ثم يلتفت الحديث إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويقص عليه قصة موسى وفرعون وما آل أمره إليه، وفي ذلك عظة لمن يخاف الله.
ثم يوجه الكلام إلى أولئك المنكرين، فيقول لهم :﴿ أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها... ﴾ أمَا خلق هذا الكون العجيب المنتظم وما فيه من الخيرات ﴿ متاعا لكم ولأنعامكم ﴾ ؟
فإذا قامت القيامة الكبرى، ففي ذلك اليوم ﴿ يتذكر الإنسان ما سعى ﴾، ويكون الناس فريقين : سعداء وأشقياء. أما المؤمنون العاملون فإن مأواهم الجنة، يتمتعون فيها بأعظم نعيم. وأما الأشقياء فمأواهم جهنم.
ثم يتوجه الحديث إلى الرسول الكريم.. يسألك الجاحدون يا محمد عن الساعة متى تكون ؟ فلا تشغلْ نفسك بها، فإلى ربك منتهى علم الساعة، وإنما أنت رسول مبعوث للإنذار وتحذير الناس من المعاصي. ويوم يشاهدون القيامة يظنون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار عشية أو ضحاها من شدة ذهولهم.
ﰡ
غرقاً : بشدة.
لقد جاء في القرآن الكريم ضروبٌ من القسَم بالأزمنة والأمكنة وبعض الأشياء، ولو استعرضْنا جميع ما أقسم الله به لوجدناه إما شيئاً أنكره بعضُ الناس، أو احتقره لغفْلتِه عن فائدته، أو ذُهل من موضع العبرة فيه، ولم ينتبه إلى حكمة الله في خَلْقه أو اعتقدَ فيه غيرَ الحق. فاللهُ سبحانه يقسِم به إما لتقرير وجودهِ في عقلِ من يُنكره، أو تعظيمِ شأنِه في نفسِ من يحتقرُه.
فالقسَم بالنجوم، جاء لأن قوماً يحقّرونها لأنها من جُملة عالَم المادّة ويغفلون عن حكمة الله فيها وما ناطَ بها من المصالح، وآخرين يعتقدونها آلهة تتصرّف في هذه الأكوان، فأقسَمَ اللهُ بها على أنها من المخلوقات التي تعرفُها القدرة الإلهية، وليس فيها شيء من صفات الألوهية.
ولقد بدأ اللهُ سبحانه هذه السورة بالحَلْف بأصنافٍ من مخلوقاته، إظهاراً لإتقان صُنعها وغزارة فوائدها بأن البعثَ حق، وأن من قَدر على صُنعِ هذا الكونِ وما فيه لهو قادرٌ على إحياء الموتى.
فأقسَم بالنازعاتِ، وهي الملائكةُ التي تنزع أرواح الكافرين بشدّة.
والناشطات، وهي الملائكةُ التي تأخذ أرواحَ المؤمنين بسهولة ويسر.
وبالسابحات التي تسبحُ في أجواء هذا الكون الفسيح.
والسابقات وهي التي تسبقُ في أداء ما وُكِلَ إليها وتؤدّيه على أحسن وجه.
والمدبّراتِ أي التي تدبّر الأمورَ بإذن الله وتصرفها بما أودع فيها من خصائص. ويقول بعض المفسّرين إن النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبّرات هي الكواكب. ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء من هذه الأقوال لأنها لا تستند إلى دليل.
الراجفة : الأرض.
يومَ تقوم القيامةُ تضطربُ الأرض بمن فيها وترجفُ الأرضُ والجبال..
وتتبعها الرادِفةُ، وهي النَّفخة الثانية، فتنشقّ السماء وتَنتثِر الكواكب ويقوم الناسُ لربّ العالمين. كما قال تعالى :﴿ وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٨ ]. ويكون الناس في ذلكَ اليومِ في ذهولٍ عظيم، وخوفٍ وهلع، كما صوّرهم الله بقوله :﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ ﴾ [ الحج : ٢ ].
يومئذٍ يرى المرءُ قلوباً مضطربةً قلِقة خائفة.
ذليلةً من الهلعَ والخوف.
ثم يتساءل المجرمون وهم يظنّون أنهم رُدّوا إلى حياتهم الأولى :
﴿ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة، أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً ؟ ﴾
أنحنُ مردودون إلى الحياةِ، عائدون في طريقنا الأُولى ؟ ! وهذا من شدّة ذهولهم ودَهشتهم.
كيف يرجعون بعد أن كانوا عظاماً بالية !
ثم يعودون إلى رُشدهم فيقولون ( بعد أن يعلموا أنها حياة أخرى ويشعروا بالخسارة ).
قراءات :
قرأ الجمهور : عظاما نخرة بفتح النون وكسر الخاء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : ناخرة بألف بعد النون.
﴿ قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ لم يحسِبوا حسابها، ولم يقدّموا لها.
ثم يأتي الرد الشديد من الله تعالى :
﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾
لا تستبعِدوا ذلك وتظنّوه عَسيرا علينا، فإنما هي صَيْحة واحدةٌ، وهي النفخة الثانية التي يبعثُ الله بها الموتَى.
فإذا الناسُ كلّهم حضورٌ بأرض المحشر.
ما يلاقيه من قومه، بحكْمِ تكذيبهم له وإنكارهم للبعث، وتماديهم في العُتُوِّ والطغيان. وذلك أن فرعون مع أنه كان أقوى من كفار قريشٍ وأشدَّ منهم شوكةً وأعظمَ سلطانا فإن الله أخَذه حينَ تمرد على ربه ولم يؤمن بموسى، فاحذَروا أن يصيبَكم ما أصابه. وقصة موسى وفرعون من أكثر القصص التي ترِدُ في القرآن في أساليب متنوعة. وهنا جاءت مختصرة سريعة في أسلوب استفهام رشيق مشوّق لتناسب طبيعة السورة.
هل أتاك - يا محمد -، حديث موسى مع فرعون.
طوى : اسم ذلك الوادي، وهو بين العقبة ومصر.
حين ناداه ربُّه في وادي طوى المقدّس في سيناء.
قراءات :
قرأ أهل الحجاز والبصرة : طُوى بغير تنوين. والباقون بالتنوين.
حيث أمره أن يذهب إلى فرعون وقومه ليهديهم إلى الطريق المستقيم، بعد أن طغى واستكبر واستعبد الناس !
ثم طلب الله تعالى إلى موسى أن يُلينَ له القولَ فذلك أنجحُ للرسالة.
﴿ فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى ﴾،
هذا كلام جميل في غاية الرقة واللطف. قل له يا موسى : هل ترغبُ أن تطهِّر نفسَك من الآثام التي انغمستَ فيها.
قراءات :
قرأ الجمهور : تزكّى بفتح الزاي من غير تشديد، وقرأ نافع وابن كثير : تزكى بتشديد الزاي.
وتعملَ بما أدلُّك عليه من طُرُق الخير، فترجعَ إلى ربك وتؤمن به، وتخشى عاقبة مخالفته.
ثم أراه الدليلَ الحسّيَّ على صدق نبوته ﴿ فَأَرَاهُ الآية الكبرى ﴾ وتلك هي قلبُ العصا التي معه حيّةً تسعى.
﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى ﴾ في تدبير سحرٍ مثله.
حيث جَمَعَ السحرةَ وخطب فيهم.
فعذّبه الله تعالى بالغَرَقِ في الدنيا، وبعذاب جهنم في الآخرة..
إن الله سينصرك يا محمد، على قومك كما نَصَرَ موسى على فرعون، وكان أشدَّ بأساً وأكثر جنداً من قومك هؤلاء. فاتبع يا محمد نهج موسى، ولِنْ لهم في الحديث، واصبر فإن الفوز لك.
لا يُعجِزه بعثهم من جديد بعد موتهم.
فإن كانوا قد غفلوا عن أنه خالقُهم، فلْينظروا إلى السماءِ والى الأرضِ ليعلموا من خَلَقَهما وأنشأهما.
﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا ﴾.
أيّهما أعظم : إعادةٌ الناس كما بدأهم أولَ مرة أم إنشاء السماء في هذا النظام البديع الذي لا يختلف ولا يختلّ بل يسير فيه كل جرم في مداره !
لقد رفع صانعُها أجرامها فوق رؤوسنا ووضعَ كل جرمٍ في وضعه.
أخرجَ ضحاها : أظهر نورها وضياء شمسها.
لقد جعل ليلها مظلماً عندما تغيبُ الشمس، وأضاءها بشروق الشمس وارتفاعها وقت الضحى، وهو أشرفُ أوقاتها وأطيبها.
ثم بسط الأرضَ ومهّدها للسكنى وسيّر الناسَ والأنعام عليها. فلفظةُ دحاها تعني التكويرَ والبسطَ في ذات الوقت، فتكون أدلَّ الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكوّرة في الحقيقة.. وهذا منتهى الإحكام في اختيار اللفظ المناسب.
ثم بيّن ما لا بدّ منه في تأتّي سكناها من أمرِ المآكل والمشارِب وإمكان القرار عليها فقال :
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾
فجّر منها العيون والينابيع والأنهار لأن الماء أساس الحياة، ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ]. وأنبت فيها النبات الذي يأكله الناسُ والحيوان.
وهذا كله جعله الله ﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ أي لخيرِ الإنسان يتمتع به.
فهل الذي أوجده وأنشأه أولَ مرة يعجز عن إعادته وإنشائه مرة أخرى ؟ ﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
ويُظهِر الله الجحيمَ للعِيان فيراها كل إنسان. ومن ثم يوزَّع الجزاء على العاملين.
وفضّل متاعها ولذائذَها على ثواب الآخرة.
﴿ فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى ﴾ حيث يجد مستَقرَّه ومأواه،
نهى النفسَ عن الهوى : استقام وكفّها عن هواها.
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى ﴾، فآمنَ واستقامَ ونهى نفسَه عن هواها.
أيّان مرساها : متى تقوم وتحصل.
يسألك قومك يا محمد، متى وقت الساعة، ومتى وقوعها ؟
لا أحدَ يعلم عنها شيئاً إلا الله، فلا تشغل نفسَك بهذا الأمر ولا تكلّفْها عناءَ البحث عنه.
إن يوم القيامة آت لا ريب فيه، ويوم يراه هؤلاء المكذبون يحسبون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدارَ عشية يوم أو ضحاه، فما أقصرَ هذه الحياة التي يتقاتل عليها الناس ويلهثون وراءها !