تفسير سورة القلم

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة القلم من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ ن ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور عند الكلام على أول سورة هود : وذكر الأقوال كلها، وهي خمسة أقوال.
فقيل : إنها مما استأثر الله بعلمه أو أنها من أسماء الله، أو مركبة من عدة حروف كل حرف من اسم، أو أسماء للسور، أو أنها للأعجاز، وبين رحمه الله وجه كل قول منها، ورجح الأخير، وأنها للإعجاز بدليل أنه يأتي بعدها دائماً الانتصار للقرآن، وقد بسط البحث بما يكفي ويشفي.
وقال ابن كثير بأقوال أخرى، منها أن ﴿ ن ﴾ [ القلم : ١ ] بمعنى الدواة أي بمناسبة ذكر القلم، وعزاه إلى الحسن وقتادة، وقال إن فيه حديثاً مرفوعاً، ولكن غريب جداً، وهو عن ابن عباس : إن الله خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال : اكتب، الحديث.
وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خلق الله النون وهي الدواة ".
وذكر ابن جرير كل هذه الأوجه وزاد أوجهاً أخرى : منها أنها افتتاحيات لأوائل السور تسترعي انتباه المستمعين، ثم يتلى عليهم ما بعدها. وقيل : هي من حساب الجمل وغير ذلك.
وقد ذكر ابن جرير عند أول سورة الشورى :﴿ حم عسق ﴾ [ الشورى : ١-٢ ] أثراً نقله عنه ابن كثير واستغربه واستنكره، ولكن وقع ما يقرب من مصداقه ومطابقته مطابقة تامة.
ونصه من ابن جرير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قول الله :﴿ حم عسق ﴾، قال فأطرق ثم أعرض عنه، ثم كرر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء، وكره مقالته، ثم كررها الثالثة فلم يجبه شيئاً.
فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها، وقد عرفت بم كرهها، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له : عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تنبني عليه مدينتان فشق النهر بينهما شقاً، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدنهم، بعث الله على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً، فذلك قوله :﴿ حم عسق ﴾ يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء.
﴿ حم عسق ﴾ يعني عدلاً منه ﴿ سين ﴾ يعني سيكون ﴿ ق ﴾ يعني واقع بهاتين المدينتين ا ه.
ومع استغراب ابن كثير إياه واستنكاره له، فقد وقع مثل ما يشير إليه الحديث على ثورة العراق على عبد الإله في بغداد، حيث يشقها النهر شقين، وأنه من آل البيت، وقد وقع بها ما جاء وصفه في الأثر المذكور.
قوله تعالى :﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأجرا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ { . تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الرد على مقالتهم تلك عند قوله تعالى :{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ [ المؤمنون : ٧٠ ] الآية من سورة المؤمنون.
وساق النصوص، وقال : إن في الآية ما يرد عليهم، وهو قوله تعالى :﴿ بَلْ جَآءهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ ا ه.
وهكذا هنا في الآية ما يدل على بطلان دعواهم، ويرد عليهم، وهو قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي على ما جئت به من الحق، وقمت به من البلاغ عن الله والصبر عليه، كما رد عليهم بقوله :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [ التكوير : ٢٢ ].
وكذلك قوله تعالى في حق رسوله الكريم الأعظم ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ لأن المجنون سفيه لا يعني ما يقول ولا يحسن أي تصرف. والخلق العظيم أرقى منازل الكمال في عظماء الرجال.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾، المن : القطع. أي إن أجره صلى الله عليه وسلم عند الله غير منقطع.
قال الشاعر :
لمقفر قهر تنازع شلوه عبس كواسب لا يمن طعامها
وقد بين تعالى دوام أجره دون انقطاع في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٣-٥ ].
وصلوات الله تعالى عليه وصلوات الملائكة والمؤمنين لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، وهي من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة والمؤمنين دعاء.
وفي سورتي : الضحى وألم نشرح، بكاملها ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأَولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [ الضحى : ٣-٥ ].
وقوله :﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [ الشرح : ٤ ].
ومعلوم من السنة أن من دل على خير فله مثل من عمل به، فما من مسلم تكتب له حسنة في صحيفته إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم مثلها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ". ومنها : " أو علم ينتفع به ". وأي علم أعم نفعاً مما جاء به صلى الله عليه وسلم وتركه في الأمة حتى قال : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي " إلى غير ذلك من النصوص الدالة على دوام أجره.
أما جزاؤه عند الله فلا يقدر قدره إلا الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ تقدم أن هذه بمثابة الرد على ادعاء المشركين أولاً عليه صلى الله عليه وسلم ورميه بالجنون. لأن أخلاق المجانين مذمومة بل لا أخلاق لهم، وهنا أقصى مراتب العلو في الخلق.
وقد أكد هذا السياق بعوامل المؤكدات باندراجه في جواب القسم الأول في أول السورة، وبإن واللام في لعلى، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء والتمكن، بدل من ذو، مثلاً ذو خلق عظيم، لبيان قوة التمكن والاستعلاء، وأنه صلى الله عليه وسلم فوق كل خلق عظيم، متمكّن منه مستعل عليه.
وقد أجمل الخلق العظيم هنا، وهو من أعم ما امتدح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وقد أرشدت عائشة رضي الله عنها إلى ما بين هذا الإجمال، حينما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم الذي امتدح به فقالت " كان خلقه القرآن "، تعني والله تعالى أعلم : أنه صلى الله عليه وسلم يأتمر بأمره وينتهي بنواهيه، كما في قوله تعالى ﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ].
وكما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
وكما قال صلى الله عليه وسلم " لن يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به "، فكان هو صلى الله عليه وسلم ممتثلاً لتعاليم القرآن في سيرته كلها، وقد أمرنا بالتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، فكان من أهم ما يجب على الأمة معرفة تفصيل هذا الإجمال ليتم التأسي المطلوب.
وقد أخذت قضية الأخلاق عامة، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم خاصة، محل الصدارة من مباحث الباحثين وتقرير المرشدين. فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم، وعامل الحفاظ على بقائها، كما قيل :
إنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت فإنْ هم ذهبتْ أخلاقهم ذَهبوا
في قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
وقد عنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم بقضية أخلاقه بعد نزول هذه الآية، فسألوا عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت : " كان خلقه القرآن " وعني بها العلماء بالتأليف، كالشمائل للترمذي.
أما أقوال المفسرين في الخلق العظيم، المعنى هنا فهي على قولين لا تعارض بينهما.
منها : أنه الدين، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم.
والآخر قول عائشة : " كان خلقه القرآن " والقرآن والدين مرتبطان. ولكن لم يزل الإجمال موجوداً. وإذا رجعنا إلى بعض الآيات في القرآن، نجد بعض البيان لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق، مثل قوله تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ].
وقوله :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ].
وقوله :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ].
وقوله :﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ].
ومثل ذلك من الآيات التي فيها التوجيه أو الوصف بما هو أعظم الأخلاق، وإذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم هو القرآن، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم.
والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات. ففي الصلاة خشوع وخضوع وسكينة ووقار، فأتوها وعليكم السكينة والوقار.
وفي الزكاة مروءة وكرم ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ].
وقوله :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ [ الإنسان : ٩ ].
وفي الصيام " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ".
وقوله صلى الله عليه وسلم : " الصيام جنة ".
وفي الحج :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ].
وفي الاجتماعيات : خوطب صلى الله عليه وسلم بأعلى درجات الأخلاق، حتى ولو لم يكن داخلاً تحت الخطاب، لأنه ليس خارجاً عن نطاق الطلب ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾، ثم يأتي بعدها ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ -٢٤ ]، مع أن والديه لم يكن أحدهما موجوداً عند نزولها، إلى غير ذلك من التعاليم العامة والخاصة التي اشتمل عليها القرآن.
وقد عني صلى الله عليه وسلم بالأخلاق حتى كان يوصي بها المبعوثين في كل مكان، كما أوصى معاذ بن جبل رضي الله عنه بقوله : " اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة : إذا لم تستح فاصنع ما تشاء " أي إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل، ويمنع من الرذائل، كما قيل في ذلك :
إن الكريم إذا تمكن من أذى جاءته أخلاق الكرام فأقلعا
وترى اللَّئيم إذا تمكن من أذى يطغى فلا يبقي لصلح موضعا
وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٤ ].
تنبيه :
إن من أهم قضايا الأخلاق بيانه صلى الله عليه وسلم لها بقوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
مع أن بعثته بالتوحيد والعبادات والمعاملات، وغير ذلك مما يجعل الأخلاق هي البعثة.
وبيان ذلك في قضية منطقية قطعية حملية، مقدمتها حديث صحيح، وهو " الدين حسن الخلق "، والكبرى آية كريمة. قوله تعالى :﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ].
ولمساواة طرفي الصغرى في الماصدق، وهو الدين حسن الخلق، يكون التركيب المنطقي بالقياس الاقتراني حسن الخلق هو البر، والبر هو الإيمان بالله واليوم الآخر، إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة، ينتج حسن الخلق هو الإيمان بالله واليوم الآخر وما عطف عليه.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الدين كله بأقسامه الثلاثة :
الإسلام من صلاة وزكاة. إلخ.
والإيمان بالله وملائكته. إلخ.
ومن إحسان في وفاء وصدق وصبر وتقوى الله تعالى، إذ هي مراقبة الله سرّاً وعلناً، وقد ظهرت نتيجة عظم هذه الأخلاق في الرحمة العامة الشاملة في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
وكذلك للأمة يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ".
وهي قضية منطقية أخرى " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "، ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
فمكارم الأخلاق رحمة للعالمين في الدّنيا، ومنزلة عليا للمؤمنين في الآخرة.
تنبيه آخر :
اتفق علماء الاجتماع أن أسس الأخلاق أربعة :
هي : الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة، ويقابلها رذائل أربعة :
هي الجهل، والشره، والجبن، والجور، ويتفرع عن كل فضيلة فروعها :
الحكمة : الذكاء وسهولة الفهم، وسعة العلم، وعن العفة، القناعة والورع والحياء والسخاء والدعة والصبر والحريَّة، وعن الشجاعة النجدة وعظم الهمة، وعن السماحة الكرم والإيثار والمواساة والمسامحة.
أما العدالة وهي أم الفضائل الأخلاقية، فيتفرع عنها الصداقة والألفة و
قوله تعالى :﴿ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴾ [ ٨ -١٦ ].
إذا كان في مجيء الآية قبل هذه ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ القلم : ٤ ] على دعواهم الكاذبة على رسول الله ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ بالجنون.
ففي هذه الآية تنزيهه صلى الله عليه وسلم مما اشتملت عليه من رذائل ونقائص وافتضاح لهم. وبيان الفرق والبون الشاسع بينه وبينهم. ففي الوقت الذي وصفه بأنه على خلق عظيم، وصفهم بعكس ذلك من كذب ومداهنة، وكثرة حلف ومهانة، وهمز ومشي بنميمة، ومنع للخير وعتل وتجبر، واعتداء وظلم، وانقطاع زنيم، عشر خصال ذميمة. ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغاراً لهم.
وقد جاءت آيات القرآن تبين مساويء تلك الصفات وتحذر منها، ولا يسعنا إيرادها كلها، وتكفي الإشارة إلى بعضها تنبيهاً على جميعها في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الحجرات : ١١-١٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾.
ذكر القرطبي لمعاني المداهنة فوق عشرة أقوال أرجحها الملاينة، وقد ذكر هنا ودادتهم وتمنيهم المداهنة، ولم يذكر لنا هل داهنهم صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ وهل يريدون بذلك مصلحة أم لا ؟
وقد جاء بيان ذلك مفصلاً بأنهم أرادوا التدرج من المداهنة وملاينته صلى الله عليه وسلم معهم، إلى ما بعدها من تعطيل الدعوة.
وقد رجح ابن جرير ذلك بقوله : ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك، بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه :﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٤ ]ا ه.
ويشهد لما قاله ابن جرير هذا ما جاء في سبب نزول سورة الكافرون.
فأنزل الله تعالى ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ [ الكافرون : ١ -٣ ] السورة.
ومما هو صريح في قصدهم بالمداهنة والدافع عليها والجواب عليهم، قد جاء موضحاً في قوله تعالى :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ]، ثم قال تعالى مبيناً موقف الرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المحاولة بقوله :﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِي اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ].
وقد جاء الله بأمره حكماً بينه وبينهم، وهنا يمكن أن يقال : إن كل مداهنة في الدين مع المشركين تدخل في هذا الموضوع.
وقد جاء بعد قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ إشارة إلى أنهم لا يطاعون في مداهنتهم، وأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لترويج مداهنتهم ولو بكثرة الحلف، وفرق بين المداهنة في الدين، والملاطفة في الدنيا، أو التعاون وتبادل المنافع الدنيوية، كما قدمنا عند قوله تعالى :﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] الآية، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾.
هذا استفهام إنكاري يدل على أنه لم يسألهم أجراً على دعوته إياهم.
وقال تعالى :﴿ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] فالأجر المسؤول المستفهم عنه هو الأجر المادي بالمال ونحوه.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث الأجر على الدعوة من جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومبحث أخذ الأجرة على الأعمال التي أصلها مزية الله بحثاً وافياً عند قوله تعالى :﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ] من سورة هود.
قوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾.
لم يبين هنا من هو صاحب الحوت، ولا نداءه وهو مكظوم، ولا الوجه المنهي عنه أن يكون مثله، وقد بين تعالى صاحب الحوت في الصافات في قوله تعالى :{ وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } إلى قوله :﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [ الصافات : ١٣٩ -١٤٢ ].
وأما النداء فقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : قد بينه تعالى في سورة الأنبياء عند قوله تعالى :﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ -٨٨ ].
فصاحب الحوت هو يونس، ونداؤه هو المذكور في الآية، وحالة ندائه وهو مكظوم.
أما الوجه المنهي عن أن يكون مثله فهو الحال الذي كان عليه عند النداء، وهو في حالة غضبه، وهو مكظوم، وهذا بيان لجانب من خلقه صلى الله عليه وسلم وتخلقه في قوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ ﴾ أي على إيذاء قومك، ولعل هذا من خصائص وخواص توجيهات الله إليه، كما في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ -١٢٧ ] إلى آخر الآية، فقد بين تعالى خلقاً فاضلاً عاماً للأمة في حسن المعاملة والصفح.
ثم خص النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ وَاصْبِرْ ﴾ أي لا تعاقب انتقاماً ولو بالمثلية ولكن اصبر، وقد كان منه صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك في رجوعه من ثقيف حينما آذوه وجاءه جبريل عليه السلام، ومعه ملك الجبال يأتمر بأمره إلى أن قال :
لا، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.. إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله فقد صفح وصبر ورجى من الله إيمان من يخرج من أصلابهم.
وهذا أقصى درجات الصبر والصفح وأعظم درجات الخلق الكريم.
قوله تعالى :﴿ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾.
بين تعالى أنه لم ينبذ بالعراء على صفة مذمومة، بل إنه تعالى أنبت عليه شجرة تظلّه وتستره، كما في قوله تعالى :﴿ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾.
بينه تعالى بقوله :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ -١٤٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ ٥١ -٥٢ ].
فيه عود آخر السورة على أولها. وأن الكفار إذا سمعوا الذكر شخصت أبصارهم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرمونه بالجنون. والرد عليهم بأن هذا الذي سمعوه ليس بهذيان المجنون، وما هو إلا ذكر للعالمين، وفيه ترجيح القول بأن المراد بنعمة ربك في أول السورة، إنما هي ما أوحاه إليه من الذكر.
Icon