تفسير سورة الواقعة

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية وآياتها ست وتسعون، وهي حافلة بأخبار القيامة وما يقع فيها وبين يديها من الأهوال الجسام والبلايا الرعيبة، ومثل هذه الحقائق المذهلة تتراءى للخيال من الآيات والكلمات التي تضمنتها هذه السورة، وهي آيات وكلمات تثير من عجائب الذكرى ما ينشر في النفس الفزع والرهبة، وهذه حقيقة يستيقنها المتدبر وهو يتلو كلمات ربه في قوله :﴿ إذا رجت الأرض رجا ٤ وبسّت الجبال بسّا ٥ فكانت هباء منبثا ﴾ وفي السورة بيان بفئات العباد الثلاث يوم القيامة وهم أهل اليمين، وأهل الشمال، والسابقون المقربون، وما أعده الله لكل فئة من الجزاء، إلى غير ذلك من ألوان المواعظ والترهيب.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إذا وقعت الواقعة ١ ليس لوقعتها كاذبة ٢ خافضة رافعة ٣ إذا رجت الأرض رجا ٤ وبست الجبال بسا ٥ فكانت هباء منبثا ٦ وكنتم أزواجا ثلاثة ٧ فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ٨ وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ٩ والسابقون السابقون ١٠ أولئك المقربون ١١ في جنات النعيم ﴾.
ذلك إعلان من الله بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن هذه حقيقة كائنة لا محالة فلا يصرفها صارف ولا يدفعها دافع، وأن الناس حينئذ أصناف ثلاثة، صنفان في الجنة وثالث في النار. وهو قوله :﴿ إذا وقعت الواقعة ﴾ والواقعة اسم من أسماء القيامة. وقد سميت بذلك لتحقق وقوعها إذا شاء الله لها أن تقع. على أن التعبير باسم الفاعل في الواقعة ينبه إلى القيامة كائنة حقا وأن وقوعها آت لا شك فيه.
قوله :﴿ ليس لوقعتها كاذبة ﴾ حين تقوم القيامة ليس من نفس تكذب على الله كما كانت تكذب في الدنيا. وقيل : كاذبة، يعني لابد أن تكون.
قوله :﴿ خافضة رافعة ﴾ أي ترفع أقواما وتخفض آخرين، أو تخفض أقواما إلى الجحيم وإن كانوا أعزة في الدنيا. وترفع آخرين إلى جنات النعيم وإن كانوا في دنياهم من العالة والبائسين. أو أن ما يصيبها من خفض ورفع بسبب ما يأتي على الكون من اضطراب وارتجاج وزلزال، وحينئذ تضطرب الأجرام وتنتثر الكواكب والنجوم. وتلكم أحداث كونية هائلة لا جرم أن تضطرب الأرض فيصيبها من الخفض والرفع ما يصيبها ويؤيد ذلك قوله سبحانه :﴿ إذا رجت الأرض رجا ﴾.
قوله :﴿ إذا رجت الأرض رجا ﴾ أي اهتزت وزلزلت زلزالا شديدا فينهدم كل ما عليها من بناء وجبال ونحوهما.
قوله :﴿ وبست الجبال بسا ﴾ من البس، أو اتخاذ البسيسة وهو أن يلتّ السويق أو الدقيق أو الأقط المطحون بالسمن أو الزيت١ أي، فتتت فتا فصارت حبات مبعثرة كحبات السويق.
١ القاموس المحيط ص ٦٨٥..
قوله :﴿ فكانت هباء منبثا ﴾ أي صارت غبارا متفرقا تذروه الرياح.
قوله :﴿ وكنتم أزواجا ثلاثة ﴾ أي تكونون يوم القيامة ثلاثة أصناف : صنفان في الجنة وصنف في النار. ثم بين ذلك بقوله :﴿ فأصحاب الميمنة ﴾.
قوله :﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ مبتدأ. والمراد بهم المؤمنون الذين يؤتون صحائف أعمالهم بأيمانهم ﴿ ما أصحاب الميمنة ﴾ جملة اسمية من مبتدأ وخبره. والجملة في موضع رفع خبر المبتدأ الأول. والاستفهام للتعجيب من عظيم شأنهم وما هم فيه من السعادة.
قوله :﴿ وأصحاب المشأمة ﴾ وهم الأشقياء الذين يؤتون صحائف أعمالهم بشمائلهم ﴿ ما أصحاب المشأمة ﴾ تعجيب مما هم فيه من التعس والشقاء.
قوله :﴿ والسابقون السابقون ﴾ السابقون، مبتدأ. والسابقون بعد خبره. وقيل : السابقون، الثاني تأكيد للأول. والخبر، الجملة بعده. أما السابقون فهم الذين يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات ويعلمون الصالحات من أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من وجوه العبادات والقربات. أولئك السابقون إلى السعادة والنجاة والفوز بجنة الله ورضوانه.
قوله :﴿ أولئك المقربون ﴾ وهم أولو الدرجات الرفيعة والمراتب العالية في الآخرة وذلك بسبقهم في الطاعات والخيرات في الدنيا.
قوله :﴿ في جنات النعيم ﴾ ذلك جزاء المؤمنين السابقين فإنهم صائرون إلى جنات النعيم١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٨٥ وتفسير النسفي جـ ٤ ص ٢١٥..
قوله تعالى :﴿ ثلّة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ على سرر موضونة ١٥ متكئين عليها متقابلين ١٦ يطوف عليهم ولدان مخلدون ١٧ بأكواب وأباريق وكأس من معين ١٨ لا يصدعون عنها ولا ينزفون ١٩ وفاكهة مما يتخيرون ٢٠ ولحم طير مما يشتهون ٢١ وحور عين ٢٢ كأمثال اللؤلؤ المكنون ٢٣ جزاء بما كانوا يعملون ٢٤ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ٢٥ إلا قيلا سلاما سلاما ﴾.
الثلة بمعنى الجماعة الكثيرة. فقد أخبر الله أن السابقين المقربين ثلة، أي جماعة من الأولين، وقليل من الآخرين : واختلف أهل التأويل في المراد بالأولين والآخرين وثمة قولان في ذلك : أحدهما : أن المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين هذه الأمة، أي أن المقربين أولي الدرجات العالية في الجنة، كثير منهم من الأولين وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، وقليل منهم من الآخرين أي من هذه الأمة. ونجد بعد التأمل أن في هذا القول نظرا، لأن هذه الأمة خير الأمم فيبعد أن يكون المقربون في غيرها من الأمم السالفة أكثر منها.
القول الثاني : وهو الراجح. وخلاصته أن الثلة من الأولين، من صدر هذه الأمة. وأن القليل من الآخرين، من هذه الأمة أيضا. فالثلة من الأولين والقليل من الآخرين جميعهم من هذه الأمة. والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ وقليل من الآخرين ﴾ الثلة بمعنى الجماعة الكثيرة. فقد أخبر الله أن السابقين المقربين ثلة، أي جماعة من الأولين، وقليل من الآخرين : واختلف أهل التأويل في المراد بالأولين والآخرين وثمة قولان في ذلك : أحدهما : أن المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين هذه الأمة، أي أن المقربين أولي الدرجات العالية في الجنة، كثير منهم من الأولين وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، وقليل منهم من الآخرين أي من هذه الأمة. ونجد بعد التأمل أن في هذا القول نظرا، لأن هذه الأمة خير الأمم فيبعد أن يكون المقربون في غيرها من الأمم السالفة أكثر منها.
القول الثاني : وهو الراجح. وخلاصته أن الثلة من الأولين، من صدر هذه الأمة. وأن القليل من الآخرين، من هذه الأمة أيضا. فالثلة من الأولين والقليل من الآخرين جميعهم من هذه الأمة. والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ على سرر موضونة ﴾ يعني منسوجة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت. والموضونة المنسوجة حلقتين حلقتين أو بالجواهر. وضن الشيء يضنه فهو موضون ووضين أي ثنى بعضه على بعض١.
١ القاموس المحيط ص ١٥٩٨..
قوله :﴿ متكئين عليها متقابلين ﴾ متكئين منصوب على الحال. أي استقروا عليها جالسين ينظر بعضهم في وجوه بعض وهم في غاية المودة والاستئناس.
قوله :﴿ يطوف عليهم ولدان مخلدون ١٧ بأكواب وأباريق وكأس من معين ﴾ ولدان، جمع وليد. وهم غلمان في الجنة مخلدون. أي باقون أبدا على شكل الولدان لا يتغيرون ولا يشيبون، وهم على الدوام قائمون على خدمة المؤمنين، إذ يدورون عليهم بأكواب وهي آنية لا خراطيم لها، وأباريق جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة ﴿ وكأس من معين ﴾ أي من خمر من عين جارية.
وهذه حال المؤمنين المنعمين في الجنة وهم جالسون متقابلين، تحفهم من الله العناية والسلامة من كل مكروه وتغشاهم السكينة والرحمة، ومن بين أيديهم الغلمان المخلدون يدأبون على خدمتهم. وهم صنف كريم مميز من غلمان الجنة أولو صباحة وإشراق، يشيعون في الجلسات ظلالا من نسائم الرحمة والبركة.
قوله :﴿ بأكواب وأباريق وكأس من معين ﴾ ولدان، جمع وليد. وهم غلمان في الجنة مخلدون. أي باقون أبدا على شكل الولدان لا يتغيرون ولا يشيبون، وهم على الدوام قائمون على خدمة المؤمنين، إذ يدورون عليهم بأكواب وهي آنية لا خراطيم لها، وأباريق جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة ﴿ وكأس من معين ﴾ أي من خمر من عين جارية.
وهذه حال المؤمنين المنعمين في الجنة وهم جالسون متقابلين، تحفهم من الله العناية والسلامة من كل مكروه وتغشاهم السكينة والرحمة، ومن بين أيديهم الغلمان المخلدون يدأبون على خدمتهم. وهم صنف كريم مميز من غلمان الجنة أولو صباحة وإشراق، يشيعون في الجلسات ظلالا من نسائم الرحمة والبركة.
قوله :﴿ لايصدعون عنها ولا ينزفون ﴾ لا يصدعون، أي لا يجدون منها الصداع في رؤوسهم. وقد روي عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السكر، والصداع والقيء والبول. فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال، ﴿ ولا ينزفون ﴾ أي لا تذهب الخمرة بعقولهم. نزف الرجل إذا ذهب عقله بالسكر.
قوله :﴿ وفاكهة مما يتخيرون ﴾ يأكلون من الفاكهة ما يختارون فهي كثيرة ومستطابة.
قوله :﴿ ولحم طير مما يشتهون ﴾. ويتناولون من الطير ما يحبون ويتمنون.
قوله :﴿ وحور عين ﴾ حور، جمع حوراء. وعين، جمع عيناء، وهؤلاء صنف من النساء في الجنة جعلهن للمؤمنين جزاء بما كانوا يتقون ويطيعون، وقد وصف نساء الجنة من الحور العين باللؤلؤ في صفائه وبياضه ﴿ المكنون ﴾ أي المصون مما يغير صفاءه ونقاءه.
قوله :﴿ كأمثال اللؤلؤ المكنون ﴾ حور، جمع حوراء. وعين، جمع عيناء، وهؤلاء صنف من النساء في الجنة جعلهن للمؤمنين جزاء بما كانوا يتقون ويطيعون، وقد وصف نساء الجنة من الحور العين باللؤلؤ في صفائه وبياضه ﴿ المكنون ﴾ أي المصون مما يغير صفاءه ونقاءه.
قوله :﴿ جزاء بما كانوا يعملون ﴾ جزاء منصوب على أنه مفعول لأجله، أي جزاهم الله كل هذا الجزاء بسبب ما قدموه في الدنيا من صالح الأعمال والطاعات.
قوله :﴿ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ﴾ أي لا يسمع المؤمنون في الجنة كلاما باطلا أو مهينا أو عبثا لا فائدة فيه ولا معنى ﴿ ولا تأثيما ﴾ يعني ولا كلاما مستقبحا.
قوله :﴿ إلا قيلا سلاما سلاما ﴾ قيلا، مستثنى منصوب. وهو استثناء منقطع. وسلاما، بدل من ﴿ قيلا ﴾ أي لا يسمعون إلا التسليم، وهو ان يسلم بعضم على بعض في الجنة فيشيع فيهم الإيناس والمودة١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٨٩ وتفسير النسفي جـ ٤ ص ٢١٦..
قوله تعالى :﴿ وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين٢٧ في سدر مخضود ٢٨ وطلح منضود ٢٩ وظل ممدود ٣٠ وماء مسكوب ٣١ وفاكهة كثيرة ٣٢ لا مقطوعة ولا ممنوعة ٣٣ وفرش مرفوعة ٣٤ إنا أنشأناهن إنشاء ٣٥ فجعلناهن أبكارا ٣٦ عربا أترابا ٣٧ لأصحاب اليمين ٣٨ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الآخرين ﴾.
ذلك إخبار من الله عما أعده لأصحاب اليمين من أصناف النعيم في الجنة. فقال سبحانه :﴿ وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ﴾ ذكر أصحاب اليمين وهم صنف من المؤمنين المتقين.
ثم ذكر مايصيرون إليه يوم القيامة فقال :﴿ في سدر مخضود ﴾. والسدر، شجر النبق. والمخضود الذي ليس له شوك أو المقطوع، خضد الشجر أي قطع شوكه١.
١ القاموس المحيط ص ٣٥٧..
قوله :﴿ وطلح منضود ﴾ الطلح، شجر الموز. والمنضود، المتراكم الثمر. نقول : نضد متاعه ينضده، أي جعل بعضه فوق بعض١.
١ القاموس المحيط ص ٤١١..
قوله :﴿ وظل ممدود ﴾ أي ممتد منبسط لا ينقطع، فإن الجنة لا شمس فيها ولا حر، مثل قبل طلوع الفجر.
قوله :﴿ وماء مسكوب ﴾ أي سائح يجري على الأرض في غير أخدود.
قوله :﴿ وفاكهة كثيرة ٣٢ لا مقطوعة ولا ممنوعة ﴾ فواكه الجنة على اختلاف أصنافها وألوانها وروائحها وطعومها كثيرة، لا تنقطع صيفا ولا شتاء، ولا يمنع أهلها من تناولها مانع.
قوله :﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ﴾ فواكه الجنة على اختلاف أصنافها وألوانها وروائحها وطعومها كثيرة، لا تنقطع صيفا ولا شتاء، ولا يمنع أهلها من تناولها مانع.
قوله :﴿ وفرش مرفوعة ﴾ المراد بالفرش النساء. ويدل على هذا قوله :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾.
قوله :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ﴾ أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة وقيل : أعدنا إنشاءهن أبكارا.
فبعد ما كن عجائز صرن أبكارا. وهو قوله :﴿ فجعلناهن أبكارا ٣٦ عربا أترابا ﴾. أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة وقيل : أعدنا إنشاءهن أبكارا. فبعد ما كن عجائز صرن أبكارا.
قوله :﴿ عربا أترابا ﴾ عربا، أي متحببات إلى أزواجهن بالظرافة والملاحة والرشاقة والأناقة. وأترابا، أي على ميلاد واحد، فهن مستويات في السن. فقد روي أن عجوزا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال : " إن الجنة لا تدخلها عجوز " فولت تبكي. فقال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول :﴿ إن أنشأناهن إنشاء ٣٥ فجعلناهن أبكارا ﴾ ".
قوله :﴿ لأصحاب اليمين ﴾ أي جعلهن الله أبكارا ﴿ لأصحاب اليمين ﴾ ثم بين من هم أصحاب اليمين بقوله :﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الأخرين ﴾.
قوله :﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الأخرين ﴾ أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين. وروي عن ابن عباس في قوله :﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الأخرين ﴾ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هما جميعا من أمتي ".
على أنه قال قبل هذا :﴿ وقليل من الأخرين ﴾ ثم قال هنا :﴿ وثلة من الأخرين ﴾ لأن ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعا١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٩٤ وتفسير النسفي جـ ٤ ص ٢١٦، ٢١٧..
قوله :﴿ وثلة من الأخرين ﴾ أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين. وروي عن ابن عباس في قوله :﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الأخرين ﴾ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هما جميعا من أمتي ".
على أنه قال قبل هذا :﴿ وقليل من الأخرين ﴾ ثم قال هنا :﴿ وثلة من الأخرين ﴾ لأن ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعا١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٩٤ وتفسير النسفي جـ ٤ ص ٢١٦، ٢١٧..
قوله تعالى :﴿ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ٤١ في سموم وحميم ٤٢ وظل من يحموم ٤٣ لا بارد ولا كريم ٤٤ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ٤٥ وكانوا يصرون على الحنث العظيم ٤٦ وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنّا لمبعثون ٤٧ أو آباؤنا الأولون ٤٨ قل إن الأولين والأخرين ٤٩ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ٥٠ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ٥١ لأكلون من شجر من زقوم ٥٢ فمالئون منها البطون ٥٣ فشاربون عليه من الحميم ٥٤ فشاربون شرب الهيم ٥٥ هذا نزلهم يوم الدين ﴾.
وذلك إخبار عن حال الأشقياء الخاسرين وما يصيرون إليه من التعس وسوء العذاب حيث السموم والحميم واليحموم والزقوم بما كانوا يكفرون بآيات الله ويتخذون من دونه آلهة وأربابا. وهو قوله :﴿ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ﴾ يبين الله ما يصير إليه أهل الشمال وهم أهل المشأمة والخسران، فيقول :﴿ في سموم وحميم ﴾.
قوله :﴿ في سموم وحميم ﴾ والسموم هو الهواء الحار الذي يصعد من النار. والحميم هو الماء الشديد الحرارة.
قوله :﴿ وظل من يحموم ﴾ وهو الدخان الأسود.
قوله :﴿ لابارد ولا كريم ﴾ إنه ظل ولكن ليس كسائر الظلال بل إنه ظل حار وضار، فهو ليس طيب الهبوب ولا كريم المنظر.
قوله :﴿ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ﴾ أي كانوا في الدنيا لاهين غافلين منعمين في الشهوات واللذات فأعماهم ذلك عن الحق وعن منهج الله العظيم، وطريقه المستقيم.
قوله :﴿ وكانوا يصرون على الحنث العظيم ﴾ الحنث في اللغة بمعنى، الإثم، والحلف في اليمين١ والمراد في الآية الشرك، واتخاذ الأوثان والأنداد أربابا من دون الله.
١ القاموس المحيط ص ٢١٥..
قوله :﴿ وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنّا لمبعوثون ﴾ هؤلاء المشركون الجاحدون كانوا يقولون : أنبعث عقب الموت بعد أن كنا رفاتا وحطاما.
قوله :﴿ أو آباؤنا الأولون ﴾ الهمزة للإستفهام والإنكار، والواو للعطف. فهم بذلك يكذبون بالساعة، لكن الله يؤكد أنهم مبعثون لا محالة ليوم القيامة، وهو قوله :﴿ قل إن الأولين والأخرين ٤٩ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ﴾.
قوله :﴿ قل إن الأولين والأخرين ٤٩ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ﴾ إن الله جامع الناس جميعا- الأولين والآخرين ﴿ إلى ميقات يوم معلوم ﴾ أي إلى ما حد من يوم معين عند الله، معلوم له سبحانه.
قوله :﴿ لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ﴾ } إن الله جامع الناس جميعا- الأولين والآخرين ﴿ إلى ميقات يوم معلوم ﴾ أي إلى ما حد من يوم معين عند الله، معلوم له سبحانه.
قوله :﴿ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ٥١ لأكلون من شجر من زقوم ﴾ الزقوم شجرة في جهنم ثمرها خبيث يأكل منه أهل النار.
قوله :﴿ لأكلون من شجر من زقوم ﴾ الزقوم شجرة في جهنم ثمرها خبيث يأكل منه أهل النار.
قوله :﴿ فمالئون منها البطون ﴾ تمتلئ بطونهم من الزقوم فيعطشون، فيضطرون لشدة عطشهم أن يشربوا من الحميم وهو ماء بالغ الحرارة.
قوله :﴿ فشاربون عليه من الحميم ﴾ تمتلئ بطونهم من الزقوم فيعطشون، فيضطرون لشدة عطشهم أن يشربوا من الحميم وهو ماء بالغ الحرارة.
قوله :﴿ فشاربون شرب الهيم ﴾ الهيم، الإبل العطاش. وهو جمع ومفرده أهيم، وهيمان. أي عطشان. والأنثى هيماء١ فهم عقب أكلهم من الزقوم وقد امتلأت منه البطون يصيبهم من شديد الظمأ ما يصيبهم، فيشربون من الماء الحار شرب الإبل الظّمأ التي تغبّ لفرط عطشها غبا. إن ذلكم تصوير ظاهر ومريع يكشف عن حال الخاسرين في النار وهم يغبّون من الحميم الذي تناهت فيه الحرارة فتتقطع به أمعاؤهم.
١ القاموس المحيط ص ١٥١٣..
قوله :﴿ هذا نزلهم يوم الدين ﴾ الإشارة، إلى ما ذكر من عذاب الخاسرين في النار، فإنه : نزلهم أي ضيافتهم عند ربهم يوم القيامة١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٩٦ وتفسير النسفي جـ ٤ ص٢١٨..
قوله تعالى :﴿ نحن خلقناكم فلولا تصدقون ٥٧ أفرأيتم ما تمنون ٥٨ ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ٥٩ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ٦٠ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ٦١ ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ﴾.
ذلك تقرير لحقيقة المعاد الذي لا ريب فيه، إذ يرد الله مقالة الكافرين الذين يكذبون بيوم القيامة ويجحدون البعث والنشور بعد الموت، وقد صاروا عظاما نخرة. فقال سبحانه :﴿ نحن خلقناكم فلولا تصدقون ﴾ يعني نحن بدأنا خلقكم ولم تكونوا شيئا. فلئن كنا قادرين على البداءة، فأحرى أن نقدر على الإعادة ﴿ فلولا تصدقون ﴾ لولا، أداة تحضيض بمعنى هلا، أي فهلا تصدقون بأنكم مبعوثون ليوم القيامة.
قوله :﴿ أفرأيتم ما تمنون ﴾ يعني أفرأيتم ما تقذفونه من الأرحام من النطف المستقذرة المهينة لتمرّ في مراحل متطورة من النمو، مرحلة عقب مرحلة، فتصير بعد ذلك بشرا يمشون على الأرض، بشرا يفكرون ويدبرون ويعلمون.
قوله :﴿ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ﴾ أأنتم الذين جعلتم النطف المستقدرة المهينة بشرا سويا منتشرا في الأرض، مختلف الأجناس والألوان واللغات والطبائع والأهواء والصفات، أم الله الخالق المقتدر.
قوله :﴿ نحن قدرنا بينكم الموت ﴾ أي كتبنا الموت عليكم جميعا وجعلنا لكل منكم وقتا ينتهي فيه أجله، وجعلناه بينكم مختلفا متفاوتا فتتفاوت بذلك آجالكم وأعماركم ﴿ وما نحن بمسبوقين ﴾ أي لا يقدر أحد أن يسبقنا فيهرب من الموت ويتجاوز أجله المحتوم، أو وما نحن بعاجزين ﴿ على أن نبذل أمثالكم ﴾.
قوله :﴿ على أن نبذل أمثالكم ﴾ أي نبدل مكانكم أشباهكم من الخلق يوم القيامة، ، وأمثال جمع مثل. قوله :﴿ وننشئكم في ما لا تعلمون ﴾ أي نحن قادرون على أن ننشئكم في خلق لا تعلمونه. وبذلك فإنا قادرون على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فأولى أن نكون قادرين على بعثكم وإعادتكم يوم الحساب.
قوله :﴿ ولقد علمتم النشأة الأولى ﴾ أي أنتم تعلمون وتوقنون أن الله خلقكم من ماء مستقذر مهين فجعلكم بشرا سويا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴿ فلولا تذكرون ﴾ أي هلا تتذكرون وتوقنون أن الذي قدر على نشأتكم الأولى هذه وهي البداءة لقادر على إعادتكم وبعثكم يوم القيامة١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٩٧ وتفسير البيضاوي ص ٧١٢..
قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ما تحرثون ٦٣ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ٦٤ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ٦٥ إنا لمغرمون ٦٦ بل نحن محرومون ٦٧ أفرأيتم الماء الذي تشربون ٦٨ أأنتم أنزلتموه من المزن أو نحن المنزلون ٦٩ لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ٧٠ أفرأيتم النار التي تورون ٧١ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ٧٢ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ٧٣ فسبح باسم ربك العظيم ﴾.
هذه جملة أدلة من ظواهر الطبيعة تشير إلى عظمة الخالق القادر، إذ قال الله عز و علا :﴿ أفرأيتم ما تحرثون ﴾ تحرثون من الحراثة وهي إثارة الأرض بشقها لإلقاء البذر فيها.
قوله :﴿ أأنتم تزرعونه ﴾ يعني أأنتم الذين تنبتون الزرع ليخرج في الأرض ناميا قائما على ساقه بعد أن كان صنفا من الحب اليابس ﴿ أم نحن الزارعون ﴾ يعني أم نحن المنبتون، إذ نخرج الزرع من الحبة اليابسة الملقاة في الأرض المشقوقة بالحراثة، فأنتم لا تستطيعون غير إلقاء البذار في الأرض ولا تملكون بعد ذلك إنبات الحبة فتكون زرعا ناميا مخضرا، وإنما منوط بقدرة الله فهوالذي ينبت الزرع. وفي هذا روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يقولن أحدكم : زرعت ولكن قل : حرثت ".
قوله :﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما ﴾ لقد أنبتنا لكم الزرع بقدرتنا ورحمتنا، ولو شئنا لما أنبتناه بل لجعلناه هشيما يابسا قبل إدراكه واستحصاده.
قوله :﴿ فظلتم تفكّهون ﴾ أي تعجبون مما حصل ومما أصاب زرعكم من التحطيم والتهشيم، أو تندمون على ما أصبتم من المعاصي التي كانت سببا في عقابكم هذا. ثم تقولون :﴿ إنا لمغرمون ٦٦ بل نحن محرومون ﴾.
قوله :﴿ إنا لمغرمون ٦٦ بل نحن محرومون ﴾. لمغرمون، أي لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو إنا لمهلكون بهلاك رزقنا. ومغرمون، من الغرام وهو الشر الدائم، والهلاك، والعذاب، والغرامة، ما يلزم أداؤه، كالغرم١.
١ القاموس المحيط ص ١٤٧٥..
قوله :﴿ بل نحن محرومون ﴾ أي لا يثبت لنا مال، وليس لنا حظ، أو حرمنا الرزق.
قوله :﴿ أفرأيتم الماء الذي تشربون ﴾ أي الماء العذب الطهور الذي يصلح للشرب.
قوله :﴿ أأنتم أنزلتموه من المزن ﴾ المزن، معناه السحاب أو أبيض السحاب، والقطعة الواحدة منه، المزنة١ أي أأنتم أنزلتم ههذا المطر النقي الطهور من السحاب في السماء، إنكم لا تقدرون على شيء من ذلك ﴿ أم نحن المنزلون ﴾ نحن أنزلنا إليكم من السماء وليس من أحد غيرنا، قادرا أن ينزله من السماء إلى الأرض.
١ القاموس المحيط ص ١٥٩٢..
قوله :﴿ لو نشاء جعلناه أجاجا ﴾ أي لو أردنا أن نجعله ملحا زعاقا لجعلناه وحينئذ لا يصلح لشرب ولا زرع.
قوله :﴿ فلولا تشكرون ﴾ لولا، أداة تحضيض. يعني شكرتم الله على ما أنعم به عليكم من خيرات الأرض وبركات السماء، إذ أنبت لكم من الأرض الزرع وأنزل إليكم من السماء ماء نقيا طهورا تشربونه وتسقون منه زرعكم.
قوله :﴿ أفرأيتم النار التي تورون ﴾ ﴿ تورون ﴾ من الوري والورية أي النار. روى الزند وريا إذا خرجت ناره، والمعنى : أرأيتم النار التي تقدحونها، وتستخرجونها من الزناد.
قوله :﴿ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون ﴾ أأنتم أودعتم هذه النار في مواضعها، بل الله يفعل ذلك بما أودعه في صنفين من الشجر وهما المرخ والعفار. فإذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر ظهر من بينهما شرر النار. وكذلك أودع الله هذه الخاصية في غير هاتين الشجرتين، فقد أودعها في الأحجار والحديد، حتى إذا تحاكت قطعتان منهما خرج من بينهما الشرر وأوقدت النار.
وهذه من جملة الخصائص الكثيرة التي جعلها الله من أجزاء الطبيعة ومنها خاصية الكهرباء التي تتولد من الأجسام بطرق معلومة لتتولد من ذلك طاقات هائلة يسخرها الإنسان المعاصر في غالب شؤون الحياة. إن ذلكم مما أودعه الله من خصائص كامنة في كثير من أجزاء الطبيعة. وهي خصائص لا تكون إلا بقدرة الله ومن خلقه.
قوله :﴿ نحن جعلناها تذكرة ﴾ أي جعلنا هذه النار التي تورونها في الدنيا ﴿ تذكرة ﴾ أي تذكر الناس بالنار الكبرى وهي نار جهنم. فقد أنيط بنار الدنيا أكثر أسباب الحياة والمعاش، فهي بذلك حاضرة للناس ينظرون إليها في كل حين فيتذكرون نار جهنم ليعتبروا ويتعظوا، أو ليتذكر الناس عظيم قدرة الله وأنه لا يعز عليه إحياء الموتى وبعث الناس من قبورهم ليلاقوا الحساب يوم القيامة.
قوله :﴿ ومتاعا للمقوين ﴾ من القواء والقي، بكسر القاف، يعني قفر الأرض. وأقوات الدار أي خلت من أهلها١. أي وجعلناها منفعة للمسافرين الذين ينزلون القواء وهي الأرض القفر، أو للذين خلت بطونهم من الطعام فجاعوا. وقيل : للمقوين يعني المستمتعين من الناس أجمعين سواء فيهم الحاضر أو المسافر، فالجميع محتاجون للنار من أجل الطبخ والاصطلاء والاستضاءة والاستئناس وغير ذلك من وجوه المنافع.
١ القاموس المحيط ص ١٧١٠..
قوله :﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ أي نزهه عما لا يليق به من الصفات، وعظّمه في نفسك تعظيما بما سخره لك من جزيل النعم والآلاء المبثوثة في كل جوانب الحياة والطبيعة١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٩٨، وتفسير النفسي جـ ٤ ص ٢٢٠..
قوله تعالى :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ٧٥ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ٧٦ إنه لقرآن كريم ٧٧ في كتاب مكنون ٧٨ لا يمسه إلا المطهرون ٧٩ تنزيل من رب العالمين ٨٠ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ٨١ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾.
يقسم الله بأجزاء من خلقه على أن هذا القرآن حق وأنه كتاب كريم ومبارك أنزله على رسول الأمين. وهو قوله سبحانه :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ﴾ لا، زائدة للتأكيد، أي أقسم بمواقع النجوم، واختلفوا في المراد بمواقع النجوم، فقد قيل : مواقع النجوم، يعني نجوم القرآن. فقد نزل منجما أي مفرقا. وقيل : مواقع النجوم، مساقطها، ومغاربها ففي هذا الوقت من مغيب النجوم في آخر الليل يعظم أجر المتهجدين وتتنزل الرحمة على المؤمنين. فلذلك أقسم الله بمواقع النجوم على هذا المعنى.
وقيل : مواقعها، أي منازلها، ولعل هذا هو الصواب، وذلك بما نستقرئه عن حقيقة هذا الكون الهائل في سعته العظيمة وانبساطه المديد، فما تكشف عنه الدراسات الفلكية الحديثة من حقائق عن مساحة هذا الكون الرحيب لا جرم تثير الذهول والعجب، وذلك لفرط اتساعه، وعظيم حجمه، فقد أقسم الله بهذه المواقع مما يشير إلى سعة الكون وعظيم امتداده.
قوله :﴿ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ﴾ يعني إن هذا القسم الذي أقسمت به لكم لقسم عظيم، ولو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه وهو قوله :﴿ إنه لقرآن كريم ﴾.
قوله :﴿ إنه لقرآن كريم ﴾ كريم في نفسه وكريم على الله، وهو مبارك عظيم المنافع، لاشتماله على أصول المعارف والحقائق والأحكام التي يصلح عليها العباد في معاشهم ومعادهم.
قوله :﴿ في كتاب مكنون ﴾ وهو اللوح المحفوظ فإنه مكنون أي مصون فلا يأتيه الباطل ولا يطلع عليه غير الملائكة المقربين.
قوله :﴿ لا يمسّه إلا المطهرون ﴾ الجملة صفة، والموصوف يحتمل وجهين : أحدهما : أنه الكتاب المكنون وهو الللوح المحفوظ. فإنه لا يمسه إلا من كان مطهرا من الأدناس وهم الملائكة المقربون. وثانيهما : أنه القرآن، فيكون المعنى : لا ينبغي أن يمس القرآن من الناس إلا من كان مطهرا من الجنابة والحدث، ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب، وهذا هو الأظهر والراجح. فقد روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو " وكذلك ما أخرجه مالك في موطئه عن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن إلا طاهر ".
قوله :﴿ تنزيل من رب العالمين ﴾ وهذه صفة أخرى للقرآن العظيم. فإنه منزل من عند الله رب العالمين، وهو ليس كما يفتري المكذبون وأهل المراء بأنه سحر أو كهانة أو شعر. فما هو بشيء من ذلك بل إنه كلام حق مستقل مميز في نطمه وأسلوبه وعظيم مدلوله ومعناه.
قوله :﴿ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ﴾ الاستفهام للإنكار، ومدهنون أي متهاونون. والمعنى : أبهذا القرآن العظيم المعجز تتهاونون، فما ينبغي لكم أن تتساهلوا في كلام الله فإنه الكلام الكريم المشتمل على معاني الحق والفضيلة، وأصول العلم واليقين من العقيدة والحكمة والتشريع، ومدهنون من المداهنة وهي إظهار خلاف ما يضمر. ودهن، بمعنى نافق١.
١ القاموس المحيط ص ١٥٤٦..
قوله :﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾ أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب أي وضعتم التكذيب موضع الشكر. وقيل : رزقكم بمعنى شكركم، أي وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون، أي تكذبون بدل الشكر. ويقوي هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد عن علي ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ﴿ وتجعلون رزقكم ﴾ يقول : شكركم. ﴿ أنكم تكذّبون ﴾ تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا " ١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٠٠ وتفسير جـ ٤ ص ٢٢٠..
قوله تعالى :﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم ٨٣ وأنتم حينئذ تنظرون ٨٤ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ٨٥ فلولا إن كنتم غير مدينين ٨٦ ترجعونها إن كنتم صادقين ﴾.
ذلك ضرب من التعجيز والتحدي لأولئك المشركين المكذبين الذين لم تعطف قلوبهم الموعظة ولم تثنهم الآيات والدلائل عن الضلال والشرك والتلبس بالباطل. فقال سبحانه :﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم ﴾ لولا، للتخضيض. يعني، هلا إذا بلغت الروح الحلقوم حين الاحتضار.
قوله :﴿ وأنتم حينئذ تنظرون ﴾ أي وأنتم تنظرون إلى المختضر وهو يكابد الموت وسكراته فلا يملك أحد ممن حوله من الأهل والصحاب أن يساعفه بشيء أو يدفع عنه غمرة من غمرات الموت وشدائده.
قوله :﴿ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ﴾ نحن أقرب بقوتنا وقدرتنا إلى المحتضر الذي يكابد آلام الموت، أو أقرب إليه بملائكتنا، ولكنكم لا ترون ذلك، أو لا تدركونه ولا تعلمونه.
قوله :﴿ فلولا إن كنتم غير مدينين ﴾ لولا، للتحضيض. أي هلا، إن كنتم غير محاسبين ولا مقهورين، أو غير موقنين أنكم مبعوثون ومجازون.
قوله :﴿ ترجعونها إن كنتم صادقين ﴾ أي تردون هذه الروح التي بلغت الحلقوم لصاحبها المحتضر، إن كنتم صادقين في أباطيلكم١.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٠١ وتفسير البيضاوي ص ٧١٣..
قوله تعالى :﴿ فأما إن كان من المقربين ٨٨ فروح وريحان وجنّت نعيم ٨٩ وأما إن كان من أصحاب اليمين ٩٠ فسلام لك من أصحاب اليمين ٩١ وأما إن كان من المكذّبين الضالين ٩٢ فنزل من حميم ٩٣ وتصلية جحيم ٩٤ إن هذا لهو حق اليقين ٩٥ فسبح بسم ربك العظيم ﴾.
يبين الله في هذه الآيات أحوال الناس عند احتضارهم، وهي أحوال ثلاثة : حال كل من المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين. وفي ذلك يقول الله سبحانه :﴿ فأما إن كان من المقربين ﴾ يعني إن كان المتوفى من المقربين وهم السابقون من الأزواج الثلاثة الذين ذكروا في أول السورة.
قوله :﴿ فروح وريحان ﴾ يعني فله روح، أي راحة وفرح ورحمة، وله كذلك ريحان، أي رزق طيب حسن ﴿ وجنت نعيم ﴾ له بعد ذلك جنة يتنعم فيها.
قوله :﴿ وأما إن كان من أصحاب اليمين ﴾ يعني إن كان المتوفى من أصحاب اليمين- وهم دون السابقين المقربين مرتبة - بشرته الملائكة بقولها له :﴿ فسلام لك من أصحاب اليمين ﴾.
قوله :﴿ فسلام لك من أصحاب اليمين ﴾ أي سلام لك فإنك ناج وأنت من أصحاب اليمين. يعني تسلم عليه الملائكة وتبشره بأنه من أصحاب اليمين.
على أنه لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار. فإذا أيقن أنه من أهل الجنة زهد في الدنيا وأحب الرحيل عنها للقاء الله، وإذا أيقن أنه من أهل النار كره مفارقة الدنيا وأحب أن لا يبرحها البتة. وفي ذلك روى الإمام أحمد عن عبد الرحمان بن أبي ليلى قال : رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على حمار وهو يتبع جنازة فسمعته يقول : حدثني فلان ابن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " قال : فأكبّ القوم يبكون، فقال : ما يبكيكم ؟ فقالوا : إنا نكره الموت، قال : ليس ذاك ولكنه إذا احتضر ﴿ فأما إن كان من المقربين ٨٨ فروح وريحان وجنت نعيم ﴾ فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل، والله عز وجل للقائه أحب ﴿ وأما إن كان من المكذبين الضالين ٩٢ فنزل من حميم ٩٣ وتصلية جحيم ﴾ فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره.
قوله :﴿ وأما إن كان من المكذبين الضالين ﴾ يعني إن كان المتوفى من الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة وهم أهل الشمال، أي :﴿ من المكذبين الضالين ﴾ أي من الذين يجحدون النبوة ويكذبون بيوم الدين، ومن السادرين في الضلال والباطل.
قوله :﴿ فنزل من حميم ﴾ أي ضيافتهم الحميم وهو الماء الساخن المتناهى الحرارة الذي يقطع الأمعاء والأحشاء، لفرط حرارته.
قوله :﴿ وتصلية جحيم ﴾ أي يقهر على دخول النار لتغمره من جميع جهاته.
قوله :﴿ إن هذا لهو حق اليقين ﴾ أي لهو الحق الثابت من اليقين الذي لا ريب فيه ولا محيد لأحد عنه.
قوله :﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ أي فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بجلال وجهه وعظيم شأنه، وفي هذا روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمان : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم "، وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى اله عليه وسلم :﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾. قال : " واجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في سجودكم " ١.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٠٢ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٢٢٢ وتفسير البيضاوي ص ٧١٣..
Icon