تفسير سورة فاطر

التفسير المنير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم الأوثان والأصنام، وأنذرتهم بعاقبة الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة، وقرنت هذا الإنذار برحمة الله العامة للناس جميعا حيث لم يعاجلهم العقوبة، وإنما يؤخرهم إلى أجل مسمى.
بعض أدلة القدرة الإلهية والتذكير بنعم الله وإثبات التوحيد والرسالة
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
الإعراب:
فاطِرِ السَّماواتِ فاطِرِ: إما صفة لاسم الله تعالى أو بدل.
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا رُسُلًا: مفعول به لاسم الفاعل: جاعِلِ إذا كان مرادا به الحال أو الاستقبال لأنه حينئذ يكون عاملا، أما إن أريد به الماضي كان رُسُلًا منصوبا بتقدير فعل.
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: صفة: أَجْنِحَةٍ، وهي ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، فهي معدولة عن لفظ اثنين وثلاثة وأربعة.
220
ما يَفْتَحِ اللَّهُ ووَ ما يُمْسِكْ.. ما فيهما: شرطية منصوبة ب يَفْتَحِ ويُمْسِكْ، وما الشرطية يعمل فيها ما بعدها كالاستفهامية لأن الشرط والاستفهام لهما صدر الكلام، وقوله فَلا مُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ جواب الشرط.
هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ غَيْرُ: إما مرفوع لأنه فاعل أو صفة لخالق على الموضع، وإما مجرور صفة لخالق على اللفظ، وإما منصوب على الاستثناء. ويَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ خبر المبتدأ.
البلاغة:
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها استعارة تمثيلية، أستعير الفتح لإطلاق النعم والإمساك للمنع.
يَفْتَحِ ويُمْسِكْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، من الفطر بمعنى الشق أي شق العدم بإخراج السماء والأرض جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء، أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، يبلغونهم رسالاته بالوحي، والملائكة: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أُولِي أَجْنِحَةٍ أصحاب أجنحة، فمنهم من له جناحان، ومنهم له ثلاثة، ومنهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي في خلق الملائكة وغيرها. وهو استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك مقتضى مشيئته ومؤدى حكمته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فبقدرته يزيد ما يشاء.
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ما يعطي من نعمة حسية أو معنوية، كرزق ومطر، وصحة وأمن، وعلم ونبوة وحكمة، ونحو ذلك فَلا مُمْسِكَ لَها فلا مانع لها فَلا مُرْسِلَ لَهُ يطلقه بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب، يتصرف في ملكه كما يشاء الْحَكِيمُ في فعله، يضع الأمر في موضعه المناسب، ولا معقب لحكمه، وكل ما يفعله فهو لحكمة بالغة.
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكروا نعمه، واحفظوها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وطاعة المنعم بها، ومن النعم التي كانت على أهل مكة: إسكانهم الحرم، ومنع الغارات عنهم يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وغيره من فائدة الكواكب وَالْأَرْضِ بالنبات وغيره من المعادن، والاستفهام في
221
قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ... يَرْزُقُكُمْ... للتقرير، أي لا خالق رازق غيره فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن توحيد الخالق، مع إقراركم بأنه الخالق الرازق.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد في دعوتك إلى التوحيد والبعث والحساب والعقاب فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ في ذلك، فاصبر كما صبروا. وفي هذا دعوة له للتأسي بمن قبله من الأنبياء، وتسلية عن تكذيب كفار العرب له وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي المصير النهائي المحتوم إلى الله، فيجازي كلا بما يستحقه، يجازي المكذبين، وينصر المرسلين.
التفسير والبيان:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لله الشكر الخالص على نعمه وقدرته، فإنه خلق السموات والأرض وأبدعهما، لا على مثال سابق، وأحكم نظامهما. فموضوع الآية: أن الله تعالى يحمد نفسه على عظيم قدرته وعلمه وحكمته التي يشهد عليها ابتداء خلق السموات والأرض من العدم، واختراعهما على غير مثال، قال سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: هذه بئري وأنا فطرتها» أي بدأتها.
والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة.
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي إنه تعالى جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وهم ذوو أجنحة متعددة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، وبعضهم له أكثر من ذلك، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء.
جاء في الحديث الصحيح عن مسلم عن ابن مسعود «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام، وله ستّ مائة جناح، بين كل جناحين، كما بين المشرق والمغرب».
ولهذا قال جلّ وعلا:
222
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي يزيد في خلق الملائكة أجنحة أخرى ما يشاء، ويزيد في خلق غيرهم ما يشاء، من ملاحة العين، وحسن الأنف، وحلاوة الفم، وجمال الصوت، إن الله كامل القدرة في خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية، فلا يعجز عن شيء، وبقدرته يزيد مما يشاء.
قال الزهري وابن جريح في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ:
يعني حسن الصوت «١».
وبعد بيان كمال القدرة بيّن الله تعالى أنه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر، فقال:
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي ما يعطي الله تعالى من نعمة حسيّة أو معنوية من رزق ومطر، أو صحة وأمن، أو علم ونبوة وحكمة، فلا مانع له، وما يمنع من ذلك فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، بيده الخير كله، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع،
روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من الصلاة، قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السّماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحق
(١) رواه عن الزّهري البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره.
223
ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».
ونظير الآية قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الأنعام ٦/ ١٧].
وفي موطأ مالك: بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح، وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلا مُمْسِكَ لَها.
وبعد بيان كونه تعالى مصدر الخلق والرزق والنعم، أمر بتذكر نعمه والإقرار بالتوحيد فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي يا أيها الناس قاطبة، تذكروا نعم الله عليكم، وارعوها، واحفظوها بمعرفة حقوقها والاعتراف بها، وأفردوا موجدها بالعبادة والطاعة، فهو وحده رازقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وأعلنوا توحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وإذا أقررتم بذلك، فكيف بعد هذا البيان ووضوح البرهان تصرفون عن الحق: وهو توحيد الله وشكره، وتعبدون بعد هذا الأنداد والأوثان؟! وبعد تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، قرر الله تعالى الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال مسلّيا رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون، ويعارضونك فيما جئت به من التوحيد، بعد إثباته بالأدلة والبراهين، فتأسّ بمن سلف قبلك من الرّسل، فإنهم أيضا جاؤوا قومهم بالبيّنات وأمروهم بالتوحيد، فكذبوهم وخالفوهم، ومصير
224
الجميع في النهاية إلى الله، فيجازي على ذلك أوفر الجزاء، يجازيك على صبرك، ويجازيهم على التكذيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الله تعالى هو مستحق الحمد والشكر على قدرته ونعمه وحكمته، وقد ذكرت سابقا أن هذه السورة- كما ذكر الرازي- إحدى السّور القرآنية الأربع المبدوءة بالحمد، فسورة الأنعام إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإيجاد، وسورة الكهف إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإبقاء، وسورة سبأ إشارة بالحمد إلى نعمة الإيجاد الثاني وهو الحشر، وهذه السورة إشارة بالحمد إلى نعمة البقاء في الآخرة، بدليل قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله تعالى.
٢- الله سبحانه هو مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وهو جاعل الملائكة ذوي أجنحة من اثنين إلى ثلاثة فأربعة، فأكثر، للطيران والتحليق هبوطا وصعودا بين السماء والأرض، وجاعلهم رسلا إلى الأنبياء، أو إلى العباد برحمة أو نقمة في الدنيا، ولتلقي عباد الله في الآخرة كما ذكر الرازي.
٣- الله تعالى هو الذي يزيد في مخلوقاته ما يشاء، سواء في خلق الملائكة، بالأجنحة الكثيرة، أو في الزيادة المادية الحسية أو المعنوية في خلق الناس، كالتميز بأنواع الجمال المختلفة في العينين والأنف والفم ونحوها، وحسن الصوت، وجمال الخط أو الكلام أو النّطق.
٤- الله عزّ وجلّ تامّ القدرة على كل شيء بالنّقصان والزّيادة، والإيجاد والإعدام، وغير ذلك.
225
قال الزمخشري في آية يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ..: الآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التّكلّم، وحسن تأتّ «١» في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف «٢».
٥- الله عزّ وجلّ نافذ المشيئة والإرادة والأمر، فإذا منح نعمة لأحد، فلا يقدر أحد أن يمنعها، وإذا حرم أحدا نعمة، لم يستطع أحد إعطاءه إياها.
وبما أن الرّسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه.
وتنكيره الرحمة: مِنْ رَحْمَةٍ يفيد العموم والشمول، والإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة، سماوية كانت أو أرضية.
٦- على الناس شكر نعمة الله عليهم، بحفظها وأداء حقها وذكرها باللسان والقلب، وإفراد المنعم بالطاعة والعبادة والثناء عليه بما هو أهله، وإنهاء التعلق بالأصنام والأوثان وجعلها شركاء لله، وهو أبطل الباطل الذي لا يقره العقل المتحضر، ولا الإنسان المتمدن.
٧- لا أحد على الإطلاق يأتي بالرزق، فالله تعالى مصدر الرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات.
٨- يجب على الخلق جميعا إعلان توحيد الله، فالوحدانية في صحيفة الكون، في الضمير والوجدان، ومقتضى الفطرة، وفي ميزان العقل الراقي.
(١) التأتي في الأمور: التّرفق لها، وإتيانها من وجهها، وعلاجها بحكمة.
(٢) الكشاف: ٣/ ٥٦٩
226
٩- إذ أثبت العقل ودلّت آيات القرآن والكون وحدانية الله، فكيف يصحّ للبشر الانصراف عن هذا الظاهر، وكيف يشركون المنحوت بمن له الملكوت؟! ١٠- إثبات التوحيد يستتبع إثبات الرسالة وصدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات الظاهرة، وأعلاها وأخلدها القرآن العظيم.
وإذا كذب بعض الناس قديما وحديثا رسول الله، فقد كذب الكفار عبر التاريخ أنبياءهم، وتلك ظاهرة عامة، وما على الرسول وأتباعه إلا التّأسّي بمن سبق في الصبر، والنهاية الحتمية المصيرية إلى الله، فيجازي الجميع بما يستحقون.
تقرير الحشر والتحذير من الشيطان وجزاء الكافرين والمؤمنين
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٥ الى ٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
الإعراب:
الَّذِينَ كَفَرُوا.. الَّذِينَ: إما بدل مجرور من أَصْحابِ وإما بدل منصوب من حِزْبَهُ وإما بدل مرفوع من ضمير لِيَكُونُوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ، خبره: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
حَسَراتٍ إما مفعول لأجله، أو منصوب على المصدر. وقرئ بالإمالة مع فتحة الراء وإمالتها، فمن قرأ بفتح الراء أتى بها على الأصل، ومن أمال فلأن الألف بدل عن الياء، ثم أتبع الراء إمالة الهمزة، والإتباع للمجانسة كثير في كلام العرب.
227
البلاغة:
يُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بينهما مقابلة وهي كالطباق إلا أنها تكون في أكثر من شيئين.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه، أي كمن لم يزين له سوء عمله؟ ودلّ على المحذوف بقية الآية: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. وفَمَنْ مبتدأ، وخبره:
كمن هداه الله.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ثم قال: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إطناب بتكرار الفعل.
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان.
السَّعِيرِ كَبِيرٌ سجع مؤثر على السمع.
المفردات اللغوية:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء أو الحشر والعقاب لا خلف فيه.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا لا تلهينكم ويذهلنكم التمتع بها عن الإيمان بالحشر وعن طلب الآخرة والسعي لها. وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان، بأن يمنيكم المغفرة، مع الإصرار على المعصية.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بطاعة الله، ولا تطيعوه في المعاصي، واحذروه في كل الأحوال. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يدعو أصحابه وأتباعه المتحزبين له، والمطيعين له، إلى المعاصي والكفر، لأجل أن يكونوا من أهل النار الشديدة، لعداوته لآدم وذريته. وهذا تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة أشياعه إلى اتّباع الهوى والركون إلى الدنيا.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وعيد لمن أجاب دعاء الشيطان، ووعد لمن خالفه بالإيمان والعمل الصالح بمغفرة الذنوب والأجر الكبير وهو الجنة.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي من غلب وهمه على عقله، فرأى عمله السيء صوابا، والباطل حقا، والقبيح حسنا، كمن لم يزين له؟ حذف الجواب لدلالة: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ
228
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي عليه وهو المزين له، والمعنى: فلا تهلك نفسك باغتمامك على غيّهم وكفرهم وإصرارهم على التكذيب. والحسرة: همّ النفس على فوات أمر، أي التلهف عليه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه لأنه لا تخفى عليه خافية من أفعالهم وأقوالهم.
سبب النزول: نزول الآية (٨) :
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ:
أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» فهدى الله عمر، وأضلّ أبا جهل، ففيهما أنزلت.
المناسبة:
بعد بيان الأصل الأول وهو التوحيد، والأصل الثاني وهو الرسالة، ذكر الله تعالى الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور، والحساب والعقاب، وقرر أنه حق لا شك فيه، وحذر من وسواس الشيطان في تشكيك الناس بالإيمان به، ثم صنّف الناس إزاءه صنفين: حزب الشيطان الذين لهم العذاب الشديد، وحزب الرحمن الذين لهم المغفرة والأجر الكبير وهو الجنة. ثم أبان قضية جوهرية وهي أن الضلال والهدى بيد الله حسبما يعلم من استعداد النفوس للأول أو الثاني.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يا أيها البشر جميعا إن وعد الله بالبعث والجزاء حقّ ثابت مؤكد
229
لا شك فيه، والمعاد كائن لا محالة، فلا تتلهوا بزخارف الدنيا ونعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان بالله، فيجعلكم تعيشون في الأوهام والآمال المعسولة، قائلا لكم: إن الله يتجاوز عنكم، ويغفر لكم، لسعة رحمته، فتنزلقوا في المعاصي، وتسرفوا في المخالفات، فإنه غرّار كذّاب أفّاك.
وهذه الآية كآية آخر سورة لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
ثم بيّن الله تعالى علّة عدم الاغترار بالشيطان وهي عداوة إبليس لابن آدم، فقال:
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي إن عداوة الشيطان لكم عداوة قديمة عامة ظاهرة، فعادوه أنتم أشدّ العداوة، وخالفوه وكذّبوه فيما يغركم به، بطاعة الله، ولا تطيعوه في معاصي الله تعالى.
ثم ذكر الله تعالى أغراض الشيطان ومقاصده الخبيثة فقال:
إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب النار الشديد الدائم.
جاء في حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة «١» بابن آدم وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ».
ثم ذكر تعالى جزاء حزب الشيطان وحزب الرحمن فقال:
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي إن الذين كفروا بالله ورسوله وأنكروا البعث، واتبعوا وساوس الشيطان، لهم عذاب شديد في نار جهنم لأنهم أطاعوا الشيطان، وعصوا الرحمن.
(١) اللمة: الخطرة التي تقع في القلب.
230
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي والذين صدقوا بالله ورسوله وباليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من اتّباع الأوامر واجتناب النواهي ومخالفة الشيطان وهوى النفس، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة، بسبب الإيمان والعمل الصالح وعمل الخير.
ثم بيّن تعالى الفرق بين الصنفين، فليس من عمل سيّئا كالذي عمل صالحا، فقال:
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي كيف يتساوى المسيء والمحسن، وهل يكون أولئك الكفار الفجار الذين بتزيين الشيطان وتحسين القبيح يعملون أعمالا سيّئة من كفر ووثنية وعصيان، معتقدين أنهم يحسنون صنعا، كالذين كانوا على الهدى، ويعلمون أنهم على الحق؟! والمراد بمن زين له سوء عمله: كفار قريش وأمثالهم.
وسبب ذلك ما قال تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي من شاء الله إضلاله أضلّه، ومن شاء هدايته هداه، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التامّ، وتبعا لعلمه باستعداد النفوس للخير والشّر.
ثم سلّى تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث حزن من إصرار قومه على الكفر، فقال:
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ أي لا تغتم ولا تأسف ولا تهلك نفسك على عدم إيمانهم، وإصرارهم على الكفر، واستمرارهم على الضلال، فالله عليم بأحوالهم واستعداداتهم، وعليم بما يصنعون من المنكرات والقبائح لا تخفى عليه خافية، فيجازيهم بما يستحقون. وهذا وعيد كاف.
وزجر بليغ إن أدركوا أبعاده ومراميه.
231
ونظير الآية كثير، منها قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- بعد إيضاح الدّليل على إثبات البعث والحشر ذكر الله تعالى مبدأ عاما في الاعتقاد: وهو أن البعث والثواب والعقاب حق لا مرية فيه، ولا بدّ من حصوله.
٢- وفي ضوء هذا المنظور الأخروي في عقيدة الإسلام الراسخة، على الإنسان ألا تلهيه الدنيا وزخارفها عن العمل للآخرة، وألا يغترّ بوساوس الشيطان، فإنه أفّاك كذّاب، قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذّاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر ٨٩/ ٢٤].
٣- إن عداوة الشيطان للإنسان عامة قديمة، فيجب الحذر منه، ومعاداته وعدم إطاعته، ودليل عداوته: إخراجه أبانا آدم من الجنة، وإصراره على إضلال الإنسان وضمانه ذلك في قوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء ٤/ ١١٩]، وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ [الأعراف ٧/ ١٦- ١٧].
٤- إن هدف الشيطان الدّال على عداوته للإنسان أيضا دعوة حزبه أي أشياعه وأتباعه ليكونوا معه في نار جهنم الشديدة الاستعار.
٥- هناك فرق واضح بين المسيء والمحسن، فلا يسوّى بين من زيّن له
232
الشيطان عمله السيء فأطاعه، وبين من هداه الله للخير، فاتّبع أوامر الله تعالى.
والفريق الأول يشمل كل الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان والأصنام والشيطان ونحو ذلك.
٦- إن الإضلال والهداية من الله بحسب ماله من العلم التامّ المسبق بكل إنسان، وما لديه من استعداد للشّرّ أو للخير.
٧- لا داعي للأسف والاغتمام على إصرار الكفار على كفرهم، ولا ينفع التأسف على مقامهم على كفرهم، فإن الله عليم بصنعهم القبائح، وسيجازيهم على أفعالهم.
من دلائل القدرة الإلهية لإثبات البعث
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٩ الى ١١]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
الإعراب:
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الهاء تعود على الكلم، أي والعمل الصالح يرفع الكلم، وقيل:
تعود على العمل، أي والعمل الصالح يرفعه الله، ولو صح هذا القول لكان يلزم نصب كلمة الْعَمَلُ.
233
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ السَّيِّئاتِ: إما مفعول يَمْكُرُونَ بمعنى يعملون، أو منصوب على المصدر لأن معنى يَمْكُرُونَ: يسيئون، أو وصف لمصدر محذوف، أي يمكرون المكرات السيئات، ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ مَكْرُ مبتدأ وخبره يَبُورُ وهو: فصل بين المبتدأ والخبر، ويجوز الفصل إذا كان الفعل مضارعا.
البلاغة:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ سقناه: التفات من الغيبة إلى التكلم للإشعار بالعظمة.
تَحْمِلُ وتَضَعُ بينهما طباق، وكذا بين يُعَمَّرُ ويُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ.
المفردات اللغوية:
أَرْسَلَ أطلق وأوجد من العدم. فَتُثِيرُ سَحاباً تزعجه وتحركه، وأتى بالمضارع حكاية للحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة. إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ بالتخفيف، أو ميّت بالتشديد: لا نبات فيه، ويرى بعضهم: أن الميت بالتخفيف: هو الذي مات، والميّت بالتشديد، والمائت: هو الذي لم يمت بعد. بَعْدَ مَوْتِها يبسها، وأحيينا به الأرض: معناه أنبتنا بالمطر الزرع والكلأ. كَذلِكَ النُّشُورُ أي كذلك يحيى الله العباد بعد موتهم، كما أحيا الأرض بعد موتها. والنُّشُورُ البعث والإحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره، أي أحياه.
الْعِزَّةَ الشرف والجاه والمنعة. فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عند الله، فإن له كل العزة في الدنيا والآخرة، ولا تنال منه العزة إلا بطاعته، فليطعه. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ مجاز يراد به قبول الله له، أو علمه به، والْكَلِمُ الطَّيِّبُ هو التوحيد (لا إله إلا الله) وكل كلام طيب من ذكر الله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة قرآن ودعاء وغير ذلك. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. والْعَمَلُ الصَّالِحُ ما كان بإخلاص، ويَرْفَعُهُ يقبله. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي الذين يعملون السيئات في الدنيا على وجه المكر والخديعة، كالمكر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه، كما ذكر في الأنفال، أو مراءاة المؤمنين في أعمالهم بإيهامهم أنهم مطيعون لله. يَبُورُ يبطل ويفسد ولا ينفذ، من البوار: الهلاك.
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أباكم آدم من تراب. نُطْفَةٍ مني يخلق ذريته منه. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرانا وإناثا. إِلَّا بِعِلْمِهِ أي لا يخرج شيء عن علمه وتدبيره، وهو حال، أي
234
معلومة له. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي لا يزاد ولا يطول من عمر أحد، ولا ينقص من عمر معمر آخر، وذلك بحسب العرف والعادة الشائعة بين الناس. إِلَّا فِي كِتابٍ أي في صحيفة المرء في اللوح المحفوظ، وتطويل العمر وتقصيره: هما بقضاء الله وقدره، لأسباب تقتضي التطويل أو التقصير، فمن أسباب التطويل: صلة الرحم، ومن أسباب التقصير: الاستكثار من معاصي الله عز وجل. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لا يصعب عليه منه شيء.
المناسبة:
بعد الإخبار عن عذاب الكفار الشديد، والمغفرة والأجر الكبير للمؤمنين يوم القيامة، أقام تعالى الدليل على البعث بإحياء الأرض بعد موتها، وبخلق الإنسان ومروره في أطوار مختلفة من التراب، فالنطفة، فالبشر السوي، فالمدّ في العمر أو تقصيره.
التفسير والبيان:
كثيرا ما يستدل الله تعالى على المعاد أو البعث بإحياء الأرض بعد موتها، كما في أول سورة الحج مثلا، وقال هنا:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ أي والدليل الحسي المشاهد على إمكان البعث وأنه مقدور لله تعالى: أنه سبحانه يرسل الرياح، فتحرك الغيوم إلى حيث يشاء الله، فيقوده إلى بلد ميت لا نبات به، فينزل المطر عليه، فتحيا الأرض بالنبات بعد يبسها، وتصبح مخضرة ذات زرع وشجر، بعد أن كانت تربة هامدة، فكذلك يكون النشور أي كما يحيي الله الأرض بعد موتها، يحيي العباد بعد موتهم، وهذا هو النشور، أي جعلهم أحياء.
جاء في حديث أبي رزين: «قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟
وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك
235
ممحلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟! قلت: بلى، قال صلّى الله عليه وسلّم: فكذلك يحيي الله الموتى».
ثم ندد الله تعالى بمشاعر الكفار بالعزة والغطرسة التي حجبتهم عن طاعة الله، فقال:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي من كان يريد الوصول إلى الشرف والتعزز والسمو، فليتعزز بطاعة الله، وليطلبها من الله لا من غيره، فإن الله مصدر العزة، وهو يهب منها لمن يشاء، وهذا ردّ على الكفار الذين كانوا يطلبون العزة بعبادة الأصنام، وعدم الطاعة للرسل، وترك الاتّباع له، فقال:
إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة، فهي كلها لله، ومن يتذلل له فهو العزيز، ومن يتعزز عليه، فهو الذليل. وذلك كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون ٦٣/ ٨]. وقد حكى القرآن طلب المشركين العزة بعبادة الأصنام، فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم ١٩/ ٨١]. وأما المشركون فكانوا يطلبون العزة عند الكفار فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟! [النساء ٤/ ١٣٩].
ثم وصف الله تعالى بعض مظاهر العزة ردا على الكفار الذين كانوا يقولون:
نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده، فقال:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي إن كنتم لا تصلون إلى الله، فهو يسمع كلامكم، ويقبل طيب الكلام، كالتوحيد والأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء، وتلاوة القرآن وغير ذلك. ومن أفضل الأذكار: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وإن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع
236
العمل الصالح، وصلاح العمل: الإخلاص فيه، فلا يتقبل الله صلاة وصياما وزكاة ونحو ذلك من أعمال البر، إذا لم تكن لله، وفعلت مراءاة للناس.
قال ابن عباس: الكلم الطيب: ذكر الله تعالى، يصعد به إلى الله عز وجل، والعمل الصالح: أداء الفريضة.
ثم أخبر الله تعالى أنه لا يقبل من المرائين أعمالهم، فقال:
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي والذين يعملون المكرات السيئات في الدنيا، كالتآمر على قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لإضعاف المسلمين، ويوهمون غيرهم أنهم في طاعة الله تعالى، وهم بغضاء إلى الله عز وجل، يراءون بأعمالهم، لهم عقاب بالغ الغاية في الشدة.
ومكر هؤلاء الكاذبين المفسدين يفسد ويبطل ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة، لا تتغير بالمكر والحيلة، ولأن المرائي ينكشف أمره بسرعة، ولا يروج أمره ويستمر إلا على غني، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية، يجازي على الرياء أشد العذاب.
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث بخلق الأنفس فقال:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي والله سبحانه ابتدأ خلق الإنسان من تراب، فخلق أبانا آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فجعل الخلق المتوالي الدائم من النطفة (المني) والنطفة من الغذاء، والغذاء من الماء والتراب، فقد صير التراب نطفة، ثم جعل الناس أصنافا، ذكرانا وإناثا، فهذا التحول من تراب إلى خلية حية، إلى إنسان سوي دليل قاطع على إمكان البعث الذي هو إعادة الحياة مرة أخرى، والإعادة في مفهوم الناس أهون من الإعادة، أما عند الله فهما سواء.
237
هذا دليل القدرة، أعقبه تعالى بالدليل على كمال العلم فقال:
وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إن الله عالم بحمل أي أنثى في العالم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، كما أنه عالم بوقت الوضع ومكانه وكيفيته، كما قال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد ١٣/ ٨- ٩].
وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ سماه معمّرا بما هو صائر إليه، أي ما يمدّ في عمر أحد، وما ينقص من عمر آخر إلا في صحيفة كل إنسان في اللوح المحفوظ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، سواء أكان من أصحاب الأعمار الطويلة أم القصيرة الأجل، فتطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره، لأسباب مسبقة يعلمها الله، فمن أطال عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التطويل، كصلة الرحم، ومن قصر عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التقصير، كالإكثار من معاصي الله.
روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره «١»، فليصل رحمه».
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن ذلك النظام المرتب للعالم سهل يسير على الله، لديه علمه جملة وتفصيلا، فإن علمه شامل لجميع المخلوقات، لا يخفى عليه شيء منها.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
(١) أي يؤخر له في أجله.
238
١- إمكان حدوث البعث لأن الله قادر على كل شيء، ومن مظاهر قدرته الدالة على ذلك بنحو حسي مباشر: إحياء الأرض بالمطر بعد يبسها وذهاب ما فيها من زروع ونباتات، واكتسائها بالخضرة والمروج، والنبات، والثمار المختلفة الألوان والأنواع والطعوم.
فكما حدث من تبدل من موت إلى حياة كذلك يحدث إحياء المخلوقات، فمثل إحياء الأرض الموات نشر الأموات، وإعادة الحياة لهم بعد الموت.
٢- إن الاعتزاز بالكفر والمال والأولاد والجاه والسمعة والنفوذ سراب خادع، فإن من كان يريد العزة التي لا ذلة فيها في الدنيا والآخرة، فعليه بطاعة الله عز وجل وعبادته وحده دون شريك لأن الله تعالى مصدر العزة، وهو سبحانه يعز من يشاء في الدنيا والآخرة، ويذلّ من يشاء،
قال صلّى الله عليه وسلّم مفسّرا لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً: «من أراد عزّ الدارين، فليطع العزيز».
وعليه، من كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل في دار العزة- ولله العزة- فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به، فإنه من اعتز بالعبد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله.
٣- الكلم الطيب من توحيد الله وذكره ودعائه وتلاوة كتابه ونحو ذلك هو الذي يقبله الله عز وجل، والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب كما قال ابن عباس وغيره، كما أن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح. وصلاح العمل:
الإخلاص فيه،
جاء في الحديث: «لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة» «١».
(١)
رواه الطبراني عن ابن عمر بلفظ: «لا يقبل إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان».
239
وردّ على ابن عباس قوله بتعارضه مع معتقد أهل السنة، وأن ذلك لا يصح عنه. قال القرطبي: والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله، وقال كلاما طيبا، فإنه مكتوب له متقبّل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأوّل أنه يزيد في رفعه، وحسن موقعه إذا تعاضد معه، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى، كانت الأعمال أشرف فيكون قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ موعظة وتذكرة وحضّا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة «١».
٤- إن الذين يراءون في أعمالهم، ويعملون المكرات السيئات في الدنيا، لهم عذاب شديد في نار جهنم، ومكرهم بائد غير نافذ. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة.
٥- الدليل الاخر على إمكان البعث أحوال نفوس البشر وأطوارها، فقد خلق الله تعالى أصلها من تراب، ثم جعل النطفة سببا للخلق، ثم حدث التزاوج بين الذكر والأنثى، ليتم البقاء في الدنيا إلى نهاية العالم، عن طريق التناسل، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، ولا يخرج شيء عن تدبيره.
٦- الأعمار كالأرزاق مقدرة محددة في صحيفة كل إنسان، لا تزيد ولا تنقص، وأما طول العمر بأسباب، كصلة الرحم، فهو داخل في تقدير العمر بصفة نهائية في علم الله، إذ إنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه، زيد في عمره كذا سنة، وفي موضع آخر من اللوح المحفوظ بيّن: إنه سيصل رحمه، فمن اطلع على الأول دون الثاني، ظن أنه زيادة أو نقصان.
(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ٣٣٠
240
٧- إن نظام العالم البديع، وكتابة الأعمال والآجال غير متعذر على الله، وإنما هو سهل يسير هيّن لأن علم الله مطلق غير نسبي كعلم البشر، وشامل غير محدود، وعام غير خاص يشمل الماضي والحاضر والمستقبل.
من دلائل الوحدانية والقدرة الإلهية
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
الإعراب:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ الشرك: مصدر بمعنى الإشراك، وهو مضاف إلى الكاف والميم، وهي الفاعل في المعنى، وتقديره: بإشراككم إياهم، فحذف المفعول.
البلاغة:
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ بينهما ما يسمى بالمقابلة وهي كالطباق، لكنها بين أكثر من شيئين.
المفردات اللغوية:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ العذب والمالح. عَذْبٌ فُراتٌ شديد العذوبة، والعذب:
241
الحلو اللذيذ الطعم، والفرات: المزيل للعطش. سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره. أُجاجٌ شديد الملوحة، وذلك مثل للمؤمن والكافر. وَمِنْ كُلٍّ منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك.
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي من البحر الملح، وقال الزجّاج: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، والحلية هنا: هي اللؤلؤ والمرجان، وهي في الأصل: كل ما يتحلى به من سوار أو خاتم.
وَتَرَى تبصر. الْفُلْكَ السفن. فِيهِ في كل من البحرين. مَواخِرَ عابرات شاقات تشق الماء بجريها، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تطلبوا من فضل الله تعالى بالتجارة والتنقل فيها. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا الله على ما أنعم عليكم به من ذلك.
يُولِجُ يدخل، فيزيد في كل من الليل والنهار بالنقص من الآخر. سَخَّرَ أجرى.
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى كل منهما يسير في فلكه هي مدة دورانه، أو منتهاه، وقيل: إلى يوم القيامة. ذلِكُمُ الفاعل لهذه الأفعال. اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ أي هذا الصانع لما تقدم هو الخالق المقدر، والقادر المقتدر، المالك للعالم، والمتصرف فيه. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي تعبدون من غيره وهم الأصنام. ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ القطمير: لفافة النواة، أي القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون على النواة- البزرة. وهذا دليل التفرد بالألوهية والربوبية.
لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد. وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض. مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ما أجابوكم. يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يجحدون بإشراككم إياهم مع الله، وعبادتكم لهم، والمعنى:
يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي ولا يخبرك بالأمر، ويعلمك بأحوال الدارين مخبر مثل الخبير العالم به، وهو الله تعالى.
المناسبة:
بعد إيراد أدلة إثبات البعث، أورد الله تعالى الأدلة والبراهين الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، بخلقه أشياء متحدة الجنس، لكنها مختلفة المنافع، من الماء الواحد، والليل والنهار، والشمس والقمر. وأردفه بالرد على عبدة الأصنام التي لا تملك شيئا، ولا تسمع دعاء، ولا تجيب نداء، وتتبرأ من عابديها يوم القيامة.
242
التفسير والبيان:
نبّه الله تعالى على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة، فقال عن اختلاف البحرين:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ: هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أكثر المفسرين على أن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان، أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يتساوى مع الكفر في الحسن والنفع، كما لا يتساوى البحران العذب الفرات، والملح الأجاج، وقال الرازي: والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى، وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة، ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات، والآخر ملح أجاج.
والمعنى: لا يتساوى ولا يتشابه البحران في الحقيقة، فأحدهما عذب الماء شديد العذوبة، سائغ الشراب، يجري في الأنهار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، وثانيهما ملح شديد الملوحة، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار.
وبعد اختلافهما في هذا يتشابهان في أمور: مثل أخذ اللحم الطري والحلية منهما، والذي يوجد في المتشابهين اختلافا وفي المختلفين تشابها لا يكون إلا قادرا مختارا، فقال تعالى:
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي يصاد السمك من كل منهما، وتستخرج الحلية الملبوسة منهما، وهو اللؤلؤ والمرجان، كما قال عز وجل: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن ٥٥/ ٢٢- ٢٣].
وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي تبصر أيها الناظر السفن في البحر شاقّة الماء، مقبلة مدبرة، حاملة المؤن
243
والأقوات وأنواع التجارة من قطر إلى آخر، لتطلبوا بأسفاركم بالتجارة بين البلدان من فضل الله، لتشكروا الله أو شاكرين ربكم على تسخيره لكم هذا البحر العظيم، وعلى ما أنعم به عليكم من النعم، فإنكم تتصرفون في البحر كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم دون عائق ولا مانع، بل بقدرته تعالى قد سخر لكم جميع ما في السموات والأرض من فضله ورحمته.
ثم ذكر تعالى دليلا آخر على قدرته التامة وهو اختلاف الأزمنة، فقال:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل أحدهما في الآخر فيكون أطول منه، فيزيد في زمن كل منهما بالنقص من الآخر، فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفا وشتاء.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي سيّر الشمس والقمر وبقية الكواكب السيّارة، والثوابت الثاقبة بإرادته وقدرته، يجري كل منهما بمقدار معين، ومنهاج مقنن، ومدة محددة هي زمن مدارها أو منتهاها، لتعلموا عدد السنين والحساب، وقيل: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى يوم القيامة.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ أي الذي فعل هذا من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك هو الرب العظيم، الذي لا إله غيره، وهو صاحب الملك التام، والقدرة الشاملة، والسلطان المطلق، وكل من عداه عبد له.
ثم أبان تعالى في مقابل ذلك ما ينافي صفة الألوهية، فقال:
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين،
244
لا يملكون شيئا من السموات والأرض، ولو كان حقيرا بمقدار هذا القطمير، وهو قشرة النواة الرقيقة.
ثم أبطل ما يقولون: إن في عبادة الأصنام عزة، وأبان عجزها وضعفها وحقارتها، فقال:
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي إن تدعوا هذه الآلهة من دون الله تعالى لا تسمع دعاءكم لأنها جماد لا تدرك شيئا، ولو سمعوا لم يقدروا أن ينفعوكم بشيء مما تطلبون منها، لعجزها عن ذلك، فهي لا تضر ولا تنفع ولا تغني شيئا، فكيف تعبدونها؟! وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي وفي اليوم الآخر يجحدون كون ما فعلتموه حقا، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم أو أقروكم عليها، ويتبرءون منكم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٥- ٦] وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم ١٩/ ٨١- ٨٢].
وتقريرا عاما لهذه المعاني، وتأكيدا لهذه الأخبار، قال تعالى:
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة، أو لا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها إلا خبير بصير بها، وهو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في الحال أو في الاستقبال، وقد أخبر بالواقع لا محالة.
245
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من أدلة القدرة الإلهية العظيمة الدالة على وحدانية الخالق خلق الأشياء المتفاوتة، التي منها خلق البحرين: العذب الزلال وهو الأنهار، والملح الأجاج وهو البحار، ومع اختلافهما وتمايزهما حينما يتجاوران، فيهما تشابه بوجود الأسماك في كل منهما، واستخراج الحلية وهي اللؤلؤ والمرجان منهما، أي من اختلاطهما وتمازجهما ونزول مطر السماء، وإن كانت الحلية من البحر المالح.
٢- في قوله تعالى: تَلْبَسُونَها دليل على أن لباس كل شيء بحسبه، فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرّجل.
٣- من نعم الله تعالى ودليل قدرته: تسيير السفن في البحر، لتبادل التجارات بين الأقطار البعيدة في مدة قريبة، وكسب الأرزاق، الذي يستدعي الشكر على ما آتانا الله من فضله وعلى تسخيره البحر للانتقال فيه، وحرية الحركة في أنحائه.
٤- ومن أدلة القدرة الإلهية أيضا: اختلاف الأزمنة بتعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول، وتفاوت زمن الليل والنهار صيفا وشتاء، وتسيير الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة والثابتة في مدة دوران معينة تنتهي في اجتياز مدارها، وبقائها على هذا النحو الدقيق إلى يوم القيامة.
٥- إن صانع كل ما ذكر من خلق السموات والأرض، وإنزال الغيث، وخلق الإنسان من تراب، وإيجاد الماء العذب والماء الملح وما يحققان من ثروة مائية ومعدنية ونفطية وحلي، ودورة الأرض واختلاف الليل والنهار بين نصفي
246
الكرة الأرضية، وفي النصف الواحد في مدار السنة وغير ذلك، إن هذا الصانع هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر، والمالك القاهر، فهو الذي يستحق أن يعبد.
٦- ما أقل عقول الوثنيين وما أبسطها حين يعبدون الأصنام الصماء من الحجارة والمعادن وغيرها، وهي لا تقدر على شيء ولا على خلقه، ولا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، فلا تغيث أحدا إذا استغاث بها لأنها جمادات، ولا تجيب إن ناداها عبّادها لأنها لا تنطق. والداهية العظمى أنها يوم القيامة تتبرأ من عابديها، وتنكر أفعالهم، وتتنصل من تبعة المسؤولية الموجهة إليهم، والله أصدق مخبر بذلك.
سبب العبادة والمسؤولية الشخصية وانتفاع العابدين بالإنذار
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ١٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
البلاغة:
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بينهما طباق.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ بينهما جناس الاشتقاق، وكذا حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ.
247
المفردات اللغوية:
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، وفي كل حال على الإطلاق. وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء.
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ على الإطلاق عن خلقه. الْحَمِيدُ المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم، المحمود في صنعه بهم.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ إن يشأ يفنكم، ويأت بقوم آخرين من جنسكم بدلكم، أطوع منكم، أو من جنس آخر غير ما تعرفونه. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي وما ذلك الإذهاب لكم والإتيان بآخرين بمتعذر ولا بمتعسر على الله تعالى.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة ذنب أو إثم نفس أخرى. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى، لتحمل عنها بعض الذنوب التي تحملها. لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا. وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المدعو قريبا لها في النسب كالأب والابن، فكيف بغير القريب؟! وهذا حكم مبرم من الله تعالى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافونه غائبا عنهم لأنهم المنتفعون بالإنذار. وَأَقامُوا الصَّلاةَ احتفلوا بأمرها، وأداموها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم.
وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك مختص به، كما أن وزر من تدنس بالذنب لا يكون إلا عليه. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ إلى الله المرجع والمآل، فيجزي على تزكيهم وعملهم في الآخرة.
المناسبة:
بعد بيان كون العبادة واجبة لله تعالى لأنه المالك المطلق، والأصنام لا تملك شيئا، أبان الله تعالى حكمة العبادة للرد على الكفار القائلين بأن أمر الله بالعبادة أمرا بالغا، والتهديد الشديد على تركها، لاحتياجه إلى عبادتنا. ثم أوضح أن كل إنسان مسئول عن نفسه فقط، وأرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تنفع الذي يخشى الله بالغيب وأقام الصلاة.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن غناه المطلق عمن سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه، فقال:
248
يا أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي يا أيها البشر جميعا، أنتم المحتاجون إلى الله تعالى على الإطلاق، في منح القدرة على الحياة والبقاء، وفي جميع الحركات والسكنات، وفي جميع أمور الدين والدنيا، لذا فاعبدوه وحده لأن ثمرة العبادة عائدة إليكم وحدكم، والله هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له عن عبادتكم وغيرها، وهو المحمود المشكور على نعمه وعلى جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وذكر الْحَمِيدُ ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه.
ثم أبان غناه وقدرته التامة بإمكانه استبدالكم، وأنه غير محتاج إليكم، فقال:
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي لو شاء لأفناكم أيها الناس، وأتى بقوم غيركم، يكونون أطوع منكم، وأجمل وأحسن وأتم، وما ذلك بصعب عليه ولا ممتنع، بل هو يسير هيّن عليه.
وفي هذا تهديد ووعيد وتبديد لأوهامكم أنه لو أذهب البشر لزال ملكه وعظمته.
ثم دعاهم إلى النظر والتأمل في المستقبل، وأخبرهم بمسؤولية كل إنسان يوم القيامة عن نفسه فقط دون غيره، فقال:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة أو مذنبة إثم أو ذنب نفس أخرى. وهذا لا يمنع مضاعفة الإثم للمضلين القادة، كما قال تعالى:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت ٢٩/ ١٣].
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي وإن طلبت نفس مثقلة بالأوزار والذنوب مساعدة نفس أخرى في حملها، لتحمل
249
عنها بعض الذنوب، لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا، ولو كانت قريبة لها في النسب كالأب والابن لأن كل امرئ مشغول بنفسه وحاله، وله من الهموم ما يغنيه.
ونظير الآية: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان ٣١/ ٣٣] وقوله سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧].
قال عكرمة في قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها: هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني، وإن الكافر ليتعلّق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له: يا مؤمن، إن لي عندك يدا، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا، وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه، حتى يرده إلى منزل دون منزله، وهو في النار، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: يا بني، أي والد كنت لك؟ فيثني خيرا، فيقول له: يا بني، إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته، فيقول: يا فلانة أو يا هذه، أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين، قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها الآية.
ثم أبان الله تعالى من يجدي عنده الإنذار، فقال:
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي إنما يتعظ بما جئت به أيها الرسول أولو البصيرة والعقل الذين يخافون من عذاب ربهم قبل
250
معاينته أو في خلواتهم عن الناس، ويفعلون ما أمرهم به، ويقيمون الصلاة المفروضة عليهم على النحو الأتم المشروع، إقامة فيها احتفال بأمرها، وبعد عن الاشتغال بغيرها.
ثم ذكر الله تعالى أن فائدة العبادة تعود عليهم، فقال:
وَمَنْ تَزَكَّى، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي ومن تطهر من الشرك والمعاصي، وعمل صالحا، فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك يعود على نفسه، لا غيره، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- الناس قاطبة فقراء محتاجون إلى ربهم الخالق الرازق في بقائهم وكل أحوالهم، والله هو الغني عن عباده، المحمود على جميع أفعاله وأقواله ونعمه الكثيرة التي لا تحصى.
وغنى الله لا يعود عليه، وإنما ينفع به عباده، فاستحق الحمد التام والشكر الكامل من أعماق النفوس.
٢- الله قادر على إفناء الخلق، والإتيان بخلق جديد آخر أطوع منهم وأزكى، وليس ذلك بممتنع عسير متعذر على الله تعالى.
٣- من مفاخر الإسلام مبدأ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي مبدأ المسؤولية الشخصية في الدنيا والآخرة، فلا يسأل إنسان عن جريمة غيره، ولا يتحمل امرؤ عقوبة جان آخر: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ ٣٤/ ٢٥].
251
٤- كل إنسان في الآخرة مشغول بنفسه، فلا يستطيع أن يتحمّل شيئا من آثام غيره، ولو كان أقرب الناس لديه، كالأب والابن وغيرهما.
٥- إنما يقبل إنذار النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذارات القرآن الكريم: من يخشى عقاب الله تعالى في السرّ والعلن وقبل معاينة العذاب، كما قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس ٣٦/ ١١].
٦- من تطهر من أدناس المعاصي فإنما يتطهر لنفسه، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وتظهر الفائدة في الآخرة إذ إلى الله مرجع جميع الخلق، فيحاسبهم على ما فعلوا.
مثل المؤمن والكافر وإرسال الرسل في الأمم
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
البلاغة:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الظُّلُماتُ والنُّورُ الظِّلُّ والْحَرُورُ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ بين كل طباق.
252
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ استعارة تصريحية، استعار المشبه به وهو الأعمى للكافر، لعدم الاهتداء إلى الطريق الصحيح، واستعار البصير للمؤمن لاهتدائه إلى منهج الاستقامة ووضوح الطريق أمامه.
وزيادة لَا في الآيات [٢٠- ٢٢] في المواضع الثلاثة للتأكيد.
نَذِيرٌ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ توافق الفواصل ذو التأثير في جمال الكلام والوقع على النفس.
المفردات اللغوية:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الأول: فاقد البصر، والثاني له ملكة البصر، والمراد تشبيه الكافر بالأعمى، وتشبيه المؤمن بالبصير. الظُّلُماتُ والنُّورُ شبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق بالنور. الظِّلُّ والْحَرُورُ أراد بالظل الجنة وأراد بالحرور النار. والْحَرُورُ السموم، إلا أن السموم بالنهار، والحرور بالليل والنهار. الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ شبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ هدايته، فيجيب بالإيمان. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي الكفار، شبههم بالموتى الذين لا يجيبون.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر لهم، أو ما عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الإسماع فليس إليك، ولا قدرة لك عليه لأن الهدى والضلالة بيد الله عز وجل. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق، وهو الهدى، فيشمل المرسل والمرسل، فكلاهما محق. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا من أجابك بالجنة، ومنذرا من لم يجبك بالنار. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أو أهل عصر. إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ سلف ومضى فيها منذر مخوف من نبي أو عالم ينذر عنه، واكتفى بالنذير لأن الإنذار قرين البشارة، سيما وقد قرن به من قبل، أو لأن الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن يكذبك أهل مكة فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم. بِالْبَيِّناتِ المعجزات الدالة على صدقهم في نبوتهم. وَبِالزُّبُرِ أي الكتب المكتوبة، كصحف إبراهيم، جمع زبور: أي كتاب، والكتاب: ما فيه شرائع وأحكام. أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بتكذيبهم. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك.
المناسبة:
بعد بيان طريق الهدى وطريق الضلالة، واهتداء المؤمن الذي يخاف ربه،
253
وجحود الكافر المعاند، ضرب الله تعالى الأمثال للكافر والمؤمن، وللباطل والحق، وللجنة والنار، وللمؤمنين والكافرين، وعدّد الأمثلة، للتعريف بأن المؤمن بصير الطريق، والكافر أعمى الطريق، وأن الإيمان نور فلا يخفى على المؤمن، والكفر ظلمة فيزيد الأعمى حيرة، ثم ذكر مآلهما ومرجعهما، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم جعل الكافر أسوأ حالا من الأعمى فشبهه بالميت لأنه غير مدرك إدراكا نافعا، فهو كالميت، أما الأعمى فقد يدرك شيئا ما كالبصير. ثم أوضح تعالى أن الهداية بيده يمنحها من يشاء، ولكنه لم يترك سبيلا لأحد بالاعتذار، فقد أرسل الرسل والأنبياء في كل أمة من الأمم، فمن آمن نجا، ومن عصى عذب في النار.
التفسير والبيان:
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وللكافرين، فكما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة في حقيقتها وفائدتها، كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله، والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد فاتبعه وانقاد له، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور الإيمان، أو الباطل والحق، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار.
فالمؤمن سميع بصير يمشي في نور على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال الوارفة والعيون المتدفقة، والكافر أصم أعمى يمشي في ظلمات لا خروج له منها، بل يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى ينتهي به الأمر إلى الحرور والسموم والحميم.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي ولا يتساوى المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر، والكافرون أموات القلوب والحواس.
254
فهذه أمثال للمؤمن والإيمان والعاقبة، والكافر والكفر والمصير، كما قال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟! [هود ١١/ ٢٤] وقال عز وجل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام ٦/ ١٢٢]. قال قتادة: هذه كلها أمثال أي كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.
ثم بيّن تعالى مصدر الهداية، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها، وكما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار، بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا تستطيع أيها النبي هدايتهم لأن الكفر أمات قلوبهم.
وأما مهمة الرسول فهي:
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا رسول منذر عذاب الله، ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الهدى والضلالة فهي بيد الله عز وجل.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً أي أرسلناك أيها الرسول إرسالا مصحوبا بالحق، والمرسل محق، وكذا المرسل محق، مبشرا المؤمنين أهل الطاعة بالجنة، ومنذرا الكافرين أهل المعصية بالنار.
والإرسال منهج عام في البشرية، فقال تعالى:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي ما من أمة من بني آدم سبقت إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل ١٦/ ٣٦].
255
ثم سلّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه وتكذيبهم وإعراضهم عن دعوته، فقال:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي وإن يكذبك أيها الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية من قبلهم أنبياءهم، جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة، وبالكتب المكتوبة كصحف إبراهيم، وبالكتاب الواضح البيّن، كالتوراة والإنجيل. وكرر الزبر والكتاب، وهما واحد، لاختلاف اللفظين.
ثم هدد مخالفيه وأوعدهم بالعقاب، فقال:
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ومع كل هذه الأدلة كذب أولئك رسلهم فيما جاءوهم به، فأخذتهم بالعقاب والنكال، فكيف رأيت إنكاري عليهم شديدا بليغا؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- لا مساواة بين الكافر والمؤمن والجاهل والعالم، ولا بين الكفر والإيمان أو الحق والباطل، ولا بين الثواب والعقاب أو الجنة والنار، ولا بين العقلاء والجهال أو أحياء القلوب وأموات القلوب.
٢- إن الله يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته، ويهدي أحباءه لطاعته، ولن يستطيع النبي إسماع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم أي كما لا يسمع من مات، كذلك لا يسمع من مات قلبه. والمراد بالآية: أن الكفار الذين حجبوا نور الهداية عن قلوبهم هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
256
٣- ما الرسول إلا مجرد رسول منذر، فليس عليه إلا التبليغ، ليس له من الهدى شيء، إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
٤- أرسل الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته.
٥- لم تخل أمة من نبي أو رسول ينذرها ويبشرها.
٦- سلّى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من تكذيب كفار قريش، بأن الأمم السابقة كذبوا أنبياءهم، بالرغم من تأييد صدقهم بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات، وبالكتب المكتوبة، وبالكتاب المنير، وكانت نتيجة التكذيب عقوبة الاستئصال.
العلوم العملية الطبيعية دليل آخر على وحدانية الله وقدرته وحال العلماء أمام مشاهد الكون
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)
257
الإعراب:
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ هاء أَلْوانُهُ تعود على موصوف محذوف، تقديره: خلق مختلف ألوانه، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، هي في موضع رفع بالابتداء، والجار والمجرور قبله:
خبره. وأَلْوانُهُ فاعل مختلف لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل.
يَرْجُونَ تِجارَةً خبر إن. ولَنْ تَبُورَ صفة للتجارة.
البلاغة:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا التفات من الغيبة إلى التكلم، بدلا من «أخرج» للدلالة على كمال قدرة الله وحكمته.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استفهام تقريري، فيه معنى التعجب.
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قصر صفة على موصوف، قصر الخشية على العلماء.
يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ استعارة، استعار التجارة للمعاملة مع الله لنيل ثوابه، وشبهها بالتجارة الدنيوية، وأيدها بقوله: لَنْ تَبُورَ وهو الذي يسمى ترشيحا.
عَزِيزٌ غَفُورٌ لَنْ تَبُورَ غَفُورٌ شَكُورٌ توافق الفواصل من عناصر جمال الكلام.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تعلم فهذه رؤية القلب والعلم. مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها أو أصنافها أو هيئاتها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك. جُدَدٌ أي ذو جدد، أي طرائق وخطوط في الجبال وغيرها، جمع جدة: وهي الخطة أو الطريقة المختلفة الألوان في الجبل ونحوه. بِيضٌ وَحُمْرٌ أي وصفر ونحوها. مُخْتَلِفاً أَلْوانُها بالشدة والضعف. وَغَرابِيبُ سُودٌ معطوف على جدد، أي صخور شديدة السواد، وأصل اللفظ: وسود غرابيب، والعرب تقول كثيرا للشديد السواد المشابه لون الغراب: أسود غربيب، وقليلا: غربيب أسود.
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثمار والجبال. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ بخلاف الجهال كأهل مكة إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له».
عَزِيزٌ غالب قاهر. غَفُورٌ لذنوب عباده التائبين المؤمنين. والجملة: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يستمرّون على تلاوة القرآن الكريم. وَأَقامُوا الصَّلاةَ أداموا إقامتها في أوقاتها، مع كمال أركانها وأذكارها. وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً فيه حث على الإنفاق
258
كيفما تهيأ، لكن السر أفضل من العلانية. يَرْجُونَ تِجارَةً أي تحصيل ثواب الطاعة. لَنْ تَبُورَ لن تكسد ولن تهلك بالخسران.
سبب نزول الآية (٢٩) :
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ..: أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ الآية.
المناسبة:
هذا دليل آخر على وحدانية الله وقدرته من مشاهد الكون المختلفة الأجناس والألوان، ضمّنه أن العلماء في العلوم الكونية أقدر الناس على إدراك عظمة الكون. فيكونون هم أخشى الناس لله، ثم أردفه ببيان حال العلماء العاملين بكتاب الله، فهم الذين يرجون ثواب الله على طاعتهم.
التفسير والبيان:
ينبه الله تعالى على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، فيخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي ألم تشاهد أيها الإنسان أن الله تعالى خلق الأشياء المختلفة من الشيء الواحد، فأنزل الماء من السماء، وأخرج به ثمارا مختلفة الأجناس والأنواع والطعوم والروائح والألوان من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك، كما قال تعالى في آية أخرى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد ١٣/ ٤].
259
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، وَغَرابِيبُ سُودٌ أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو مشاهد من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد مختلفة الألوان أيضا.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي وخلق أيضا خلقا آخر من الناس والدواب والأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم مختلفة الألوان في الجنس الواحد، بل وفي النوع الواحد، وفي الحيوان الواحد، كاختلاف الثمار والجبال. وقوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي خلق مختلف ألوانه، كما قال تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم ٣٠/ ٢٢]. والدواب: كل ما دب على القوائم، والْأَنْعامِ من باب عطف الخاص على العام. وكلمة كَذلِكَ هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.
وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان والأصباغ في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه، فذكر أولا اختلاف الألوان في ثمار النبات، ثم ذكر اختلاف الألوان في الجمادات، ثم في الناس والحيوان.
أخرج الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيصبغ ربك؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: نعم صبغا لا ينفض، أحمر وأصفر وأبيض».
ثم ذكر مستأنفا من يعرف جمال ذلك ودقائقه وهم العلماء فقال:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ أي إنما يخاف الله بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، ومنها عظيم قدرته على صنع ما يشاء وفعل ما يريد، فمن كان أعلم بالله، كان أخشاهم له،
260
ومن لم يخش الله فليس بعالم. والمراد به العالم بعلوم الطبيعة والحياة وأسرار الكون. وسبب خشية العلماء من الله أن الله قوي في انتقامه من الكافرين، غفور لذنوب المؤمنين به التائبين إليه، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى، وهذا يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ، وهذا كله يدركه بدقة وشمول العلماء المتخصصون.
قال ابن عباس: العالم بالرحمن: من لم يشرك به شيئا، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله.
وقال الحسن البصري: العالم: من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الآية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
وقال سعيد بن جبير: الخشية: هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.
ثم أخبر الله تعالى عن العلماء بكتاب الله العاملين به، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي إن الذين يواظبون على تلاوة القرآن الكريم ويعملون بما فيه من فرائض، كإقام الصلاة المفروضة في أوقاتها، مع كمال أركانها وشرائطها والخشوع فيها، والإنفاق مما أعطاهم الله تعالى من فضله ليلا ونهارا، سرا وعلانية، هؤلاء يطلبون ثوابا من الله على طاعتهم، لا بد من حصوله، لذا قال:
261
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ أي ليوفيهم الله ثواب ما عملوه، ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، إنه غفور لذنوبهم، شكور لطاعتهم وللقليل من أعمالهم.
ونظير الآية قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء ٤/ ١٧٣] وقوله: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ.. إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ..
[النور ٢٤/ ٣٧- ٣٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
١- من أدلة قدرة الله العظمى ووحدانيته واختياره: إنزال الماء من السماء، وإنبات النباتات، وإخراج الثمار المختلفة الأنواع والطعوم والروائح والألوان.
٢- ومن الأدلة أيضا: إرساء الأرض بالجبال، وخلق طرق مختلفة الألوان فيما بينها تخالف لون الجبل، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا.
٣- ومنها أيضا خلق الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان، ففيهم الأحمر والأبيض والأسود والأصفر وغير ذلك، وكل ذلك دليل على وجود صانع مختار، واحد لا شريك له.
٤- إن العلماء بطبيعة تركيب الكون ودقائقه، وبصفات الله وأفعاله، هم الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، ومن لم يخش الله فليس بعالم، كما قال الربيع بن أنس، والخشية بمعرفة قدر المخشي، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لأن الله بين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم.
262
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية».
٥- آية إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ: هذه آية القراء العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه، الذين يقيمون صلاة الفرض والنفل، وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية، هؤلاء هم الذين يبتغون تحصيل الثواب من الله على طاعاتهم، ويزيدهم الله من فضله، والزيادة هي الشفاعة في الآخرة، إن الله عند إعطاء الأجور غفور للذنوب، وعند إعطاء الزيادة شكور يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
وقوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ إشارة إلى الإخلاص، أي ينفقون لا ليقال: إنه كريم، ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله تعالى.
تصديق القرآن لما تقدمه وأنواع ورثته وجزاء المؤمنين
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
263
الإعراب:
مُصَدِّقاً حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق.
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ: مبتدأ، والْفَضْلُ: خبره، وهُوَ:
ضمير فصل بين المبتدأ والخبر. والْكَبِيرُ: صفة الخبر، ويصح القول: ذلِكَ مبتدأ أول، وهُوَ مبتدأ ثان، والْفَضْلُ خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
جَنَّاتُ عَدْنٍ إما مبتدأ، ويَدْخُلُونَها الخبر، أو بدل من قوله: الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو جنات. ويُحَلَّوْنَ خبر ثان أو حال مقدرة.
مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهذا جمع سوار. ولُؤْلُؤاً معطوف على محل: مِنْ أَساوِرَ.
الَّذِي أَحَلَّنا.. الَّذِي في موضع نصب صفة اسم «إن» في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّنا ويصح جعله في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو خبر بعد خبر، أو بدل من ضمير شَكُورٌ.
البلاغة:
لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ إطناب بتكرار الفعل، للمبالغة في انتفاء كل من النصب واللغوب.
المفردات اللغوية:
مِنَ الْكِتابِ القرآن، ومِنَ للتبيين. لِما بَيْنَ يَدَيْهِ تقدمه من الكتب.
لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن والظواهر. ثُمَّ أَوْرَثْنَا أعطيناه وقضينا وقدرنا. الْكِتابَ القرآن. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا اخترناهم، وهم علماء الأمة الإسلامية من الصحابة ومن بعدهم. ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به، والظلم: تجاوز الحدود. مُقْتَصِدٌ متوسط يعمل به في أغلب الأوقات. سابِقٌ بِالْخَيْراتِ يضم إلى العلم والتعليم، والإرشاد إلى العمل.
وسابِقٌ متقدم إلى ثواب الله، وبِالْخَيْراتِ أي بسبب عمل الخيرات والأعمال الصالحة.
بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته وتوفيقه. ذلِكَ توريثهم الكتاب والاصطفاء، وقيل: السبق إلى الخيرات.
جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. أَساوِرَ جمع أسورة: وهي حلية تلبس في اليد. الْحَزَنَ الخوف من مخاطر المستقبل. لَغَفُورٌ للذنوب. شَكُورٌ للطاعة.
264
دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة الدائمة وهي الجنة. نَصَبٌ تعب. لُغُوبٌ إعياء من التعب أو كلال، ونفيهما جميعا للدلالة على الاستقلال، ولعدم التكليف في الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (٣٥) :
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ:
أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن النوم مما يقرّ الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم؟ قال: لا، إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت، قال: فما راحتهم؟ فأعظم ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة، فنزلت: لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ».
المناسبة:
بعد بيان الأصل الأول في العقيدة، وهو وجود الله الواحد، وإثباته بأنواع الأدلة، وهي: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
ولما بيّن الله تعالى في الآية السابقة ثواب تلاوة كتاب الله، أكد ذلك وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، فتاليه محق ومستحق لهذا الثواب، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب السابقة، ثم قسم ورثته ثلاثة أنواع، ثم أوضح جزاء العاملين به في الآخرة.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى مكانة القرآن ومهمته بين الكتب السماوية فقال:
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ
265
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
أي إن الذي أوحينا إليك به يا محمد وهو القرآن هو الحق الثابت الدائم، المصدق والموافق لما تقدمه من الكتب السماوية السابقة، إن الله محيط بجميع أمور عباده، يعلم أحوالها الباطنة والظاهرة، يشرع لهم من الشرائع والأحكام المناسبة لكل زمان ومكان، وقد أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين والمرسلين، لما اقتضت حكمته وعدله.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ أي ثم قضينا وقدرنا بتوريث هذا القرآن من اخترنا من عبادنا، وهم يا محمد علماء أمتك من الصحابة فمن بعدهم، التي هي خير الأمم بنص الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران ٣/ ١١٠] وجعلناهم أقساما ثلاثة:
١- الظالم لنفسه: بتجاوز الحد، وهو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات.
٢- المقتصد: المتوسط المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، لكنه قد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
٣- السابق بالخيرات بإذن الله: وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. وهذا خير الثلاثة، الذي سبق غيره في أمور الدين.
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي توريث الكتاب والاصطفاء فضل عظيم من الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين السابقين بغير حساب والمقتصدين بحساب يسير، والظالمين إن رحموا، فقال:
266
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي يدخل هؤلاء المصطفون جميعا جنات الإقامة الدائمة يوم المعاد، التي يحلّون فيها أساور من ذهب مرصع باللؤلؤ، ويكون لباسهم حريرا خالصا، وقد أباحه الله تعالى لهم في الآخرة، بعد أن كان محظورا عليهم في الدنيا.
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» وقال: «هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة».
وعلى هذا تكون الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو بدمشق، فقال:
ما أقدمك أي أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدّث به عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال رضي الله عنه:
فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«من سلك طريقا يطلب فيها علما، سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظّ وافر».
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ أي وقالوا حين استقروا في مأواهم جنات عدن: الحمد والشكر والثناء على الله الذي أزال عنا الخوف من المحذور، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة، فهو غفور لذنوب عباده، شكور لطاعتهم.
267
روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت، ولا في القبور، ولا في النشور، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ».
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
ثم حمدوه أيضا على نعمة البقاء والاستقرار في الجنة والراحة فيها، فقال:
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام الذي لا تحول عنه من فضله ومنّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك، كما
ثبت في الصحيح لدى مسلم وأبي داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل»
ولا نتعرض فيها لتعب ولا إعياء، لا في الأبدان ولا في الأرواح إذ إنهم دأبوا على العبادة في الدنيا، فصاروا في راحة دائمة مستمرة، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٢٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- القرآن الكريم هو الحق الصدق الثابت الذي لا شك فيه، وهو الموافق والمصدق لأصول الكتب السماوية السابقة في صورتها الصحيحة قبل التحريف والتبديل لأن الله أعلم بما يحقق الحكمة والمصلحة والعدل.
٢- علماء الأمة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم ممن اختارهم الله ورثوا
268
القرآن وضمنه كل كتاب منزل لأن الله شرفهم على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم.
٣- قسم الله الأمة المسلمة بالنسبة للعمل بالقرآن ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه: أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق إلى الأعمال الصالحة.
٤- وعد الله المصطفين جميعا أو السابقين إلى الخيرات جنات عدن يدخلونها، متمتعين فيها بحلي الذهب المرصع باللؤلؤ، مرتدين فيها الحرير الخالص. وهذا دليل سرورهم ومتعتهم.
٥- يحمد الله هؤلاء المؤمنون الذين جعل مأواهم جنات عدن ودار الإقامة، قائلين: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أي الخوف من محذور المستقبل، لا يصيبنا فيها عناء ولا إعياء ولا مشقة.
وهذا إخبار ببقائهم في الجنان ودوامهم فيها على الاستمرار.
جزاء الكافرين وأحوالهم في النار وتهديدهم على كفرهم
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
269
الإعراب:
لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا فَيَمُوتُوا: منصوب بأن مضمرة بعد النفي.
البلاغة:
غَفُورٌ شَكُورٌ كَفُورٍ صيغ مبالغة، وتوافق فواصل.
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تهكم في صيغة أمر.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً إطناب لزيادة التشنيع والتقبيح على الكافرين وكفرهم.
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ سجع عفوي فيه غاية الجمال.
المفردات اللغوية:
لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا يستريحوا من العذاب وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها بل كلما خبت زيد استعارها كَذلِكَ نَجْزِي مثل ذلك الجزاء، أو كما جزيناهم كَفُورٍ كثير الكفر.
يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون في النار بشدة وصوت عال، من الصراخ: وهو الصياح رَبَّنا أَخْرِجْنا بإضمار: يقولون: أخرجنا منها نَعْمَلْ صالِحاً تقييد العمل بالصالح للتحسر على ما عملوه من غير الصالح، والاعتراف به.
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ جواب من الله وتوبيخ لهم، معناه نجعلكم تعمرون وقتا أو نمهلكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي أولم نعمركم وقتا كافيا للتذكر، من أراد أن يتذكر وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ الرسول، فما أجبتم لِلظَّالِمِينَ الكافرين نَصِيرٍ معين يدفع عنهم العذاب.
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لا تخفى عليه خافية، فلا يخفى عليه أحوالهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
بما في القلوب من العقائد والظنون، وهو تعليل لما سبق لأنه إذا علم مضمرات الصدور- وهي أخفى ما يكون- كان علمه بغيرها أولى، بالنظر إلى حال الناس.
270
خَلائِفَ جمع خليفة، يخلف بعضكم بعضا وهو الذي يقوم بما كان يقوم به سلفه، والخلفاء: جمع خليف. فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ جزاء كفره مَقْتاً غضبا وبغضا خَساراً خسارة للآخرة لأنهم اشتروا بعمرهم رأس المال سخط الله تعالى.
المناسبة:
بعد بيان جزاء ورثة القرآن، ذكر جزاء الكفار لأن المقارنة تبعث في النفس طمأنينة وارتياحا، وليعرف المؤمنون أن فخار الكفار في الدنيا عليهم ينقلب حسرة في الآخرة، وأنه لا نصير للظالمين. ثم أردف ذلك ببيان إحاطة علم الله بالأشياء، لينفي وجود نصير للظالمين، ثم ذكر خلافتهم في الأرض ليقطع حجتهم بطلب العودة إلى الدنيا، وأعقبه بتهديد الكافرين على كفرهم، فإنه لا ينفع عند الله إلا المقت، ولا يفيدهم إلا الخسارة، فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر.
التفسير والبيان:
بعد بيان حال السعداء شرع الله تعالى في بيان حال الأشقياء في الآخرة، فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي والذين كفروا بالله وبالقرآن وستروا ما تدل عليه العقول من دلالات واضحة على الحق، لهم نار جهنم، لا يحكم عليهم بموت ثان، فيستريحوا من العذاب والآلام، ولا يخفف عنهم شيء من العذاب طرفة عين، بل كلما خبت زيد سعيرها، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
ونظير الآية قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧٧] وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧٤- ٧٥] وقوله:
271
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء ١٧/ ٩٧] وقوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ ٧٨/ ٣٠].
وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها، ولا يحيون».
كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي كل مبالغ في الكفر، فنزج به في قعر جهنم.
ثم وصف تعالى حالهم في العذاب بقوله:
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي وهؤلاء الكفار يستغيثون في النار، رافعين أصواتهم، ينادون قائلين: ربنا أخرجنا منها، وارجعنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا ترضى عنه، غير ما كنا نعمله من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان بدل الكفر، والطاعة بدل المعصية.
فرد الله عليهم موبخا:
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نبقكم مدة من العمر، تتمكنون فيه من التذكر إذا أردتم التذكر، أو أما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق، لانتفعتم به في مدة عمركم؟
ونظير الآية: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر ٤٠/ ١١- ١٢].
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه».
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي وجاءكم الرسول المنذر، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعه
272
القرآن، ينذركم بالعقاب إن عصيتم. وقيل: النذير: الشيب. وقال الرازي:
أي آتيناكم عقولا، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول.
وبه يتبين أن الله تعالى احتج عليهم بالعمر والرسل لقوله تعالى:
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧٧- ٧٨] وقوله سبحانه:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك ٦٧/ ٨- ٩].
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي فذوقوا عذاب جهنم، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في الدنيا، فليس لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال، وهو تهكم بصيغة الأمر مثل قوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩].
ثم أخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع الأمور ومنها أحوالهم، فقال:
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
أي إن الله يعلم كل أمر خفي في السموات والأرض، ومنها أعمال العباد، لا تخفى منها خافية، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما قال سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٨] وذلك لأنه عليم بما تنطوي عليه الضمائر، وبما تكنّه السرائر، من المعتقدات والظنون وحديث النفس، وسيجازي كل عامل بعمله.
وفيه إشارة إلى أنه لو أعادهم إلى الدنيا لم يعدلوا عن الكفر أبدا. وقوله:
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
تعليل لشمول علمه.
273
ثم ذكر سببا آخر لعلمه بالغيب، فقال:
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي إن الله هو الذي جعلكم يخلف قوم قوما آخرين قبلهم، خلفا بعد خلف، وجيلا بعد جيل، لتنتفعوا بخيرات الأرض، وتشكروا الله بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل ٢٧/ ٦٢].
فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فمن كفر منكم هذه النعمة، فعليه ضرر كفره، وجزاؤه عليه دون غيره.
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى وغضب عليهم، وكلما أصروا على الكفر خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وأصابهم النقص والهلاك.
وهذا التكرار دليل على أن الكفر يستوجب أمرين هما البغض والخسران.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- هذه أحوال النار ومقالتهم، يخلدون في نار جهنم، ولا يموتون فيها ولا يحيون: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى ٨٧/ ١٣]، ولا يخفف عنهم شيء من عذابها، وهذا جزاء كل كافر بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
٢- إنهم يقولون في النار: ربنا أخرجنا من جهنم، وردنا إلى الدنيا، نعمل عملا صالحا غير عملنا الذي كنا نعمله، وهو الشرك، فنؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل.
٣- أجابهم الله تعالى بأنه أعطاهم مدة من العمر كافية، يتمكن فيه كل واحد
274
من التذكر إذا أراد التذكر، وجاءتهم الرسل تنذرهم من عقاب الله إن أصروا على الكفر، فكان أمامهم فرصتان: مدة العمر، وإرسال الرسل.
٤- إن دار الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يقبل فيها تصحيح الإيمان، ولا تنفع فيها التوبة، فذلك كله محله دار الدنيا، لذا يقال للكفار: ذوقوا عذاب جهنم لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم، فما للظالمين من ناصر ولا مانع من عذاب الله تعالى.
٥- الله تعالى عالم بكل أمر خفي أو ظاهر في الدنيا والآخرة، ومطلع على أعمال العباد، وهو يعلم أنه لو رد الكفار إلى الدنيا لم يعملوا صالحا، كما قال:
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام ٦/ ٢٨] وهذا تقرير لدوامهم في العذاب.
وسبب سعة علمه بالغيب: أنه عالم في الماضي والمستقبل بمضمرات الصدور، وأنه جعل الناس خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن، للانتفاع بكنوز الأرض، وشكر الله بالتوحيد والطاعة.
٦- من كفر فعليه جزاء كفره وهو العقاب والعذاب.
٧- إذا استمر الكفار على كفرهم لم يستفيدوا إلا أمرين: المقت، أي البغض والغضب من الله تعالى، والخسارة، أي الهلاك والضلال. فهل من معتبر منهم في الدنيا قبل فوات الأوان؟
مناقشة المشركين في عبادة الأوثان وإنكار التوحيد
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
275
الإعراب:
أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ.
إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ جملة سادّة مسد الجوابين: جواب القسم وجواب الشرط.
البلاغة:
أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ استفهام إنكاري للتوبيخ.
حَلِيماً غَفُوراً من صيغ المبالغة.
غُرُوراً غَفُوراً توافق فواصل.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعبدون من غير الله، وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء لله تعالى أَرُونِي أخبروني شِرْكٌ شركة مع الله فِي السَّماواتِ أي في خلقها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنا اتخذنا شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، أي لهم معي شركة بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ أي ما يعد الكافرون. ولمّا تقرر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف الأخلاف أو الرؤساء الأتباع غُرُوراً باطلا.
يُمْسِكُ يحفظ أَنْ تَزُولا كراهة أن تضطرب وتنتقل من أماكنها، من الزوال، والمعنى: يمنعهما من الزوال وَلَئِنْ اللام لام القسم إِنْ أَمْسَكَهُما ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله، أي سواه، أو من بعد الزوال، ومن الأولى: زائدة، والثانية: للابتداء والمعنى الأصح: لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما لو فرض زوالهما إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً في تأخير عقاب الكفار، وفي إمساكه السموات والأرض.
276
المناسبة:
بعد بيان جزاء المؤمنين والكافرين وتهديد كل من كفر بالله، ذكر تعالى ما يدعو للتوحيد ويبطل الإشراك، مناقشا المشركين في أبسط مقومات عبادة الإله: وهو الخلق والإبداع، وأن هذه الآلهة المزعومة عاجزة عن ذلك.
التفسير والبيان:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ قل أيها النبي للمشركين: أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله وتتخذونهم آلهة من الأصنام والأوثان، هل خلقوا شيئا من الأرض، حتى يستحقوا الألوهية؟
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ وهل لهم شركة مع الله في خلق السموات أو في ملكها أو في التصرف فيها، حتى يستحقوا بذلك الشركة في الألوهية؟
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ أي وهل أنزلنا عليهم كتابا يقرر ما يقولونه من الشرك والكفر، يكون لهم حجة فيما يدعون؟
بَلْ، إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي كلها غرور وباطل وزور، كما يعد الرؤساء والقادة أتباعهم بمواعيد يغرونهم بها، وهي أباطيل تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده.
وبعد بيان ضعف الأصنام وعجزها عن أي شيء، أبان تعالى ما يؤهله للعبادة، ويجعله أهلا للعظمة، فقال مبينا قدرته وبديع صنعه:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنع زوال
277
السموات والأرض واضطرابها، وانتقالها من أماكنها، وهذا يشير إلى نظام الجاذبية، وأن الأرض كرة تسبح في الفضاء، كغيرها من الشمس والقمر والكواكب الأخرى السيارة التي تجري في مدارات خاصة بها، كما قال عز وجل:
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [فاطر ٣٥/ ٤١] وقال سبحانه:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم ٣٠/ ٢٥].
وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي لو قدّر إشرافهما على الزوال، لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما، ولا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، يمهل عقاب المشركين، ويغفر لمن تاب منهم ما أجرم في الماضي، فهو يحلم فيؤخّر ويؤجّل، ولا يعجّل، ويستر آخرين ويغفر، ويظل ممسكا السموات والأرض، بالرغم من أنه يرى عباده، وهم يكفرون به ويعصونه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- يتحدى الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد، ويطالبهم أن يخبروا عن شركائهم الذين يعبدونهم من دون الله، أعبدوهم لأن لهم شركة في خلق السموات والأرض، أم خلقوا من الأرض شيئا؟! أم عندهم كتاب أنزله إليهم بالشركة؟! وقوله شُرَكاءَكُمُ: إنما أضاف الشركاء إليهم، من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال: شُرَكاءَكُمُ أي الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال: شركاءكم في النار، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨] قال الرازي: وهو قريب، ويحتمل أن يقال: هو بعيد، لاتفاق المفسرين على الأول.
278
٢- الحقيقة أنه لا جواب يقنع من المشركين، وإنما هم يتبعون أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي باطل وزور، وما مواعيدهم لبعضهم بعضا إلا أباطيل تغرّ، حين قال السادة للأتباع: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقرّبكم.
٣- الدليل على عظمة الله وقدرته بعد ثبوت ضعف الأصنام وعجزها: هو أن الله خالق السموات والأرض وممسكهما، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه، ولو زالتا فرضا واضطربتا ما أمسكهما من أحد غير الله جل جلاله.
٤- من صفات الله العليا: الحلم، فلا يعجل العقوبة للكفار والعصاة، والمغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى إلى طريق الحق على الدوام، وهو تعالى يحافظ على هذا النظام البديع للكون، بالرغم من كفر الكافرين.
إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
279
الإعراب:
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ اسْتِكْباراً مفعول لأجله، ومَكْرَ السَّيِّئِ منصوب على المصدر، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، بدليل قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
البلاغة:
ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ في ظَهْرِها استعارة مكنية، شبّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات، ثم حذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الظهر، بطريق الاستعارة المكنية.
عَلِيماً قَدِيراً بَصِيراً من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
وَأَقْسَمُوا حلف المشركون جَهْدَ أَيْمانِهِمْ طاقتها وغاية اجتهادهم فيها لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول منذر أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ اليهود أو النصارى، لما رأوا من تكذيب بعضهم بعضا إذ قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق والهدى.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي إنهم ما كذبوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لاعتقاد كذبه، إنما فعلوا ذلك لأجل الاستكبار عن أن يكونوا أتباعا له، ولأجل العتو: وهو التجبر والمضي في الفساد وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي ومكر العمل السيء من الشرك وكيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمكر: هو الحيلة والخداع والعمل القبيح وَلا يَحِيقُ لا يصيب ولا ينزل ولا يحيط إِلَّا بِأَهْلِهِ وهو الماكر فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ طريقة المتقدمين من تعذيب المكذبين رسلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي لا يبدل بالعذاب غيره، ولا يحول إلى غير مستحقه، وبعبارة أخرى: التبديل: وضع الرحمة موضع العذاب، والتحويل: نقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم.
عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مصير وآثار الماضين من قبلهم أثناء سيرهم إلى الشام واليمن والعراق، كعاد وثمود ومدين وأمثالهم، نزل بهم العذاب، لما كذبوا الرسل، فتلك سنة الله في المكذبين التي لا تبدّل ولا تحوّل وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأطول أعمارا، وأكثر أموالا، وأقوى أبدانا، من أهل مكة، فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم. والواو: واو الحال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ
280
شَيْءٍ
يسبقه ويفوته إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها لا يخفى عليه شيء قَدِيراً لا يصعب عليه أمر.
بِما كَسَبُوا عملوا من الذنوب أو المعاصي أو الخطايا عَلى ظَهْرِها على ظهر الأرض من الأحياء مِنْ دَابَّةٍ من الدواب التي تدبّ، والدابة: كل ما يدبّ على الأرض وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي فيجازيهم على أعمالهم، بإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين.
سبب النزول: نزول الآية (٤٢) :
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه: أن قريشا كانت تقول: لو أن الله بعث منا نبيا، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكا بكتابها منا، فأنزل الله: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ [الصافات ٣٧/ ١٦٨] لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام ٦/ ١٥٧] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ وكانت اليهود تستفتح على النصارى به، فيقولون: إنا نجد نبيا يخرج.
المناسبة:
بعد بيان إنكار المشركين للتوحيد، وتوبيخهم وتقريعهم على سخف عقولهم، ذكر الله تعالى تكذيبهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بعد ترقبهم له، ثم هددهم بالهلاك كمن قبلهم من الأمم الغابرة الذين كذبوا رسلهم، وأردفه بتذكيرهم بما يشاهدونه في رحلاتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار تدمير منازل المكذبين بالرغم من كمال القوة، وكثرة المال والولد، وختم السورة ببيان مدى حلمه على الناس، وأنه لو أراد مؤاخذتهم لأفناهم، ولكنه أخرّ عقابهم إلى يوم القيامة، وحينها يعاقبهم على أعمالهم.
281
التفسير والبيان:
هذا نبأ عجيب غريب عن قريش والعرب لا علم لنا به من غير القرآن، قال تعالى:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أقسمت قريش والعرب بالله أغلظ الأيمان قبل إرسال الرسول إليهم: لئن جاءهم من الله رسول منذر ليكونن أمثل من أي أمة من الأمم أو من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل في الطاعة، وأشدهم تمسكا بالرسالة وقبولا لها.
وذلك كقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٦- ١٥٧].
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي فلما أتاهم ما تمنوه، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه من القرآن العظيم، ما ازدادوا إلا كفرا إلى كفرهم وتباعدا عن الإيمان وإجابة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مستكبرين عن اتباع آيات الله، ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله تعالى.
وبه تبين ألا عهد لهم، ولا صدق في كلامهم، ولا وفاء بما يقولون، فتحملوا ثم فعلهم كما قال تعالى:
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم نفسهم دون غيرهم، وعادت عليهم عاقبة مكرهم بالإثم والوزر، ونزلت عاقبة لسوء بمن أساء، قبل المساء إليه، كما قال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
282
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
[الشعراء ٢٦/ ٢٢٧] ومكر السيء: أي مكر العمل السيء، والمكر: هو الحيلة والخداع والعمل القبيح، وهو هنا الكفر وخداع الضعفاء، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.
ثم هددهم بجزاء أمثالهم، فقال:
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي فهل ينتظرون إلا عقوبة لهم على تكذيبهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومخالفة أوامره مثل عقوبة الله للأمم الماضية المكذبين.
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي تلك سنة الله وطريقته. التي لا تتغير ولا تتبدل في كل مكذب، فلن توضع الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من مكذب إلى غيره، كما قال تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرعد ١٣/ ١١].
ثم لفت أنظارهم إلى آثار تدمير الماضين المكذبين فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي أولم ينتقلوا في الأراضي في رحلاتهم إلى الشام واليمن والعراق، فيشاهدوا مصير السابقين الذين كذبوا الرسل، كيف دمّر الله عليهم، وللكافرين أمثالهم، بالرغم من أنهم كانوا أشد قوة من قريش وأكثر عددا وعددا، وأموالا وأولادا، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء أمر ربك، لأنه كما قال تعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً أي لأن الله لا يعجزه ولا يفوته أو يسبقه شيء إذا أراد حدوثه في السموات والأرض، فلن يعجزه هؤلاء المشركون المكذبون لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولن يفلتوا من عقابه لأن الله تعالى عليم بجميع الكائنات لا يخفى عليه شيء، قدير
283
لا يصعب عليه أمر، فهو يعلم المستحق للعقوبة، قادر على الانتقام منه في أي وقت أو مكان شاء.
ثم أبان الله تعالى سياسته العقابية، وأخبر عن سابغ وواسع رحمته بالناس، فقال:
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أي لو عجل تعالى العقاب وآخذ الناس بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل السموات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، لشؤم معاصيهم. والمراد بالدابة كما قال ابن مسعود: جميع الحيوان مما دبّ ودرج.
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي ولكن يؤجل عقابهم ومؤاخذتهم بذنوبهم إلى وقت محدد وهو يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستحق منهم العقاب، لا يخفى عليه شيء من أمرهم.
ونظير الآية: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف ١٨/ ٥٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أقسمت قريش قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم أنه إن جاءهم نبي ليكونن أهدى ممن كذب الرسل من أهل الكتاب.
وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل.
فلما جاءهم ما تمنّوه وهو الرسول النذير، من أنفسهم، نفروا عنه، ولم يؤمنوا
284
به، تكبرا وعتوا عن الإيمان، ومكرا منهم بصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.
٢- لكن تنكر المشركين للعهد بالله، وإخلالهم بالوفاء باليمين، وعاقبة شركهم: لا ترتد آثاره إلا عليهم أنفسهم. وهذا ما دل عليه قوله تعالى:
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. وفي أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا»
وروى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا، فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغ ولا تعن باغيا، فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
وفي الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن قيس بن سعد: «المكر والخديعة في النار»

أي تدخل أصحابها في النار لأنها من أخلاق الكفار، لا من أخلاق المؤمنين الأخيار،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «وليس من أخلاق المؤمن: المكر والخديعة والخيانة».
٣- ما موقف المشركين المعاند من نبي الله إلا كموقف من ينتظر العذاب الذي نزل بالكفار الأولين، وقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة أي طريقة فيهم، فهو يعذب المستحق، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والإهلاك ليس سنة الأولين وإنما هو سنة الله بالأولين.
٤- تأكيدا لهذا الموقف نبّههم الله تعالى إلى الأمثلة الواقعية من تاريخ الأمم الغابرة، وهم الذين يشاهدون آثار تدمير مساكنهم ودورهم أثناء تجاراتهم ورحلاتهم إلى بلاد اليمن والشام والعراق، مثل إهلاك قوم عاد وثمود ومدين وغيرهم، لما كذبوا رسل الله، وكانوا أشد من أهل مكة قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وإذا أراد الله إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك.
٥- اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعجل العذاب للعصاة والكفار على
285
ذنوبهم، وإنما يؤخرهم ويمهلهم إلى يوم معين كي تكون لديهم فرصة، فيتداركوا تقصيرهم، ويعدلوا عن ظلمهم، وكان مقتضى العدل تعجيل العقوبة، وإذا فعل الله ذلك، أهلك جميع المخلوقات إلا من يشاء، والله سبحانه عليم بمن يستحق العقاب منهم.
وهذا رد بليغ على المشركين الذين كانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم وعتوهم يستعجلون بالعذاب، ويقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجل لنا عذابنا، فقال الله: للعذاب أجل.
وقد حكى القرآن الكريم استعجال المشركين بالعقاب استهزاء، حيث قالوا:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
286

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يس
مكيّة، وهي ثلاث وثمانون آية.
تسميتها:
سميت سورة يس لافتتاحها بهذه الأحرف الهجائية، التي قيل فيها إنها نداء معناه (يا إنسان) بلغة طي لأن تصغير إنسان: أنيسين، فكأنه حذف الصدر منه، وأخذ العجز، وقال: يس أي أنيسين. وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدليل قوله تعالى بعده. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- بعد أن ذكر تعالى في سورة فاطر قوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [٣٧] وقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ [٤٢] والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد أعرضوا عنه وكذبوه، افتتح هذه السورة بالقسم على صحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم، وأنه أرسل لينذر قوما ما أنذر آباؤهم.
٢- هناك تشابه بين السورتين في إيراد بعض أدلة القدرة الإلهية الكونية، فقال تعالى في سورة فاطر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى
287
[١٣] وقال في سورة يس: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [٣٧- ٣٨].
٣- وقال سبحانه في فاطر: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [١٢] وقال في يس: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [٤١].
مشتملاتها:
تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية المفتتحة بأحرف هجائية الكلام عن أصول العقيدة من تعظيم القرآن الكريم، وبيان قدرة الله ووحدانيته، وتحديد مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبشارة والإنذار، وإثبات البعث بأدلة حسية مشاهدة من الخلق المبتدأ والإبداع الذي لم يسبق له مثيل.
وقد بدئت السورة بالقسم الإلهي بالقرآن الحكيم على أن محمدا رسول حقا من رب العالمين لينذر قومه العرب وغيرهم من الأمم، فانقسم الناس من رسالته فريقين: فريق معاند لا أمل في إيمانه، وفريق يرجى له الخير والهدى، وأعمال كل من الفريقين محفوظة، وآثارهم مدونة معلومة في العلم الأزلي القديم.
ثم ضرب المثل لهم بأهل قرية كذبوا رسلهم واحدا بعد الآخر، وكذبوا الناصح لهم وقتلوه، فدخل الجنة، ودخلوا هم النار. وأعقب ذلك تذكيرهم بتدمير الأمم المكذبة الغابرة.
وانتقل البيان إلى إثبات البعث والقدرة والوحدانية بإحياء الأرض الميتة، وبيان قدرة الله الباهرة في الكون من تعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة والثابتة، وتسيير السفن في البحار.
وإزاء ذلك هزم الجاحدون، وأنذروا بالعقاب السريع، وفوجئوا بنقمة الله في تصوير أهوال القيامة، وبعثهم من القبور بنفخة البعث والنشور، فأعلنوا
288
ندمهم، وصرحوا بأن البعث حق، ولكن لم يجدوا أمامهم إلا نار جهنم، وكانوا قد وبخوا على اتباع وساوس الشيطان، وأعلموا أن الله قادر على مسخهم في الدنيا.
وأما المؤمنون فيتمتعون بنعيم الجنان، ويحسون بأنهم في أمن وسلام من رب رحيم.
ثم نفى الله تعالى كون رسوله شاعرا، وأعلم الكافرين أنه منذر بالقرآن المبين أحياء القلوب، وذكّر الناس قاطبة بضرورة شكر المنعم على ما أنعم عليهم من تذليل الأنعام، والانتفاع بها في الطعام والشراب واللباس.
وندد الله تعالى باتخاذ المشركين آلهة من الأصنام أملا في نصرتها لهم يوم القيامة، مع أنها عاجزة عن أي نفع، وهم مع ذلك جنودها الطائعون.
وختمت السورة بالرد القاطع على منكري البعث بما يشاهدونه من ابتداء الخلق، وتدرج الإنسان في أطوار النمو، وإنبات الشجر الأخضر ثم جعله يابسا، وخلق السموات والأرض، وإعلان القرار النهائي الحتمي الناجم عن كل ذلك، وهو قدرة الله الباهرة على إيجاد الأشياء بأسرع مما يتصور الإنسان، وأنه الخالق المالك لكل شيء في السموات والأرض.
والخلاصة: أن السورة كلها إيقاظ شديد للمشاعر والوجدان، وتحريك قوي للأحاسيس، وفتح نفّاذ للقلوب، لكي تبادر إلى الإقرار بالخالق وتوحيده، والإيمان بالبعث والجزاء.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتاب أبي داود عن معقل بن يسار: «اقرؤوا يس على موتاكم».
289
Icon