تفسير سورة ق

نظم الدرر
تفسير سورة سورة ق من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة ق وتسمى الباسقات١
مقصودها تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه٢ الإعلام٣ بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال، وأحسن من هذا أن يقال : مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم٤ لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الملك الذي هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة [ مجد-٥ ] القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكيب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفصيل إلى حد لا تطيقه القوى، ومن إحاطة أوصاف الرسول الذي اختاره سبحانه لإبلاغ هذا الكتاب في الخلق، وما شوهد من إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آيات٦ الإيجاد والإعدام، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها " ق " لما في آياته٧ من إثبات المجد بهذا الكتاب، والمجد هو الشرف والكرم٨ والرفعة والعلو، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك، أولا بمخرجها فإنه من أصل٩ اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل والعلو، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو، وهو لا يكون إلا مع الصدق، ولإحاطتها سمى بها الجبل المحيط بالأرض، هذا بمخرجها، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا، / وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل، لما انفردت به عما شاركها من النبات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع، فإنها جامعة للتفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوص النافع للافتراش والليف النافع للحبال، ودون ذلك وأعلاه من الخلال، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصها، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الأقناء وتناضد الثمر، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل ﴿ بسم الله ﴾ الذي من إحاطة حمده بيانه ما لنبيه صلى الله عليه وسلم من إحاطة الحمد، ولقدرته سبحانه من الإحاطة التي ليس لها حد ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم خلقه برحمته حين أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم بشرائعه، فهو أصدق العباد، وأظهر بعظيم معجزاته أن قدرته ما لها من نفاد ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرغاد.
١ الخمسون من سور القرآن الكريم مكية وعدد آسها ٤٥ بالاتفاق..
٢ من مد، وفي الأصل: معظمه..
٣ في مد: الإنذار..
٤ سقط من مد..
٥ زيد من مد..
٦ من مد، وفي الأصل: الآيات..
٧ في مد: آيته..
٨ من مد، وفي الأصل: الإكرام..
٩ ومن هنا إلى ما سننبه عليه ليست نسخة مد واضحة..

لما ختم سبحانه الحجرات بإحاطة العلم قال أول هذه: ﴿ق﴾ إشارة إلى أنه هو سبحانه وحده المحيط علماً وقدرة بما له من العلو والشدة والقوة القيومية والقهر ونافذ القضاء والفتح لما أراد من المغلقات، بما أشارت إليه القاف بصفاتها وأظهرته بمخرجها المحيط بما جمعه مسماها من المخارج الثلاث: الحلق واللسان والشفاه.
وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف: اعلم أن القرآن منزل مثاني، ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص، ومتشابه الآيات، والسورة المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسيرة عدد الآي قصيرة مقدارها، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم
398
سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلفاً مما يعولهم من مضمون سائر السور المطولات، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد، والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم، وكذلك كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة إليهم لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية، وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة، واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين.
ولما كان جميع السور المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع، العاشر الجامع قواماً وإحاطة في جميع القرآن، ولذلك كانت سورة قاف وسورة ن قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة من القرآن الذين يجمعهم الأرض بما أحاط بظاهرها من صورة جبل قاف، وما أحاط بباطنها من صورة حيوان «نون» الذي تمام أمرهم بما بين مددي إقامتها ولهذا السورة المفتتحة بالحرف ظهر اختصاص القرآن وتميزه عن سائر الكتب لتضمنها الإحاطة التي لا تكون إلا بما للخاتم الجامع، واقترن بها من التفضيل في سورها ما يليق بإحاطتها، ولإحاطة معانيها
399
وإتمامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها، فهو صحيح في إحاطتها ومنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما تقتضيه، ومهما فسرت به من أنها من أسماء الله تعالى أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء، وصور الموجودات أو من أنها أقسام أقسم بها، أو فواتح عرفت بها السور، أو أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك، وكل داخل في إحاطتها، ولذلك أيضاً لا تختص بمحل مخصوص تلزمه علامة إعراب مخصوصة فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً أو نصباً أو رفعاً، فتداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص ولا إعراب خاص لما لم يكن لها انتظام، لأنها مستقلات محيطات، وإنما ينتظم ما يتم معنى - كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام، وذلك يختص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى وقع استقلال وإحاطة في
400
كلمة لم يقع فيها انتظام.
ولما أشار سبحانه إلى هذه الإحاطة بالقاف، أقسم على ذلك قسماً هو في نفسه دال عليه فقال: ﴿والقرآن﴾ أي الكتاب الجامع الفارق ﴿المجيد *﴾ الذي له العلو والشرف والكرم والعظمة على كل كلام، والجواب أنهم ليعلمون ما أشارت إليه القاف من قوتي وعظمتي وإحاطة علمي وقدرتي، وما اشتمل عليه القرآن من المجد بإعجازه واشتماله على جميع العظمة، ولم ينكروا شيئاً من ذلك بقلوبهم، ومجيد القرآن كما تقدم في أثناء الفاتحة ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم بعلم ما شهد، وكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي، وما شهد من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، وإذا تأملت السورة وجدت آيها المنزلة على جميع ذلك، فإنه سبحانه ذكرهم فيها ما يعلمون من خلق السماوات والأرض وما فيهما ومن مصارع الأولين وكذا السورة الماضية ولا سيما آخرها المشير إلى أنه أدخل على الناس الإيمان برجل واحد غلبهم بمجده وإعجازه لمجد منزله بقدرته وإحاطة علمه - والله الهادي، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل ما فيه مجد عند الله وعند الناس.
401
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كانت سورة الفتح قد انطوت على جملة من الألطاف التي خص الله بها عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد فاسق ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ﴾ الآية، وأمرهم بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه ولا يعاملوه في الجهر بالقول كمعاملة بعضهم بعضاً، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن التجسس والغيبة، وأمرهم بالتواضع في قوله ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ وأخبرهم تعالى أن استجابتهم وامتثالهم هذه الأوامر ليست بحولهم، ولكن بفضله وإنعامه، فقال: ﴿ولكن الله حبب إليك الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان﴾ الآيتين، ثم أعقب ذلك بقوله ﴿يمنون عليك أن أسلموا﴾ الآية، ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه، بل جعله في طرف من حال من أمر ونهى في سورة الفتح مع المساواة في الخلق وتماثل الأدوات فقال تعالى: ﴿والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم﴾ الآيات، ثم ذكر سبحانه وتعالى وضوح الأدلة ﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم﴾ الآيات، ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم ﴿كذبت قبلهم قوم نوح﴾ ليتذكر بمجموع هذا من قدم ذكره بحاله
402
وأمره ونهيه في سورة الفتح، ويتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه من الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه، ثم التحمت الآي إلى قوله خاتمة السورة ﴿نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم﴾ الآيات - انتهى.
ولما كان هذا ظاهراً على ما هدى إليه السياق، بنى عليه قوله دلالة أخرى على شمول علمه: ﴿بل﴾ أي أن تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجده ولا لإنكار صدقك الذي هو من مجده بل لأنهم ﴿عجبوا﴾ أي الكفار، وأضمرهم قبل الذكر إشارة إلى أنه إذا ذكر شيئاً خارجاً عن سنن الاستقامة انصرف إليهم، والعجب من تغير النفس لأمر خارج عن العادة.
ولما كان المقام لتخويف من قدم بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو منّ عليه بالإسلام أو غيره، أو لتخويف من أنكر البعث، اقتصر على النذارة فقال: ﴿أن جاءهم منذر﴾ أنذرهم حق الإنذار من عذاب الله عند البعث الذي هو محط الحكمة، وعجب منهم هذا العجب بقوله: ﴿منهم﴾ لأن العادة عندهم وعند جميع الناس أنه إذا كان النذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه، وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير - وهو أحدهم -
403
خص بالرسالة دونهم، ولم يدركوا وجه الخصوصية لكونه مثلهم، فكذلك أنكروا رسالته وفضل كتابه بألسنتهم نفاسة وحسداً لأنهم كانوا معترفين بخصائصه التي رفعه الله تعالى عليهم بها قبل الرسالة فحطهم عجبهم ذلك إلى الحضيض من دركات السفه وخفة الأحلام، لأنهم عجبوا أن كان الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً، وعبجوا من أن يعادوا من تراب، وتثبت له الحياة، ولم يعجبوا أن يبتدؤوا من تراب ولم يكن له أصل في الحياة، ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فقال﴾ أي بسبب إنذاره بالبعث وعقبه ﴿الكافرون﴾ فأظهر في موضع الإنذار إيذاناً بأنهم لم يخف عليهم شيء من أمره، ولكنهم ستروا تعدياً بمرأى عقولهم الدالة على جميع أمره دلالة ظاهرة، وعبر بما دل على النذارة لأنها المقصود الأعظم من هذه السورة، وجميع سياق الحجرات ظاهر فيها: ﴿هذا﴾ أن يكون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا، وكون ما أنذر به هو البعث بعد الموت ﴿شيء عجيب *﴾ أي بليغ في الخروج عن عادة أشكاله، وقد كذبوا في ذلك، أما من جهة النذير فإن أكثر الرسل من الطوائف الذين أرسلوا إليهم، وقليل منهم من كان غريباً ممن أرسل إليه، وأما من جهة البعث فإن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض من بعد موتها وابتداء الإحياء لجميع موات الحيوان وإخراج النبات والأشجار
404
والثمار وغير ذلك مما هو ظاهر جداً.
ولما كان المتعجب منه مجملاً، أوضحه بقوله حكاية عنهم مبالغين في الإنكار، بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري: ﴿إذا متنا﴾ ففارقت أرواحنا أشباحنا ﴿وكنا تراباً﴾ لا فرق بينه وبين تراب الأرض. ولما كان العامل في الظرف ما تقديره: نرجع؟ دل عليه بقوله والإشارة بأداة البعد إلى عظيم استبعادهم: ﴿ذلك﴾ أي الأمر الذي هو في تمييز ترابنا من بقية التراب في غاية البعد، وهو مضمون الخبر برجوعنا ﴿رجع﴾ أي رد إلى ما كنا عليه ﴿بعيد *﴾ جداً لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب. ولما كان السياق لإحاطة العلم بما نعلم وما لا نعلم، توقع السامع الجواب عن هذا الجهل، فقال مزيلاً لسببه، مفتتحاً بحرف التوقع: ﴿قد﴾ أي بل نحن على ذلك في غاية القدرة لأنا قد ﴿علمنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿ما تنقص الأرض منهم﴾ أي من أجزائهم المتخللة من أبدانهم بعد الموت وقبله، فإنه لو زاد الإنسان بكل طعام يأكله ولم ينقص صار كالجبل بل نحن دائماً في إيجاد وإعدام تلك الأجزاء، وذلك فرع العلم بها كل جزء في وقته الذي كان نقصه فيه قل ذلك الجزء أو جل، ولم يكن شيء من ذلك إلا بأعيينا
405
بما لنا من القيومية والخبرة النافذة في البواطن فضلاً عن الظواهر والحفظ، الذي لا يصوب إلى جنابه عي ولا غفلة ولا غير، ولكنه عبر بمن لأن الأرض لا تأكل عجب الذنب، فإنه كالبزر لأجسام بني آدم.
ولما كانت العادة جارية عند جميع الناس بأن ما كتب حفظ، أجرى الأمر على ما جرت به عوائدهم فقال مشيراً بنون العظمة إلى غناه عن الكتاب: ﴿وعندنا﴾ أي على ما لنا من الجلال الغني عن كل شيء ﴿كتاب﴾ أي جامع لكل شيء ﴿حفيظ *﴾ أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء دق أو جل، فكيف يستبعدون على عظمتنا أن لا نقدر على تمييز ترابهم من تراب الأرض ولم يختلط في علمنا شيء من جزء منه بشيء من جزء آخر فضلاً عن أن يختلط شيء منه بشيء آخر من تراب الأرض أو غيرها.
ولما كان التقدير: وهم لا ينكرون ذلك من عظمتنا لأنهم معترفون بأنا خلقنا السماوات والأرض وخلقناهم من تراب وإنا نحن ننزل الماء فينبت النبات، أضرب عنه بقوله: ﴿بل الذين كذبوا بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي لا أثبت منه ﴿لما﴾ أي حين ﴿جاءهم﴾ لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس وغلبهم من الهوى، حسداً منهم من غير تأمل لما قالوه ولا تدبر، ولا نظر فيه
406
ولا تفكر، فلذلك قالوا ما لا يعقل من أن من قدر على إيجاد شيء من العدم وإبدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه وإفنائه.
ولما تسبب عن انتسابهم في هذا القول الواهي وارتهانهم في عهدته اضطرابهم في الرأي: هل يرجعون فينسبوا إلى الجهل والطيش والسفة والرعونة أم يدومون عليه فيؤدي ذلك مع كفرهم بالذي خلقهم إلى أعظم من ذلك من القتال والقتل، والنسبة إلى الطيش والجهل، قال معبراً عن هذا المعنى: ﴿فهم﴾ أي لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف ﴿في أمر مريج *﴾ أي مضطرب جداً مختلط، من المرج وهو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة، فهم تارة يقولون: سحر، وتارة كهانة، وتارة شعر، وتارة كذب، وتارة غير ذلك، والاضطراب موجب للاختلاف، وذلك أدل دليل على الإبطال كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق، وذلك أدل دليل على الحقية، قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم - وكذا قال قتادة، وزاد: والتبس عليهم دينهم.
ولما أخبرهم أنهم قالوا عن غير تأمل أنكر عليهم ذلك موبخاً لهم دالاًّ على صحة ما أنكروه وفساد إنكارهم بقوله، مسبباً عن عجلتهم إلى الباطل، ﴿أفلم ينظروا﴾ أي بعين البصر والبصيرة ﴿إلى السماء﴾ أي المحيط بهم وبالأرض التي هم عليها. ولما كان هذا اللفظ يطلق على كل ما علا من سقف وسحاب وغيره وإن كان ظاهراً في السقف المكوكب
407
حققه بقوله: ﴿فوقهم﴾ فإن غيرهم إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل. ولما كان أمرها عجباً، فهو أهل لأن يسأل عن كيفيته دل عليه بأداة الاستفهام فقال: ﴿كيف بنيناها﴾ أي أوجدناها على ما لنا من المجد والعزة مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد ﴿وزيناها﴾ أي بما فيها من الكواكب الصغار والكبار السيارة والثابتة ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿لها﴾ وأكد النفي بقوله: ﴿من فروج *﴾ أي فتوق وطاقات وشقوق، بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء، فإن كانت هذه الزينة من تحتها فالذي أوقع ذلك على هذا الإحكام الذي يشاهدونه بما فيه من المنافع والستر الذي لا يختل على مر الجديدين، فهو من القدرة بحيث لا يعجزه شيء، وإن كانت الزينة من فوقها فكذلك، وإن كان بعضها من فوق وبعضها من تحت فالأمر عظيم، وهذا يدل على أن السماء كرة مجوفة الوسط مقببة كالبيضة، فإن نفي الفروج فيها على هذا الوجه المؤكد يدل على ذلك دلالة ظاهرة، وأفرد السماء ولم يجمع لأن بناءها على ما ذكر وإن كانت واحدة يدل على كمال القدرة، فإن البناء المجوف لا يمكن بانيه إكمال بنائه من غير أن يكون له فروج، وإن اختل ذلك كان موضع الوصل ظاهراً للرائين ما فيه من فتور وشقوق وقصور وما يشبه ذاك، ولم يمكنه مع ذلك الخروج منه،
408
إن كان داخله فلم يقدر على حفظ خارجه، وإن كان خارجه لم يتمكن من حفظ داخله، وهذا الكون محفوظ من ظاهره وباطنه، فعلم أن صانعه منزه عن الاتصاف بما تحيط به العقول بكونه داخل العلم أو خارجه أو متصلاً به أو منفصلاً عنه، أو محتاجاً في الصنعة إلى إله أو في الحفظ إلى ظهير أو معين، وجمع الفرج للدلالة على إرادة الجنس بالسماء بعد ما أفاده إفراد لفظها، فيدل الجمع مع إرادة الجنس على التوزيع، مع الإفهام إلى أن الباني لو احتاج في هذا الخلق الواسع الأطراف المتباعد الأكناف إلى فرج واحد لاحتاج إلى فروج كثيرة.
فإن هذا الجرم الكبير لا يكفي فيه فرج واحد لمن يحتاج إلى الحركة، فنزل كلام العليم الخبير على مثل هذه المعاني، ولا يظن أنه غيرت فيه صنعة من الصنع لأجل الفاصلة فقط، فإن ذلك لا يكون إلا من محتاج، والله متعال عن ذلك، ويجوز - وهو أحسن - أن يراد بالفروج قابلية الإنبات لتكون - مثل الأرض - يتخللها المياه فيمتد فيها عروق الأشجار والنبات وتظهر منها، وأن يراد بها الخلل كقوله تعالى ﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور﴾ [الملك: ٣] أي خلل واختلاف وفساد، وهو لا ينفي الأبواب والمصاعد - والله أعلم.
409
ولما دل سبحانه على تمام قدرته وكمال علمه وغير ذلك من صفات الكمال بآية السماء، أتبع ذلك الدلالة على أنه لا يقال فيه داخل العالم ولا خارجه لأنه متصل به ولا منفصل عنه، نبه على ذلك بالدلالة على آية الأرض، وأخرها لأن السماء أدل على المجد الذي هذا سياقه، لأنها أعجب صنعة وأعلى علوّاً وأجل مقداراً وأعظم أثراً، وأن الأرض لكثرة الملابسة لها والاجتناء من ثمارها يغفل الإنسان عن دلالتها، بما له في ذلك من الصنائع والمنافع، فقال: ﴿والأرض﴾ أي المحيطة بهم ﴿مددناها﴾ أي جعلناها لما لنا من العظمة مبسوطة لا مسنمة. ولما كان الممدود يتكفأ، قال: ﴿وألقينا﴾ بعظمتنا ﴿فيها رواسي﴾ أي جبالاً ثوابت كان سبباً لثباتها، وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق، والمراسي تعالجونها أنتم من تحت.
ولما كان سكانها لا غنى لهم عن الرزق، قال ممتناً عليهم: ﴿وأنبتنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ وعظم قدرتها بالتبعيض فقال: ﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات تزاوجه أشكاله بأرزاقكم كلها ﴿بهيج *﴾ أي هو في غاية الرونق والإعجاب، فكان - مع كونه رزقاً - متنزهاً.
ولما ذكر هذه الصنائع الباهرة، عللها بقوله: ﴿تبصرة﴾ أي جعلنا هذه الأشياء كلها، أي لأجل أن تنظروها بأبصاركم، ثم تتفكروا ببصائركم، فتعبروا منها إلى صانعها، فتعلموا ما له من العظمة ﴿وذكرى﴾ أي ولتتذكروا بها تذكراً عظيماً، بما لكم من القوى والقدر فتعلموا
410
بعجزكم عن كل شيء من ذلك أن صانعها لا يعجزه شيء، وأنه محيط بجميع صفات الكمال، لو ألم بجنابه شائبة من شوائب النقص لما فاض عنه هذا الصنع الغريب البديع.
ولما كان من لا ينتفع بالشيء كأنه عادم لذلك الشيء، قصر الأمر على المنتفع فقال: ﴿لكل عبد﴾ يتذكر بما له من النقص وبما دل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه. ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يزال كلما أعلاه عقله أسفله طبعه، فكان ربما ظن أنه لا يقبل إذا رجع، رغبة في الرجوع بقوله: ﴿منيب *﴾ أي رجاع عما حطه عنه طبعه إلى ما يعليه إليه عقله، فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود هذه الصفات إلى علم الذات.
ولما كان إنزال الماء أبهر الآيات وأدلها على أنه أجلّ من أن يقال: إنه داخل العالم أو خارجه، أو متصل به أو منفصل عنه، مع أن به تكوّن النبات وحصول الأقوات وبه حياة كل شيء، أفرده تنبيهاً على ذلك فقال: ﴿ونزلنا﴾ أي شيئاً فشيئاً في أوقات على سبيل التقاطر وبما يناسب عظمتنا التي لا تضاهى بغيب، بما له من النقل والنبوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المفقرة وعادت المنفعة مضرة ﴿من السماء﴾ أي المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر ﴿ماء مباركاً﴾ أي نافعاً جداً ثابتاً لا خيالاً محيطاً
411
بجميع منافعكم.
ولما كان الماء سبباً في تكون الأشياء، وكان ذلك سبباً في انعقاده حتى يصير خشباً وحباً وعنباً، وغير ذلك عجباً، قال: ﴿فأنبتنا﴾ معبراً بنون العظمة ﴿به جنات﴾ من الثمر والشجر والزرع وغيره مما تجمعه البساتين فتجنّ - أي تستر - الداخل فيها. ولما كان القصب الذي يحصد فيكون حبه قوتاً للحيوان وساقه للبهائم، خصه بقوله: ﴿وحب الحصيد﴾ أي النجم الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير ونحوهما، وأومأ بالتقييد إلى أن هذه الحبوب أشرف من حب اللآلىء الذي ينبته الله من المطر لأنها لقيام النبتة؟ وتلك للزينة، ولما كان النخل من أعجبه ما يتكون منه مع ما له من المنافع التي لا يساويه فيها شجر، والطباق للرزع بالطول والقصر والاتساق بالاقتيات للآدميين والبهائم، قال: ﴿والنخل باسقات﴾ أي عاليات طويلات على جميع الأشجار المثمرة ذوات أثمار طيبة ﴿لها﴾ مع يبس ساقها ﴿طلع نضيد *﴾ أي مصفوف متراكم بعضه فوق بعض، وهو حشو طلعه، والطلع ذلك الخارج من أعلى النخلة كأنه فعلان مطبقان، والحمل النضيد بينهما، والطرف محدد، أو الطلع ما يبدو من ثمر النخل أول ظهورها، وذلك القشر يسمى الكفرى لتعطيته إياه على أحكم مما يكون وأوثق، والطلع يشبه ما للناقة المبسق من اللبا المتكون في ضرعها
412
قبل النتاج، ثم يصير بعد اتحاده في البياض وهو طلع إلى الافتراق حال الينوع إلى أحمر وأصفر وأخضر وغير ذلك من الألوان الغريبة، والأوصاف العجيبة، وهي محيطة المنافع بالتفكه على عدة أنواع والاقتيات وغير ذلك، وطلعها مخالف لعادة أكثر الأشجار فإن ثمارها مفردة، كل حبة منفردة عن أختها.
ولما ذكر سبحانه بعض ما له في الماء من العظمة، ذكر له علة هي غاية في المنة على الخلق فقال: ﴿رزقاً للعباد﴾ أي أنبتنا به ذلك لأجل أنه بعض ما جعلناه رزقهم.
ولما كان ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث ولجميع صفات الكمال، أتبعه ما له من التذكير بالبعث بخصوصه فقال: ﴿وأحيينا به﴾ أي الماء بعظمتنا ﴿بلدة﴾ وسمها بالتاء إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى الثبات والخلو عنه، وذكر قوله: ﴿ميتاً﴾ للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها. ولما كان هذا خاصة من أوضح أدلة البعث، قال على سبيل النتيجة: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الإخراج العظيم ﴿الخروج *﴾ الذي هو لعظمته كأنه مختص بهذا المعنى، وهو بعث الموتى من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا، لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأخضره وأزرقه إلى غير ذلك، وبين إخراج
413
ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا، قال أبو حيان: ذكر تعالى في السماء ثلاثة: البناء والتزيين ونفي الفروج، وفي الأرض ثلاثة: المد وإلقاء الرواسي والإنبات، قابل المد بالبناء لأن المد وضع والبناء رفع، وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاز كل واحد منها - أي على سطح ما هو فيه والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج، فلا شق فيها، ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة، وعلى ما اختلط من جنسين، فبعض الثمار فاكهة لا قوت، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.
414
ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته، فصار من باب لزوم الغلط، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين، كان كأنه قيل: إن إنكار هؤلاء أعجب، فهل وقع هذا لأحد قط، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً للإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة: ﴿كذبت﴾ وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال: ﴿قبلهم﴾.
ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال: ﴿قوم نوح﴾ وأشار
414
إلى عظيم التسلية بأنهم جاءهم منذر منهم، وكانوا في القوة في القيام فيما يحاولونه والكثرة بحيث لا يسع الأفهام جميع أوصافهم، فآذوا رسولهم وطال أذاهم قريباً من عشرة قرون ولما كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان: ماء السماء، وطلع إليهم ماء الأرض فأغرقهم، أتبعهم من طائفتهم قصتهم بأن نزل بهم الماء فأوبقهم لما بين حاليهم من الطباق دلالة على عظيم القدرة والفعل بالاختيار فقال: ﴿وأصحاب الرس﴾ أي البئر التي تقوضت بهم فخسفت مع ما حولها فذهبت بهم وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان. ولما كانت آية قوم صالح من أعظم الدلالات على القدرة على البعث، وكان إهلاكهم مناسباً لإهلاك من قبلهم، أما لأصحاب الرس فكان بالرجفة التي هي على مبدأ الخسف، وأما لقوم نوح فلأن الرجفة تأثرت عن الصيحة التي حملتها الريح التي من شأنها حمل السحاب الحامل للماء، أتبعهم بهم، وكانوا أصحاب بئر ولم يخسف بهم فقال: ﴿وثمود *﴾ ولما اتفق قوم هود عليه السلام والقبط بالإهلاك بالريح التي أثرت بها صيحة ثمود، أولئك مع الحجارة والرمل وهؤلاء بالماء الذي فرقه الله بالريح عند ضرب العصي، وكان لكل منهما من ضخامة الملك وعز السلطان ما هو مشهور قدم أشدهما أبداناً وأوسعهما ملكاً لأن إهلاكهم كان أدل دليل على القدرة وأقرب شبهاً بهلاك ثمود فقال: ﴿وعاد﴾ وعطف عليه
415
أقرب الطائفتين شبهاً بالهلاك بقوم نوح وأصحاب الرس فقال: ﴿وفرعون﴾ نص عليه لأنه ليس في مادة هذا الغرق كافر غيره، والنص عليه يفهم غيره، وما تقدم في غير هذه السورة غير مرة من وصفه بأنه ملك قاهر وأنه استخفهم فأطاعوه فيعلم كفرهم طاعة له، وأنه ليوافق ما قبله وما بعده. ولما كان السياق للعزة والشقاق، فلم يدع داع إلى إثبات ذي الأوتاد.
ولما كان هلاك المؤتفكات جامعاً في الشبهة بهلاك جميع من تقدم بالخسف وغمرة الماء بعد القلب في الهواء، أتبعهم بهم معبراً عنهم بأخصر من تسميه قبائلهم أو مدنهم لأنها عدة مدن، وعبر بالأخوة دون القوم لأن السياق لتكذيب من هو منهم لأنه أدخل في التسلية فقال: ﴿وإخوان لوط *﴾ أي أصهاره الذين جبروا بينهم وبينه مع المصاهرة بالمناصرة لملوكهم ورعاياهم على من ناواهم بنفسه وعمه إبراهيم عليهما السلام كما مضى بيانه في البقرة ما صار كالأخوة، ومع ذلك عاملوه بما اشتق من لفظ هذا الجمع من الجناية له ولأنفسهم وغيرهم.
ولما كان الشجر مظنة الهواء البارد والروح، وكان أصحابه قد عذبوا بضد ذلك قال: ﴿وأصحاب الأيكة﴾ لمشاركتهم لهم في العذاب بالنار، وأولئك بحجارة الكبريت النازلة من العلو وهؤلاء بالنار النازلة من ظلمة السحاب، وعبر عنهم بالواحدة والمراد الغيضة إشارة إلى أنها
416
من شدة التفافها كالشجرة الواحدة. ولما كان ﴿تبع﴾ مع كونه من قومه ملكاً قاهراً، وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم، ختم بهم فقال: ﴿وقوم تبع﴾ مع كونه مالكاً، وهو يدعوهم إلى الله، فلا يظن أن التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً، بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف، لا يخرج شيء عن مرادنا.
ولما لم يكن هنا ما يقتضي التأكيد مما مر بيانه في ص قال معرياً منه: ﴿كل﴾ أي من هذه الفرق ﴿كذب الرسل﴾ أي كلهم بتكذيب رسولهم، فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار العجز والدعاء إلى الله ﴿فحقَّ﴾ فتسبب عن تكذيبهم لهم أنه ثبت عليهم ووجب ﴿وعيد﴾ أي أي الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه، فعجلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عاماً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى البعث، بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلَّ بإخوانك المرسلين وتأسَّ بهم، ولتحذر قومك ما حل بمن كذبهم إن أصروا.
ولما ذكر سبحانه التسلية بتكذيب هذه الأحزاب بعد ذكر
417
تكذيب قريش وإقامة الأدلة القاطعة على ما كذبوا به وبطلان تكذيبهم، وختم بحقوق الوعيد الذي شوهدت أوائله بإهلاكهم، فثبت صدق الرسل وثبتت القدرة على كل ما يريد سبحانه بهذا الخلق من الإيجاد والإعدام أنكر عليهم التكذيب ووبخهم عليه تقريراً لحقوق الوعيد، فقال مسبباً عن تكذيبهم بعد ما ذكر أنه خلق جميع الوجود: ﴿أفعيينا بالخلق﴾ أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه ﴿الأول﴾ أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدداً، ثم في كل أوان من الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، وفي إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم ليظنوا بسبب العجز بالخلق الأول الذي هو أصعب في مجاري العادات من الإعادة أن نعجز عن الإعادة ثانياً، يقال: عيي بالأمر - إذا لم يهتد لأمره أو لوجه مراده أو عجز عنه، ولم يطق إحكامه.
ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار: لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه، وفي طيه الاعتراف
418
بالبعث وهم لا يشعرون أضرب عنه لقولهم الذي يخل باعتقادهم إياه فقال: ﴿بل هم في لبس﴾ أي خلط شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى، بل السكوت عنه أجمل، قال علي رضي الله عنه: يا جار، إنه لملبوس عليك، اعرف بالحق تعرف أهله. ولبس الشيطان عليهم تسويله لهم أن البعث خارج عن العادة فتركوا لذلك القياس الصحيح والحكم بطريقة الأولى ﴿من﴾ أجل ﴿خلق جديد *﴾ أي الإعادة. ولما ذكر خلق الخافقين، أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيها فقال: ﴿ولقد﴾ أي والحال أنا قد ﴿خلقنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿الانسان﴾ وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان، والذكر والنسيان، والجهل والعرفان، والطاعة والعصيان، وغير ذلك من عجيب الشأن، ووكلنا به من جنودنا من يحفظه فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله ﴿ونعلم﴾ أي والحال أننا نعلم بما لنا من الإحاطة ﴿ما توسوس﴾ أي تكلم على وجه الخفاء، ﴿به﴾ الآن وفيما بعد ذلك مما لم ينقدح بعد من خزائن الغيب إلى سر النفس كما علمنا ما تكلم ﴿نفسه﴾ وهي الخواطر التي تعترض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها، فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وامتيازه، وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر
419
والرئاسة على الإنكار باللسان حتى صار ذلك لهم خلقاً وتمادوا فيه حتى غطى على عقولهم، فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب.
ولما كان العالم بالشيء كلما كان قريباً منه كان علمه به أثبت وأمكن، قال ممثلاً لعلمه ومصوراً له بما نعلم أنه موجبه: ﴿ونحن﴾ بما لنا من العظمة ﴿أقرب إليه﴾ قرب علم وشهود من غير مسافة ﴿من حبل الوريد *﴾ لأن أبعاضه وأجزاءه تحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله شيء، والمراد به الجنس، والوريدان عرقان كالحبلين مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلات من الرأس إلى الوتين وهو عرق القلب، وهذا مثل في فرط القرب، وإضافته مثل مسجد الجامع، وقد مضى في تفسير سورة المائدة عند قوله ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧] ما ينفع هنا، قال القشيري: وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.
420
ولما كان سبحانه قد وكل بنا حفظة تحفظ أعمالنا وتضبط أقوالنا وأحوالنا، فكان المعروف لنا أن سبب الاستحفاظ خوف الغفلة والنسيان، قدم سبحانه الإخبار بكمال علمه فأمن ذلك المحذور، علق بأقرب أو نعلم
420
قوله تأكيداً لما علم من إحاطة علمه من عدم حاجته، وتخويفاً بما هو أقرب إلى مألوفتنا ﴿إذ﴾ أي حين ﴿يتلقى﴾ أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود ﴿المتلقيان﴾ وما أدراك ما هما؟ ملكان عظيمان حال كونهما ﴿عن اليمين﴾ لكل إنسان قعيد منهما ﴿وعن الشمال﴾ كذلك ﴿قعيد *﴾ أي رصد وحبس مقاعد لذلك الإنسان بأبلغ المقاعدة ونحن أقرب منهما وأعلم علماً، وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم.
ولما كانت الأفعال اللسانية والقلبية والبدنية ناشئة عن كلام النفس، فكان الكلام جامعاً، قال مبيناً لإحاطة علمه بإحاطة من أقامه لحفظ هذا الخلق الجامع في جواب من كأنه قال: ما يفعل المتلقيان: ﴿ما يلفظ﴾ أي يرمي ويخرج المكلف من فيه، وعم في النفي بقوله: ﴿من قول﴾ أي مما تقدم النهي عنه في الحجرات من الغيبة وما قبلها وغير ذلك قل أو جل ﴿إلا لديه﴾ أي الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة هي من أغرب المستغرب ﴿رقيب﴾ من حفظتنا شديد المراعاة له في كل من أحواله ﴿عتيد *﴾ أي حاضر مراقب غير غافل بوجه، روى البغوي بسنده من طريق الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كاتب الحسنات على يمين
421
الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».
ولما كان مثل إرسال الخافقين ثم الموت ثم النفخ بإرسال الملك في الدنيا إلى الناس لعرضهم فيصير الإنسان منهم ساعياً في التزين للملك بما يعجبه في مقصود ذلك العرض في الأجل الذي ضربه لهم، فإذا جاء ذلك الوقت الذي هو كالموت أخذته الرسل فباءوا به كما يفعل حال الموت بالميت ومن أحضروه منهم حبسوه على باب الملك لتكامل المعروضين، فإذا كمل جمعهم وأمر بقيامهم للعرض زعق لهم المنادي بالبوق الذي يسمى النفير وهو كالصور، فلهذا قال تعالى مبيناً لإحاطة قدرته بجميع خلقه عاطفاً على ما تقديره: فاضطرب ذلك الإنسان الموكل به في الوقت المأمور بالتردد فيه بما يرضي الله بالقول والفعل على حسب إرادته سبحانه سواء كان موافقاً للأمر أو مخالفاً إلى أن أوان الرحيل معبراً بالماضي تنبيهاً على أن الموت مع أنه لا بد منه قريب جداً: ﴿وجاءت﴾ أي أتت وحضرت ﴿سكرة الموت﴾ أي حالته عند النزع وشدته وغمرته، يصير الميت بها كالسكران، لا يعي وتخرج بها أحواله وأفعاله وأقواله عن قانون الاعتدال، ومجيئاً متلبساً
422
﴿بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه من بطلان الحواس وكشف الغطاء عن أحوال البرزخ من فتنة السؤال وضيق المجال أو سعة الحال، وقيل للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان القال: ﴿ذلك﴾ أي هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجد ﴿ما﴾ أي الأمر الذي ﴿كنت﴾ جبلة وطبعاً.
ولما كانت نفرته منه وهربه من وقوعه بحفظ الصحة ودواء الأداء في الغاية، كان كأنه لا ينفر إلا منه، فأشار إلى ذلك بتقديم الجارّ فقال: ﴿منه تحيد *﴾ أي تميل وتنفر وتروع وتهرب.
423
ولما كان التقدير: فأخذ ذلك الإنسان بالقهر من بين الأهل والإخوان، والعشائر والجيران، وضم إلى عسكر الموتى وهم بالبرزخ نزول، ولانتظار بقيتهم حلول، ولم يزالوا كذلك حتى تكامل القادمون عليهم الواصلون إليهم، عطف عليه قوله مبنياً لإحاطة من عامل الملكوت والعز والجبروت: ﴿ونفخ﴾ أي بأدنى إشارة وأيسر أمر ﴿في الصور﴾ وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت العام والبعث العام عند التكامل، وانقطاع أوان التعامل، وهو بحيث لا يعلم قدر عظمه واتساعه إلا الله تعالى، وهو عليه الصلاة والسلام التقم الصور من حين بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر، فيا لها من عظمة ما أغفلنا عنها،
423
وأنسانا لها، وآمننا منها، والمراد بهذه نفخة البعث.
ولما كان ذلك الأثر عن النفس هو سر الوجود، وأشار إلى عظمته بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الوقت الكبير العظيم الأهوال والزلازل والأوجال ﴿يوم الوعيد *﴾ أي الذي يقع فيه ما وقع الإيعاد به.
ولما كان التقدير: فكان من تلك النفخة صيحة هائلة ورجة شاملة، فقال الناس عامة من قبورهم، وحصل ما في صدورهم، عطف عليه قوله بياناً لإحاطة العرض: ﴿وجاءت كل نفس﴾ أي مكلفة كائناً ﴿معها سائق﴾ يسوقها إلى ماهي كارهة للغاية لعلمه بما قدمت من النقائص ﴿وشهيد *﴾ يشهد عليها بما عملت، والظاهر من هذا أن السائق لا تعلق له بالشهادة أصلاً، لئلا تقول تلك النفس: إنه خصم، والخصم لا تقبل شهادته، ويقال حينئذ للمفرط في الأعمال في أسلوب التأكيد جرياً على ما كان يستحقه إنكاره في الدنيا، وتنبيهاً على أنه لعظمه مما يحق تأكيده: ﴿لقد كنت﴾ أي كوناً كأنه جبلة لك ﴿في غفلة﴾ أي عظيمة محيطة بك ناشئة لك ﴿من هذا﴾ أي من تصور هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب، والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدة جلائه خفي على من اتبع الشهوات ﴿فكشفنا﴾ بعظمتنا بالموت ثم بالعبث ﴿عنك غطاءك﴾ الذي كان
424
يحجبك عن رؤيته من الغفلة بالآمال في الجاه والأموال وسائر الحظوظ والشهوات، تحقيقاً لما له سبحانه من الإحاطة بالتقدير والتعجيز، وعن الواسطي: من كشف عنه غطاء الغفلة أبصر الأشياء كلها في أسر القدرة وانكشف له حقائق الأشياء بأسرها، وهذا عبارة عن العلم بأحوال القيامة.
ولما تسبب عن هذا الكشف الانكشاف التام، عبر عنه بقوله: ﴿فبصرك اليوم﴾ أي بعد البعث ﴿حديد *﴾ أي في غاية الحدة والنفوذ، فلذا تقر بما كنت تنكر.
ولما أخبر أخبر تعالى بما تقوله له الملائكة أو من أراد من جنوده، وكان قد أخبر أن معبوداتهم من الأصنام والشياطين وغيرها تكون عليهم يوم القيامة ضداً، أخبر بما يقول القرين من السائق والشهيد والشيطان الذي تقدم حديثه في الزخرف، فقال عاطفاً على القول المقدر قبل «لقد» معبراً بصيغة المضي تأكيداً لمضمونه وتحقيقاً: ﴿وقال قرينه﴾ أي الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد.
نقله الكرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿هذا﴾ أي الإنسان الذي قرنتني به. ولما كان الأمر في كل من الطائع والعاصي في غاية العجب، لأن الطائع ينابذ هواه فيكون ملكياً مجرداً من حظوظه ونوازع نفوسه وما بنيت عليه من النقائص والشهوات، والعاصي طوع
425
يدي الشيطان، يصرفه في أغراضه كيف يشاء، فيطيعه بغاية الشهوة مع علمه بعداوته، وأن طاعته لا تكون إلا بمخالفة أمر الله الولي الودود، وكان العاصي أكثر كثرة يكون الطائع فيها بالنسبة إليه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وكان ذلك منابذاً للعقل، أشار إلى هذه المنابذة بأداة من لا يعقل وإلى جميع ما في أمره من العجب بلدي فقال: ﴿ما لدي﴾ أي الأمر الذي عندي من الأمر المستغرب جداً لكون المطيع عصاني، وهو مطبوع على النقائص والحظوظ التي يرى أنها حياته ولذته وراحته، والعاصي أطاعني وهو يعلم بعقله أني شر محض، وترك الخير المحض وهو عالم بأن في ذلك هلاكه ﴿عتيد *﴾ أي حاضر مهيأ لما يراد منه.
ولما كانت العادة جارية بأن من أحضر إليه شيء تبادر إلى أمهر بقوله أو فعل، وصل بذلك ما هو نتيجته، وبدأ بالعاصي لأن المقام له، فقال ما يدل على أنه لا وزن له، فلا وقفة في عذابه بحسابه ولا غيره، مؤكداً خطاباً للمؤكد بالإلقاء أو خطاباً للسائق والشهيد، أو السائق وحده مثنياً لضميره تثنية للأمر كأنه قال: ألق ألق - تأكيداً له وتهويلاً: ﴿ألقيا﴾ أي اطرحا دفعاً من غير شفقة، وقيل: بل هو تثنية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما يكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلاً: يا صاحبيّ يا خليليّ، والسر فيه إذا كان المخاطب واحداً إفهامه أنه يراد منه الفعل بجد عظيم تكون قوته
426
فيه معادلة لقوة اثنين ﴿في جهنم﴾ أي النار التي تلقى الملقى فيها بما كان يعامل به عباد الله من الكبر والعبوسة والتكره والتعصب. ولما كان المقصود تعليل إلقائه بوصف يعم غيره ليكون لطفاً لمن أراد الله عصمته ممن سمع هذا المقال وحجة على من أراد الله إهانته: ﴿كل كفار عنيد *﴾ أي مبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله من غير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان ﴿مناع﴾ أي كثير المنع ﴿للخير﴾ من ﴿مريب *﴾ أي داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أمر الدين، وموقع غيره فيه، ثم أبدل من «كل» قوله بياناً لمبالغته في الكفر الذي أوجب له كل شر ﴿الذي جعل﴾ كفراً مضاعفاً وعناداً ومنعاً للخير الذي يجب عليه في قلبه ولسانه وبدنه، وتجاوزاً للحدود دخولاً في الشك وإدخالاً لغيره فيه ﴿مع الله﴾ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فليس أمره خفياً عن كل ذي عقل ﴿إلهاً﴾.
ولما كان ربما تعنت متعنت فنزل الآية على من يدعو الله بغير هذا الاسم الأعظم، صرح بالمراد بقوله: ﴿آخر﴾ وزاد الكلام أنه مأخوذ
427
من التأخر الناظر إلى الرداءة والسقوط عن عين الاعتبار بالكلية.
ولما كان هذا قد جحد الحق الواجب لله لذاته مع قطع النظر عن كل شيء ثم ما يجب له من جهة ربوبيته وإنعامه على كل موجود، ثم من جهة إدامة إحسانه مع المعصية بالحلم، وعاند في ذلك وفي إثباته للغير ما لا يصح له بوجه من الوجوه، سبب عن وصفه قوله: ﴿فألقياه في العذاب﴾ أي الذي يزيل كل عذوبة ﴿الشديد *﴾.
428
ولما كان القرين قد قال ما تقدم مريداً به - جهلاً منه - الخلاص من العذاب بإظهار أنه ليس بأوصاف هذه النفس، بل من كبار المؤمنين، فأجيب مقاله بإلقاء تلك النفس معللاً للأمر بإلقائها بما شمل هذا القرين، فتشوف السامع إلى ما يكون من حاله، وكانت العادة جارية أن من تكلم في شخص بما فيه مثله ولا سيما إن كان هو السبب فيه أو كان قد تكلم ذلك الشخص فيه، فكان قياس ذلك يقتضي ولا بد أن تقول تلك النفس القول فيها، وهذا عند الأمر بإلقائها: ربنا هو أطغاني: أجاب تعالى عند هذا التشوف بقوله: ﴿قال قرينه﴾ منادياً بإسقاط الأداة دأب أهل أهل القرب إيهاماً أنه منهم: ﴿ربنا﴾ أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم ﴿ما أطغيته﴾ أي أوقعته فيما كان فيه من الطغيان، فإنه لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك ﴿ولكن كان﴾ بجبلته وطبعه
428
﴿في ضلال بعيد *﴾ محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه، فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله، وإن حركته إليه أن فإنه لا يحتاج إلى أدنى تحريك فيثور له ثورة من هو مجبول مركوز في طباعه.
ولما كان كأنه قيل: بم يجاب عن هذا؟ وهل يقبل منه؟ قيل: لا ﴿قال﴾ أي الملك المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم في الأزل: ﴿لا تختصموا﴾ أي لا توقعوا الخصومة بهذا الجد والاجتهاد ﴿لديَّ﴾ أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير، وأعجب بما يدرك حق الإدراك، فقد أتم انكشاف ما كان يستغربه الخاصة بل خاصة الخاصة، ففات بانكشافها نفع إيمان جديد ﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿قدمت﴾ أي تقدمت، أي أمرت وأوصيت قبل هذا الوقت موصلاً ومنهياً ﴿إليكم﴾ أي كل ما ينبغي تقديمه حتى لم يبق لبس ولا تركت لأحد حجة بوجه، وجعلت ذلك رفقاً بكم ملتبساً ﴿بالوعيد *﴾ أي التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفران والعدوان في الوقت الذي كانت فيه هذه الحضرة التي هي غيب الغيب ومستورة بستائر الكبرياء والعظمة وبل كان ما دونها من الغيب مستوراً، فكان الإيمان به نافعاً.
ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة، عبر سبحانه في تعليل ذلك ب «ما» التي للحاضر دون «لا» التي للمستقبل فقال: ﴿ما يبدل﴾ أي يغير من مغير ما كان من كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل
429
له بدل فيكون فيه خلف ﴿القول لدي﴾ أي الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحاط بأمر غرابتها بأن من أشرك بي لا أغفر له وأغفر ما دون ذلك لمن أشاء، والعفو عن بعض المذنبين ليس تبديلاً لأن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وأنه مشروط بشرائط ﴿وما أنا﴾ وأكد النفي فقال: ﴿بظلام﴾ أي بذي ظلم ﴿للعبيد *﴾ لا القرين ولا من أطغاه ولا غيرهم، فأعذب من لا يستحق أو أعفو عمن قلت: إني لا أغفر له وأمرت جندي فعادوه فيّ، ولو عفوت عنه كنت مع تبديل القول قد سؤتهم بإكرام من عادوه فيّ ليس إلا.
ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول، وينقطع دون وصفها القول، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول، فقال ما معناه: يكون هذا كله ﴿يوم﴾ ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله: ﴿نقول﴾ أي على ما لنا من العظمة التي لا يسوغ لشيء أن يخفى عنها ﴿لجهنم﴾ دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع
430
هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة: ﴿هل امتلأت﴾ فصدق قولنا ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ [هود: ١١٩] وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف، فتقول: لا، ﴿وتقول﴾ طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلىء لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً: ﴿هل من مزيد *﴾ أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك كما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه» أي يضربها من جبروته بسوط إهانة فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك، ثم يستمرون بين دولتي الحر والزمهرير، وقد جعل الله سبحانه لذلك آية في هذه الدار باختلاف الزمان في الحر والبرد، فإذا أفرط الحر جاءت رحمته تعالى بالبرد وبالماء من السماء فامتزجا معاً فكان التوسط، وإذا أفرط البرد جاءت رحمته بالحر بواسطة الشمس، فامتزج الموجدان، فكان له توسط، وكل ذلك له دوائر موزونة بأقساط مقسطة معلومة بتقدير العزيز العليم - ذكر ذلك ابن برجان.
ولما ذكر النار وقدمها لأن المقام للإنذار، أتبعها دار الأبرار، فقال ساراً لهم بإسقاط مؤنة السير وطيّ شقة البعد: ﴿وأزلفت﴾ أي قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ﴿الجنة للمتقين﴾ أي العريقين في هذا الوصف، فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه من
431
الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا، وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم على غير هذا الوصف، فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر.
ولما كان القرب أمراً نسبياً أكده بقوله: ﴿غير بعيد *﴾ أي إزلافاً لا يصح وصفه ببعد.
ولما كان التقريب قد لا يدري الناظر ما سببه، قال ساراً لهم: ﴿هذا﴾ أي الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم ﴿ما﴾ أي الأمر الذي ﴿توعدون﴾ أي وقع الوعد لكم به في الدنيا، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية، وعبر عن الإزلاف بالماضي تحقيقاً لأمره وتصويراً لحضوره الآن ليكون المضارع من الوعد في أحكم مواضعه، وأبهم الأمر لأنه أكثر تشويقاً، والتعيين بعد الإبهام ألذ، فلذلك قال بياناً للمتقين، معيداً للجار لما وقع بينه وبين المبدل منه من الجملة الاعتراضية جواباً لمن كأنه قال: لمن هذا الوعد؟ فقال تعالى: ﴿لكل أواب﴾ أي رجاع إلى الاستقامة بتقوى القلب إن حصل في ظاهره عوج، فنبه بذلك على أنه من فضله لم يشترط في صحة وصفه بالتقوى دوام الاستقامة ﴿حفيظ﴾ أي مبالغ في حفظ الحدود وسار العهود بدوام الاستقامة والرجوع بعد الزلة، ثم أبدل من «كل» تتميماً لبيان المتقين قوله: ﴿من خشي﴾ ولم يعد الجارّ لأنه لا اعتراض قبله كالأول، ونبه على كثرة خشيته بقوله: ﴿الرحمن﴾ لأنه إذا خاف مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى، وقال القشيري: التعبير بذلك
432
للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال: ولذلك لم يقل ﴿الجبار﴾ أو ﴿القهار﴾ قال: ويقال: الخشية ألطف من الخوف، فكأنها قريبة من الهيبة ﴿بالغيب﴾ أي مصاحباً له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة، بل استغنى بالبراهين القاطعة التي منها أنه مربوب، فلا بد له من رب، وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته.
ولما كان النافع من الطاعة الدائم إلى الموت، قال: ﴿وجاء﴾ أي بعد الموت ﴿بقلب منيب *﴾ أي راجع إلى الله تعالى بوازع العلم، ولم يقل: بنفس، لطفاً بالعصاة لأنهم وإن قصرت نفوسهم لم يكن لها صدق القدم فلهم الأسف بقلوبهم، وصدق الندم.
433
ولما كان الإخبار بكونها لهم وإن كان أمراً ساراً لا يقتضي دخولها في ذلك الوقت، زاد سرورهم بالإذن بقوله معبراً بضمير الجميع بياناً لأن المراد من «من» جميع المتقين: ﴿ادخلوها﴾ أي يقال لهم: ادخلوا الجنة. ولما كان المراد استقبالهم بالإلذاذ بالبشارة قال: ﴿بسلام﴾ أي مصاحبين للسلامة من كل يمكن أن يخاف، فأنتج ذلك قوله إنهاء للسرور إلى غاية لا توصف: ﴿ذلك﴾ أي اليوم العظيم جداً ﴿يوم﴾ ابتداء أو تقرير ﴿الخلود *﴾ أي الإقامة التي لا آخر لها ولا نفاذ لشيء من لذاتها أصلاً، ولذلك وصل به قوله جواباً لمن كأنه قال: على أي وجه خلودهم؟ :﴿لهم﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿ما يشاؤون﴾ أي يتجدد
433
مشيئتهم أو تمكن مشيئتهم له ﴿فيها﴾ أي الجنة ﴿ولدينا﴾ أي عندنا من الأمور التي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً ﴿مزيد *﴾ أي مما لا يدخل تحت أوهامهم يشاؤه، فإن سياق الامتنان يدل على أن تنوينه للتعظيم، والتعبير بلدى يؤكد ذلك تأكيداً يناسبها بأن يكونوا كل لحظة في زيادة على أمانيهم عكس ما كانوا في الدنيا، وبذلك تزداد علومهم، فمقدورات الله لا تنحصر، لأن معلوماته لا تنتهي.
ولما ذكر سبحانه أول السورة تكذيبهم بالقدرة على اعترافهم بما يكذبهم في ذلك التكذيب، ثم سلى وهدد بتكذيب الأمم السابقة، وذكر قدرته عليهم، وأتبعه الدلالة على كمال قدرته إلى أن ختم بالإشارة إلى أن قدرته لا نهاية لها، ولا تحصر بحدّ ولا تحصى بعدّ، رداً على أهل العناد وبدعة الاتحاد في قولهم «ليس في الإمكان أبدع مما كان» عطف على ما قدرته بعد ﴿فحق وعيد﴾ من إهلاك تلك الأمم مما هو أعم منه بشموله جميع الزمان الماضي وأدل على شمول القدرة، فقال: ﴿وكم أهلكنا﴾ أي بما لنا من العظمة. ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال: ﴿قبلهم﴾ وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله: ﴿من قرن﴾ أي جيل هم في غاية القوة، وزاد في بيان القوة فقال:
434
﴿هم﴾ أي أولئك القرون بظواهرهم وبواطنهم ﴿أشد منهم﴾ أي من قريش ﴿بطشاً﴾ أي قوة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة، وحذف الجار هنا يدل على أن كل من كان قبل قريش كانوا أقوى منهم، وإثباته في ص يدل على أن المذكورين بالإهلاك هناك مع الاتصاف بالنداء المذكور بعض المهلكين لا كلهم. ولما أخبر سبحانه بأشديتهم سبب عنه قوله: ﴿فنقبوا﴾ أي أوقعوا النقب ﴿في البلاد﴾ بأن فتحو فيها الأبواب الحسية والمعنوية وخرقوا في أرجائها ما لم يقدر غيرهم عليه وبالغوا في السير في النقاب، وهي طرق الجبال والطرق الضيقة فضلاً عن الواسعة وما في السهول، بعقولهم الواسعة وآرائهم النافذة وطبائعهم القوية، وبحثوا مع ذلك عن الأخبار، وأخبروا غيرهم بما لم يصل إليهم، وكان كل منهم نقاباً في ذلك أي علامة فيه فصارت له به مناقب أو مفاخر.
ولما كان التقدير: ولم يسلموا مع كثربة تنقيبهم وشدته من إهلاكنا بغوائل الزمان ونوازل الحدثان، توجه سؤال كل سامع على ما في ذلك من العجائب والشدة والهول والمخاوف سؤال تنبيه للذاهل الغافل، وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل، بقوله: ﴿هل من محيص *﴾ أي معدل ومحيد ومهرب وإن دق، من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا.
ولما ذكرنا هنا من المواعظ ما أرقص الجماد، فكيف بمن يدعي أنه من رؤوس النقاد، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكار الجاحد وعناد المعاند:
435
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر البديع من العظات التي صرفناها هنا على ما ترون من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة في الإهلاك وغيره ﴿لذكرى﴾ أي تذكيراً عظيماً جداً. ولما كان المتذكر بمصارع المهلكين تارة بأن يكون حاضراً فيرى مصارعهم حال الإيقاع بهم أو يرى آثارهم بعد ذلك، وتارة يخبر عنها، قال بادئاً بالرائي لأنه أجدر بالتذكير: ﴿لمن كان﴾ أي كوناً عظيماً ﴿له قلب﴾ هو في غاية العظمة والنورانية إن رأى شيئاً من ذلك فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتز به، ومن لم يكن كذلك فلا قلب له لأن قلبه لما كان غير نافع كان عدماً.
ولما كان قد بدأ بالناظر لأنه أولى بالاعتبار وأقرب إلى الادكار، ثنى بمن نقلت إليه الأخبار فقال: ﴿أو ألقى﴾ أي إلقاء عظيماً بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل ﴿السمع﴾ أي الكامل الذي قد جرده عن الشواغل من الحظوظ وغيرها إذا سمع ما غاب عنه ﴿وهو﴾ أي والحال أنه في حال إلقائه ﴿شهيد *﴾ أي حاضر بكليته، فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر، فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه، فيتذكر بما ذكرناه به عن قدرتنا من الجزئيات ما أنتجه من القدرة على كل شيء، ورأى مجد القرآن فعلم أنه كلام الله فسمعه منه فصدق الرسول، وقبل كل ما يخبر به، ومن سمع شيئاً ولم يحضر له ذهنه فهو غائب، فالأول العالم بالقوة وهو المجبول
436
على الاستعداد الكامل فهو بحيث لا يحتاج إلى غير التدبر لما عنده من الكمال المهيأ بفهم ما يذكر به القرآن، والثاني القاصر بما عنده من كثافة الطبع فهو بحيث يحتاج إلى التعليم فيتذكر بشرط أن يقبل بكليته، ويزيل الموانع كلها، فلذلك حسن جداً موقع «أو» المقسمة وعلم منه عظيم شرف القرآن في أنه مبشر للكامل والناقص، ليس منه مانع غير الإعراض.
437
ولما دل على تمام علمه وشمول قدرته بخلق الإنسان إثر ما ذكره من جميع الأكوان، ثم بإعدامه لأصناف الإنسان في كل زمان، ذكر بخلق ما أكبر منه في المقدار والإنسان بعضه على وجه آخر، فقال عاطفاً على ﴿ولقد خلقنا الانسان﴾ وأكد تنبيهاً لمنكري البعث وتبكيتاً، وافتتحه بحرف التوقع لأن من ذكر بخلق شيء توقع الإخبار عما هو أكبر منه: ﴿ولقد خلقنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها ﴿السماوات والأرض﴾ على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع ﴿وما بينهما﴾ من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها ﴿في ستة أيام﴾ الأرض في يومين، ومنافعها في يومين، والسماوات في يومين، ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر، ولكنه سن لنا التأني بذلك ﴿وما مسنا﴾ لأجل ما لنا من
437
العظمة ﴿من لغوب *﴾ أي إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً، فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه، فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي، وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرف، من اللغب وهو الإعياء، والريش اللغاب وهو الفاسد.
ولما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة، وكشف فيهما الأمر أتم كشف، كان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي، سبب عن ذلك قوله: ﴿فاصبر على ما﴾ أي جميع الذي ﴿يقولون﴾ أي الكفرة وغيرهم. ولما كانت أقوالهم لا تليق بالجناب الأقدس، أمر سبحانه بما يفيد أن ذلك بإرادته وأنه موجب لتنزيهه، وكماله، لأنه قهر قائله على قوله، ولو كان الأمر بإرادة ذلك القائل استقلالاً لكان ذلك في غاية البعد عنه، لأنه موجب للهلاك، فقال: ﴿وسبح﴾ أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبساً ﴿بحمد ربك﴾ أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلاً لك على جميع الخلق في جميع ما ﴿قبل طلوع الشمس﴾ بصلاة الصبح، وما يليق به من التسبيح غيرها ﴿وقبل الغروب﴾ بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل لذلك الوقت والظهر تبع لها.
ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار
438
إلى الأمور الضرورية التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار والانضمام مع ما في الوقتين من الدلالة الظاهرة على طي الخلق ثم نشرهم، أتبعه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام فقال: ﴿ومن الليل﴾ أي في بعض أقواته ﴿فسبحه﴾ بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة.
ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها، أتبعها النوافل المقيدة بها فقال: ﴿وأدبار السجود *﴾ أي الذي هو أكل بابه وهو صلاة الفرض بما يصلى بعدها من الرواتب والتسبيح بالقول أيضاً، قال الرازي: واعلم أن ثواب الكلمات بقدرة صدورها عن جنان المعرفة والحكمة وأن تكون عين قلبه تدور دوران لسانه ويلاحظ حقائقها ومعانيها، فالتسبيح تنزيه من كل ما يتصور في الوهم أو يرتسم في الخيال أو ينطبع في الحواس أو يدور في الهواجس، والحمد يكشف عن المنة وصنع الصنائع وأنه المتفرد بالنعم. انتهى. ومعناه أن هذا الحمد هو الحقيقة، فإذا انطبقت في الجنان قامت باللسان، وتصورت بالأركان، وحمل على الصلاة لأنها أفضل العبادات، وهي جامعة بما فيها من الأقوال والأفعال لوجهي الذكر: التنزيه والتحميد، وهاتان الصلاتان المصدر بهما أفضل الصلوات فهما أعظم ما وقع
439
التسبيح بالحمد، والمعنى. والله أعلم. أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذبين، وأن الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة الهم، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
ولما سلاه سبحانه عما يسمع منهم من التكذيب وغيره من الأذى بالإقبال على عليّ حضرته والانتظار لنصرته، أتبعه تعزية الإشارة فيها أظهر بما صوره يوم مصيبتهم وقربه حتى أنه يسمع في وقت نزول هذه الآية ما فيه لهم من المثلات وقوارع المصيبات، تحذيراً لهم وبشرى لأوليائه بتمام تأييده عليهم ونصره لهم في الدنيا والآخرة فقال: ﴿واستمع﴾ أي اسمع بتعمدك للسمع بغاية جهدك بإصغاء سمعك وإقبال قلبك بعد تسبيحك بالحمد ما يقال لهم ﴿يوم يناد المناد﴾ لهم في الدنيا يوم بدر أول الأيام التي أظهر الله فيها لأوليائه مجده بالانتقام من أعدائه، وفي الآخرة يوم القيامة في صورة النفخة الثانية وما بعده.
ولما كان المراد إظهار العظمة بتصوير تمام القدرة، وكان ذلك يتحقق بإسماع البعيد من محل المنادي كما يسمع القريب سواء، وكان القرب ملزوماً للسماع، قال مصوراً لذلك: ﴿من مكان﴾ هو صخرة بيت المقدس ﴿قريب﴾ أي يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب، يكونون في البقاع سواء لا تفاوت بينهم أصلاً.
ولما عظم هذا المقام بما كساه من ثوب الإجمال أبدل منه إيضاحاً
440
وزيادة في التعظيم قوله: ﴿يوم يسمعون﴾ أي الذين ينادون ﴿الصيحة﴾ أي صيحة أصمتهم المستنفر لهم إلى بدر في الدنيا، فكانت صيحة قاضية بصممهم عن جميع تصرفاتهم، وصيحة النفخة الثانية في الصورة في الآخرة فهما نفختا حشر إلى القضاء بين المحق والمبطل ﴿بالحق﴾ أي لأمر الثابت الذي كانوا يسمونه سحراً، ويعدونه خيالاً، فيعلمون حينئذ أن الواقع قد يطابقه، فكان حقاً فإنه قد طابقه الواقع، فكان الإخبار به صدقاً.
ولما عظمه سبحانه باجمال بعد إجمال، إشارة إلى أن ما فيه من شديد الأهوال، يطول شرحه بالمقال، زاده تعظيماً بما أنتجه الكلام فقال: ﴿ذلك﴾ أي اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين المجد ﴿يوم الخروج﴾ أي الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من بيوتهم في الدنيا إلى مصارعهم ببدر، ومن قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى مقامعهم في النار.
ولما بنيت دعائم القدرة ودقت بشائر النصرة وختم بما يصدق على البعث الذي هو الإحياء الأعظم دالاً بما هو مشاهد من أفعاله، وأكده لإنكارهم البعث، فقال: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿نحن﴾ خاصة ﴿نحيي ونميت﴾ تجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرة وعادة مستمرة كما تشاهدونه، فقد كان منا بالإحياء الأول البدء ﴿وإلينا﴾ خاصاً بالإماتة ثم الإحياء ﴿المصير *﴾ أي الصيرورة ومكانها وزمانها بأن نحيي جميع من أمتناه يوم البعث ونحشرهم إلى محل الفصل، فنحكم
441
بينهم وليس المعاد بأصعب من المبدأ، فمن أقر به وأنكر البعث كان معانداً أو مجنوناً قطعاً.
442
ولما تحقق بذلك أمر البعث غاية التحقق، صور خروجهم فيه فقال معلقاً بما ختم به الابتداء مما قبله زيادة في تفخيمه وتعظيمه وتبجيله: ﴿يوم تشقق الأرض﴾ وعبر بفعل المطاوعة لاقتضاء الحال له، وحذف تاء المطاوعة إشارة إلى سهولة الفعل وسرعته ﴿عنهم﴾ أي مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء، حال كونهم ﴿سراعاً﴾ إلى إجابة مناديها، وأشا إلى عظمه بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الإخراج العظيم جداً ﴿حشر﴾ أي جمع بكره، وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقديم الجار فقال: ﴿علينا﴾ أي خاصة ﴿يسير *﴾ فكيف يتوقف عاقل فيه فضلاً عن أن ينكره، وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه. انتهى.
ولما أقام سبحانه الأدلة على تمام قدرته وشمول علمه وختم بسهولته عليه واختصاصه به، وصل تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتهديدهم على تكذيبهم بالعلم الذي هو أعظم التهديد فقال: ﴿نحن﴾ أي لا غيرنا ولا هم أنفسهم ﴿أعلم﴾ أي من كل من يتوهم فيه العلم ﴿بما يقولون﴾ أي في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره مع إقرارهم بقدرتنا.
ولما كان التقدير: فنحن قادرون على ردهم عنه بما لنا من العلم المحيط وأنت لهم منذير تنذرهم وبال ذلك، عطف عليه قوله: ﴿وما أنت عليهم﴾
442
ولما أفاد حرف الاستعلاء القهر والغلبة صرح به مؤكداً في النفي فقال: ﴿بجبار﴾ أي متكبر قهار عات تردهم قهراً عما تكره منهم من الأقوال والأفعال، إنما أنت منذر، ولما نفى عنه الجبروت، أثبت لهم ما أفهمه واو العطف من النذارة كما قدرته قبله، فقال مسبباً عنه معبراً بالتذكير الذي يكون عن نسيان لأن كل ما في القرآن من وعظ إذا تأمله الإنسان وجده شاهداً في نفسه أو فيما يعرفه من الآفاق ﴿فذكر﴾ أي بطريق البشارة والنذارة ﴿بالقرآن﴾ أي الجامع بمجده لكل خير المحيط كل صلاح ﴿من يخاف وعيد *﴾ أي يمكن خوفه، وهو كل عاقل، ولكنه ساقه هكذا إعلاماً بأن الذي يخاف بالفعل فيكشف الحال عن إسلامه هو المقصود بالذات، وغيره إنما يقصد لإقامة الحجة عليه لا لدده ولا يؤسف عليه ولا يتأثر بتكذيبه بل يعتقد أنه عدم لا تضر عداوته ولا تنفع ولايته، وما آذى إلا نفسه وكل من والاه في الدنيا والآخرة، وهذا هو المجد للقرآن ولمن أنزله ولمن أتى به عنه بتمام قدرة من هو صفته وشمول علمه، فقد انعطف هذا الآخر على ذلك الأول أشد انعطاف، والتفت فروعه بأصله أتم التفاف، فاعترفت به أولو براعة وأهل الإنصاف والاتصاف بالتقدم في كل صناعة بالسبق الذي لا يمكن لحاقه أيّ اعتراف. والله الهادي للصواب.
443
مقصودها الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة ق تصريحا وبشرت به تلويحا ولا سيما آخرها من مصاب الدنيا وعذاب الآخرة، واسمها الذاريات ظاهر في ذلك بملاحظة جواب القسم فإنه مع القسم لشدة الارتباط كالآية الواحدة وإن كان خمسا، والتعبير عن الرياح بالذاريات أتم إشارة إلى ذلك، فإن تكذيبهم بالوعيد لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه وإن كانت موجودة معهم كما أن ما يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة أسبابه وإن كانت موجودة، وهي الرياح وإن كانوا لا يرونها، واريح من شأنها الذرء وهو التفريق، فإذا أراد الله جمعت فكان ماأراد، فإنها تفرق الأبخرة، فإذا أراد الله سبحانه جمعها فحملها ما أوجد فيها فأوقرها به فأجراها إجراء سهلا، فقسم منها ما أراد تارة برقا وأخرى رعدا، يصل صليل الحديد على الحديد، أو الحجر على مثله مع لطافة السحاب، كل ما يشاهد فيه من الأسباب، وآونة مطرا شديد الانصباب ومرة بردا ومرة ثلجا يرجى ويهاب نن وحينا صواعق ونيرانا لها أي التهاب، ووقتا جواهر ومرجانا بديعة الإعجاب، فتكون مرة
444
سرورا ورضوانا، وأخرى غموما وأحزانا، وغبنا وخسرانا، على أنهم أخيل الناس في يعض ذلك، يعرفون السحاب الذي يخيل المطر والذي لا يخليه والذي مطرهع دان، والذي لم يئن له أن يمطر. إلى غير ذلك من أشياء ذكرها أهل الأدب وحملها أهل اللغة عنهم، وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله، ولذلك. والله أعلم. سن أن يقال عنمد سماع الرعد: سبحان الله سبوح قدوس، بيانا لأن المصرف الحق هو الله تعالى) رب الملائكة) أي الذي أقيموا لهذا) الروح (الذي يحمله هذا الجسم من مطر أو نار أو غيرهما والله الموفق) بسم الله (المحيط بصفات الكمال فهو لايخلف الميعاد) الرحمن (الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد) الرحيم (الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد.
445
Icon