ﰡ
مكية إلا ثلاث آيات، نزلت في شأن وَحْشي قاتلِ حمزة بن عبد المطلب، وهي: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الآيات الثلاث (١)، وقالت فرقة: بل إلى آخر السورة مدني، وقيل: فيها مدني سبع آيات، وآيها: خمس وسبعون آية، وحروفها: أربعة آلاف وسبع مئة وثمانية أحرف، وكلمها: ألف ومئة واثنتان وسبعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)﴾.[١] ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، وإن شئت جعلته مبتدأ، وخبره ﴿مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ﴾ في قدرته ﴿الْحَكِيمِ﴾ في إرادته (٢)، والإشارة إلى القرآن أنه تنزيل من الله لا من غيره.
(٢) في "ت" و"ش": "إبداعه".
[٢] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾ فيه، وفي أحكامه وأخباره.
﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا﴾ حالٌ من العابد ﴿لَهُ الدِّينَ﴾ نصب به؛ أي:
﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)﴾.
[٣] ﴿أَلَا لِلَّهِ﴾ أي: من حقه، ومن واجباته.
﴿الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ من الشرك، لا يقبل غيره.
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ﴾ أي: من دون الله ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ والعائد إلى (الَّذِينَ) محذوف؛ أي: والذين اتخذهم الكفار آلهة من دون الله؛ كالأصنام، وعيسى، والعزير، والملائكة، قالوا:
﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ تقريبًا، مصدر.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ بين العابد والمعبود، والمسلم والكافر.
﴿فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من الدين، فيدخل المؤمن الجنة، والكافر النار.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي﴾ إلى الإسلام ﴿مَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ في أن الآلهة تشفع
﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤)﴾.
[٤] ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ كما زعموا ﴿لَاصْطَفَى﴾ لاختار.
﴿مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ولم يخص (١) مريم ولا عيسى بذلك، ولخلق أشرف منه، واتخذه ولدًا (٢) ثم نزه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهًا له.
﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ﴾ المنفرد عن الصاحبة والولد ﴿الْقَهَّارُ﴾ اتصاف على الإطلاق؛ لأن أحدًا من البشر إن اتصف بالقهر، فمقيد في أشياء قليلة، وهو في حيز قهره لغيره مقهور لله تعالى على أشياء كثيرة.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)﴾.
[٥] ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ بالواجبِ الواقعِ موقعَه، الجامعِ للمصالح.
﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ يذهب أحدهما،
(٢) "ولدًا" زيادة من "ت".
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ وتسخيرهما: دوامهما على الجري لمصالح العباد.
﴿كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ مدة الدنيا ﴿أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ﴾ القادر على كل ممكن ﴿الْغَفَّارُ﴾ لذنوب التائبين.
﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني: نفس آدم ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يعني: حواء خلقت من ضلعه القصيرى، و (ثم) لترتيب الأخبار، لا لترتيب المعاني؛ لأنه لما كان خلق حواء من آدم غريبًا عادة، عطفت (ثم) ما بعدها على ما قبلها لفظًا، فكأنه قال: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها.
﴿وَأَنْزَلَ﴾ أحدث ﴿لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ هي المذكورة في سورة الأنعام. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (وَأَنْزَل لَّكُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثانية (١).
﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ هي ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ الذي خلق هذه الأشياء ﴿رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ فكيف تعدلون عن طريق الحق، وبأي سبب تضلون؟!
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)﴾.
[٧] ثم بين أن لا حاجة به إليهم، فقال: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى﴾ مع ذلك.
﴿لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ رحمة لهم إذا وقعوا فيه ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا﴾ لله تعالى، فتؤمنوا ﴿يَرْضَهُ﴾ أي: يرضى الشكر ﴿لَكُمْ﴾ لأنه سبب فلاحكم. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (يَرْضهُ) بإشباع ضمة الهاء، وقرأ السوسي عن أبي عمرو: بإسكان الهاء، وقرأ نافع، وحمزة، ويعقوب، وحفص عن
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي: لا يحمل أحد ذنب غيره.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالمحاسبة والمجازاة.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ راجعًا إليه مستغيثًا.
﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ﴾ أعطاه ﴿نِعْمَةً مِنْهُ﴾ من الله.
﴿نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه.
﴿قُلْ﴾ لهذا الكافر: ﴿تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ في الدنيا إلى انقضاء أجلك.
﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾.
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩)﴾.
[٩] ونزل في كل مؤمن: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ مصلّ ساعاتِه. قرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: (أَمَنْ) بتخفيف الميم دخلت همزة الاستفهام على (مَنْ)، تقديره: أمن هو قانت كغيره؟ وقرأ الباقون: بتشديدها (٢)، دخلت (أَمْ) على (مَنْ)، فأدغمت فيها الميم، فـ (أم) منقطعة، تقديره: الكافر خير أم المطيع؟ فمن خفف، اتبع المصحف؛ لأنها فيه بميم واحدة، ومن شدد، فعلى الأصل.
﴿سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ يعني: في الصلاة، ونصبهما حال من ضمير (قَانِتٌ) ﴿يَحْذَرُ الْآخِرَةَ﴾ يخاف عذابها ﴿وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ هي المغفرة، ثم بين أَنْ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٦١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١١).
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ التوحيدَ، ويعملون بمقتضاه، وهم المؤمنون.
﴿وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك، وهم الكفار؟
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ بأمثال هذه البيانات.
﴿قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ بطاعته. أجمع القراء على الوقف على (يَا عِبَادِ) بالحذف، إلا ما انفرد به الحافظ أبو العلاء عن رويس.
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا﴾ أي: للمحسنين بالطاعات في الدنيا مثوبة ﴿حَسَنَةٌ﴾ في الآخرة.
﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾ قال ابن عباس: "يعني: ارتحلوا من مكة" (١)، وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي.
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ﴾ الذين صبروا على دينهم، فلم يتركوه للأذى.
﴿أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: مكيال، قيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١)﴾.
[١١] ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ التوحيدَ، لا أشرك به شيئًا.
قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِنِّيَ) بفتح الياء (٢)، والباقون: بإسكانها (٣).
﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ من أمتي، و (أُمِرْتُ) الثاني معطوف على (أُمِرْتُ) الأول، وإن كان لفظهما واحدًا؛ لأن الأول أمر بالعبادة مع الإخلاص، والثاني بالسبق، فلاختلاف جهتيهما تنزَّلا منزلةَ المختلفين، وصح عطف أحدهما على الآخر.
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ عبدتُ غيره ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وهذا حين دُعي إلى دين آبائه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير،
(٢) "الياء" ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٢).
﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤)﴾.
[١٤] ﴿قُلِ اللَّهَ﴾ نصب بقوله: ﴿أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ أُمر بالإخبار عن إخلاصه، وأن يكون مخلصًا له دينه بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورًا بالعبادة والإخلاص، خائفًا على المخالفة من العقاب.
﴿فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ أمر توبيخ وتهديد، كقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠].
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾ المبالغين في الخسران ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بدخول النار ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾ المعدين لهم في الجنة من الحور والولدان لو آمنوا؛ بعدم وصولهم إليهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ حين يدخلون النار بدل الجنة.
﴿أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ مبالغة في خسرانهم.
(٢) المصادر السابقة.
[١٦] ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ﴾ أطباق وسرادقات من النار (١) ودخانها.
﴿وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ لمن تحتهم، وهي فرش لهم ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾ المؤمنين؛ ليتقوه، يوضحه:
﴿يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ قرأ رويس عن يعقوب: (يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِي) بإثبات الياء فيهما، وافقه روح في الثاني (٢).
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧)﴾.
[١٧] ونزل في أبي ذر، وسلمان، وزيد بن عمرو بن نفيل: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (٣) أي: الأوثان، وتذكر وتؤنث، وهو من الطغيان، وزيدت التاء فيه مبالغة؛ كالرحموت.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٣).
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٥٢٥)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٠)، و"تفسير القرطبي" (١٥/ ٢٤٤). قال ابن عطية: وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها.
﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ أي: قول الله. قرأ السوسي عن أبي عمرو: (عِبَادِي) بإثبات الياء ساكنة وقفًا، مفتوحة وصلًا، وافقه يعقوب وقفًا (١) ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أي: أفضله، وهو ما في القرآن من عفو وصفح، واحتمال على صبر، ونحو ذلك.
﴿أُولَئِكَ﴾ المذكورون مبتدأ، خبره ﴿الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ لأنهم كانوا يأخذون بعزائم القرآن، وهو أحسنه بالنسبة إلى أخذه؛ لأنه كله حسن، لا أن فيه حسنًا وأحسن.
﴿وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ العقول السليمة.
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾ أي: ثبت ﴿عَلَيْهِ﴾ من الكفار ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ وهي: هَؤُلاَءِ لِلنَّارِ وَلا أُبَالي ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ هذه الآية جملة
﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ قرأ أبو جعفر: (لَكِنَّ) بتشديد النون، والباقون: بتخفيفها (٢).
﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ علالي ﴿مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ كبناء المنازل في الأرض، بعضُها فوق بعض.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي: من تحت المنخفضة والمرتفعة من غير تفاوت بين العلو والسفل.
﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكد.
﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ لأن الخلف نقص، وهو تعالى منزه عنه.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤).
[٢١] ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ هو المطر ﴿فَسَلَكَهُ﴾ أدخله ﴿يَنَابِيعَ﴾ عيونًا وركايا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ فكل ما في الأرض من السماء ينزل منها إلى صخرة بيت المقدس، ثم يقسمه الله تعالى في الأرض كالعروق في الأجساد.
وروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - ﷺ -: أنه قال: "المياه العذبةُ، والرياح اللواقحُ من تحتِ صخرةِ بيتِ المقدس" (١).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الأنهار الأربعةُ سيحانُ وجيحانُ والنيلُ والفراتُ"، فأما سيحان، فنهر بلخ، وأما جيحان، فدجلة، وأما النيل، فنيل مصر، وأما الفرات، ففرات الكوفة، فكل ما يشرب ابن آدم، فهو من هذه الأربعة، وتخرج من تحت الصخرة (٢).
﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ﴾ بالماء ﴿زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ من أخضر وأحمر وغيرهما.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٢٤/ ١٣٥ - ١٣٦)، وروى مسلم في "صحيحه" (٢٨٣٩)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "سَيحان وجيحان، والفرات والنيل، كلٌّ من أنهار الجنة".
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا﴾ فتاتًا.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ إذ لا يتذكر به غيرهم، وهذا مثل الدنيا.
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾ أي: وسعه ﴿لِلْإِسْلَامِ﴾ فقبله، وأقبل عليه.
﴿فَهُوَ عَلَى نُورٍ﴾ هدى ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ وجواب (مَنْ) محذوف، تقديره: أفمن شرح صدره، فاهتدى، كمن طبع على قلبه فضل؟ يدل عليه:
﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ المعنى: إذا ذكر عندهم، ازدادت قلوبهم قسوة.
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ والآية نزلت في حمزة وعلي -رضي الله عنهما-، وأبي لهب وولده، قال مالك بن دينار: "ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة" (١).
[٢٣] ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ أي: القرآن، وتبدل من (أَحْسَن) ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ يشبه بعضه بعضًا حسنًا ونظمًا ﴿مَثَانِيَ﴾ أي: مردَّد ومكرَّر في أحكامه ﴿تَقْشَعِرُّ﴾ تضطرب وتشمئز ﴿مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ خوفًا وإجلالًا لله تعالى، والقشعريرة: تغير في جسد الإنسان عند الوجد والخوف.
﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فهي تقشعر عند الوعيد، وتلين عند الوعد.
عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا اقشعر جلدُ العبد من خشية الله، تَحاتَّتْ عنه ذنوبُه كما تتحاتُّ عن الشجرة اليابسة وُرقها" (١).
﴿ذَلِكَ﴾ أي: الكتاب ﴿هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ بخذلانه.
﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ ينقذه من الضلال. قرأ ابن كثير: (هَادِي) بإثبات الياء
﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي﴾ معناه: أفمن يدخل النارَ فيتقي ﴿بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أشدَّه، كمن هو آمن منه ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ المعنى: أن الإنسان إذا عرض له ما يخافه، اتقاه بيده، وطلب أن يتقي بها وجهه؛ لأنه أعز أعضائه، والذي يلقى في النار مغلولةً يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ﴿وَقِيلَ﴾ أي: ويقول الخزنة.
﴿لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا﴾ جزاء.
﴿مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ من الكفر والمعاصي.
﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ثم حذر كفار مكة بعذاب من تقدمهم، فقال:
﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ رسلَهم.
﴿فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ من جهة لا يخطر ببالهم أن العذاب يأتيهم منها.
[٢٦] ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ﴾ الذلَّ والهوان، والمسخ والقتل والسبي، وغيرها.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ﴾ المعَدُّ لهم ﴿أَكْبَرُ﴾ لشدته ودوامه.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك، لاعتبروا به.
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ يحتاج إليه.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون.
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ حال مؤكدة؛ كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا، وإنسانًا عاقلًا، ويجوز أن ينتصب على المدح.
﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ بريئًا من التناقض.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الكفر.
[٢٩] ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا﴾ بدل من (مَثَلًا) ﴿فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ متنازعون، سيئة أخلاقُهم.
﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (سَالِمًا) بألف بعد السين وكسر اللام؛ أي: خالصًا، لا مشاركَ له فيه، وقرأ الباقون: (سَلَمًا) بغير ألف وفتح اللام (١)؛ أي: لا تنازع فيه، وهذا مثل ضربه الله لأهل التوحيد، ومثَّل الذي عبد الآلهة كمثل الشركاء.
﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ﴾ في الصفة ﴿مَثَلًا﴾ نصب على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد أجابوا، فقال:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أي: على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم، ثم قال تعالى:
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما يصيرون إليه، فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون، بل أكثرهم لا يعلمون.
[٣٠] ولما استبطؤوا موته - ﷺ -، نزل:
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ (١) أي: ستموت، ويموتون، فلا شماتة بالموت.
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ بعدَ البعث.
﴿تَخْتَصِمُونَ﴾ تتحاكمون؛ يعني: المحق والمبطل، والظالم والمظلوم.
عن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: "كنا نقول: ربُّنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟! فلما كان يوم صفين، وشدَّ بعضُنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم، هو هذا" (٢).
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ بإضافة الولد والشريك إليه. ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ القرآنِ ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾ من غير تفكر في أمره.
(٢) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ١٣٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٦)، و"تفسير القرطبي" (١٥/ ٢٥٥)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٣/ ٢٠٤).
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ هو محمد - ﷺ -.
﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ هو أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: (الذي) هاهنا للجنس؛ ليتناول الرسل والمؤمنين؛ لقوله:
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قال ابن عطية: وهو أصوب الأقوال (١).
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في الجنة.
﴿ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ على إحسانهم.
﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)﴾
[٣٥] ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ يسترها عليهم بالمغفرة.
﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: يجزيهم بمحاسن أعمالهم، ولا يجزيهم بمساوئها.
[٣٦] ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ استفهام إنكار للنفي؛ مبالغة في الإثبات. قرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (عِبَادَهُ) بألف على الجمع؛ يعني: الأنبياء -عليهم السلام-، قصدهم قومهم بالسوء، فكفاهم الله شر من عاداهم، وقرأ الباقون: (عَبْدَهُ) بغير ألف على التوحيد (١)؛ يعني: محمدًا - ﷺ -، وروي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء (٢) على (بِكَافِي).
﴿وَيُخَوِّفُونَكَ﴾ الكفارُ يا محمد ﴿بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ بالمعبودين من دون الله تعالى، وهي الأصنام؛ لأنهم قالوا له: نخشى عليك أن تقتلك، أو تخبلك.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ يهديه. وقف ابن كثير (هَادِي): بإثبات الياء، وروي ذلك عن يعقوب (٣).
(٢) "بالياء" ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٣٦ - ١٣٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٩).
[٣٧] ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ إذ لا راد لفعله.
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ﴾ غالب ﴿ذِي انْتِقَامٍ﴾ من الكافرين؟
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية.
﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من آلهتكم ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ بشدة وبلاء ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ﴾ بنعمة وبركة ﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ المعنى: أفرأيتم هؤلاء إذا أراد الله أمرًا لهم قدرةٌ على نقضه؟ وحذف الجواب عن هذا؛ لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة للأصنام على شيء من ذلك. قرأ حمزة: (أَرَادَنِي اللَّهُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: (كَاشِفَاتٌ) (مُمْسِكَاتٌ) بالتنوين، ونصب (ضُرَّهُ) و (رَحْمَتَهُ) على الأصل؛ لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، وقرأ الباقون: بغير تنوين فيهما تخفيفًا، وخفض (ضُرَّهِ) و (رَحْمَتِهِ) على الإضافة (١)، فسألهم رسول الله - ﷺ - عن ذلك،
﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ يثق الواثقون.
﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ثم أمره بتوعدهم بقوله: ﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أي: على ما رأيتموه متمكنًا لكم. قرأ أبو بكر عن عاصم: (مَكَانَاتِكُمْ) بألف بعد النون على الجمع، والباقون: بغير ألف على الإفراد (٢).
﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ أي: على مكانتي، فحذف؛ للاختصار، والمبالغة في الوعيد ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ هو عذاب الدنيا يوم بدر.
﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ دائم، وهو عذاب الآخرة أعاذنا الله منه برحمته.
(١) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ١٣٢)، ، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٨).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠).
[٤١] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآنَ ﴿لِلنَّاسِ﴾ أي: لأجلهم؛ لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس ﴿بِالْحَقِّ﴾ في أخباره وأحكامه.
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ عمل وسعى.
﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ فإن وبال ضلاله عليه.
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ والوكيل: القائم على الأمر حتى يكمله.
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبرى تدل الناظر على الوحدانية، وأن ذلك لا شرك فيه لصنم ولا غيره، فقال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾ لأن للإنسان نفسين: نفس الحياة، هي الروح تفارق بالموت، ونفس التمييز تفارق بالنوم، وتبقى نفس الحياة، وبينهما مثل شعاع الشمس، قال ابن عباس: "فيقبض الله تعالى جميع الأنفس التمييزية والحيوانية".
﴿حِينَ﴾ أي: وقت ﴿مَوْتِهَا﴾ لانقضاء أجلها.
﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ﴾ والأنفس التي لم يحكم بموتها يقبض نفسها التمييزية ﴿فِي مَنَامِهَا﴾ أي: وقت نومها؛ بأن تخرج عن جسدها، وتبقى فيه
﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ فلا يردها إلى جسدها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (قُضِيَ) بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء (الْمَوْتُ) بالرفع على ما لم يُسم فاعله، وقرأ الباقون: بفتح القاف والضاد، فتصير الياء ألفًا، ونصب (الْمَوْتَ) (٢) مفعولًا به لقوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾ (٣).
﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾ يردُّ النفسَ التي لم يحكم عليها بالموت إلى جسدها ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وقتِ موتها، المعنى: يتوفى الأنفس التي حكم بموتها وقتَ الموت، ويتوفى الأنفس التي لم يحكم بموتها وقت النوم، شبه النائم بالميت؛ لعدم تمييزه، وروي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم إلى السماء، فمن كان منهم طاهرًا، أذن له في السجود، ومن لم يكن منهم طاهرًا، لم يؤذن له فيه (٤).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿لَآيَاتٍ﴾ لدلالات.
﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيستدلون على قدرته تعالى على البعث.
(٢) في "ت": "ونصب الياء".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١).
(٤) انظر: "تفسير النسفي" (٤/ ٥٦).
[٤٣] ﴿أَمِ اتَّخَذُوا﴾ أي: بل اتخذ قريش ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: من غير إذنه ﴿شُفَعَاءَ﴾ والهمزة إنكار عليهم؛ لاعتقادهم شفاعة الأصنام حيث قالوا: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨].
﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿أَوَلَوْ كَانُوا﴾ أي: وإن كانوا؛ يعني: الآلهة.
﴿لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا﴾ من الشفاعة ﴿وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ أنكم تعبدونهم؟ وجواب هذا محذوف، تقديره: وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ هو مختص بها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه؛ لأنه.
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يُحصي أعمالكم هنا.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ﴾ إلى حسابه ثَمَّ ﴿تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكم. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء ونصب الجيم (١).
[٤٥] ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ﴾ أي: أُفرد بالذكر دون آلهتهم ﴿اشْمَأَزَّتْ﴾ نفرت ﴿قُلُوبُ﴾ الكافرين.
﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ يعني: الأصنام.
﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يفرحون بذلك.
روي أن رسول الله - ﷺ - قرأ سورة النجم، فألقى الشيطان في أمنيته: تلك الغرانيق العلا، ففرح الكفار بذلك (١).
[٤٦] ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ﴾ خالقَ ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي: التجئ إليه بالدعاء؛ فإنه قادر على ما يشاء، ومعنى اللهم: يا الله برحمتك وفضلك، والغيب: ما غاب عن البشر، والشهادة: ما شهدوه.
﴿أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - ﷺ - إذا افتتح صلاةً من الليل يقول: اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلف فيه من الحق بأمرك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (١).
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة، وأن ما نزل لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها، لفعلوا.
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ﴾ أي: جزاء سيئات ﴿مَا كَسَبُوا﴾ من الشرك عند عرض صحائفهم.
﴿وَحَاقَ﴾ نزل ﴿بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ من البعث والعذاب.
﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ﴾ شدةٌ ﴿دَعَانَا﴾ وعطف هذه الآية بالفاء، وعطف مثلها في أول السورة بالواو؛ لأن هذه وقعت مسببة عن قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ﴾ على معنى: إنهم يشمئزون عن ذكر الله، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدَهم ضر، دعا من اشمأز من ذكره، دونَ من استبشر بذكره، وما بينهما من الآيات (١) اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم.
﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ﴾ أعطيناه ﴿نِعْمَةً مِنَّا﴾ تفضُّلًا ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ أي: علم من الله أني أهل له، وذكر الكناية؛ لأن المراد بالنعمة: الإنعام.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
﴿قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿قَدْ قَالَهَا﴾ أي: مقالتَهُ ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني: قارون؛ حيث قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨].
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الأموال والمعاصي.
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ أي: جزاؤها وهو العذاب.
﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: كفار مكة.
﴿سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ كما أصاب أولئك.
﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين، فقتل صناديدهم ببدر، وقحطوا سبع سنين.
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ فإنه وسَّع عليهم سبع سنين بعد تلك السبعة.
﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)﴾.
[٥٣] عن ابن عباس: أَنَّ ناسًا من المشركين كانوا قَتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي - ﷺ -، وقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل:
﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ (١) فَرَّطوا وتعدَّوا الطورَ ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ القنط: أعظم اليأس. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم (٢): (يَا عِبَادِيَ) بفتح الياء، وقرؤوا هم وحمزة: (لا تَقْنَطُوا) بفتح النون، وقرأ الباقون: بإسكان الياء وكسر النون (٣).
﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ عموم بمعنى الخصوص، على أن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعًا، وهي أيضًا في العاصي مقيدة بالمشيئة، و (جَمِيعًا) نصب على الحال.
(٢) "وعاصم" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٦٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٦ و ١٩٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢).
قال - ﷺ -: "إن الله يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي" (١).
﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَأَنِيبُوا﴾ وارجعوا ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾ عن الذنب تائبين.
﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ أخلصوا العمل لوجهه.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾ في الدنيا والآخرة.
﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ إن لم تتوبوا قبل نزول العذاب.
﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهو القرآن.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً﴾ فجأة.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لشغلكم (٢).
(٢) في "ت": "لغفلتكم".
[٥٦] ﴿أَنْ تَقُولَ﴾ (أن) في هذه الآية مفعول من أجله؛ أي: وأنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول ﴿نَفْسٌ﴾ نكر نفسًا إرادة الكثرة؛ ليشيع في كل النفوس ﴿يَاحَسْرَتَا﴾ أصلها: يا حسرتي، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفًا، فيقول: يا غلاما، ويا جارا. قرأ أبو جعفر: (يَا حَسْرَتَاي) بياء بعد الألف، وروي عنه فتحها وإسكانها، وكلاهما صحيح عنه، وقرأ الباقون:
بغير ياء، ووقف يعقوب: (يَا حَسْرَتَاهْ) بهاء ساكنة بعد الألف (١).
﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ﴾ قَصَّرت ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ أي: طاعة الله.
﴿وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى، والسخر: الاستهزاء.
﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي﴾ بألطافه.
﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ الشركَ.
﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ﴾ عيانًا: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾ رجعة
﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩)﴾.
[٥٩] فثم يقال ردًّا عليه (١): ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾ يعني: القرآن، وهي سبب الهداية ﴿فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ﴾ عنها.
﴿وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ بها.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ﴾ بأن جعلوا له البنات والصاحبة، وشرعوا ما لم يأذن به، إلى غير ذلك.
﴿وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ بما ينالهم من الشدة.
﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾ مقام ﴿لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن الإيمان؟
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ قرأ روح عن يعقوب:
﴿لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾ لا يصيبهم المكروه.
﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ تفسير للمفازة.
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كلام مستأنف دال على الوحدانية.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ والوكيل: القائم على الأمر، الزعيم بإكماله، فالخلق غير المخلوق، وهو فعل الرب تعالى القائم به، مغاير لصفة القدرة في قول الحنفية وأئمة الشافعية والسلف وأكثر أصحاب أحمد؛ خلافًا لأكثر المعتزلة وغيرهم في قولهم: هو هو.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٦٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٧).
[٦٣] ﴿لَهُ مَقَالِيدُ﴾ أي: مفاتيح خزائن ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ واحدها مِقْلاد، فمفاتيح السموات: المطر، والأرض: النبات.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ متصل بقوله: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وما بينهما اعتراض، التقدير: وينجي المتقين، والكافرون هم الخاسرون.
﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه. قرأ ابن عامر: (تَأْمرُونَنِي) بنونين ظاهرتين خفيفتين على الأصل، الأولى علم الرفع، والثانية للوقاية، ويسكن ياء الإضافة، وقرأ نافع، وأبو جعفر: بنون واحدة خفيفة على الحذف مع فتح ياء الإضافة، وقرأ الباقون: بنون واحدة مشددة على الإدغام، فابن كثير منهم يفتح ياء الإضافة، والباقون: يسكنونها (١).
[٦٥] ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الرسل.
﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ الذي عملته قبلَ الشرك وحبط معناه: بطل، فالخطاب مع الرسول - ﷺ -، والمراد منه: غيره.
﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ في صفقتك بسبب حبوط عملك، وتقدم حكم بطلان أعمال المرتدين من صلاة وحج، واختلاف الأئمة في ذلك في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧].
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته، بل إن عبدت، فاعبد الله، فحذف الشرط، وأقيم المفعول مقامه، معناه: لا تعبد إلا الله.
﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ له على فضله.
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، ثم أخبر عن عظمته.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ أي: مجموعات بقدرته.
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: هو منزه عن الشبه الذي لا يليق به.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ وهو قرن، والصحيح أنها النفخة الثانية بعد نفخة الفزع بأربعين سنة، وفي الخبر: أنها ثلاث نفخات، وتقدم ذكرها في سورة النمل.
﴿فَصَعِقَ﴾ فمات.
﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ من الحور والولدان وغيرهما.
﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ﴾ نفخة (٢) ﴿أُخْرَى﴾ هي نفخة البعث، وروي أن بين النفختين أربعين، لا يدري أبو هريرة سنة أو شهرًا أو يومًا أو ساعة (٣).
(٢) "نفخة" زيادة من "ت".
(٣) رواه البخاري (٤٥٣٦) كتاب: التفسير، باب: قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾، ومسلم (٢٩٥٥) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين.
﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ﴾ أي: أضاءت عرصات يوم القيامة.
﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾ إضافة خلق إلى خالق؛ أي: بنور الله تعالى، وقيل: بعدله.
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ أي: كتاب الأعمال، ووحِّد على اسم الجنس؛ لأن كل واحد له كتاب على حدة ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ﴾ ليشهدوا على أممهم ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ يشهدون للرسل بالإبلاغ، وهم أمة محمد - ﷺ - الذين جعلهم الله شهداء على الناس، وقيل: الحفظة.
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين العالم بأجمعه ﴿بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (١) لا يوضع شيء من أمورهم في غير موضعه. قرأ قنبل عن ابن كثير، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب: (وَجِيءَ) و (قِيلَ)، (وَسِيقَ): بإشمام الضم الجيمَ والقافَ والسينَ، وافقهم في إشمام السين: ابنُ ذكوان راوي ابن عامر (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٢ و ١٨١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٣٠).
[٧٠] ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ ثوابَ.
﴿مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ جماعات، واحدتها زُمرة، ونصبه على الحال؛ أي: يساقون سوقًا خبيثًا إلى النار.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ السبعة عند مجيئهم؛ تهويلًا لشأنها، ولم تفتح قبل؛ لبقاء حرها.
﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ وهم الزبانية توبيخًا: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ من جنسكم ﴿يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ﴾ يخوفونكم.
﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ وهو وقت دخول النار.
﴿قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ وهي قوله تعالى: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ فوجبت لنا النار.
[٧٢] ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ جهنمُ، وأُبهِمَ القائل؛ لتهويل ما يقال لهم.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ تكرمة لهم، ونصبه على الحال. قرأ أبو عمرو: (إِلَى الْجَنَّة زُمَرًا) بإدغام التاء في الزاي (١).
﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ وجواب (حتى) محذوف تقديره: حتى إذا جاؤوها، اطمأنوا، وجيء بالواو في (وَفُتِحَتْ) للإيذان [أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم تكرمةً، يدل عليه قوله تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: ٥٠] قالوا: وللحال تقديره: جاؤوها وقد فتحت أبوابها، وحذفها في الآية الأولى لبيان] (٢) أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، فالكفار يساقون إلى النار سريعًا إهانةً، والمتقون يساقون إلى الجنة ليصلوا إلى ما أعد لهم فيها تكرمة لهم. قرأ الكوفيون، وهم: عاصم، وحمزة،
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ لا يعتريكم بعدُ مكروه.
﴿طِبْتُمْ﴾ أي: طاب لكم المقام ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، فدخلوها.
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤)﴾.
[٧٤] فلما رأوا ما أعد لهم فيها، أعجبوا سرورًا ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ بالبعث والثواب ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾ أي: أرض الجنة، والوراثة هنا مستعارة؛ لأن حقيقة الميراث أن يصير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل النار لو كانوا مؤمنين ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ نتنزل ﴿مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ منها، ثم يدخل سائر الأمم (٢)، وهو إشارة إلى السعة والزيادة عن قدر الحاجة، لا أن أحدًا ينزل في غير منزله، روي أن أمة محمد - ﷺ - تدخل أولًا الجنة، فتنزل حيث تشاء منها، ثم يدخل سائر الأمم، قال الله تعالى: ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ ثواب المطيعين.
(٢) "منها ثم يدخل سائر الأمم" ساقطة من "ت".
[٧٥] ثم وصف حال الملائكة فقال: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ أي: محيطين بجوانبه.
﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد؛ لأن التكليف يزول في ذلك اليوم.
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين جميع الخلائق.
﴿بِالْحَقِّ﴾ بالعدل، فيدخل المؤمن الجنة، والكافر النار.
﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والقائلون هم المؤمنون؛ شكرًا لله حين تم وعده لهم، وقد فتح الله أول الخلق بالحمد فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: ١]، وختم القيامة بالحمد في هذه الآية؛ للإيذان أن يحمد تعالى في أول كل أمر وخاتمته، والله أعلم.
مكية بإجماع، وقد روي في بعض (١) آياتها أنها مدنية، وذلك ضعيف، والأول أصح، وآيها: خمس وثمانون آية، وحروفها: أربعة آلاف وتسع مئة وستون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وتسع وتسعون كلمة.
روى أنس عن النبي - ﷺ -: "أن الحواميمَ ديباجُ القرآن" (٢)، ومعنى العبارة أنها خلت من الأحكام، وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضًا، وأيضًا فهي قصار لا يلحق قارئها فيها سآمة.
وعن عبد الله بن مسعود: أن النبي - ﷺ - قال: "من أراد أن يرتعَ في رياض مؤنقةٍ من الجنة، فليقرأ الحواميم" (٣).
وعن ابن عباس قال: "لكل شيء لُباب، ولُباب القرآن الحواميم" (٤).
(٢) رواه أبو الشيخ، وأبو نعيم، والديلمي، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (٧/ ٢٦٩). ورواه الحاكم في "المستدرك" (٣٦٣٤)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٤٧١)، عن ابن مسعود موقوفًا عليه من قوله.
(٣) رواه ابن الضريس في "فضائل القرآن" كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (٧/ ٢٦٩).
(٤) رواه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (ص: ١٣٨).