تفسير سورة الأنبياء

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي مائة واثنتا عشرة آية

﴿اقترب للناس﴾ يعني: أهل مكَّة ﴿حسابهم﴾ وقت محاسبة الله إيَّاهم على أعمالهم يعني: القيامة ﴿وهم في غفلة﴾ عن التَّأهُّب لذلك ﴿معرضون﴾ عن الإِيمان
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ يعني: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيءٍ من القرآن يذكرهم ويعظمهم به ﴿إلاَّ استمعوه وهم يلعبون﴾ يستهزئون به
﴿لاهية﴾ غافلةً ﴿قلوبهم وأسروا النجوى﴾ قالوا سرّاً فيما بينهم ﴿الذين ظلموا﴾ أشركوا وهو أنَّهم قالوا: ﴿هل هذا﴾ يعنون محمَّداً ﴿إلاَّ بشرٌ مثلكم﴾ لحمٌ ودمٌ ﴿أفتأتون السحر﴾ يريدون: إنَّ القرآن سحرٌ ﴿وأنتم تبصرون﴾ أنَّه سحر فلمَّا أطلع الله سبحانه نبيه ﷺ على هذا السِّرِّ الذي قالوه أخبر أنَّه يعلم القول في السَّماء والأرض بقوله:
﴿قال ربي يعلم القول﴾ أَيْ: ما يقال ﴿في السماء والأرض وهو السميع﴾ للأقوال ﴿العليم﴾ بالأفعال ثمَّ أخبر انَّ المشركين اقتسموا القول في القرآن وأخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض فيقولون مرَّةً:
﴿أضغاث أحلام﴾ أَيْ: أباطيلها يعنون أنَّه يرى ما يأتي به في النَّوم رؤيا باطلة ومرَّةً هو مفترىً ومرَّةً هو شعرٌ ومحمَّد شاعرٌ ﴿فليأتنا بآية كما أرسل الأولون﴾ بالآيات مثل: النَّاقة والعصا واليد فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهالٌ إذا كُذِّب بها فقال الله تعالى:
﴿ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها﴾ بالآيات التي اقترحوها ﴿أفهم يؤمنون﴾ يريد: إنَّ اقتراح الآيات كان سبباً للعذاب والاستئصال للقرون الماضية وكذلك يكون لهؤلاء
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ ردّاً لقولهم ﴿هل هذا إلاَّ بشر مثلكم﴾ ﴿فاسألوا﴾ يا أهل مكَّة ﴿أهل الذكر﴾ مَنْ آمن من أهل الكتاب ﴿إن كنتم لا تعلمون﴾ أنَّ الرُّسل بشر
﴿وما جعلناهم﴾ أي: الرُّسل ﴿جسداً﴾ أَيْ: أجساداً ﴿لا يأكلون الطعام﴾ وهذا ردٌّ لقولهم: ﴿مال هذا الرسول يأكل الطعام﴾ فأعملوا أنَّ الرُّسل جميعاً كانوا يأكلون الطَّعام وأنَّهم يموتون وهو قوله: ﴿وما كانوا خالدين﴾
﴿ثم صدقناهم الوعد﴾ ما وعدناهم من عذاب مَنْ كفر بهم وإنجائهم مع مَنْ تابعهم وهو قوله: ﴿فأنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين﴾ المشركين
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا معشر قريش ﴿كِتَابًا فيه ذكركم﴾ شرفكم ﴿أفلا تعقلون﴾ ما فضلتكم به على غيركم؟
﴿وكم قصمنا﴾ أهلكنا ﴿من قرية كانت ظالمة﴾ يعني: إنَّ أهلها كانوا كفَّاراً ﴿وأنشأنا﴾ أحدثنا ﴿بعدها﴾ بعد إهلاك أهلها ﴿قوماً آخرين﴾ نزلت في أهل قرىً باليمن كذَّبوا نبيَّهم وقتلوه فسلَّط الله سبحانه عليهم بختنصَّر حتى أهلكهم بالسَّيف فذلك قوله:
﴿فلما أحسوا بأسنا﴾ رأوا عذابنا ﴿إذا هم منها﴾ من قريتهم ﴿يركضون﴾ يسرعون هاربين وتقول لهم الملائكة:
﴿لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه﴾ نَعِمْتُم فيه ﴿لعلكم تسألون﴾ من دنياكم شيئاً قالت الملائكة لهم هذا على سبيل الاستهزاء بهم كأنَّهم قيل لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه من المال والنِّعمة لعلكم تُسألون فإنَّكم أغنياء تملكون المال فلمَّا رأَوا ذلك أقرُّوا على أنفسهم حيث لم ينفعهم فقالوا:
﴿يا ويلنا إنا كنا ظالمين﴾ لأنفسنا بتكذيب الرُّسل
﴿فما زالت﴾ هذه المقالة ﴿دعواهم﴾ يدعون بها ويقولون: يا ويلنا ﴿حتى جعلناهم حصيداً﴾ بالسُّيوف كما يحصد الزَّرع ﴿خامدين﴾ ميِّتين
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ﴾ عبئا وباطلاً أَيْ: ما خلقتهما إلاَّ لأُجازي أوليائي وأُعذِّب أعدائي
﴿لو أردنا أن نتخذ لهواً﴾ امرأةً وقيل: ولداً ﴿لاتخذناه من لدنا﴾ بحيث لا يظهر لكم ولا تطَّلعون عليه ﴿إن كنا فاعلين﴾ ما كنَّا فاعلين ولسنا من يفعله
﴿بل نقذف بالحق على الباطل﴾ نُلقي القرآن على باطلهم ﴿فيدمغه﴾ فيذهبه ويكسره ﴿فإذا هو زاهقٌ﴾ ذاهبٌ ﴿ولكم الويل﴾ ما معشر الكفَّار ﴿مما تصفون﴾ الله تعالى بما لا يليق به
﴿وله من في السماوات وَالأَرْضِ﴾ عبيداً وملكاً ﴿ومَنْ عنده﴾ يعني: الملائكة ﴿لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون﴾ لا يملُّون ولا يعيون
﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ لا يضعفون
﴿أم اتخذوا آلهةً من الأرض﴾ يعني: الأصنام ﴿هم ينشرون﴾ يحيون الأموات والمعنى: أنتشر آلهتهم التي اتَّخذوها؟
﴿لو كان فيهما﴾ في السَّماء والأرض ﴿آلهةٌ إلاَّ اللَّهُ﴾ غير الله ﴿لفسدتا﴾ لخربتا وهلك مَنْ فيهما بوقوع التَّنازع بين الآلهة
﴿لا يُسأل عما يفعل﴾ عن حكمه في عباده ﴿وهم يُسألون﴾ عمَّا عملوا سؤال توبيخ
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا برهانكم﴾ حجَّتكم على أن مع الله تعالى معبوداً غيره ﴿هذا ذكر مَنْ معي﴾ يعني: القرآن ﴿وذكر مَنْ قبلي﴾ يعني: التَّوراة والإِنجيل فهل في واحدٍ من هذه الكتب إلاَّ توحيد سبحانه وتعالى؟ ﴿بل أكثرهم لا يعلمون الحق﴾ فلا يتأمَّلون حجَّة التَّوحيد وهو قوله: ﴿فهم معرضون﴾
﴿وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ﴾ الآية يريد: لم يُبعثْ رسولٌ إلاَّ بتوحيد الله سبحانه ولم يأتِ رسولٌ أُمّته بأنَّ لهم إلهاً غير الله
﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا﴾ يعني: الذين قالوا: الملائكة بنات الله والمعنى: وقالوا: اتَّخذ الرحمن ولداً من الملائكة ﴿سبحانه﴾ ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا يقولون ﴿بل﴾ هم ﴿عباد مكرمون﴾ يعني: الملائكة مكرمون بإكرام الله إيَّاهم
﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ لا يتكلَّمون إلاَّ بما يأمرهم به ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾
﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ ما علموا وما هم عاملون ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارتضى﴾ لمن قال: لا إله إلاَّ الله ﴿وهم من خشيته مشفقون﴾ خائفون لأنَّهم لا يأمنون مكر الله
﴿ومَنْ يقل منهم﴾ من الملائكة ﴿إني إلهٌ من دونه﴾ من دون الله تعالى ﴿فذلك نجزيه جهنم﴾ يعني: إبليس حيث ادَّعى الشِّركة في العبادة ودعا إلى عبادة نفسه ﴿كذلك نجزي الظالمين﴾ المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى
﴿أَوَلَمْ يَر﴾ أولم يعلم ﴿الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً﴾ مسدودةً ﴿ففتقناهما﴾ بالماء والنَّبات كانت السَّماء لا تُمطر والأرض لا تُنبت ففتحهما الله سبحانه بالمطر والنَّبات ﴿وجعلنا من الماء﴾ وخلقنا من الماء ﴿كلَّ شيء حي﴾ يعني: إنَّ جميع الحيوانات مخلوقةٌ من الماء كقوله تعالى: ﴿والله خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ﴾ ثمَّ بكَّتهم على ترك الإيمان فقال: ﴿أفلا يؤمنون﴾ وقوله:
﴿وجعلنا فيها﴾ في الرَّواسي ﴿فجاجاً سبلاً﴾ طرقاً مسلوكةً يهتدوا
﴿وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً﴾ بالنُّجوم من الشَّياطين ﴿وهم عن آياتها﴾ شمسها وقمرها ونجومها ﴿معرضون﴾ لا يتفكَّرون فيها وقوله:
﴿كلٌّ في فلك يسبحون﴾ يجرون ويسيرون والفَلَكُ: مدار النُّجوم
﴿وما جَعَلْنا لبشر من قبلك الخلد﴾ دوام البقاء ﴿أفإن مت فهم الخالدون﴾ نزل حين قالوا: ﴿نتربَّصُ به ريَب المنون﴾ وقوله:
﴿ونبلوكم﴾ نختبركم ﴿بالشر﴾ بالبلايا والفقر ﴿والخير﴾ المال والصِّحة ﴿فتنة﴾ ابتلاءً لننظر كيف شكركم وصبركم
﴿وإذا رآك الذين كفروا﴾ يعني: المستهزئين ﴿إن يتخذونك﴾ ما يتَّخذونك ﴿إلاَّ هزواً﴾ مهزوءاً به قالوا: ﴿أهذا الذي يذكر آلهتكم﴾ يعيب أصنامكم ﴿وهم بذكر الرحمن هم كافرون﴾ جاحدون إلهيَّته يريد أنَّهم يعيبون مَنْ جحد إليهة أصنامهم وهم جاحدون إليهة الرَّحمن وهذا غاية الجهل
﴿خلق الإنسانُ من عجل﴾ يريد: إنَّ خلقته على العجلة وعليها طُبع ﴿سَأُرِيكم آياتي﴾ يعني: ما توعدون به من العذاب ﴿فلا تستعجلون﴾
﴿ويقولون متى هذا الوعد﴾ وعد القيامة
﴿لو يعلم الذين كفروا﴾ الآية وجواب لو محذوف على تقدير: لآمنوا ولما أقاموا على الكفر
﴿بل تأتيهم﴾ القيامة ﴿بغتة﴾ فجأة ﴿فتبهتهم﴾ تحيرهم
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون﴾
﴿قل مَنْ يَكْلَؤُكُمْ﴾ يحفظكم ﴿بالليل والنهار من الرحمن﴾ إن أنزل بكم عذابه ﴿بل هم عن ذكر ربهم﴾ كتاب ربِّهم ﴿معرضون﴾
﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يستطيعون نصر أنفسهم﴾ فكيف تنصرهم وتمنعهم؟ ! ﴿ولا هم منا يصحبون﴾ لا يُجارون من عذابنا
﴿بل متَّعنا هؤلاء﴾ الكفَّار ﴿وآباءهم حتى طال عليهم العمر﴾ أَيْ: متَّعناهم بما أعطيناهم من الدُّنيا زماناً طويلاً فقست قلوبهم ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أطرافها﴾ بالفتح على محمد ﷺ ﴿أفهم الغالبون﴾ أم النبيُّ ﷺ وأصحابه؟
﴿قل إنما أنذركم﴾ أُخوِّفكم ﴿بالوحي﴾ بالقرآن الذي أوحي إليَّ وأُمرت فيه بإنذاركم ﴿وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ كذلك أنتم يا معشر المشركين
﴿ولئن مستهم﴾ أصابتهم ﴿نفحة من عذاب ربك﴾ قليلٌ وأدنى شيءٍ لأقرّوا على أنفسهم بسوء صنيعهم وهو قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾
﴿ونضع الموازين القسط﴾ ذوات القسط أي: العدل ﴿فلا تظلم نفسٌ شيئاً﴾ لا يزاد على سيئاته ولا ينقص من ثواب حسناته ﴿وإن كان﴾ ذلك الشَّيء ﴿مثقال حبة﴾ وزن حبَّةٍ ﴿من خردل أتينا بها﴾ جئنا بها ﴿وكفى بنا حاسبين﴾ مُجازين وفي هذا تهديد
﴿ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان﴾ البرهان الذي فرَّق به بين حقّه وباطل فرعون ﴿وضياء﴾ يعني: التَّوراة الذي كان ضياءً يُضيء هدى ونوراً ﴿وذكراً﴾ وعِظَةً ﴿للمتقين﴾ من قومه
﴿الذين يخشون ربهم بالغيب﴾ يخافونه ولم يروه
﴿وهذا ذكر مبارك﴾ يعني: القرآن ﴿أفأنتم له منكرون﴾ جاحدون
﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده﴾ هُداه وتوفيقه ﴿من قبل﴾ من قبل موسى وهارون ﴿وكنا به عالمين﴾ أنَّه أهلٌ لما آتيناه
﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ الأصنام ﴿التي أنتم لها عاكفون﴾ على عبادتها مقيمون!
﴿قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين﴾ فاقتدينا بهم
﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مبين﴾
﴿قالوا أجئتنا بالحق﴾ يعنون: أَجادٌّ أنت فيما تقول أم لاعبٌ؟
﴿قال بل ربكم رب السماوات وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشاهدين﴾ أي: أشهد على أنَّه خالقها
﴿وتالله لأكيدن أصنامكم﴾ لأمركن بها ﴿بعد أن تولوا مدبرين﴾ قال ذلك في يوم عيدٍ لهم وهم يذهبون إلى الموضع الذي يجتمعون فيه
﴿فجعلهم جذاذاً﴾ حطاماً ودقاقاً ﴿إلاَّ كبيراً لهم﴾ عظيم الآلهة فإنَّه لم يكسره ﴿لعلهم إليه﴾ إلى إبراهيم ودينه ﴿يرجعون﴾ إذا قامت الحُجَّة عليهم فلمَّا انصرفوا
﴿قالوا من فعل هذا بآلهتنا﴾ ت الآية قال الذين سمعوا قوله: ﴿لأكيدن أصنامكم﴾
﴿سمعنا فتى يذكرهم﴾ يعيبهم ﴿قال له إبراهيم﴾
﴿قالوا فأتوا به على أعين الناس﴾ على رؤوس النَّاس بمرأىً منهم ﴿لعلَّهم يشهدون﴾ عليه أنَّه الذي فعل ذلك وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنةٍ فلمَّا أتوا به
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾
﴿قال بل فعله كبيرهم هذا﴾ غضب من أن يعبدوا معه الصِّغار وأراد إقامه الحجَّة عليهم ﴿فاسألوهم﴾ مَنْ فعل بهم هذا ﴿إن كانوا ينطقون﴾ ت إن قدروا على النُّطق
﴿فرجعوا إلى أنفسهم﴾ تفكَّروا ورجعوا إلى عقولهم ﴿فقالوا إنكم أنتم الظالمون﴾ هذا الرجل بسؤالكم إيَّاه وهذه آلهتكم حاضرةٌ فاسألوها
﴿ثم نكسوا على رؤوسهم﴾ أطرقوا لما لحقهم من الخجل وأقرُّوا بالحجَّة عليهم فقالوا: ﴿لقد علمت ما هؤلاء ينطقون﴾ فلمَّا اتَّجهت الحجَّة عليهم قال إبراهيم:
﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شيئاً ولا يضركم﴾
﴿أفٍ لكم﴾ أَيْ: نتناً لكم فلما عجوا عن الجواب
﴿قالوا حرّقوه﴾ بالنَّار ﴿وانصروا آلهتكم﴾ بإهلاك مَنْ يعيبها ﴿إن كنتم فاعلين﴾ أمراً في أهلاكه فلمَّا ألقوه في النَّار
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبراهيم﴾ ذات بردٍ وسلامةٍ لا يكون فيها بردٌ مضرٌّ ولا حرٌّ مُؤذٍ
﴿وأرادوا به﴾ بإبراهيم ﴿كيداً﴾ مكراً في إهلاكه ﴿فجعلناهم الأخسرين﴾ حين لم يرتفع مرادهم في الدُّنيا ووقعوا في العذاب في الآخرة
﴿ونجيناه﴾ من نمروذ وقومِه ﴿ولوطاً﴾ ابن أخيه ﴿إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾ وهي الشَّام وذلك أنَّه خرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشَّام
﴿ووهبنا له إسحاقَ﴾ ولداً لصلبه ﴿ويعقوب نافلة﴾ ولد الولد ﴿وكلاً جعلنا صالحين﴾ يعني: هؤلاء الثَّلاثة
﴿وجعلناهم أئمة﴾ يُقتدى بهم في الخير ﴿يهدون﴾ يدعون النَّاس إلى ديننا ﴿بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات﴾ أن يفعلوا الطَّاعات ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة
﴿ولوطاً آتيناه حكماً﴾ فصلاً بين الخصوم بالحقِّ ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾ يعني: أهلها كانوا يأتون الذُّكران في أدبارهم
﴿وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين﴾
﴿ونوحاً إذ نادى من قبل﴾ من قبل إبراهيم ﴿فنجيناه وأهله من الكرب العظيم﴾ الغمِّ الذي كان فيه من أذى قومه
﴿ونصرناه﴾ منعناه من أن يصلوا إليه بسوء وقوله:
﴿إذ يحكمان في الحرث﴾ قيل: كان ذلك زرعاً وقيل: كان كرماً ﴿إذ نفشت﴾ رعت ليلاً ﴿فيه غنم القوم﴾ بلا راعٍ ﴿وكنا لحكمهم شاهدين﴾ لم يغبْ عن علمنا
﴿ففهمناها سليمان﴾ ففهمنا القضيَّة سليمان دون داود عليهما السَّلام وذلك أنَّ داود حكم لأهل الحرث برقاب الغنم وحكم سليمان بمنافعهم إلى أن يعود الحرث كما كان ﴿وسخرنا مع داود الجبال يسبحن﴾ يجاوبنه بالتَّسبيح ﴿و﴾ كذلك ﴿الطير وكنا فاعلين﴾ ذلك
﴿وعلمناه صنعة لبوس لكم﴾ علم ما يلبسونه من الذروع ﴿لتحصنكم﴾ لتحرزكم ﴿من بأسكم﴾ من حربكم ﴿فهل أنتم شاكرون﴾ نعمتنا عليكم؟
﴿ولسليمان الريح﴾ وسخرنا له الرِّيح ﴿عاصفة﴾ شديدة الهبوب ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ يعني: الشَّام وكان منزل سليمان عليه السَّلام بها
﴿ومن الشياطين﴾ وسخَّرنا له من الشَّياطين ﴿من يغوصون له﴾ يدخلون تحت الماء لاستخراج جواهر البحر ﴿ويعملون عملاً دون ذلك﴾ سوى الغوص ﴿وكنا لهم حافظين﴾ من أن يُفسدوا ما عملوا وليبصروا تحت أمره
﴿وأيوب إذ نادى ربه﴾ دعا ربَّه ﴿أني مسني الضرُّ﴾ أصابني الجهد وقوله:
﴿وآتيناه أهله ومثلهم معهم﴾ وهو أنَّ الله تعالى أحيا مَنْ أمات من بنيه وبناته ورزقه مثلهم من الولد ﴿رحمة﴾ نعمةً ﴿من عندنا وذكرى للعابدين﴾ عظةً لهم ليعلموا بذلك كما قدرتنا وقوله:
﴿وذا الكفل﴾ هو رجلٌ من بني إسررئيل تكفَّل بخلافه نبيٍّ في أمته فقام بذلك
قال تعالى ﴿وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين﴾
﴿وذا النون﴾ وذاكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السَّلام ﴿إذ ذهب﴾ من بين قومه ﴿مغاضباً﴾ لهم قبل أمرنا له بذلك ﴿فظن أن لن نقدر عليه﴾ أن لن نقضي عليه ما قضينا من حبسه في بطن الحوت ﴿فنادى في الظلمات﴾ ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة اللَّيل ﴿أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظالمين﴾ حيث غاضبت قومي وخرجت من بينهم قبل الإذن
﴿وكذلك﴾ وكما نجيناه ﴿ننجي المؤمنين﴾ من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا وقوله:
﴿لا تذرني فرداً﴾ أَيْ: وحيداً لا ولد لي ولا عقب ﴿وأنت خير الوارثين﴾ خير من يبقى بعد من يموت وقوله:
﴿وأصلحنا له زوجه﴾ بأن جعلناها ولوداً بعد أن صارت عقيماً ﴿إنهم كانوا يسارعون في الخيرات﴾ يُبادرون في عمل الطَّاعات ﴿ويدعوننا رغباً﴾ في رحمتنا ﴿ورهباً﴾ من عذابنا ﴿وكانوا لنا خاشعين﴾ عابدين في تواضع
﴿والتي أحصنت﴾ واذكر التي منعت ﴿فرجها﴾ من الحرام ﴿فنفخنا فيها من روحنا﴾ أمرنا جبريل عليه السَّلام حتى نفخ في جيب درعها والمعنى: أجرينا فيها روح المسيح المخلوقة لنا ﴿وجعلناها وابنها آية للعالمين﴾ دلالةً لهم على كمال قدرتنا وكانت الآيةُ فيهما جميعاً واحدةً لذلك وُحِّدت
﴿إنَّ هذه أمتكم﴾ دينكم وملَّتكم ﴿أمة واحدة﴾ ملَّة واحة وهي الإِسلام
﴿وتقطعوا أمرهم بينهم﴾ اختلفوا في الدّين فصاروا فرقاً ﴿كلٌّ إلينا راجعون﴾ فنجزيهم بأعمالهم
﴿فمن يعمل من الصالحات﴾ الطَّاعات ﴿وهو مؤمنٌ﴾ مصدِّق بمحمَّدٍ عليه السَّلام ﴿فلا كفران لسعيه﴾ لا نُبطل عمله بل نُثيبه ﴿وإنا له كاتبون﴾ ما عمل حتى نجازيه
﴿وحرام على قرية﴾ يعني: قريةً كافرةً ﴿أهلكناها﴾ أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إلى الدُّنيا ولا زائدةٌ في الآية ومعنى حرامٌ عليهم أنَّهم ممنوعون من ذلك لأنَّ الله تعالى قضى على مَنْ أُهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة
﴿حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج﴾ من سدِّها ﴿وهم من كل حدب﴾ نشر وتلٍّ ﴿ينسلون﴾ ينزلون مسرعين
﴿واقترب الوعد الحق﴾ يعني: القيامة والواو زائدة لأنَّ اقترب جواب حتى ﴿فإذا هي شاخصة﴾ ذاهبةٌ لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم يقولون ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا﴾ في الدُّنيا عن هذا اليوم ﴿بل كنا ظالمين﴾ بالشِّرك وتكذيب الرُّسل
﴿إنكم﴾ أيُّها المشركون ﴿وما تعبدون من دون الله﴾ يعني: الأصنام ﴿حصب جهنم﴾ وقودها ﴿أنتم لها واردون﴾ فيها داخلون
﴿لو كان هؤلاء﴾ الأصنام ﴿آلهة﴾ على الحقيقة ما دخلوا النَّار ﴿وكلٌّ﴾ من العابدين والمعبودين في النَّار ﴿خالدون﴾
﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى﴾ السَّعادة والرَّحمة ﴿أولئك عنها﴾ عن النَّار ﴿مبعدون﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون﴾
﴿لا يسمعون حسيسها﴾ صوتها
﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر﴾ يعني: الإِطباق على النَّار وقيل: ذبح الموت بمرأىً من الفريقين ﴿وتتلقاهم الملائكة﴾ تستقبلهم فيقولون لهم ﴿هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ للثواب ودخلوا الجنَّة
﴿يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب﴾ وهو مَلَكٌ يطوي بني آدم وقيل: السِّجلُّ: الصَّحيفة والمعنى: كطيِّ السِّجل على ما فيه من المكتوب ﴿كما بدأنا أوَّل خلق نعيده﴾ كما خلقناكم ابتداءً حُفاةً عُراةً غُرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة ﴿وعداً علينا﴾ أَيْ: وعدناه وعداً ﴿إنا كنَّا فاعلين﴾ يعني: الإِعادة والبعث
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ قيل: في الكتب المنزلة بعد التَّوراة وقيل: أراد بالذِّكر اللَّوح المحفوظ ﴿أنَّ الأرض﴾ يعني: أرض الجنَّة ﴿يرثها عبادي الصالحون﴾ وقيل: أرض الدُّنيا تصير للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
﴿إنَّ في هذا﴾ القرآن ﴿لبلاغاً﴾ لوصولاً إلى البغية ﴿لقوم عابدين﴾ مُطيعين لله تعالى
﴿وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين﴾ للبَرِّ والفاجر فمن أطاعه عُجِّلت له الرَّحمة ومَنْ عصاه وكذَّبه لم يحلقه العذاب في الدُّنيا كما لحق الأمم المكذبة
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
﴿فإن تولوا﴾ عن الإسلام ﴿فقل آذنتكم على سواءٍ﴾ أعلمتكم بما يوحى إليَّ على سواءٍ لتستووا في ذلك يريد: لم أُظهر لبعضكم شيئاً كتمته عن غيره ﴿وإن أدري﴾ ما أعلم ﴿أقريب أم بعيد ما توعدون﴾ يعني: القيامة
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تكتمون﴾
﴿وإن أدري لعله﴾ ت لعلَّ تأخير العذاب عنكم ﴿فتنة﴾ اختبارٌ لكم ﴿ومتاعٌ إلى حين﴾ إلى حين الموت
﴿قال رب احكم بالحق﴾ اقض بيني وبين أهل مكَّة بالحقِّ أُمر أن يقول كما قالت الرُّسل قبله من قولهم: ﴿ربَّنا افتحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحقِّ﴾ ﴿وربنا﴾ أَيْ: وقل ربُّنا ﴿الرحمن المستعان على ما تصفون﴾ من كذبكم وباطلكم
Icon