تفسير سورة المدّثر

الدر المصون
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿المدثر﴾ : العامَّةُ على تشديدِ الدالِ وكسرِ الثاءِ، اسمَ فاعلٍ من تَدَثَّر. وأصلُه المُتَدَثِّر، فأُدْغِم كالمُزَّمِّل. وفي حرفِ أُبَيّ «المُتَدثِّرُ» على الأصل المُشارِ إليه. وقرأ عكرمةُ بتخفيفِ الدالِ اسمَ فاعلٍ، مِنْ دَثَّر بالتشديد، ويكون المفعولُ محذوفاً أي: المُدَثِّر نفسَه كما تقدَّمَ في «المُزَمِّل». وعنه أيضاً فَتْحُ الثاءِ لأنه اسمُ مفعولٍ. قال الزمخشري: «مِنْ دَثَّره. يُقال: دُثِّرْتُ هذا الأمرَ، وعُصِبَ بك كما قال في المُزَمَّل» انتهى. ومعنى «تَدَثَّر» لَبِسَ الدَّثارَ، وهو الثوبُ الذي فوق الشِّعار، والشِّعارُ ما يلي الجسَدَ. وفي الحديث: «الأَنْصارُ شِعارٌ والناسُ دِثارٌ» وسيفٌ داثِرٌ: بعيد العَهْدِ بالصِّقال. ومنه: قيل للمنزلِ الدارسِ: «داثِر» لِذَهابِ أعلامِه. وفلانٌ دَثْرُ المالِ أي: حَسَنُ القيام به.
قوله: ﴿قُمْ﴾ : إمَّا أَنْ يكونَ من القيامِ المعهودِ، وإمَّا مِنْ قام بمعنى: الأَخْذِ في القيام، كقولِه:
533
٤٣٧٨ - فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه .......................
وقول الآخر:
٤٣٧٩ - على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ .......................
في أحدِ القولَيْنِ. والقولُ الآخرَ: أن «قام» مزيدةٌ وفي جَعْلِها بمعنى الأخذ في القيامِ نظرٌ؛ لأنه حينئذٍ يَصيرُ مِنْ أخوات «عَسَى» فلا بُدَّ له مِنْ خبرٍ يكونُ فعلاً مضارعاً مجرَّداً مِنْ «أَنْ».
قوله: ﴿فَأَنذِرْ﴾ مفعولُه محذوفٌ. أي: أنذِرْ قومَك عذابَ اللَّهِ. والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ له مفعولٌ أي: أَوْقعْ الإِنذارَ.
534
قوله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ : قَدَّم المفعولَ وكذا ما بعده إيذاناً بالاختصاص عندَ مَنْ يرى ذلك، أو للاهتمام به، قال الزمخشري: «واختُصَّ» ربَّك «بالتكبير» ثم قال: ودَخَلَتِ الفاءُ لمعنى الشرطِ. كأنه قيل: وما كان فلا تَدَعْ تكبيرَه «. قلت: قد تقدَّم الكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ عند قولِه: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] أولَ البقرة. قال الشيخ:» وهو قريبٌ مِمَّا قَدَّره النحاةُ في قولِك: «زيداً فاضْرِب» قالوا: تقديرُه: تنبَّهْ فاضرِبْ زيداً. والفاءُ هي جوابُ الأمرِ. وهذا الأمرُ: إمَّا مُضَمَّنٌ معنى الشرط، وإمَّا الشرطُ محذوفٌ على الخلافِ الذي فيه عند النحاة «.
وقرأ حفص «والرُّجْزَ» بضمِّ الراء، والباقون بكسرِها، فقيل: لغتان بمعنىً. وعن أبي عبيدةَ: «الضمُّ أفشَى اللغتَيْن، وأكثرُهما». وقال مجاهد: «هو بالضمِّ اسمُ صَنَمٍ، ويُعزَى للحسنِ البصري أيضاً، وبالكسر اسمٌ للعذابِ. وعلى تقديرِ كونِه العذابَ فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: اهُجرْ أسبابَ العذابِ المؤدِّيةِ إليه، أو لإِقامةِ المُسَبَّبِ مُقامَ سببِه، وهو مجازٌ شائع.
قوله: ﴿وَلاَ تَمْنُن﴾ : العامَّةُ على فَكِّ الإِدغام. والحسن وأبو السَّمَّال بالإِدغام. قد تَقَدَّم أنَّ المجزومَ/ والموقوفَ من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ، وقد تقدَّم تحقيقُه في المائدة عند ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ﴾ [المائدة: ٥٤]. والمشهور أنه من المَنِّ، وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه. وقيل: «لا تَضْعُفْ» مِنْ قولِهم: حبلٌ مَنينٌ أي: ضعيفٌ.
قوله: ﴿تَسْتَكْثِرُ﴾ العامَّةُ على رفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أنه في موضع الحالِ أي: لا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِراً ما أعطَيْتَ. وقيل: معناه: لِتَأْخُذْ أكثرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ. والثاني: أنَّه على حَذْفِ «أَنْ» يعني أنَّ الأصلَ: ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ، فلمَّأ حُذِفَتْ «أَنْ» ارتفع الفعلُ كقولِه:
535
في إحدى الروايَتَيْن، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ: ما محلُّ «أَنْ» وما في حَيِّزها. وفيه وجهان، أظهرهما وهو الذي يُريده هو أنَّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حَذْفِ حرف الجر، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه: ولا تَمْنُنْ لأَنْ تَسْتكْثِرَ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولاً بها أي: لا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتكْثِرَ. من الخير، قاله مكي، وقد تَقَدَّم لك أنَّ «تَمْنُنْ» بمعنى تَضْعُف، وهو قولُ مجاهدٍ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ: «وهذا لا يجوزُ أن يُحملَ القرآنُ عليه؛ لأنَّ ذلك لا يجوزُ إلاَّ في الشعرِ، ولنا مَنْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ» قلت: قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا. وأيضاً فقولُه: «في الشعر» ممنوعٌ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضاً فقد قرأ الحسن والأعمش «تَسْتَكْثِرَ» نصباً، وهو على إضمار «أَنْ» كقولهم: «مُرْهُ يَحْفِرَها» وأَبلَغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءةِ عبد الله: «ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ».
وقرأ الحسنُ أيضاً وبانُ أبي عبلة «تستكثِرْ» جزماً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ بدلاً من الفعلِ قبله، كقولِه تعالى: ﴿يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩] ف «يُضاعَفْ» بدلٌ مِنْ «يَلْقَ» وكقولِه:
536
٤٣٨٠ - ألا أيُّهذا الزَّاجري أَحْضُرُ الوغى ..............................
٤٣٨١ - مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا
ويكونُ من المَنِّ الذي في قولِه: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤] الثاني: أن يُشَبَّه (ثِرْوَ) ب «عَضُد» فيُسَكَّنَ تخفيفاً، قاله الزمخشري، يعني أنه تَأْخُذُ من مجموعِ «تَسْتكثر» ومن الكلمةِ بعده وهو الواوُ ما يكون فيه شبيهاً ب «عَضُد». ألا ترى أنه قال: «أنْ يُشَبَّه ثِرْوَ» فأخذ بعضَ «تَسْتكثر» وهو الثاءُ والراءُ وحرفَ العطفِ مِنْ قولِه: ﴿ولربِّك فاصبِرْ﴾.
وهذا كما قالوا في قولِ امرِىء القيس:
٤٣٨٢ - فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ إثماً من الله ولا واغلِ
بتسكين «أَشْرَبْ» : إنهم أخذوا من الكلمتين (رَبْغ) ك عَضُد، ثَم سُكِّن. وقد تقدَّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل ﴿مَن يَتَّقِي﴾ [يوسف: ٩٠] بثبوت الياءِ أنَّ «مَنْ» موصولةٌ، فاعْتُرِض بجزم «يَصْبِرْ» فأجيب: بأنه شبه (بِرُف) أخذوا الباءَ والراءَ مِنْ «يَصْبر»، والفاءَ مِنْ «فإنَّ» وهذا نظيرُ تيْكَ سواءً. الوجه الثالث أَنْ يُعْتَبَرَ حالُ الوقفِ ويُجْرَى الوصلُ مُجْراه، قاله الزمخشريُّ أيضاً، يعني أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، أو أُجْري
537
الوصلُ مُجْرى الوقف. قال الشيخ: «وهذان لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ عليهما مع وجودِ أرجحَ منهما، وهو البدل». قلت: الحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، كيف يُعْدَلُ إلى هذَيْن الوجهَيْن مع ظهورِ البدلِ معنىً وصحةً وصناعةً؟
538
قوله: ﴿وَلِرَبِّكَ فاصبر﴾ : التقديمُ على ما تَقَدَّم، وحَسَّنه كونُه رأسَ فاصلةٍ مُؤاخياً لِما تقدَّمه. و «لربِّك» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي: لوجهِ ربِّك فاصبِرْ على أذى الكفارِ وعلى عبادةِ ربِّك، وعن كلِّ ما لا يَليقُ، فتُرِك المصبورُ عليه والمصبورُ عنه للعلم بهما. والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ شيءٌ خاصٌّ بل شيءٌ عامٌّ. والثاني: أن يُضَمَّنَ «اصْبِرْ» معنى: اذْعَنْ لربِّك وسَلِّمْ له أمرَك صابراً، كقوله: ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [القلم: ٤٨].
قوله: ﴿فَإِذَا نُقِرَ﴾ : قال الزمخشريُّ: «والفاءُ/ في قولِه:» فإذا نُقِرَ «للتسبيب، كأنه قيل: اصبِرْ على أَذاهم، فبينَ أيديهم يومٌ عَسيرٌ يَلْقَوْن فيه [عاقبةَ] أذاهم، وتَلْقَى فيه عاقبةَ صبرِك عليه. والفاء في» فذلك «للجزاء». قلت: يعني أنَّ الفاءَ في «فذلك» جزاءٌ للشرطِ في قولِه: «فإذا نُقِرَ». وفي العامل في «إذا» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها متعلِّقةٌ ب «أَنْذِرْ» أي: أَنْذِرْهم إذا نُقِر في النَّاقور، قاله الحوفيُّ. وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ الفاءَ تمنعُ مِنْ ذلك، ولو أرادَ تفسيرَ المعنى لكان سهلاً، لكنه في مَعْرِضِ تفسيرِ الإِعراب لا تفسيرِ المعنى.
538
الثاني: أن ينتصِبَ بما دَلَّ عليه قولُه: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: بم انتصَبَ» إذا «، وكيف صَحَّ أَنْ يقع» يومئذٍ «ظرفاً ل» يومٌ عَسير «؟ قلت: انتصَبَ» إذا «بما دَلَّ عليه الجزاءُ؛ لأنَّ المعنى: فإذا نُقِر في النَّاقور عَسُرَ الأمرُ على الكافرين. والذي أجاز وقوعَ يومئذٍ ظرفاً ل» يومٌ عسيرٌ «أنَّ المعنى: فذلك يومَ النَّقْرِ وقوعُ يوم عسيرٍ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ يقعُ ويأتي حين يُنْقَرُ في الناقور» انتهى. ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيه نفسُ «عَسير» ؛ لأنَّ الصفةَ لا تعملُ فيما قبلَ موصوفِها عند البصريين؛ ولذلك رُدَّ على الزمخشريِّ قولُه: إنَّ في أنفسِهم «متعلِّق ب» بلغياً «في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ [الآية: ٦٣] ﴿وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ والكوفيون يُجَوِّزون ذلك وتقدَّم تحريرُه.
الثالث: أَنْ ينتصِبَ بما دَلَّ عليه»
فذلك «لأنه إشارةٌ إلى النَّقْر، قاله أبو البقاء. ثم قال:» ويومَئذٍ بدلٌ مِنْ «إذا» و «ذلك مبتدأٌ» والخبرُ «يومٌ عسيرٌ» أي: نُقِر يوم. الرابع: أَنْ يكونَ «إذا» مبتدأً، و «فذلك» خبرُه. والفاءُ مزيدةٌ فيه، وهو رأيُ الأخفشِ.
وأمَّا «يومَئِذٍ» ففيه أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «إذا» وقد تقدَّم ذلك في الوجهِ الثالث. والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يومٌ عسيرٌ» كما تقدَّم
539
في الوجهِ الثاني. الثالث: أَنْ يكونَ ظرفاً ل «ذلك» لأنَّه مُشارٌ به إلى النَّقْر. الرابع: أنَّه بدلٌ مِنْ «فذلك»، ولكنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ. الخامس: أَنْ يكونَ مبتدأً «ويومٌ عسيرٌ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «فذلك».
540
قوله: ﴿عَلَى الكافرين﴾ : فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «عسير». الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل عسير. الثالث: أنه في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في «عسير». الرابع: أن يتعلَّقَ ب «يَسير» أي: غيرُ يسيرٍ على الكافرين، قاله أبو البقاء، إلاَّ أنَّ فيه تقديمَ معمولِ المضافِ إليه على المضافِ، وهو ممنوعٌ، وقد جَوَّز ذلك بعضُهم إذا كان المضاف «غيرَ» بمعنى النفي كقولِه:
٤٣٨٣ - إنَّ امرَأً خَصَّني عمْداً مَوَدَّتَه على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
وتقدَّم تحريرُ هذا آخرَ الفاتحةِ مُشْبَعاً، فعليكَ باعتبارِه ثَمَّة. الخامس: أن يتعلَّق بما دَلَّ عليه «غيرُ يسير» أي: لا يَسْهُلُ على الكافرين. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ فما فائدةُ قولِه:» غيرُ يسير «و» عَسير «مُغْنٍ عنه؟ قلت: لَمَّا قال» على الكافرين «فقَصَرَ العُسْرَ عليهم قال:» غيرُ يَسير «لِيُؤْذَنَ بأنه لا يكونُ عليهم كما يكون على المؤمنين يَسيراً هَيِّناً ليجمعَ بين وعيدِ الكافرين وزيادةِ غَيْظهم وتبشير المؤمنين
540
وتَسْلِيتهم. ويجوز أن يُراد: عسيرٌ لا يُرْجَى أن يَرْجِعَ يسيراً، كما يُرْجى تيسيرُ العسيرِ من أمورِ الدنيا».
وقوله: ﴿نُقِرَ فِي الناقور﴾ أي صُوِّتَ يقال: نَقَرْتُ الرجلَ إذا صَوَّتَّ له بلسانِك وذلك بأَنْ تُلْصِقَ لسانَك بنُقْرَة حَنكِكَ. ونَقَرْتُ الرجلَ: إذا خَصَصْتَه بالدعوة، كأنك نَقَرْتَ له بلسانِك مُشيراً إليه، وتلك الدعوةُ يقال لها النَّقَرى، وهي ضدُّ الدعوةِ الجَفَلَى. قال الشاعر:
٤٣٨٤ - نحن في المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ
وقال امرؤ القيس:
٤٣٨٥ - أنا ابنُ ماوِيَّةَ إذْ جَدَّ النُّقُرْ... يريد: «النَّقْرُ» أي: الصوتُ. وقال أيضاً:
٤٣٨٦ - أُخَفِّضُه بالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُه ويَرْفَعُ طَرْفاً غيرَ جافٍ غَضِيضٍ
والنَّاقُور: فاعُوْل منه كالجاسوسِ مِنَ التَجَسُّسِ، وهو الشيءُ
541
المُصوَّتُ فيه: وفي التفسير: إنَّه الصُّورُ الذي يَنْفَخُ فيه المَلَكُ. والنَّقْرُ أيضاً: قَرْعُ الشيءِ الصُّلْبِ. والمِنْقارُ: الحَديدةُ التي يُنْقَرُ بها. ونَقَرْتُ عنه: بَحَثْتُ عن أخبارِه، استعارةً من ذلك. ونَقَرْتُه: أَعبْتُه، ومنه قولُ امرأةٍ لزَوْجِها: «مُرَّ بي على بني نَظَرٍ، ولا تَمرَّ بي على بناتِ نَقَرٍ» أرادت ببنين نَظَرٍ الرجالُ؛ لأنهم ينظرون إليها، وببنات نَقَرٍ النساءَ لأنهنَّ يُعِبْنها ويَنْقُرْنَ عن أحوالِها.
542
قوله: ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ﴾ : كقولِه: ﴿والمكذبين﴾ [المزمِّل: ١١] في الوجهَيْنِ المتقدمَيْنِ في السورةِ قبلها.
قولِه: ﴿وَحِيداً﴾ فيه أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الياء في «ذَرْني» أي: ذَرْنِي وَحْدي معه فأنا أَكْفِيْكَ في الانتقام منه. الثاني: أنه حالٌ مِنَ التاء في «خَلَقْتُ» أي: خَلَقْتُه وَحْدي لم يُشْرِكْني في خَلْقِه أحدٌ، فأنا أَمْلِكُه. الثالث: أنَّه حالٌ مِنْ «مَنْ». الرابع: أنه حالٌ من عائدِ المحذوفِ أي: خَلَقْتُه وحيداً. الخامس: أن ينتصِبَ على الذمِّ. و «وحيد» كان لَقَباً للوليدِ بن المُغِيرة. ومعنى «وحيداً» : ذليلاً قليلاً. وقيل: كان يَزْعُمُ أنه وحيدٌ في فَضْلِه ومالِه. وليس في ذلك ما يَقْتَضي صِدْقَ مقالتِه؛ لأنَّ هذا لَقَبٌ له شُهِر به، وقد يُلَقَّبُ الإِنسانُ بما لا يَتَّصِفُ به، وإذا كان لَقَباً تَعَيَّنَ نصبُه على الذمِّ.
قوله: ﴿إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾ : استئنافٌ، جوابٌ لسائلِ سأل: لِمَ لا يزدادُ مالاً؟ وما بالُه رُدِعَ عن طَمعِه في ذلك؟ فأُجيب بقولِه: ﴿إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً﴾.
قوله: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ﴾ : يجوزُ أنْ يكونَ استئنافَ تعليلٍ لقولِه «سَأُرْهِقُه». ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ ﴿إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً﴾.
قوله: ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾ : يُقال: عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعُبُوساً أي: قَطَّبَ وجهَه. والعَبَسُ: ما يَبِسَ في أذنابِ الإِبلِ من البعر والبَوْل. قال أبو النجم:
٤٣٨٧ - كأن في أَذْنابِهِنَّ الشُّوَّلِ مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرونَ الأُيَّلِ
قوله ﴿وَبَسَر﴾ يُقال: بَسَرَ يَبْسُر بَسْراً وبُسُوراً: إذا قَبَضَ ما بين عَيْنَيْه كراهةً للشَيْءِ، واسْوَدَّ وجهُه مِنْه. يقال: وَجْهٌ باسِرٌ أي: مُنْقَبِضٌ أسودُ.
قال:
٤٣٨٨ - صَبَحْنا تميماً غَداةَ الجِفارِ بشَهْباءَ مَلْمومَةٍ باسِرَةْ
وأهل اليمن يقولون: بَسَرَ المَرْكَبُ وأَبْسَر: إذا وَقَفَ. وأَبْسَرْنا أي: صِرْنا إلى البُسُور. وقال الراغب: «البَسْرُ: البَسْرُ: الاستعجالُ بالشيء قبل أَوانِه نحو: بَسَرَ الرجلُ الحاجةَ: طَلَبها في غيرِ أوانِها، وبَسَرَ الفَحْلُ الناقةَ: ضَرَبها قبل الضَّبَعَةِ. وماء بَسْرٌ: مُتناوَلٌ مِنْ غَدِيرِه قبلَ سُكونه، ومنه قيل للذين لم يُدْرَك من التَّمر: بُسْر. وقولُه تعالى: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ أي:
543
أظهرَ العُبوس قبل أَوانِه، وفي غيرِ وقتِه. فإنْ قيلَ: فقولُه عَزَّ وجَلَّ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤] ليس يَفْعلون ذلك قبلَ الوقتِ. وقد قلت: إنَّ ذلك يُقال فيما كان قبلَ وَقْتِه. قلتُ: إنَّ ذلك إشارةٌ إلى حالِهم قبلَ الانتهاءِ بهم إلى النارِ فخُصَّ لفظُ البُسْرِ تنبيهاً أنَّ ذلك مع ما ينالهم مِنْ بُعْدٍ يَجْري مَجْرى التكلُّفِ، ومَجْرى ما يُفْعَلُ قبلَ وَقْتِه. ويَدُلُّ على ذلك قولُه: ﴿تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٥] انتهى كلامُ الراغب.
وقد عُطِفَ في هذه الجملِ بحروفٍ مختلفةٍ ولكلٍ منها مناسَبَةٌ. أمَّا ما عُطِفَ ب» ثُمَّ «فلأنَّ بين الأفعالِ مهلةً، وثانياً لأنَّ بين النَّظَر والعُبوس وبين العُبوسِ والإِدْبار تراخياً. قال الزمخشري/: و» ثُمَّ نظر «عَطْفٌ على» فَكَّر وقَدَّر «والدعاءُ اعتراضٌ بينهما». قلت: يعني بالدعاءِ قولَه: «فقُتِلَ». ثم قال: «فإنْ قُلْتَ ما معنى» ثم «الداخلةِ على تكريرِ الدعاء؟ قلت: الدلالة على أنَّ الكرَّة الثانية أَبْلَغُ من الأولى، ونحوُه قولُه:
٤٣٨٩ - ألا يا اسْلمي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّت اسْلمي ...........................
فإنْ قلت: فما معنى المتوسِّطةِ بين الأفعالِ التي بعدها؟ قلت: للدلالة على أنه تأنَّى في التأمُّل، وتمهَّل، وكان بين الأفعالِ المتناسِقةِ تراخٍ وبُعْدٌ. فإن قلت: فلِمَ قال:»
فقال «بالفاءِ بعد عطفِ ما قبلَه ب ثم؟
544
قلت: لأنَّ الكلمةَ لَمَّا خَطَرَتْ ببالِه بعد التطلُّب لِم يتمالَكْ أَنْ نَطقَ بها مِنْ غيرِ تَثَبُّتٍ. فإنْ قلتَ: فلِمَ لَمْ يَتَوَ‍سَّطْ حرفُ العطفِ بين الجملتَيْن؟ قلت: لأنَّ الأخرى جَرَ‍تْ مِن الأولى مَجْرى التوكيدِ من المؤكَّد.
545
قوله: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ : هذا بدلٌ مِنْ قولِه: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ قاله الزمخشري. فإنْ كان المرادُ بالصَّعودِ المشقةَ فالبدلُ واضحٌ، وإنْ كان المرادُ صخرةً في جهنَم، كما جاء في بعضِ التفاسير، فيَعْسُرُ البدلُ، ويكون فيه شَبَهٌ مِنْ بَدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ جهنمَ مُشْتَمِلةٌ على تلك الصخرةِ.
قوله: ﴿لاَ تُبْقِي﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها معنى التعظيمِ، قاله أبو البقاء، يعني أنَّ الاستفهامَ في قولِه ما سَقَرُ؟ للتعظيم فالمعنى: استعظموا سَقَرَ في هذه الحال. ومفعول «تُبْقي» و «تَذَرُ» محذوفٌ، أي: لا تُبقي ما أُلْقي فيها، ولا تَذَرُهُ، بل تُهْلِكُه. وقيل: تقديرُه لا تُبْقي على مَنْ أُلْقي فيها، ولا تَذَرُ غايةَ العذابِ إلاَّ وَصَلَتْه إليه. والثاني: أنها مستأنفةٌ.
قوله: ﴿لَوَّاحَةٌ﴾ : قرأ العامَّةُ بالرفع خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هي لَوَّاحَةٌ. وهذه مُقَوِّيةٌ للاستئنافِ في «لا تُبْقي». وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة وزيدُ بن علي وعطيةُ العَوْفي بنَصْبِها على الحال،
545
وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها حالٌ مِنْ «سقرُ» والعاملُ معنى التعظيمِ كما تقدَّم. والثاني: أنها حالٌ مِنْ «لا تُبْقي». والثالث: مِنْ «لا تذرُ». وجَعَلَ الزمخشري نَصْبَها على الاختصاصِ للتهويل، وجعلها الشيخ حالاً مؤكدة قال: «لأنَّ النارَ التي لا تُبْقي ولا تَذَرُ لا تكونُ إلاَّ مُغَيِّرةً للإِبشارِ» «ولَوَّاحَةٌ» بناءُ مبالغةٍ، وفيها معنيان، أحدهما: مِنْ لاح يَلُوح، أي: ظهر، أي: إنها تظهر للبَشَرِ وهم الناسُ، وإليه ذهب الحسن وابن كَيْسان. والثاني: - وإليه ذهبَ جمهورُ الناس أنها مِنْ لوَّحه، أي: غَيَّره وسَوَّده. قال الشاعر:
٤٣٩٠ - وتعجَبُ هندٌ أَنْ رَأَتْنِيَ شاحباً... تقول: لَشَيءٌ لوَّحَتْه السَّمائِمُ
ويقال: لاحَه يَلُوْحه: إذا غَيَّر حِلْيَتَيْه، وأُنْشِد:
٤٣٩١ - تقول:
ما لاحك يا مسافِرُ يا بنةَ عمِّي لاحَني الهواجِرُ
وقيل: اللَّوحُ شِدَّةُ العَطَشِ. يقال: لاحَه العطشَ ولَوَّحَه، أي: غَيَّره، وأُنْشدِ:
546
٤٣٩٢ - سَقَتْني على لَوْحٍ مِنْ الماءِ شَرْبَةً سَقاها به اللَّهُ الرِّهامَ الغَواديا
واللُّوْحُ بالضمِّ: الهواءُ بين السماءِ والأرضِ، والبَشَرُ: إمَّا جَمْعُ بَشَرَة، أي: مُغَيِّرة للجُلود، [وإمَّا المُرادُ به الإِنْسُ] واللامُ في «للبَشَرِ» مُقَوِّيَةٌ كهي في ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣]، وقراءةُ النصبِ في «لَوَّاحَةً» مقوِّيَةٌ لكونِ «لا تُبْقي» في محلِّ الحالِ.
547
قوله: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ : هذه الجملةُ فيها وجهان أعني: الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها. وقرأ أبو جعفر وطلحةُ «تسعَة عْشَر» بسكون العين مِنْ «عَشر» تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ [يوسف: ٤]، وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس «تسعةُ» بضمِّ التاء، «عَشَرَ» بالفتح، وهذه حركةُ بناءٍ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ. وعن المهدويِّ. «مَنْ قرأ» تسعةُ عَشَر «فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ
547
التأنيث، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ» انتهى. فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ. ويعني بقولِه «أسكنَ»، أي: أسكنَ راءَ «عشر» فإنه هذ القراءة كذلك.
وعن أنس أيضاً «تسعةُ أَعْشُرَ» بضم «تسعةُ» وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة. وفيها وجهان، قال أبو الفضل: «يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر». وقال الزمخشري: «جمع عَشير، مثل يَمين وأَيْمُن. وعن أنسٍ أيضاً» تسعَةُ وَعْشُرَ «بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ. وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ. ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ» تسعةُ وَعَشَرْ «قال:» فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ «عشراً على تسعة» وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ.
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ، وهمزةٍ مفتوحةٍ، وسكونِ العين، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُك‍ُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز:
548
قال أبو الفضل: «ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ» أَعْشُر «مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً.
549
قوله: ﴿إِلاَّ فِتْنَةً﴾ : مفعولٌ ثانٍ على حذفِ مضافٍ، أي: إلاَّ سببَ فتنةٍ، و «للذين» صفةٌ ل «فِتْنة» وليسَتْ «فتنةً» مفعولاً له.
قوله: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الذين﴾ متعلِّقٌ ب «جَعَلْنا» لا ب «فتنة». وقيل: بفعلٍ مضمرٍ، أي: فَعَلْنا ذلك ليسْتَيْقِنَ. وللزمخشري هنا كلامٌ متعلِّقٌ بالإِعرابِ ليجُرَّه إلى غرضِه مِنْ الاعتزال.
قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ نعتٌ لمصدرٍ أو حالٍ منه على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِنْ الإِضلالِ والهدى، أي: مثلَ ذلك الإِضلالِ والهدى يُضِلُّ ويَهْدي. و «مثلاً» تمييزاً أو حالٌ. وتسميةُ هذا مثلاً على سبيل الاستعارةِ لغرابتِه.
قوله: ﴿جُنُودَ رَبِّكَ﴾ مفعولٌ واجبُ التقديمِ لحَصْرِ فاعلِه، ولعَوْدِ الضميرِ على ما اتَّصل بالمفعول.
قوله: ﴿وَمَا هِيَ﴾ يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على «سقر»، أي: وما سَقَرُ إلاَّ تذكرةٌ. وأَنْ يعودَ على الآياتِ المذكورةِ فيها، أو النارِ لتقدُّمِها أو الجنودِ، أو نارِ الدنيا، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ أو العُدَّة. و «للبشر» مفعولٌ ب «ذِكْرى» واللامُ فيه مزيدةٌ.
قوله: ﴿إِذْ أَدْبَرَ﴾ : قرأ نافعٌ وحمزةُ
549
وحفصٌ «إذ» ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ، «أَدْبَرَ» بزنةِ أَكْرَمَ. والباقون «إذا» ظرفاً لِما يُسْتقبل، «دَبَرَ» بزنةِ ضَرَبَ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ. واختار أبو عبيد قراءةَ «إذا» قال: لأنَّ بعدَه «إذا أَسْفَرَ» قال: «وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله» قلت: يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ «إذا» والأخرى همزةُ «أَدْبَرَ». واختار ابنُ عباس أيضاً «إذا» ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ «أَدْبَرَ» قال: «إنما يُدْبِر ظهرُ البعير».
واختلفوا: هل دَبَر وأَدْبَر، بمعنى أم لا؟ فقيل: هما بمعنىً واحدٍ/ يقال: دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ، وقَبَلَ وأَقْبل. ومنه قولُهم «أمسٌ الدابرُ» فهذا مِنْ دَبَرَ، وأمسٌ المُدْبر قال:
٤٣٩٣ - كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
٤٣٩٤ -........................... ............. ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ. هذا قولُ الفراء والزجاج. وقال يونس: «دَبَرَ انقضى، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما. وقال الزمخشري:» ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ. قيل: ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ، وقيل: هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه «.
550
وقرأ العامَّةُ» أسْفَرَ «بالألف، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع» سَفَرَ «ثلاثياً». والمعنى: طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه، على وجهِ الاستعارةِ.
551
قوله: ﴿إِنَّهَا﴾ : أي: إنَّ النارَ. وقيل: إنَّ قيامَ الساعةِ كذا حكاه الشيخ، وفيه شيئان: عَوْدُه على غير مذكورٍ، وكونُ المضافِ اكتسَبَ تأنيثاً. وقيل: إن النِّذارة. وقيل: هيَ ضميرُ القصةِ. وقرأ العامَّةُ «لإِحْدى» بهمزةٍ مفتوحةٍ، وأصلُها واوٌ، من الوَحْدَة. وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ محيصن، وتُرْوى عن ابنِ كثيرٍ «لَحْدَى» بحذفِ الهمزةِ، وهذا من الشُّذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عليه. وتوجيهُه: أَنْ يكونَ أَبْدلها ألفاً، ثم حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنَيْن، وقياسُ تخفيفِ مثلِ هذه بينها وبين الألفِ. ومعنى «إحْدَى الكُبَرِ»، أي: إحْدَى الدَّواهي قال:
٤٣٩٥ - يا بنَ المُعَلَّى نَزَلَتْ إحدى الكُبَرْ داهيةُ الدهرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثلُه: هو أَحَدُ الرجالِ و [هي] إحدى النساءِ لِمَنْ يَسْتعظمونه. والكُبَرُ: جمعُ كُبْرى كالفُضَل جمع فُضْلى. وقال ابن عطية: «جمع كبيرة» وأظنُّه وهماً عليه. وفي هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنها جوابُ القسمِ في قوله: «والقمرِ». والثاني: أنها تعليلٌ ل «كَلاَّ» والقسمٌ معترضٌ
551
للتوكيدِ، قاله الزمخشري. قلت: وحينئذٍ فيحتاجُ إلى تقديرِ جوابٍ، وفيه تكَلُّفٌ وخروجٌ عن الظاهر.
552
قوله: ﴿نَذِيراً﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه تمييزٌ عن «إحدى»، كمَّا ضُمِّنَتْ معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكُبَر إنذاراً، ف «نذير» بمعنى الإِنذارِ كالنَّكير بمعنى الإِنكار، ومثلُه «هي إحدى النساءِ عَفافاً». الثاني: أنه مصدرٌ بمعنى الإِنذار أيضاً، ولكنه نُصِب بفعلِ مقدَّرٍ، قاله الفراء. الثالث: أنه فعيلٌ بمعنى مُفْعِل، وهو حالٌ من الضميرِ في «إنَّها» قاله الزجاج. الرابع: أنه حالٌ من الضمير في «إحدى» لتأوُّلها بمعنى العظيم. الخامس: أنَّه حالٌ من فاعلِ «قم» أولَ السورةِ. السادس: أنَّه مصدرٌ منصوبٌ ب أَنْذِرْ أولَ السورةِ. السابع: هو حالٌ مِنْ «الكُبَر». الثامن: حالٌ من ضميرِ الكُبَر. التاسع: هو حالٌ مِنْ «لإِحدى»، قاله ابن عطية. العاشر: أنَّه منصوبٌ بإضمار أَعْني. الحادي عشر: أنَّه منصوبٌ ب ادْعُ مُقَدَّراً؛ إذ المُراد به اللَّهُ تعالى. الثاني عشر: أنَّه منصوبٌ ب «نادِ أو ب بَلِّغ؛ إذ المرادُ به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالثَ عشرَ: أنه منصوبٌ بما دَلَّتْ عليه الجملةُ، تقديره: عَظُمْتَ نذيراً. الرابعَ عشرَ: هو حالٌ من الضميرِ في» الكُبَرِ «. الخامسَ عشرَ: أنها حالٌ مِنْ» هو «في قولِه وما يعلَمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هو. السادسَ عشرَ: أنها مفعولٌ مِنْ أجلِه،
552
الناصبُ لها ما في» الكُبَر «، مِنْ معنى الفعل. قال أبو البقاء:» أو إنَّها لإِحدى الكُبر لإِنذارِ البشر «فظاهرُ هذا أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه. وفيه بُعْدٌ وإذا جُعِلَتْ حالاً مِنْ مؤنثٍ فإنَّما لم تُؤَنَّثْ لأنَّها بمعنى ذاتِ إنذارٍ على معنى النَّسَب. قال معناه أبو جعفر.
والنصبُ قراءةُ العامَّةِ، وابن أبي عبلة وأُبَيُّ بنُ كعبٍ بالرفع. فإنْ كان المرادُ النارَ جاز لك وجهان: أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي نذيرٌ، والتذكيرُ لِما تقدَّم مِنْ معنى النَّسَبِ، وإنْ كان المرادُ الباريَ تعالى أو رسولَه عليه السلام كان على خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هو نذيرٌ.»
وللبشر «إمَّا صفةٌ. وإمَّأ مفعولٌ لنذير، واللامُ مزيدةٌ لتقويةِ العامل.
553
قوله: ﴿لِمَن شَآءَ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من «للبشر» بإعادة العامل كقولِه: ﴿لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣] و ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ﴾ [الأعراف: ٧٥]. وأَنْ يتقدَّمَ مفعولُ «شاء»، أي: نذيرٌ لمَنْ شاءَ التقدُّمَ أو التأخُّرَ، وفيه ذُكِرَ مفعولُ «شاء» وقد تقدَّم أنَّه لا يُذْكَرُ إلاَّ إذا كان فيه غَرابَةٌ. والثاني: وإليه نحا الزمخشري وبه بدأ أَنْ يكونَ «لمَنْ شاءَ» خبراً مقدَّماً، و «أَنْ يتقدَّم» مبتدأ مؤخراً قال: «كقولِك: لِمَنْ توضَّأَ أَنْ يُصَلِّي، ومعناه مطلقٌ لمَنْ شاء التقدُّمَ أو التأخُّرَ أَنْ يتقدَّم
553
أو يتأخَّرَ» انتهى. فقوله «التقدُّمَ والتأخُّرَ» هو مفعولُ «شاء» المقدَّرِ، وقولُه «أَنْ يتقدَّمَ» هو المبتدأ. قال الشيخ: «وهو معنىً لا يتبادَرٌ الذِّهْنُ إليه وفيه حَذْفٌ».
554
قوله: ﴿رَهِينَةٌ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّ «رهينة» بمعنى «رَهْن» كالشتيمة بمعنى الشَّتْم. قال الزمخشري: «ليسَتْ بتأنيثِ» رهين «في قوله» كلُّ امرىء «/ لتَأنيثِ النفسِ؛ لأنَّه لو قُصِدَتِ الصفةُ لقيل:» رِهين «؛ لأنَّ فَعيلاً بمعنى مَفْعول يَسْتوي فيه المذكرُ والمؤنثُ، وإنما هي اسمٌ بمعنى الرَّهْن كالشَّتيمة بمعنى الشَّتْم، كأنه قيل: كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ رَهْنٌ، ومنه بيتُ الحماسة:
٤٣٩٦ - أبعدَ الذي بالنّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ رَهينةٍ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنه قال: رَهْنِ رَمْسٍ. الثاني: أنَّ الهاءَ للمبالغةِ. والثالث: أنَّ التأنيثَ لأجلِ اللفظ. واختار الشيخُ أنَّها بمعنى مَفْعول وأنها كالنَّطيحة. قال:»
ويَدُلُّ على ذلك: أنَّه لَمَّا كان خبراً عن المذكر كان بغيرِ هاءٍ، قال تعالى: ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ [الطور: ٢١] فأنت ترى حيث كان خبراً عن
554
المذكر أتى بغيرِ تاءٍ، وحيث كان خبراً عن المؤنثٍ أتى بالتاء. فأمَّا الذي في البيت فأُنِّث على معنى النفس «
555
قوله: ﴿إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنها استثناءٌ متصلٌ؛ إذ المرادُ بهم المسلمون الخالِصون الصالحون. والثاني: أنه منقطعٌ؛ إذ المرادُ بهم الأطفالُ أو الملائكةُ.
قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم في جناتٍ، وأن يكونَ حالاً مِنْ «أصحابَ اليمين»، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعل «يَتَساءلون» ذكرهما أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يتساءلون» وهو أظهرُ من الحالية مِنْ فاعِله. و «يتساءلون» يجوزُ أَنْ يكونَ على بابِه، أي: يَسْألون غيرَهم، نحو: دَعَوْتُه وتَداعيْتُه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وأدغم أبو عمروٍ " سَلَككم " وهو نظيرُ ﴿ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] وقد تقدَّم ذلك في البقرة. وقوله " ما سَلَكَكُم " يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِ، وذلك القولُ في موضع الحال، أي : يتساءَلون عنهم، قائلين لهم : ما سلككم ؟ وقال الزمخشري :" فإنْ قلتَ : كيف طابَقَ قولُه " ما سلككُمْ " وهو سؤالُ المجرمين قولَه " يتساءَلون عن المجرمين " وهو سؤالٌ عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين ما سلككم ؟ قلت : قولُه " ما سلككم " ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم ؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وأدغم أبو عمروٍ " سَلَككم " وهو نظيرُ ﴿ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] وقد تقدَّم ذلك في البقرة. وقوله " ما سَلَكَكُم " يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِ، وذلك القولُ في موضع الحال، أي : يتساءَلون عنهم، قائلين لهم : ما سلككم ؟ وقال الزمخشري :" فإنْ قلتَ : كيف طابَقَ قولُه " ما سلككُمْ " وهو سؤالُ المجرمين قولَه " يتساءَلون عن المجرمين " وهو سؤالٌ عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين ما سلككم ؟ قلت : قولُه " ما سلككم " ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم ؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم ؟
قوله: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾ : هذا هو الدالُّ على فاعلِ سَلَكَنا كذا الواقعِ جواباً لقولِ المؤمنين لهم: ما سلككم؟ التقدير: سَلَكَنا عدمُ صَلاتِنا وكذا وكذا. وقال أبو البقاء: «هذه الجملةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الفاعلِ وهو جوابُ ما سَلَككم» ومرادُه ما قَدَّمْتُه. وإنْ كانَ في عبارتِه عُسْرٌ.
وأدغم أبو عمروٍ «سَلَككم» وهو نظيرُ ﴿مَّنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٠] وقد تقدَّم
555
ذلك في البقرة. وقوله «ما سَلَكَكُم» يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِ، وذلك القولُ في موضع الحال، أي: يتساءَلون عنهم، قائلين لهم: ما سلككم؟ وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف طابَقَ قولُه» ما سلككُمْ «وهو سؤالُ المجرمين قولَه» يتساءَلون عن المجرمين «وهو سؤالٌ عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ قلت: قولُه» ما سلككم «ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون: قلنا لهم ما سلككم؟
556
قوله: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ﴾ : كقولِه:
٤٣٩٧ - على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه ................................
في أحدِ وجهَيْه، أي: لا شفاعةَ لهم، فلا انتفاعَ بها، وليس المرادُ أنَّ ثَمَّ شفاعةً غيرَ نافعةٍ كقولِه: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨].
قوله: ﴿مُعْرِضِينَ﴾ : حالٌ من الضمير في الجارِّ الواقع خبراً عن «ما» الاستفهاميةِ، وقد تقدَّم أنَّ مِثْلَ هذه الحالِ تُسَمَّى حالاً لازِمَةً وقد تقدَّم فيها بحثٌ حسنٌ. «وعن التذكرة» متعلِّقٌ به.
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً
556
من الضمير في الجارِّ، وتكون بدلاً مِنْ «مُعْرِضِيْنَ» قاله أبو البقاء، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في «مُعْرِضِين»، فتكونَ حالاً متداخلةً.
وقرأ العامَّةُ «حُمُرٌ» بضمِّ الميم، والأعمش بإسكانِها. وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ «مُسْتَنْفَرة» على أنه اسمُ مفعولٍ، أي: نَفَّرها القُنَّاص. والباقون بالكسرِ بمعنى: نافِرة: يُقال: استنفر ونَفَر بمعنى نحو: عَجِب واستعجب، وسخِر واسْتَسْخر. قال الشاعر:
٤٣٩٨ - أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري: «كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه» انتهى. فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ، وهو معنى حسن.
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه «فَرَّتْ» للتناسُبِ. وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال: «سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً، فقلت:
557
كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال: مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة. فقلت: إنما هو ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم. قال:» فمُسْتَنْفِرة إذن «انتهى. يعني أنها مع قولِه» طَرَدها «تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ ﴿فَرَّتْ مِن قسْورة﴾ رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ.
والقَسْوَرَةُ: قيل: الصائِدُ. وقيل: ظلمةُ الليل. وقيل: الأسد، ومنه قولُ الشاعر:
٤٣٩٩ - مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي: الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال: لا أعرفُ القَسْوَرَةَ: الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ: عَصَبُ الرجال، وأنشد:
٤٤٠٠ - يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل: هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة:
558
والجملةُ مِنْ قولِه» فَرَّتْ «يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل» حُمُر «مثلَ» مُسْتَنْفرة «، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء.
559
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه " فَرَّتْ " للتناسُبِ. وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال :" سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً، فقلت : كأنهم/ حُمُرٌ ماذا ؟ فقال : مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة. فقلت : إنما هو ﴿ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ فقال : أفرَّتْ ؟ قلت : نعم. قال :" فمُسْتَنْفِرة إذن " انتهى. يعني أنها مع قولِه " طَرَدها " تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ ﴿ فَرَّتْ مِن قسْورة ﴾ رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ.
والقَسْوَرَةُ : قيل : الصائِدُ. وقيل : ظلمةُ الليل. وقيل : الأسد، ومنه قولُ الشاعر :
٤٤٠١ - إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي : الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال : لا أعرفُ القَسْوَرَةَ : الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ : عَصَبُ الرجال، وأنشد :
يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل : هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة :
إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه " فَرَّتْ " يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل " حُمُر " مثلَ " مُسْتَنْفرة "، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء.
قوله: ﴿مُّنَشَّرَةً﴾ : العامَّةُ على التشديد مِنْ «نَشَّره» بالتضعيف. وابن جبير «مُنْشَرَة» بالتخفيف. ونَشَر وأَنْشَرَ مثل: نَزَل وأَنْزَل. والعامَّةُ أيضاً على ضَمِّ الحاءِ مِنْ «صُحُف»، وابن جبير على تكسينها، قال الشيخ: «والمحفوظ في الصحيفة والثوب نَشَرَ مخففاً ثلاثياً» قلت: وهذا مردودٌ بالقرآن المتواتر. وقال أبو البقاء في قراءةِ ابن جُبير: «مِنْ أَنْشَرْتُ: إمَّا بمعنى أَمَرَ بنَشْرِها مثلَ:» أَلْحَمْتُك عِرْضَ فلانٍ «، أو بمعنى مَنْشورة مثل: أَحْمَدْتُ الرجلَ أو بمعنى: أَنْشَر اللَّهُ الميِّتَ، أي: أحياه، فكأنه أحيا ما فيها بذكْرِه.
قوله: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ﴾ : قرأ نافعٌ بالخطاب، وهو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، والباقون بالغَيْبة حَملاً على ما تقدَّم مِنْ قولِه ﴿كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ﴾ [المدثر: ٥٢] ولم يُؤْثِروا الالتفاتَ، والهاءُ في «إنَّه» للقرآن أو للوعيد.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ﴾ بمعنى: إلاَّ وقتَ مشيئتِه لا على أنَّ «أنْ» تنوبُ عن الزمانِ بل على حَذْفِ مضاف.
Icon