تفسير سورة فاطر

مراح لبيد
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة أيضا، مكية، خمس وأربعون آية، مائة وسبع وتسعون كلمة، ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما من غير مثال سبق، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة، أو بينه تعالى وبين خلقه حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه- وهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل وملك الموت والرعد والحفظة- أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد، فمنهم من له جناحان يطير بهما ومن له ثلاثة أجنحة، ومن له أربعة أجنحة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ، أي خلق الملائكة ما يَشاءُ.
ويروى أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان منها يلفون بهما أجسادهم وجناحان منها للطيران يطيرون بهما فيما أمروا به من جهته تعالى، وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الزيادة والنقصان قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها أي أيّ شيء يرسل الله للناس من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة، وأمن وعلم، وحكمة إلى غير ذلك، فلا أحد يقدر على إمساكها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، أي أيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) أي كامل القدرة في الإرسال والإمساك، وكامل العلم في ذلك. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي إنعام الله عليكم بنعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي هل خالق مغاير له تعالى موجود.
وقرأ حمزة والكسائي بجر «غير» نعت ل «خالق» على اللفظ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وغيره، وَالْأَرْضِ بالنبات وغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو الخالق الرازق فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) أي فمن أين تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟ فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت، وبأي سبب تعبدون غيره تعالى، فإنه لا يقدر على خلق ولا على رزق ولا على غيرهما. وَإِنْ
275
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
، أي وإن استمروا على أن يكذبوك يا أشرف الخلق فيما بلغت إليهم من التوحيد والبعث، والحساب والجزاء وغير ذلك بعد ما أقمت عليهم الحجة فتأس بأولئك الرسل في المصابرة على ما أصابهم من قبل قومهم، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) في الآخرة، فيجازي المكذبين والصابرين. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي يا أهل مكة إن وعد الله بالبعث بعد الموت والجزاء ثابت من غير خلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن يذهلكم التمتع بمتاعها، ويلهيكم التلهي بزخارفها عن الطاعة لله وعن تدارك ما يهمكم يوم حلول الميعاد، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) بفتح الغين، أي ولا يغرنكم سبب حلم الله وإمهاله المبالغ في الغرور- وهو الشيطان- بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلا: اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعا، فتعاطي الذنوب بهذا التمني مثل تناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عظيم، فإن عداوته عداوة قديمة لا تكاد تزول، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم، فإذا فعلتم فعلا فتنبهوا له، فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أتباعه في الضلال لِيَكُونُوا أي تلك الأتباع مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)، أي النار الموقدة الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدنيا بفوات مطلوبهم، وفي الآخرة بالسعير. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر لذنوبهم في الدنيا وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) في الآخرة. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي أبعد كون حالي الفريقين- كما ذكر- يكون من زين الكفر له الشيطان، ونفسه الأمارة، وهواه القبيح فرآه صوابا فانهمك فيه كمن عرف الحق فاختار الإيمان أو العمل الصالح؟! نزلت هذه الآية في أبي جهل ومشركي مكة، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أن يضله لاستحبابه الضلال، وصرف اختياره إليه فيرده أسفل سافلين، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أن يهديه بصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لكثرة التحزن.
وقرأ أبو جعفر، وقتادة، والأشهب بضم التاء وكسر اللام مسند الضمير المخاطب «نفسك» مفعول به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) من القبائح فيجازيهم عليه وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» بالتوحيد، أي أوجدها من العدم فهبوبها دليل ظاهر على الفاعل المختار، وذلك لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب، وقد لا ينشئ، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبر ومؤثر مقدر، فَتُثِيرُ سَحاباً أي فتحركه وترفعه فَسُقْناهُ أي السحاب إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بماء السحاب الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبسها، وأسند الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق والإحياء إلى المتكلم،
276
لأن في الأول تعريفا بالفعل العجيب وهو الإرسال والإثارة، وفي الثاني تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)، أي إحياء الأموات في سهولة الحصول، فإن الأرض الميتة لما قبلت الحياة، اللائقة بها كذلك الأعضاء الميتة تقبل الحياة، وكما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت، وكما أنا نجمع القطع السحابية بالريح كذلك نجمع أجزاء الأعضاء المتفرقة بالروح. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي من كان يريد يد العزة فليطلبها من عند الله بطاعته، لأنه لا عزة إلّا لله، فإن المشركين كانوا يتعززون بعبادة الأصنام، ومن اعتز بالعبيد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الذي يطلب به العزة وهي كلمة:
«لا إله إلّا الله»، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ والضمير المستكن عائد ل «الكلم» فإن مدار قبول العمل هو التوحيد، ويؤيده القراءة بنصب «العمل» أو عائد ل «العمل» فإنه لا يقوى الإيمان بلا عمل، فإذا رجع الضمير البارز للعمل كانت الضمير المستكن عائدا ل «الكلم» كما تقدم أو لله تعالى. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي والذين يكسبون أصناف المكرات السيئات لهم عذاب شديد، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) أي صنع أولئك هو يفسد ويهلك.
قيل: هي مكرات قريش بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة في إحدى ثلاث: حبسه، وقتله، وإخراجه من مكة.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أهل الربا. وقال مقاتل: في أهل الشرك بالله. وقال الكلبي: المعنى يعملون السيئات وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وهو إشارة إلى بقاء العمل الصالح. وقوله: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ إشارة إلى فناء العمل السيئ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، فكل أولاد آدم من تراب ومن نطفة، لأن كلهم من نطفة، والنطفة من غذاء، والغذاء ينتهي إلى الماء والتراب ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ذكرانا وإناثا، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ في وقته ونوعه وغير ذلك. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، أي وما يمد في عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي عمر أحد إِلَّا فِي كِتابٍ، أي لوح محفوظ.
وعن سعيد: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل ذلك، ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي إلى آخره. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو كتاب والله تعالى بيّن كمال قدرته بقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وكمال علمه بقوله تعالى:
وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق وما في البطن بعده لا يعلم أحد حاله كيف، والأم الحامل لا تعلم منه شيئا، ونفوذ إرادته بقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ فبين الله إنه هو القادر العالم، المريد، والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة فكيف يستحق واحد منها العبادة؟! إِنَّ ذلِكَ أي الخلق من تراب وكتابة الآجال عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) لاستغنائه عن الأسباب فكذلك البعث، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا
277
عَذْبٌ أي لذيذ فُراتٌ أي يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ أي يسهل انحداره إلى الخلق وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي مر زعاق لا يستطيع شربه وَمِنْ كُلٍّ من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أي سمكا شهي المطعم، وَتَسْتَخْرِجُونَ من الملح خاصة حِلْيَةً، أي زينة وهي اللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها. وقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته، وهو دليل آخر على القدرة والوحدانية وَتَرَى الْفُلْكَ أي وترى السفن أيها الناس فِيهِ أي في كل منهما مَواخِرَ، أي شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة وغيرها واللام متعلقة بمواخر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)، أي ولتشكروا الله على نعمه، يُولِجُ اللَّيْلَ أي يدخل زيادته فِي النَّهارِ فيكون النهار أطول من الليل بقدر نقصانه، وَيُولِجُ النَّهارَ أي يدخل زيادته فِي اللَّيْلِ فيكون الليل أطول من النهار بقدر نقصانه، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم، كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة، ومدة الجريان للشمس سنة، وللقمر شهر. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي فعل هذه الأفعال هو الله الموجد لكم من العدم، المربي بجميع النعم. لَهُ الْمُلْكُ كله، وهو مالك كل شيء. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدون مِنْ دُونِهِ تعالى- وهم الأصنام- ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) أي لا يقدرون أن يفعلوا من ذلك قدر الشيء الذي تعلق به النواة مع القمع، وقيل: القطمير هو القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة. وهذا استدلال على تفرده تعالى بالألوهية. إِنْ تَدْعُوهُمْ أي المعبودات من غير الله لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، لأنها جمادات وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل التقدير مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما أجابوكم بجلب نفع ودفع ضرر لعجزهم عن الأفعال بالمرة، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي حين ينطقهم الله ينكرون عبادتكم إياهم بقولهم: ما كنتم إيانا تعبدون. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) أي ولا يخبرك أيها السامع أحد مثلي، لأني عالم بالأشياء وغيري لا يعلمها. يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي إلى مغفرته ورحمته ورزقه في الدنيا، وإلى جنته في الآخرة. وهذا يوجب عبادته وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) أي والله مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء يقضي في الدنيا حوائجكم، وإن آمنتم به يقضي في الآخرة حوائجكم فهو المستوجب للحمد. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم يا أهل مكة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) أي بقوم آخرين مستمرين على الطاعة، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه، وَما ذلِكَ أي الإذهاب بهم والإتيان بآخرين عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) أي بمتعسر وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل إنما تحمل كل منهما إثمها، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا إلى حمل بعض ذنوبها لم تجب تلك النفس المدعوة بحمل شيء من تلك الأوزار، ويروى عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء الفوقية وكسر الميم
278
شيئا، أي لا تحمل تلك النفس المدعوة شيئا من الوزر، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي.
قال ابن عباس: يلقى الأب والأم الابن فيقولان له: يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا. فيقول:
لا أستطيع حسبي ما علي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي إنما ينفع إنذارك يا أشرف الرسل بهذه الإنذارات الذين يخشون عذاب ربهم وهو غائب عنهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي راعوها كما ينبغي وَمَنْ تَزَكَّى أي تطهر من المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي فتطهره لنفسه إذ نفعه لها كما أن من تدنس بالأوزار لا يتدنس إلا على نفسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) فالمتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا، فهي تظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، كما إن الوازر إن لم تظهره تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة، إذ المرجع إلى الله وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)، أي الكافر والمؤمن وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) أي ولا الباطل والحق،
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) أي ولا الثواب والعقاب، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي وما يستوي المؤمنون والكفار، أو العلماء والجهلة، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي إن الله يفهم من يشاء ممن كان أهلا لفهم آياته تعالى. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) أي وما أنت يا أشرف الخلق بمفهم من هو مثل الميت في القبور، شبه الله الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته صلّى الله عليه وسلّم إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣) أي ما أنت إلّا رسول منذر وليس لك من الهدى شيء، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً، ويجوز أن يتعلق بالحق بما بعده، أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) أي ما من أمة إلّا مضى فيها نبي أو عالم ينذرهم، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي وإن يكذبك أهل مكة فلا تبال بتكذيبهم، لأنه قد كذب الذين من قبلهم من الأمم العاتية رسلهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الظاهرة الدالة على نبوتهم، وَبِالزُّبُرِ أي بخبر الأولين كصحف إبراهيم، وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) أي الموضح لطريق الخير والشر كالتوراة والإنجيل والزبور، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالكتب والرسل بأنواع العذاب، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أي إنكاري بالعقوبة، أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ، أي بذلك الماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها من الصفرة والخضرة والحمرة وغيرها، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي طرائق تخالف لون الجبل بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، ف «مختلف» صفة ل «جدد» أيضا و «ألوانها» فاعل.
وقال الرازي: الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها، وحمر مختلف ألوانها، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص، وقد يكون على لون التراب الأبيض، وكذلك الأحمر، وَغَرابِيبُ أي شديدة السواد سُودٌ (٢٧) وهو بدل من غرابيب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي ألوان ذلك البعض كَذلِكَ، أي اختلافا كائنا
كاختلاف الثمار والجبال، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فالخشية بقدر معرفته المخشي والعالم يعرف الله، فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد. ومعنى الآية في قراءة من قرأ بنصب «العلماء»، ورفع اسم الجلالة إنما يعظم الله العلماء. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) فكونه تعالى عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه تعالى غفورا للتائب عن العصيان يوجب الرجاء البالغ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءة القرآن، وَأَقامُوا الصَّلاةَ كيفما اتفق من غير قصد إليهما يَرْجُونَ تِجارَةً أي تحصيل ثواب الطاعة لَنْ تَبُورَ (٢٩)، أي لن تهلك بالخسران أصلا. وقوله تعالى: سِرًّا وَعَلانِيَةً حث على الإنفاق كيفما يتهيأ، فإن تهيأ سرا فذاك
وإلّا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه: إنه مراء، هو عين الرياء. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلق ب «لن تبور»، أي تنفق التجارة عند الله ليوفيهم الله أجور أعمالهم ما يرجونه وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل، إِنَّهُ غَفُورٌ عند إعطاء الأجور، شَكُورٌ (٣٠) عند إعطاء الزيادة
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ، أي هو القرآن هُوَ الْحَقُّ أي الصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أي مصدقا لما قبله من الكتب السماوية فيوافقه في العقائد وأصول الأحكام إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ، أي عالم بالبواطن بَصِيرٌ (٣١)، أي عالم بالظواهر فلا يكون الكتاب باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، أي ثم أعطينا القرآن أمتك الذين اخترناهم على سائر الأمم، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي راجع سيئاته وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أي تساوت سيئاته وحسناته، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ وهو الذي ترجحت حسناته بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتوفيق الله وهو متعلق بسابق ذلِكَ أي السبق بالخيرات، هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) من الله تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها خبر ل «جنات»، أي هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن، ومن دخلها لم يخرج منها.
وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول يُحَلَّوْنَ فِيها أي يلبسون على سبيل التزين في الجنة مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ف «من» الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين. وَلُؤْلُؤاً قرأه عاصم ونافع بالنصب عطفا على محل من أساور. والباقون بالجر عطفا على ذهب. وَلِباسُهُمْ فِيها أي الجنة حَرِيرٌ (٣٣) وإكثار الزينة يدل على الغنى، فلا يعجر عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة، ويدل على الفراغ. وَقالُوا أي ويقول أهل الجنة في الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أي كل حزن بحصول كل مطلوبه إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ (٣٤) للمطيعين الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا مِنْ فَضْلِهِ من غير أن يوجبه شيء من جهتنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) أي فتورنا شيء عن التعب، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ أي لا يحكم عليه بموت ثان، فَيَمُوتُوا
أي لا يستريحون بالموت بل عذابهم دائم، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، أي جهنم طرفة عين كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦). وقرأ أبو عمر «يجزى» بالبناء للمفعول، و «كل» بالرفع. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي يصيحون في جهنم بقولهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها نَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا في الإيمان غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من الشرك فيقول الله لهم توبيخا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نمهلكم يا معشر الكفار ولم نطل أعماركم زمانا يتعظ فيه من أراد أن يتعظ، وهو ستون سنة- كما قاله ابن عباس- أو أربعون سنة- كما قاله الحسن- وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي رسول من الله تعالى أو عقل، أو شيب، أو حمى، أو موت الأقارب، فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. والمراد: أي رسول كان، لأن هذا الكلام مع الكفار على الإطلاق قال تعالى فَذُوقُوا ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) أي لأنه ليس للذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها. وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مانع من عذاب الله، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(٣٨) وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد لما أطاع الله، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم تعلمون أحوال الماضين ممن كذب الرسل، فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي عقوبة كفره، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (٣٩)، أي إن الكفر لا ينفع عند الله فلا يزيدهم إلّا بغضه الشديد ولا ينفعهم في أنفسهم بل لا يفيدهم إلّا الخسار، فإن العمر كرأس المال، فمن اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ. وجملة قوله: أَرُونِي بدل اشتمال من «أرأيتم»، أي أخبروني عن آلهتكم التي زعمتم أنها شركاء الله تعالى الذين تعبدونها من غير الله، أروني أيّ جزء خلقوا من الأرض، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي بل ألهم شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً، أي بل أعطينا الشركاء كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء؟ فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ.
وقرأ أبو عمرو وحمزة، وابن كثير، وحفص «بينة» بالإفراد. والباقون «بينات» بالجمع، أي فالشركاء على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (٤٠)، أي بل ما يعد الأسلاف للأخلاف والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى المنزلة، وبأنها تشفع لهم في الآخرة فتضر وتنفع إلّا باطلا.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنعهما من أن تزولا عن مكانهما لأن مقتضى شركهم زوالهما، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي والله لئن زالتا عن مكانهما ما يمسكهما أحد من بعد زوالهم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً إذا أمسكهما فما ترك الله تعذيب المشركين إلّا حلما منه
281
تعالى، وإلّا فكانوا يستحقون إسقاط السموات وانطباق الأرض عليهم غَفُوراً (٤١) أي محّاء لذنوب من تاب. وإن استحق العقاب وَأَقْسَمُوا أي كفار مكة بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، أي غاية اجتهادهم في الإيمان لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أي لما بلغ قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أسرع إجابة من كل الأمم، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي فما صح لهم مجيء رسول وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأكرمهم خلقا ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢)، أي تباعدا عن الحق اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، إعراضا عن الإيمان وهو بدل من «نفورا». وَمَكْرَ السَّيِّئِ وهو معطوف على «نفورا»، وهو جميع ما صدر منهم من القصد إلى الإيذاء به صلّى الله عليه وسلّم، ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي ولا يحيط المكر السيئ إلّا بفاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي ما ينتظرون إلا عادة الله في الأولين من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم، فإن سنة الله الإهلاك بالشرك والإكرام على الإسلام فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنه سنة من سنن الله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣) فإن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا ينقل عن مستحقه إلى غيره، فبهذا يتم تهديد المسيء. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي اقعدوا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أي من قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقد كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم، وأملهم كان فوق أملهم لطول أعمارهم، وشدة اقتدارهم، وعملهم كان دون عملهم، لأنهم لم يكذبوا محمدا، ولا مثل محمد، وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه من الرسل. فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم فما نفعهم طول المدى، وما دفع عنهم شدة القوى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي إن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً (٤٤) على إهلاكهم واستئصالهم وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من السيئات كما فعل بأولئك الأولين ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من ذوى روح تدب عليها وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي إلى وقت معلوم عند الله تعالى، فللعذاب أجل، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي وحصول يأس الناس عن إيمانهم، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)، أي فإذا جاء أجلهم وهو يوم القيامة، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو يوم القتل والأسر، فإن الله يجازيهم عند ذلك بأعمالهم، لأن الله تعالى كان بصيرا بعباده. وهذا تسلية للمؤمنين، وذلك لأن الله تعالى لما قال ما ترك على ظهرها من دابة قال فإذا جاء الهلاك في الدنيا فالله بصير بالعباد، إما أن ينجي المؤمنين أو يميتهم تقريبا من الله لا تعذيبا.
282
Icon