تفسير سورة القمر

الماوردي
تفسير سورة سورة القمر من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾ أي دنت وقربت، قال الشاعر :
قد اقتربت لو كان في قرب دارها جداء ولكن قد تضر وتنفع
والمراد بالساعة القيامة، وفي تسميتها بالساعة وجهان :
أحدهما : لسرعة الأمر فيها.
الثاني : لمجيئها في ساعة من يومها.
وروى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إلاَّ حِرْصاً وَلاَ تَزْدَادُ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً ».
﴿ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه وضح الأمر وظهر والعرب تضرب مثلاً فيما وضح أمره، قال الشاعر :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل
والثاني : أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه، كما قال النابغة الجعدي :
فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داعي
الثالث : أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه.
وفيه على هذا التأويل قولان :
أحدهما : أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية، قاله الحسن، قال : لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رأه لأنها آية والناس في الآيات سواء.
الثاني : وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول الله ﷺ بعد أن سأله عمه حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضباً لسب أبي جهل لرسول الله، أن يريه آية يزداد بها يقيناً في إيمانه، وروى مجاهد عن أبي معمر عن أبي مسعود قال : رأيت القمر منشقاً شقتين بمكة قبل مخرج النبي ﷺ إلى المدينة، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويدا فقالوا : سحر القمر، فنزلت ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَ الْقَمَرُ ﴾.
﴿ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد أي آية روأها أعرضوا عنها ولم يعتبروا بها، وكذلك ذكرها بلفظ التنكير دون التعريف، قاله ابن بحر.
الثاني : أنه عنى بالآية انشقاق القمر حين رأوه.
﴿ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن معنى مستمر ذاهب، قاله أنس وأبو عبيدة.
الثاني : شديد، مأخوذ من إمرار الحبل، وهو شدة فتله، قاله الأخفش والفراء.
الثالث : أنه يشبه بعضه بعضاً.
الرابع : أن المستمر الدائم، قال امرؤ القيس :
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر وليس على شيء قويم بمستمر
أي بدائم.
الخامس : أي قد استمر من الأرض إلى السماء، قاله مجاهد.
﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : يوم القيامة.
الثاني : كل أمر مستقر في أن الخير لأهل الخير، والشر لأهل الشر، قاله قتادة.
الثالث : أن كل أمر مستقر حقه من باطله.
196
الرابع : أن لكل شيء غاية ونهاية في وقوعه وحلوله، قاله السدي.
ويحتمل خامساً، أن يريد به دوام ثواب المؤمن وعقاب الكافر.
﴿ وَلَقْدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنْبَآءِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أحاديث الأمم الخالية، قاله الضحاك.
الثاني : القرآن.
﴿ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ أي مانع من المعاصي.
ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنه النهي.
الثاني : أنه الوعيد.
﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ قاله السدي : هي الرسالة والكتاب.
ويحتمل أن يكون الوعد والوعيد.
ويحتمل قوله :﴿ بَالِغَةٌ ﴾ وجهين :
أحدهما : بالغة في زجركم.
الثاني : بالغة من الله إليكم، فيكون على الوجه الأول من المُبَالَغَةِ، وعلى الوجه الثاني من الإبْلاَغ.
﴿ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ أي فما يمنعهم التحذير من التكذيب.
197
﴿ مّهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه : مسرعين، قاله أبو عبيدة، ومنه قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
الثاني : معناه : مقبلين، قاله الضحاك.
الثالث : عامدين، قاله قتادة.
الرابع : ناظرين، قاله ابن عباس.
الخامس : فاتحين آذانهم إلى الصوت، قاله عكرمة.
السادس : قابضين ما بين أعينهم، قاله تميم.
﴿ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ يعني يوم القيامة، لما ينالهم فيه من الشدة.
﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن المنهمر الكثير، قاله السدي، قال الشاعر :
أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معد وحاضر
الثاني : أنه المنصب المتدفق، قاله المبرد، ومنه قول امرىء القيس :
راح تمرية الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
وفي فتح أبواب السماء قولان :
أحدهما : أنه فتح رتاجها وسعة مسالكها.
الثاني : أنها المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر، قاله علي.
﴿ فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فالتقى ماء السماء وماء الأرض على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر، حكاه، ابن قتيبة.
الثاني : قدر بمعنى قضي عليهم، قاله قتادة، وقدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا.
﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحِ وَدُسُرٍ ﴾ أي السفينة، وفي الدسر أربعة أقاويل :
أحدها : المعاريض التي يشد بها عرض السفينة، قاله مجاهد.
الثاني : أنها المسامير دسرت بها السفينة، أي شدت، قاله ابن جبير وابن زيد.
الثالث : صدر السفينة الذي يضرب الموج، قاله عكرمة، لأنها تدسر الماء بصدرها، أي تدفعه.
الرابع : أنها طرفاها، وأصلها، قاله الضحاك.
﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : بمرأى منا.
الثاني : بأمرنا، قاله الضحاك.
الثالث : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها.
الرابع : بأعين الماء التي أتبعناها في قوله :﴿ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً ﴾، وقيل : إنها تجري بين ماء الأرض والسماء، وقد كان غطاها عن أمر الله سبحانه.
﴿ جَزَآءً لِمَن كَانَ كُفِرَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لكفرهم بالله، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثاني : جزاء لتكذيبهم، قاله السدي.
الثالث : مكافأة لنوح حين كفره قومه أن حمل ذات ألواح ودسر.
﴿ وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآ ءَايَةً ﴾ فيها وجهان :
أحدها : الغرق.
الثاني : السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة.
وفي قوله :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني فهل من متذكر، قاله ابن زيد.
الثاني : فهل من طالب خير فيعان عليه، قاله قتادة.
الثالث : فهل من مزدجر عن معاصي الله، قاله محمد بن كعب.
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه سهلنا تلاوته على إهل كل لسان، وهذا أحد معجزاته، لأن الأعجمي قد يقرأه ويتلوه كالعربي.
الثاني : سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه، قاله مقاتل.
الثالث : هونا حفظه فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله، قاله الفراء.
﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : باردة، قاله قتادة، والضحاك.
الثاني : شديدة الهبوب، قاله ابن زيد.
الثالث : التي يسمع لهبوبها كالصوت، ومنه قول الشاعر :
............... باز يصرصر فوق المرقب العالي
﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يوم عذاب وهلاك.
الثاني : لأنه كان يوم الأربعاء.
الثالث : لأنه كان يوماً بارداً، قال الشنفرى :
وليلة نحس يصطلي القوس ربها وأقطعه اللاتي بها ينبل
يعني أنه لشدة بردها يصطلي بقوسه وسهامه التي يدفع بها عن نفسه. وفي ﴿ مُسْتَمِرٍ ﴾ وجهان :
أحدهما : الذاهب.
الثاني : الدائم.
﴿ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن السعر الجنون، قاله ابن كامل.
الثاني : العناء، قاله قتادة.
الثالث : الافتراق، قاله السدي.
الرابع : التيه، قاله الضحاك.
الخامس : أنه جمع سعر وهو وقود النار، قاله ابن بحر وابن عيسى.
وعلى هذا التأويل في قولهم ذلك وجهان :
أحدهما : أنهم قالوه لعظم ما نالهم أن يتبعوا رجلاً واحداً منهم، كما يقول الرجل إذا ناله خطب عظيم : أنا في النار.
الثاني : أنهم لما أوعدوا على تكذيبه ومخالفته بالنار ردوا مثل ما قيل لهم إنّا لو اتبعنا رجلاً مثلنا واحداً كنا إذاً في النار.
﴿ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الأشر هو العظيم الكذب، قاله السدي.
الثاني : أنه البطر، ومنه قول الشاعر :
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ومن قبل لا تدرون من فتح القرى
الثالث : أنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. ﴿ إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَة فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ﴾ أما الاصطبار فهو الافتعال من الصبر وأصل الطاء تاء أبدلت بطاء ليكون اللفظ أسهل مخرجاً ويعذب مسمعاً. وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر فغزا رسول الله ﷺ تبوك، قال :« أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْأَلُوا عَن هَذِهِ الآياتِ [ هؤلاء ] قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُم أَن يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُم آيَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُم نَاقَةً فَكَانَتْ تَرِدُ مِن ذَلَكِ الفَجَ فَتَشْرَبُ مَاءَهُم يَوْمَ وُرُودِهَا وَيَحْلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَيَصْدِرُونَ عَن ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَنَبِئّهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم ﴾ » الآية.
وفيه وجهان :
أحدهما : أن الناقة تحضر الماء يوم ورودهم، وتغيب عنهم يوم ورودها، قاله مقاتل.
الثاني : أن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحلبون.
﴿ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : انه أحمر إرم وشقيها، قاله قتادة، وقد ذكره زهير في شعره فقال :
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
الثاني : أنه قدار بن سالف، قاله محمد بن إسحاق، وقد ذكره الأفوه في شعره :
أو بعده كقدار حين تابعه على الغاوية أقوام فقد بادوا
﴿ فَتَعَاطَى ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه بطش بيده، قاله ابن عباس.
الثاني : معناه تناولها وأخذها، ومنه قول حسان بن ثابت :
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل
﴿ فَعَقَرَ ﴾ قال محمد بن إسحاق : كَمَنَ لها قدار في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها [ من بطنها وانطلق سقبها ] حتى اتى صخرة في رأس الجبل فرغا ثم لاذ بها، فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقروها بكى ثم قال : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله.
201
قال ابن عباس : وكان الذي عقرها رجل أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى.
﴿ فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدهما : يعني العظام المحترقة، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه التراب الذي يتناثر من الحائط وتصيبه الريح، فيحتظر مستديراً، قاله سعيد بن جبير.
الثالث : أنها الحظار البالية من الخشب إذا صار هشيماً، ومنه قول الشاعر :
أثرت عجاجة كدخان نار... تشب بغرقد بال هشيم
قاله الضحاك.
الرابع : أنه حشيش قد حظرته الغنم فأكلته، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً
الخامس : أن الهشيم اليابس من الشجر الذي فيه شوك والمحتظر الذي تحظر به العرب حول ماشيتها من السباع، قاله ابن زيد، وقال الشاعر :
ترى جيف المطي بجانبيه... كان عظامها خشب الهشيم
202
﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء، والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار.
الثاني : أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها، ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً، قال الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
الثالث : أن الحاصب السحاب الذي حصبهم.
الرابع : أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم.
الخامس : أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء.
﴿ إِلاَّ ءَالَ لُوطٍ ﴾ يعني ولده ومن آمن به.
﴿ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴾ والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار.
﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ ﴾ يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال، وكانوا على أحسن صورهم، فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة.
﴿ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ ﴾ والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي، وفي طمس أعينهم وجهان :
أحدهما : أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم، مع بقاء أعينهم، قاله الضحاك.
الثاني : أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم، قاله الحسن، وقتادة.
﴿ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه وعيد بالعذاب الأدنى، قاله الضحاك.
الثاني : أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال، وهو معنى قول الحسن، وقتادة.
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ ﴾ يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
﴿ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا، ومنه قول الشاعر :
وترى منها رسوماً قد عفت مثل خط اللام في وحي الزبر
﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾ يعني بالعدد والعدة، وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً، ويحتمل انتصارهم وجهين :
أحدهما :[ لأنفسهم بالظهور ].
الثاني : لآلهتهم بالعبادة.
فرد الله عليهم فقال :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ يعني كفار قريش وذلك يوم بدر، وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها، وفي ذلك يقول حسان :
ولقد وليتم الدبر لنا حين سال الموت من رأس الجبل
﴿ بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ﴾ يعني القيامة.
﴿ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر.
الثاني : أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا.
وفي قوله ﴿ أدْهَى ﴾ وجهان :
أحدهما : أخبث.
الثاني : أعظم.
﴿ وَأَمَرُّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم.
الثاني : معناه أنفذ، مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته.
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي ﷺ يخاصمونه في القدر، فنزلت.
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان، قاله ابن بحر.
الثاني : بحكم سابق وقضاء محتوم، ومنه قول الراجز :
وقدر المقدر الأقدارا.... ﴿ وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ ﴾ يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية، فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير.
﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن المستطر المكتوب، قاله الحسن وعكرمة وابن زيد، لأنه مسطور.
الثاني : أنه المحفوظ، قاله قتادة.
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النهر أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن، قاله ابن جريج.
الثاني : أن النهر الضياء والنور، ومنه النهار، قاله محمد بن إسحاق، ومنه قول الراجز :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر... ثريد ليل وثريد بالنهر
الثالث : أنه سعة العيش وكثرة النعيم، ومنه اسم نهر الماء، قاله قطرب.
﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم.
الثاني : مقعد صدق لله وعد أولياءه به، والمليك والملك واحد، وهو الله كما قال ابن الزبعري :
يا رسول المليك إن لساني... راتق ما فتقت إذا أنابوا
ويحتمل ثالثاً : أن المليك مستحق الملك، والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر.
ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين :
أحدهما : لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً، وأعلى مجزاً.
الثاني : ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم، والله أعلم.
Icon