسوله ﷺ، بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، أعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية. وهي ثلثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلثمائة وازدادوا تسعاً، وقوله :﴿ قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ﴾ أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا ﴿ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض ﴾ أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه. وقوله ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾ أي إنه لبصير بهم سميع لهم، قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح كأنه قيل ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾ : فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقوله ﴿ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾ أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس.
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس، ﴿ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل، وقوله ﴿ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾ قال مجاهد :﴿ مُلْتَحَداً ﴾ ملجأ، وعن قتادة : ولياً ولا مولى، قال ابن جرير : يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [ المائدة :’٦٧ ]، وقوله :﴿ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً، من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، يقال : إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي ﷺ أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، فقال :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ] الآية. وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال :﴿ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي ﴾ الآية. عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي ﷺ ستة نفر، فقال المشركون للنبي ﷺ : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال :« ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلاّ وجهه إلاّ ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات » وقال الطبراني، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف، قال : نزلت على رسول الله ﷺ وهو في بعض أبياته :﴿ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي ﴾ الآية، فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس وجاف الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم، وقال :« الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم »، وقوله :﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا ﴾ قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة، ﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ﴾ أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعاًَ له ولا محباً لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ طه : ١٣١ ].
يقول تعالى لرسوله ﷺ : قل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم، هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال :﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا ﴾ أي أرصدنا ﴿ لِلظَّالِمِينَ ﴾ وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ﴿ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ أي سورها، وعن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة » وقال ابن عباس ﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ قال : حائط من نار، وقوله :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه ﴾ الآية، قال ابن عباس : المهل الماء الغليظ، مثل دردي الزيت، وقال مجاهد : هو كالدم والقيح، وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره، وقال الضحّاك، ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود، وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار، ولهذا قال ﴿ يَشْوِي الوجوه ﴾ : أي من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه، حتى تسقط جلده وجهه فيه، كما جاء في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ماء كالمهل، قال كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه » وعن النبي ﷺ في قوله ﴿ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ ﴾ [ إبراهيم : ١٦-١٧ ] قال :« يقرب إليه فيتكرهه، فإذا قرب منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه »، يقول الله تعالى :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب ﴾. وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون منها فاجتثت جلود وجوههم، فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود، ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة ﴿ بِئْسَ الشراب ﴾ أي بئس هذا الشراب، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ]، وقال تعالى :﴿ تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ [ الغاشية : ٥ ] أي حارة، كما قال تعالى :﴿ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمن : ٤٤ ] ﴿ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، كما قال في الآية الأخرى ﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٦ ].
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلهم جنات عدن، والعدن الإقامة ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار ﴾ أي من تحت غرفهم ومنازلهم، قال فرعون ﴿ الأنهار تَجْرِي مِن تحتي ﴾ [ الزخرف : ٥١ ] الآية. ﴿ يُحَلَّوْنَ ﴾ أي من الحلية ﴿ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾ وقال في المكان الآخر ﴿ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [ الحج : ٢٣ ] وفصّله هاهنا فقال ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ فالسندس ثياب رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج، وفيه بريق. وقوله :﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرآئك ﴾ الإتكاء قيل : الاضطجاع، وقيل : التربع في الجلوس، وهو أشبه بالمراد هاهنا - ومنه الحديث الصحيح :« أما أنا فلا آكل متكئاً »، والأرائك جمع أريكة وهي السرير تحت الحجلة، عن قتادة ﴿ عَلَى الأرآئك ﴾ قال : هي الحجال، وقال غيره : السرر في الحجال، وقوله ﴿ نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ : أي الجنة ثواباً على أعمالهم، ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ أي حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً، كما قال في النار :﴿ بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]، وهكذا قابلل بينهما في سورة الفرقان في قوله :﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٦ ]، ثم ذكر صفات المؤمنين فقال :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٦ ].
يقول تعالى بعد ذكره المشركين، المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلاً برجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة. ولهذا قال :﴿ كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا ﴾ أي أخرجت ثمرها ﴿ وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً ﴾ أي لم تنقص منه شيئاً ﴿ وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً ﴾ أي والأنهار متفرقة فيها هاهنا وهاهنا ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾ قيل، والمراد به المال، وقيل : الثمار، وهو أظهر هاهنا، ﴿ فَقَالَ ﴾ أي صاحب هاتين الجنتين ﴿ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ أي يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ أي أكثر خدماً وحشماً وولداً، قال قتادة : تلك والله أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر. وقوله :﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ أي بكفره وتمرده وتجبره وإنكار المعاد، ﴿ وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً ﴾ وذلك اغترار منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهارالمطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال ﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكوننَّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى ﴿ وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ]، وقال :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ [ مريم : ٧٧ ].
يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار :﴿ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ﴾، وهكذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه، وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] الآية، أي كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، ولهذا قال المؤمن ﴿ لكنا هُوَ الله رَبِّي ﴾ : أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل اعترف لله بالوحدانية والربوبية، ﴿ وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ﴾ أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له، ثم قال :﴿ ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾. وهذا تحضيض وحث على ذلك، أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، ولهذا قال بعض السلف من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل : ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول فيقول ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، فيرى فيه آفة دون الموت » وكان يتأول هذه الآية :﴿ ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله ﴾، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال له :« ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله ».
وقال أبو هريرة، قال لي رسول الله ﷺ :« يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ » قال، قلت : فداك أبي وأمي، قال :« أن تقول لا قوة إلاّ بالله ». قال أبو بلخ وأحسب أنه قال :« فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم » وقوله :﴿ فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ ﴾ أي في الدار الآخرة، ﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ﴾ أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى ﴿ حُسْبَاناً مِّنَ السمآء ﴾، قال ابن عباس والضحّاك : أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال :﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ﴾، أي بلقعاً تراباً أملس، لا يثبت فيه قدم. وقال ابن عباس : كالجزر الذي لا ينبت شيئاً، وقوله ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً ﴾ أي غائراً في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض. فالغائر يطلب أسفلها، كما قال تعالى ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ﴾ [ الملك : ٣٠ ] : أي جار وسائح، وقال هاهنا :﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾، والغور مصدر بمعنى غائر، وهو أبلغ منه كما قال الشاعر :
تظل جياده نوحاً عليه تقلده أعنتها صفوفاً
بمعنى نائحات عليه.
يقول تعالى :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ بأمواله وبثماره ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن، من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عزَّ وجلَّ، ﴿ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا ﴾، وقال قتادة : يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها، ﴿ وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ ﴾ أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز ﴿ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق ﴾ أي الموالاة لله، أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلأى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴾ [ غافر : ٨٤ ]. وكقوله إخباراً عن فرعون ﴿ حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين ﴾ [ يونس : ٩٠ ]، ومنهم من كسر الواو من ﴿ الولاية ﴾ أي هنالك الحكم لله الحق، كقوله :﴿ ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق ﴾ [ الأنعام : ٦٢ ] الآية. ولهذا قال تعالى ﴿ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً ﴾ : أي جزاء ﴿ وَخَيْرٌ عُقْباً ﴾ أي الأعمال التي تكون لله عزَّ وجلَّ ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.
يقول تعالى :﴿ واضرب ﴾ يا محمد للناس ﴿ مَّثَلَ الحياة الدنيا ﴾ في زوالها وفنائها وانقضائها، ﴿ كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض ﴾ أي ما فيها من الحب، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور، والنضرة، ثم بعد هذا كله ﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيماً ﴾ يابساً ﴿ تَذْرُوهُ الرياح ﴾ أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال، ﴿ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ﴾ أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال، وكثيراً ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما قال تعالى في سورة يونس :﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام ﴾ [ الآية : ٢٤ ]، وقال في سورة الحديد :﴿ اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ﴾ [ الآية : ٢٠ ]. وفي الحديث الصحيح :« الدنيا خضرة حلوة » وقوله :﴿ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا ﴾ كقوله :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب ﴾ [ آل عمران : ١٤ ] الآية. وقال تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [ التغابن : ١٥ ] : أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم، ولهذا قال :﴿ والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾، قال ابن عباس وسعيد ابن جبير، وغير واحد من السلف : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس. وقال ابن عباس :﴿ والباقيات الصالحات ﴾ : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن ﴿ والباقيات الصالحات ﴾ ما هي؟ فقال : هي لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. وروي عن سعيد بن المسيب قال : الباقيات الصالحات ( سبحان والحمدلله ولا إله الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ) وقال محمد ابن عجلان عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات، فقلت : الصلاة والصيام، فقال : لم تصب، فقلت : الزكات والحج، فقال : لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر هنّ الباقيات الصالحات » وفي الحديث :« أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئلهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر من الباقيات الصالحات » وقال ابن عباس قوله ﴿ والباقيات الصالحات ﴾ قال : هي ذكر الله، قول : لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمدلله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض، وعنه : هي الكلام الطيب، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها، واختاره ابن جرير رحمه الله.
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً ﴾ [ الطور : ٩-١٠ ] : أي تذهب من أماكنها وتزول كما قال تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾ [ طه : ١٠٥ ]، يذكر تعالى أنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً، أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً، أي ولا وادي ولا جبل. ولهذا قال تعالى :﴿ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ أي بادية ظاهرة، ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يواري أحداً، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة ﴿ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ : لا حجر فيها ولا غاية، وقال قتادة : لا بناء ولا شجر، وقوله :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ أي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً. كما قال ﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩-٥٠ ]، وقال :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٣ ]، وقوله :﴿ وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً ﴾ يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً، ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً صفوفاً، كما قال :﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ]، وقوله :﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾ أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن. وقوله :﴿ وَوُضِعَ الكتاب ﴾ أي كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، ﴿ فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ أي من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة، ﴿ وَيَقُولُونَ ياويلتنا ﴾ أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا، ﴿ مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر، إلاّ أحصاها أي ضبطها وحفظها، وقوله ﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً ﴾ أيمن خير وشر، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ﴾ [ آل عمران : ٣٠ ] الآية، وقال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ الأنبياء : ١٣ ] وفي الحديث :« يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، يقال هذه غدرة فلان بن فلان » وقوله :﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾
1515
[ النساء : ٤ ] الآية، وقال :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً... ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] إلى قوله ﴿ حَاسِبِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] والآيات في هذا كثيرة.
روى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي ﷺ فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رجلاً فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا ( عبد الله بن أنيس )، فقلت للبواب : قل له جابر على الباب، فقال : ابن عبد الله؟ قلت : نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« يحشر الله عزَّ وجلَّ الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عراة غرلاً بهماً ». قلت : ومابهماً؟ قال :« ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ : أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقضيه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقضيه منه، حتى اللطمة قال : قلنا، كيف وإنما نأتي الله عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلاً بهماً؟ قال :» بالحسنات والسيئات «.
1516
يقول تعالى منبهاً بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، فقال تعالى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة ﴾ أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة ﴿ اسجدوا لأَدَمََ ﴾ أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ الحجر : ٢٨-٢٩ ]، وقوله ﴿ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن ﴾ أي خانه أصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في « صحيح مسلم » :« خلقت الملائك من نور وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم » ونبَّه تعالى هاهنا على أنه من الجن، أي على أنه خلق من نار كما قال :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ ص : ٧٦ ]، قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإن لأصل الجن، كما أنّ آدم عليه السلام أصل البشر. وقوله :﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ أي فخرج عن طاعة الله فإن الفسق هو الخروج، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها، وفسقت الفأرة من جحرها، إذا خرجت منه للعيث والفساد، ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه، وأطاعه ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي ﴾ أي بدلاً عني، ولهذا قال :﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾، وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها، ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس :﴿ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون... ﴾ [ يس : ٥٩ ] إلى قوله ﴿ أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ يس : ٦٢ ].
يقول تعالى هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني، عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً، ولا أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وحدي، وليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، كما قال :﴿ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ [ سبأ : ٢٢ ]، ولهذا قال :﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً ﴾ قال مالك : أعواناً.
يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة، على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً ﴿ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ ﴾ أي في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى :﴿ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ]، وقوله :﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ ﴾، كما قال :﴿ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ ﴾ [ القصص : ٦٤ ] الآية، وقال :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ ﴾ [ الأحقاف : ٥ ]، وقال تعالى :﴿ واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨١-٨٢ ]، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾ قال ابن عباس : مهلكاً، وقال قتادة : موبقاً وادياً في جهنم. وقال ابن جرير، عن أنَس بن مالك في قوله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾ قال : واد في جهنم من قيح ودم، وقال الحسن البصري : موبقاً : عداوة، والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك، ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره، والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير، قال تعالى :﴿ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون ﴾ [ يس : ٥٩ ] وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٢٨ ]، وقوله ﴿ وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً ﴾ أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وقوله ﴿ وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً ﴾ أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها، ولا بد لهم منها. وقال ابن جرير، عن أبي سعيد، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة ».
ويقول تعالى : ولقد بينا للناس من هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلاّ من هدى الله وبصره لطريق النجاة. قال الإمام أحمد، « عن علي بن أبي طالب أخبره أنَّ رسول الله ﷺ طرقه وفاطمة بنت رسول الله ﷺ ليلة، فقال :» ألا تصليان «، فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئاً ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه ويقول :﴿ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ ».
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلاّ طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عياناً كما قال أولئك لنبيهم :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ [ النساء : ١٨٧ ]، وآخرون قالوا :﴿ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ]، وقالت قريش :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، ثم قال :﴿ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين ﴾ من غشيانهم بالعذاب، وأخذهم عن آخرهم ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً ﴾ أي يرونه عياناً مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى :﴿ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ أي مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم، ثم أخبر عن الكفار بأنهم ﴿ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ ﴾ [ غافر : ٥ ] أي ليضعفوا به الحق، الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، ﴿ واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً ﴾ أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب، ﴿ هُزُواً ﴾ : أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب.
يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم ممن ذكّر بآيات الله فأعرض عنها، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها، ولا ألقى إليها بالاً ﴿ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ ﴾ أي قلوب هؤلاء ﴿ أَكِنَّةً ﴾ أي أغطية وغشاوة، ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، ﴿ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ : أي صمماً معنوياً عن الرشاد، ﴿ وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً ﴾، وقوله :﴿ وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة ﴾ : أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة، ﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب ﴾، كما قال :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ [ فاطر : ٤٥ ]، وقال :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب ﴾ [ الرعد : ٦ ] والآيات في هذا كثيرة شتى، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها، ولهذا قال :﴿ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾ : أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد، ولا معدل، وقوله :﴿ وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ﴾ أي الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم ﴿ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ﴾ : أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول الله وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذري.
سبب قول موسى لفتاه وهو ( يوشع بن نون ) هذا الكلام، أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك ﴿ لا أَبْرَحُ ﴾ : أي لا أزال سائراً ﴿ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين ﴾ أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، قال قتادة وغير واحد : هما ( بحر فارس ) مما يلي المشرق و ( بحر الروم ) مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب : مجمع البحرين عند طنجة، يعني في أقصى بلاد المغرب، فالله أعلم. وقوله :﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ أي ولو أني أسير حقباً من الزمان، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحقب ثمانون سنة، وقال مجاهد : سبعون خريفاً، وقال ابن عباس ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ قال : دهراً، وقوله :﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له متى فقدت الحوت فهو ثمة، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وكان من مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى :﴿ فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً ﴾ أي مثل السرب في الأرض، قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر، وقال قتادة : سرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فيه فيجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار ماء جامداً، وقوله :﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ : أي المكان الذي نسيا الحوت فيه، ﴿ قَالَ ﴾ موسى ﴿ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا ﴾ أي الذي جاوزا في المكان ﴿ نَصَباً ﴾ أي تعباً، ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾، ولهذا قال :﴿ واتخذ سَبِيلَهُ ﴾ أي طريقه ﴿ فِي البحر عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ أي هذا هو الذي نطلب ﴿ فارتدا ﴾ أي رجعا ﴿ على آثَارِهِمَا ﴾ أي طريقهما ﴿ قَصَصاً ﴾ أي يقصان آثار مشيهما، ويقفون أثرهما ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾، وهذا هو الخضر عليه السلام، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ.
روى البخاري، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال : أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق.
1523
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه :﴿ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً ﴾، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، قال له فتاه :﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً ﴾، قال فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال :﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ قال، فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر : وأني بأرضك السلام؟ فقال : أنا موسى، فقال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم، قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ [ الكهف : ٦٧ ] يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى :﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً ﴾ [ الكهف : ٦٩ ]، قال له الخضر :﴿ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ [ الكهف : ٧٠ ]، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! لقد جئت شيئاً إمراً ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ [ الكهف : ٧٢-٧٣ ]. قال، وقال رسول الله ﷺ وعلى آله - فكانت الأولى من موسى نسياناً، قال، وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هم يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى :﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ [ ٧٤-٧٥ ]، قال وهذه أشد من الأولى، ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾
1524
[ الكهف : ٧٦-٧٧ ] أي مائلاً فقال الخضر بيده ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ [ ٦٧-٧٧ ] فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ﴿ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [ الكهف : ٧٧-٧٨ ]، فقال رسول الله ﷺ :« وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما » قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ :﴿ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ﴾، وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين ﴾.
وروى الزهري : عن ابن عباس : أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى، فقال ابن عباس : هو خضر، فمر بها أبي بن كعب بدعاه ابن عباس، فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول الله ﷺ يذكر شأنه؟ قال : إني سمعت رسول الله ﷺ يقول :« بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل، فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال : لا، فأوحى الله إلى موسى : بلى عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، قال موسى ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ فوجد عبدنا خضراً، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه ».
1525
يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام، لذلك الرجل العالم، وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعط الخضر. ﴿ قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾ سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم، وقوله ﴿ أَتَّبِعُكَ ﴾ أي أصحبك وأرافقك، ﴿ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾ أي مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح، فعندها ﴿ قَالَ ﴾ الخضر لموسى ﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك، لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾ فأنا أعرف أنك استنكر عليَّ ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة، التي اطلعت أنا عليها دونك، ﴿ قَالَ ﴾ أي موسى ﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً ﴾ أي على ما أرى من أمورك، ﴿ وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً ﴾ أي ولا أخالفك في شيء، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام ﴿ قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ ﴾ أي ابتداء ﴿ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ أي حتى أبداك أنا به، قبل أن تسألني عن ابن عباس قال : سأل موسى عليه السلام ربه عزّ وجلّ فقال : أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال : أي رب أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال، أي رب : هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال : نعم، قال : فمن هو؟ قال : الخضر، قال : وأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال، فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلّم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى : إني أحب أن أصحبك، قال : إنك لن تطيق صحبتي. قال : بلى، قال : فإن صحبتني ﴿ فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ قال فسار به في البحر، حتى انتهى إلى مجمع البحرين، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال، وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال : ما أقل ما رزأ، قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء، وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك.
يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة في البحر ولججت، أي دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحاً من ألواحها، ثم رقعها، فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾ وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل. كما قال الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب... ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ قال مجاهد : منكراً، وقال قتادة : عجباً، فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾، يعني وهذا الصنيع فعلته قصداً، وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبراً، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت، ﴿ قَالَ ﴾ أي موسى ﴿ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ : أي لا تضيّق علي ولا تشدد علي، ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال :« كانت الأولى من موسى نسياناً ».
يقول تعالى ﴿ فانطلقا ﴾ أي بعد ذلك ﴿ حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ ﴾، وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بيده، والله أعلم. فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ﴾ : أي صغيرة، لم تعمل الحنث، ولا عملت إثماً بعد، فقتلته ﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ : أي بغير مستند لقتله ﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ : أي ظاهر النكارة ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول، فلهذا قال له موسى ﴿ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا ﴾ : أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة ﴿ فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ﴾ : أي قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة، قال ابن جرير، عن ابين عباس، عن أَبي بن كعب، قال : كان النبي ﷺ إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم :« رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، لكنه قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدي عذراً ».
يقول تعالى مخبراً عنهما؛ إنهما ﴿ فانطلقا ﴾ بعد المرتين الأوليين ﴿ حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾، روي عن ابن سيرين أنها الإريكة، وفي الحديث :« حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً » أي بخلاء؛ ﴿ فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ ﴾ إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل؛ والانقضاض هو السقوط. وقوله ﴿ فَأَقَامَه ﴾ أي فرده إلى حالة الاستقامة، وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق، فعند ذلك قال موسى له ﴿ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً ﴿ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك، ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ﴾ أي بتفسير ﴿ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾.
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال : إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة ﴿ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ﴾ صالحة أي جيدة ﴿ غَصْباً ﴾ فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، ( هدد بن بدد )، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.
عن أبي بن كعب، عن النبي ﷺ قال :« الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً »، ولهذا قال :﴿ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ أي يحملهما حبة على متابعته على الكفر، قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب، وصح في الحديث :« لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلاّ كان خيراً له »، وقال تعالى :﴿ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ]، وقوله :﴿ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾ أي ولداً أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة : أبر بوالديه، وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، قاله ابن جريج.
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة، لأنه قال أولاً ﴿ حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾ [ الكهف : ٧٧ ]، وقال هاهنا :﴿ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ ﴾ [ محمد : ١٣ ] ﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] يعني مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة : كان تحته مال مدفون لهما، وهو ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله، وقال ابن عباس : كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قال : لوح من ذهب مكتوب فيه :« بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلاّ الله محمد رسول الله »، وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء. وكان نساجاً، وهذا الذي ذكر - وإن صح - لا ينافي قول عكرمة إنه كان مالاً. لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كان مودعاً فيه علم وهو حكم ومواعظ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾ فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنّة، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وتقدم أنه كان الأب السابع فالله أعلم. وقوله :﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلاّ الله، وقال في الغلام :﴿ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً ﴾ [ الكهف : ٨١ ] وقال في السفينة :﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] فالله أعلم. وقوله تعالى :﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، وما فعلته عن أمري، لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله :﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ [ الكهف : ٦٥ ]، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً بل كان ولياً، فالله أعلم. وحكي في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى :
1532
﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد ﴾ [ الأنبياء : ٣٤ ]، وبقول النبي ﷺ يوم بدر :« اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض »، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله ﷺ ولا حضر عنده، ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي ﷺ وأصحابه، لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وقد قال :« لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلاّ اتباعي »، وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف، إلى غير ذلك من الدلائل.
وفي « صحيح البخاري »، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء » والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وقيل المراد بذلك وجه الأرض. وقوله :﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال :﴿ تَسْطِع ﴾ وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً، فقال :﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [ الكهف : ٧٨ ] فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال :﴿ فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ [ الكهف : ٩٧ ] وهو الصعود إلى أعلاه ﴿ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً ﴾ [ الكهف : ٩٧ ] وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظاً ومعنى والله أعلم. فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في « الصحاح » وغيرها، أنه ( يوشع بن نون ) وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام.
1533
يقول تعالى لنبيّه ﷺ ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾ يا محمد ﴿ عَن ذِي القرنين ﴾ أي عن خبره، وقد قدمنا انه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحنون به النبي ﷺ، فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدري ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب « البداية والنهاية » بما فيه كفاية والحمد لله. وقال بعض أهل الكتاب، سمّي ذا القرنين لأنه ملك الروم وفارس، وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين. وقال سفيان الثوري، عن أبي الطفيل : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين فقال : كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه لله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين، ويقال إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب. وقوله :﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض ﴾ أي أعطيناه ملكاً عظيماً، ممكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحضارات، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد. وخدمته الأمم من العرب والعجم، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ﴾، قال ابن عباس : يعني علماً، وقال قتادة : منازل الأرض وأعلامها، وقال عبد الرحمن بن زيد، تعليم الألسنة، قال : كان لا يغزو قوماً إلاّ كلمهم بلسانهم، وعن حبيب بن حماد قال : كنت عند علي رضي الله عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين، كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال : سبحان الله سخّر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد.
قال ابن عباس ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾ : يعني بالسبب المنزل. وقال مجاهد ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾ : منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة : أي اتبع منازل الأرض ومعالمها. وقال سعيد بن جبير : علماً، وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك. وقوله :﴿ حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس ﴾ : أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه، فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم، وقوله ﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ : أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين، كما قال تعالى :﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٢٨ ] : أي من طين أملس، وقد تقدم بيانه. وقال ابن جرير : كان ابن عباس يقول ﴿ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ ثم فسرها ذات حمأة، قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طيهة سوداء. وبه قال مجاهد وغير واحد. وعن أُبي بن كعب أن النبي ﷺ أقرأه حمئة، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس وجدها تغرب في عين حامية يعني حارة. وكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان، وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب، ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأحبار وغيره.
وقوله تعالى :﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ﴾ : أي أُمّة من الأمم، ذكرنا أنها كانت أمّة عظيمة من بني آدم، وقوله :﴿ قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾ معنى هذا أن الله تعالى مكَّنه منهم، وحكَّمه فيهم وأظفره بهم، وخيّره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه، فيما أبداه عدله وبيانه في قوله ﴿ أَمَّا مَن ظَلَمَ ﴾ أي استمر على كفره وشركه بربه ﴿ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾، قال قتادة : بالقتل، وقال السدي : كان يحمي لهم النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا. وقال وهب بن منبه : كان يسلط الظلمة فتدخل يبوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم، والله أعلم. وقوله ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ﴾ أي شديداً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وقوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ ﴾ أي تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ﴿ فَلَهُ جَزَآءً الحسنى ﴾ أي في الدار الآخرة عند الله عزَّ وجلَّ، ﴿ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ﴾ قال مجاهد : معروفاً.
يقول تعالى : ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، وكان كلما مرّ بأُمّة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، فإن أطاعوه وإلاّ أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض، طولها والعرض، حتى بلغ المشارق والمغارب، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى ﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ ﴾ أي أمة ﴿ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾ أي ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، قال سعيد بن جبير : كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قول الله تعالى ﴿ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾ قال : إن أرضهم لا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم، وقال قتادة : ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير : لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. وقوله ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ﴾ قال مجاهد والسدي : علماً، أي نحن مطلعون على جميع أحواله، وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى ﴿ لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء ﴾ [ آل عمران : ٥ ].
يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾ أي ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض، حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة، يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في « الصحيحين » :« أن الله تعالى يقول : يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك، فيقول : ابعث بعث النار، فيقول : وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذٍ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، فقال : إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلاّ كثّرتاه. يأجوج ومأجوج » وفي « مسند الإمام أحمد »، عن سمرة أن رسول الله ﷺ قال :« ولد نوح ثلاثة : سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك »، وقال العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، وقال : إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلاّ فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة، وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفيه ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم، وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾ أي لاستعجام كلامهم، وبعدهم عن الناس، ﴿ قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ﴾ قال ابن عباس : أجراً عظيماً، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير ﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾ أي أنّ الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خيرٌ لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام :﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ ﴾ [ النمل : ٣٦ ] الآية. وهكذا قال ذو القرنين، الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي بعملكم وآلات البناء ﴿ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الحديد ﴾ والزبر، جمع ( زبرة ) وهي القطعة منه وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه ﴿ حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين ﴾ أي وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً ﴿ قَالَ انفخوا ﴾ أي أجّج عليه النار، حتى صار كله ناراً ﴿ قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾ قال ابن عباس والسدي : هو النحاس.
1537
زاد بعضهم المذاب، ويستشهد بقوله تعالى :﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ [ سبأ : ١٢ ]، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً قال :« يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال :» أنعته لي «، قال كالبرد المحبّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قال :» قد رأيته « وقع بعث الخليفة الواثق في دولته بعض امرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتونه له إذا رجعوا، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرساً من الملوك التاخمة له، وأنه عال منيف شاهق، لا يستطاع، ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب، ثم قال الله تعالى :
1538
يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج، إنهم ما قدروا عل أن يصعدوا من فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه، فقال :﴿ فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً ﴾، وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال :« يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم، ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، فيستثني فيعودون إليه، وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه، ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها، قال رسول الله ﷺ :» والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكر شكراً من لحومهم ودمائهم «، ففي رفعه نكارة، لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه، ومن نكارة هذا المرفوع، قول الإمام أحمد، عن زينب بنت جحش زوج النبي ﷺ قالت :» استيقظ النبي ﷺ من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول :« لا إله إلاّ الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام »، قلت : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال :« نعم إذا كثر الخبث ».
﴿ قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾ أي لما بناه ذو القرنين ﴿ قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾، أي الناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد ﴿ جَآءَ وَعْدُ رَبِّي ﴾ أي إذا اقترب الوعد الحق ﴿ جَعَلَهُ دَكَّآءَ ﴾ أي ساواه بالأرض، تقول العرب : ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها، وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ] أي مساوياً للأرض، وقال عكرمة في قوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ ﴾ قال : طريقاً كما كان، ﴿ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾ أي كائناً لا محالة. وقوله :﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ ﴾ أي الناس، ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم، ويتلفون أشياءهم وهكذا قال السدي، في قوله ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾ قال : ذاك حين يخرجون على الناس، وهذا كله قبل يوم القيامة، وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه عند قوله :
1539
﴿ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * واقترب الوعد الحق ﴾ [ الأنبياء : ٩٦-٩٧ ] الآية. وهكذا قال هاهنا، ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾ قال : هذا أول يوم القيامة، ﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ﴾ على أثر ذلك ﴿ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ﴾، وقال آخرون : بل المراد بقوله :﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾، قال : إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وقوله :﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ﴾، والصور كما جاء في الحديث، قرن ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وفي الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً :« كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، واستمع متى يؤمر »، قالوا : كيف نقول؟ قال :« قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا »، وقوله :﴿ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ﴾ أي أحضرنا الجميع للحساب ﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩-٥٠ ]، ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
1540
يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة : أنه يعرض عليهم جهنم، أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، وفي « صحيح مسلم » عن ابن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك »، ثم قال مخبراً عنهم ﴿ الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي ﴾ أي تغافلوا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال ﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ]، وقال هاهنا ﴿ وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾ أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، ثم قال :﴿ أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ ﴾ أي اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به ﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلاً.
عن مصعب قال : سألت أبي، يعني سعد بن أبي وقاص، عن قول الله :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً ﴾ أهم الحرورية؟ قال : لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً ﷺ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين «. وقال علي بن أبي طالب والضحّاك وغير واحد : هم الحرورية، ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه، أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى ﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ [ النور : ٣٩ ]، وقال في هذه الآية الكريمة ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم ﴾ أي نخبركم ﴿ بالأخسرين أَعْمَالاً ﴾، ثم فسرهم فقال :﴿ الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا ﴾ أي عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾ أي يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون، وقوله ﴿ أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾ : أي جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله وكذبوا بالدار الآخرة، ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾ أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير، روى البخاري، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال :» إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إن شئتم :﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بالرجل الأكوال الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها »، قال قرأ ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال :« كنا عند رسول الله ﷺ فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي ﷺ قال :» يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً «، وعن كعب قال : يؤتى يوم القيامة برجل عيظم طويل فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرأوا :﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾. وقوله ﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ ﴾ أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم، واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً استهزأوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب.
يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أن لهم جنات الفردوس، قال مجاهد : هو البستان بالرومية، وقال الضحّاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها، وقد روي عن النبي ﷺ :« الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها » وفي « الصحيحين » :« إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة »، وقوله تعالى ﴿ نُزُلاً ﴾ أي ضيافة فإن النزل الضيافة، وقوله ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبداً، ﴿ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ اي لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر :
فحلّت سويدا القلب لا أنا باغياً سواها، ولا عن حبها أتحول
وفي قوله تعالى :﴿ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً، ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً.
يقول تعالى : قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابه ذلك ﴿ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ ﴾ أي بمثل البح آخر ثم آخر، وهلم جراً، بحور تمده ويكتب بها لما تفدت كلمات الله، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ لقمان : ٢٧ ]، وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك :﴿ قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ﴾ يقول : لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء، لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ﴿ قُلْ ﴾ لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم ﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وإنما أخبركم ﴿ أَنَّمَآ إلهكم ﴾ الذي أدعوكم إلى عبادته ﴿ إله وَاحِدٌ ﴾ لا شريك له، ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ ﴾ أي ثوابه يوجزاءه الصالح ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ ما كان موافقاً لشرع الله، ﴿ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾ وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بدَّ أن يكون خالصاً لله، صواباً على شريعة رسول الله ﷺ، وقد روي عن طاووس قال : قال رجل : يا رسول الله! إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ﷺ شيئاً، حتى نزلت هذه الآية ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾، وجاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، فقال عبادة : ليس له شيء، إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك، فمن كان معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
وروى الإمام أحمد، عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى. فقيل له : ما يبكيك؟ قال شيء سمعته من رسول الله ﷺ فأبكاني. سمعت رسول الله يقول :« أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية »، قلت : يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟ قال :« نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه » ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ يرويه عن الله عزَّ وجلَّ أنه قال :« أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك » ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، وكان من الصحابة أنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك »
1545
( حديث آخر ) : عن أنَس رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عزَّ وجلَّ يوم القيام’، في صحف مختمة، فيقول الله : ألقوا هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة : يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيراً، إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلاّ ما أريد به وجهي ». وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عزّ وجلّ ».
1546
Icon