تفسير سورة سورة الكهف من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها عشر ومائة
ﰡ
﴿ ولم يجعل له عوجا ﴾ أي لم يجعل فيه شيئا من العوج بنوع من أنواع الاختلال والاختلاف، لا في اللفظ ولا في المعنى. ﴿ قيما ﴾ أي مستقيما معتدلا، لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد، ولا تفريط فيه بإهمال ما في حاجة إليه، حتى يحتاج إلى كتاب آخر. أو قيما بمصالح العباد، متكلفا بها وببيانها لهم، لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد. والعوج : الانحراف عن الاستقامة ( آية ٩٩آل عمران ص ١١٨ ).
﴿ لينذر بأسا... ﴾ لينذر الذين كفروا عذابا شديدا في الآخرة. وأصل البأس : الشدة في الحرب.
﴿ كبرت كلمة ﴾ أي عظمت في الشناعة والقبح تلك الكلمة التي تفوهوا بها دون تعقل وفهم، وهي قولهم :﴿ اتخذ الله ولدا ﴾. وكبر : فعل ماض، لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز. المخصوص بالذم محذوف، أي كبرت هي. أي المقالة التي قالوها كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء.
﴿ فلعلك باخع نفسك ﴾ قاتل نفسك حزنا، وغضبا لإعراضهم عن الإيمان وتكذيبهم بالقرآن والمراد : لا يكن منك ذلك. يقال : بخع نفسه بخعا وبخوعا، قتلها من شدة الوجد أو الغيظ.
وأصل البخع : ان تبلغ بالذبخ البخاع – بكسر أوله- وهو عرق في الصلب يجرى في عظم الرقبة، وذلك أقصى حد الذبح. ﴿ أسفا ﴾ مفعول لأجله.
﴿ إنا جعلنا ما على الأرض. ﴾ تعليل للنهي المقصود من كلمة الترجي. تسلية له صلى الله عليه وسلم وتسكينا لأسفه، لأنه تعالى مختبر لأعمالهم ومجازيهم عليها. فكأنه تعالى يقول له : لا تحزن فإني منتقم لك منهم. ﴿ لنبلوهم ﴾ لنخبترهم بما خلقنا من هذه الزينة﴿ أيهم أحسن عملا ﴾ أي أتبع لأمرنا ونهينا، وأعمل بطاعتنا، وأبعد من الاغترار بزينة الدنيا. أي لنعاملهم معاملة المختبر، من الابتلاء بمعنى الاختبار ( آية ٤٩ البقرة ص ٢٨ ).
﴿ وإنا لجاعلون ﴾ أي وإنا لمصيرون عند انقضاء الدنيا ﴿ ما عليها ﴾ مما جعلناه زينة لها ﴿ صعيدا ﴾ ترابا﴿ جرزا ﴾ لا نبات فيه. يقال : أرض جزر، لا تنبت، أو كل نباتها، أو لم يصبها مطر.
وجزرت الأرض : إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد. وهو كناية عن إفناء متاع الدنيا، ويعقب ذلك الجزاء على الأعمال، فلا يحزنك أمرهم فإنا سنجازيهم على ما عملوا يوم الحساب.
﴿ الكهف والرقيم ﴾ الكهف : النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن فيه سعة فهو غاز، وجمعه كهوف وأكهف. والمراد : الكهف الذي اتخذه هؤلاء الفتية بمدينة أفسوس أو طرسوس. والرقيم : لوح رقمت فيه أسماء أهل الكهف وقصتهم. أو ما تمسكوا به من شرع عيسى عليه السلام، فهو مصدر بمعنى المرقوم أي المكتوب. أو هو اسم للوادي الذي كانوا فيه.
﴿ إذ أوى الفتية.... ﴾ التجئوا إلى الكهف واتخذوه مأوى لهم، يعبدون الله وحده فيه، فرارا
بدينهم من قومهم الذين كانوا يعبدون غير الله، ومن ملكهم الذي كان يأمرهم بذلك واسمه دقيانوس. يقال : أوى إلى منزله يأوى أويا، نزله بنفسه وسكنه. والفتية : جمع فتي وهو الطري من الشباب. ﴿ وهيئ لنا من أمرنا ﴾ الذين نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على الإيمان والطاعة﴿ رشدا ﴾ اهتداء إلى الطريق الحق، وسدادا إلى العمل الذي تحب. والرشد والرشد : ضد الغي والضلال. يقال : رشد يرشد، ورشد يرشد، رشدا ورشدا رشادا : اهتدى.
﴿ وربطنا على قلوبهم ﴾ قويناها بالصبر والتثبيت على الحق، حين وقفوا بين يدي ملكهم الجبار، موقف صدق وعزم، وأعلنوا التوحيد بنوعيه : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، نبذا لما دعاهم إليه من عبادة الأوثان. وأصل الربط : الشد. يقال : ربطت الدابة، شددتها برباط. واستعماله فيها ذكر مجاز، كما في قولهم : هو رابط الجأش، إذا كان قلبه لا يفرق ولا يفزع عند الحرب والشدة.
﴿ قلنا إذا ﴾ أي إن دعونا غيره تعالى ﴿ شططنا ﴾ أي قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق. والشطط : مصدر بمعنى مجاوزة القدر في كل شيء. وصف به القول مبالغة، ثم اقتصر على الوصف مبالغة على المبالغة. يقال : شط يشط ويشط شططا وشطوطا، بعد.
﴿ مرفقا ﴾ ما ترتفقون وتنتفعون به من الأشياء. وقرئ ﴿ مرفقا ﴾ بفتح الميم وكسر الفاء بهذا المعنى. وفي الآية امتداح الهجرة لسلامة الدين.
﴿ وترى الشمس إذا طلعت تزاور ﴾ تعدل وتميل ﴿ عن كهفهم ﴾ من الزور بمعنى الميل، ومنه : زاره إذا مال إليه. والأزور : المائل الوزر أي المصدر. وازور عن الشيء ازورارا، وتزاور عنه تزاورا : عدل وانحرف. وأصله : تزاور، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. ﴿ ذات اليمين ﴾ جهة يمين الكهف، أي يمين الداخل فيه ﴿ وإذا غربت تقرضهم ﴾ تتركهم وتعدل عنهم. يقال : قرض المكان، عدل عنه وتنكبه. أو تقطعهم بمعنى تتجاوزهم وتتركهم، من القرض بمعنى القطع. يقال : قرض المكان يقرضه، أي قطعه. ﴿ وهو في فجوة منه ﴾ أي في متسع منه وهو وسطه.
والفجوة : ساحة الدار، مأخوذة من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين. يقال : رجل أفجى، وامرأة فجواء. والمراد : أن الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة، لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم، وتبلى ثيابهم. وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس.
﴿ ذلك ﴾ أي ما ذكر من الأوضاع والحالات﴿ من آيات الله ﴾ الدالة على قدرته، وعجيب صنعته.
﴿ بالوصيد ﴾ أي برحبة الكهف، أو بعتبة الباب، كأنه يحفظه عليهم. وجمعه وصائد ووصد.
﴿ رعبا ﴾ أي خوفا وفزعا. مصدر رعبه يرعبه، أي خوفه، فهو مرعوب ورعيب.
﴿ فابعثوا أحدكم بورقكم ﴾ بدراهمكم المضروبة. ﴿ أيها أزكى طعاما ﴾ أي أي أطعمة
المدينة أحل وأطهر، أو أجود أو أكثر بركة. ﴿ وليتلطف ﴾ وليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا ﴿ ولا يشعرن بكم أحدا ﴾ لا يخبرن أحدا بأمركم خشية تعذيبكم.
﴿ إنهم إن يظهروا عليكم ﴾ أي يطلعوا عليكم، أو يظفروا بكم. وأصل معنى ﴿ ظهر ﴾ : صار على ظهر الأرض ولما كان ما عليها مشاهدا متمكنا منه، استعمل تارة في الإطلاع، وأخرى في الظفر والغلبة، وعدى بعلي.
﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ﴾ أي كما أنمناهم وبعثناهم هذا البعث الخاص، اطلعنا الناس عليهم. ﴿ إذا يتنازعون ﴾ ظرف ل ﴿ أعثرنا ﴾، أي يتنازع المؤمنون والكافرون في أمرهم.
﴿ سيقولون ثلاثة... ﴾ سيختلف الناس في عدة أصحاب الكهف فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أقوال لا غير. فدل على أنه لا قائل برابع، وأتبع القولين الأولين – وهما لغير المؤمنين – بقوله :﴿ رجما بالغيب ﴾ أي قولا بلا علم ولا إطلاع، فدل على بعدها عن الصواب. وحكى الثالث – وهو للمؤمنين – وأعقبه بقوله :﴿ وثامنهم كلبهم ﴾ فدل على أنه الواقع في نفس الأمر، وإنما استفيد منه التقرير، لأن الكلام قد تم عند قوله :﴿ ويقولون سبعة ﴾ ثم عطف عليه قوله :﴿ وثامنهم كلبهم ﴾ والثامن لا يكون ثامنا إلا بعد سابع، فكأنه قيل : هم سبعة وثامنهم كلبهم. ﴿ رجما بالغيب ﴾ أي يرمون رميا بالخبر الغائب عنهم، الذي لا مطلع لهم عليه ويأتون به. والرجم في الأصل : الرمى بالرجم، وهو الحجارة الصغيرة، استعير للتكلم بما لا علم به، ولا إطلاع عليه بخفاءه، تشبيها له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب المرمى. ﴿ قل ربي أعلم بعدتهم ﴾ أي أقوى وأقدم في العلم بها. وفيه إرشاد إلى أن الأفضل في مثل هذا رد العمل إليه تعالى، وعدم الخوض فيهن فإذا أطلعنا الله على أمره قلنا به، وإلا وقفنا. وثبوت الأعلمية له تعالى لا ينافي علم قليل من الناس به، وهو قوله تعالى :﴿ ما يعلمهم إلا قليل ﴾ أي ما يعلم عدتهم إلا قليل من الناس، والأكثرون لا يعلمونها. ﴿ فلا تمار فيهم ﴾ أي فلا تجادل في شأن أصحاب الكهف أحدا من الخائضين فيه ﴿ إلا مراء ظاهرا ﴾ واضحا بذكر ما قصصنا عليك من شأنهم ولا تزد عليه. يقال : ماراه مراء، جادله. ﴿ ولا تستفت فيهم منهم أحدا ﴾ فإن فيما أوحينا إليك لمندوحة عن غيره.
﴿ ولا تقولن لشيء... ﴾ أي لا تقولن أفعل غدا إلا متلبسا بقول : إن شاء الله. نزلت إرشادا له صلى الله عليه وسلم حين سألته قريش عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال :﴿ ائتوني غدا أخبركم ﴾، ولم يقل إن شاء الله، فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما حتى شق عليه.
﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي إذا نسيت تعليق القول بالمشيئة، ثم ذكرت أنك لم تعلقه بها فائت بها، أي ما دامت في مجلس الذكر – كما روى عن الحسن – أو ما لم تأخذ في كلام آخر.
﴿ قل الله اعلم بما لبثوا ﴾ أي بالزمن الذي لبثوه في كهفهم ممن اختلفوا فيه. وقد أخير أنه ثلاثمائة سنة وتسع سنين قمرية. فهو الحق الصحيح الذي لا شك فيه. وهو إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم. ﴿ أبصر به وأسمع ﴾ صيغتا تعجب، أي ما أبصره وما أسمعه تعالى. والمراد : الإخبار بأنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء. وذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما عليه إدراك المبصرين والسامعين، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت عنده لطيف وكثيف، وصغير وكبير، وخفي وجلي.
﴿ ولن تجد من دونه ملتحدا ﴾ ملجأ تعدل إليه وتميل عند إلمام ملمة، من الالتحاد بمعنى الميل، يقال : ألحد، مال وعدل. والتحد إلى كذا : مال إليه.
﴿ واصبر نفسك ﴾ نزلت في شأن فقراء الصحابة وضعفائهم، كعمار وصهيب وبلال وأضرابهم. حين طلب سادة قريش من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينحيهم عن مجلسه وقالوا : لو نحيت هؤلاء لجالسناك واتبعناك، أي احبس نفسك وثبتها. يقال : صبرت زيدا أصبره صبرا، أي حبسته ﴿ مع الذين يدعون ربهم ﴾ أي يعبدونه بذكره، وحمده وتهليله وتسبيحه وتكبيره. أو بتلاوة القرآن. ﴿ بالغداة والعشي ﴾ أي في طرفي النهار. هو كناية عن دوام العبادة. ﴿ ولا تعد عيناك عنهم ﴾ أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى هؤلاء المتغطرسين المستكبرين. يقال : عداه عن الأمر عدوا وعدوانا، صرفه وشغله.
﴿ وكان أمره فرطا ﴾ أي إفراطا وإسرافا، أو ضياعا وهلاكا، أو مجاورا فيه الحد.
﴿ أحاط بهم سرادقها ﴾ السرادق : كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. أو كل بيت من كرسف أي قطن، أو الحجرة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، وجمعه سرادقات.
﴿ يغاثوا بماء كالمهل ﴾ هو ماء غليظ كدردي الزيت، أو هو درديه وعكره، أو ما أذيب من معادن الأرض أو من النحاس فانماع وتموج بالغليان حتى بلغ أقصى الغاية في الحرارة. أو هو القطران الرقيق. ﴿ وساءت مرتفقا ﴾ متكأ من الارتفاق وهو الإتكاء على مرفق اليد. وأطلق عليها مرتفق مشاكلة لقوله بعد :﴿ وحسنت مرتفقا ﴾ وإلا فلا ارتفاق لأهل النار.
﴿ من سندس ﴾ مارق من الحرير. ﴿ وإستبرق ﴾ ما غلظ منه ونحن﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ جمع أريكة، وهي كل ما يتوكأ عليه من سرير أو منصة أو فراش. أو هي السرير في الحجلة، وهي بيت كالقبة يزين للعروس بالثياب والستور والأسرة، ويكون له أزرار كبار.
﴿ واضرب لهم مثلا... ﴾ أي ضرب مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي مع مكابدة مشاق الفقر. وللكافرين المستكبرين على الله مع تقلبهم في نعمه تعالى ﴿ جنتين ﴾ بستانين.
﴿ وحففناهما بنخل ﴾ جعلنا النخل محيطا بكل منهما.
﴿ آتت أكلها ﴾ ثمرها، وهو ما يؤكل من ثمر النخل والكرم وصنوف الزرع. ﴿ ولم تظلم منه شيئا ﴾ أي ولم تنقص منه شيئا من النقص في سائر السنين. وهو كناية عن تمامها ونموها دائما.
﴿ وكان له ثمر.. ﴾ أي وكان لصاحب الجنتين : أموال كثيرة أخرى غيرهما. جمع ثمرة، وهو يجمع على ثمار وجمعه ثمر.
﴿ وهو يحاوره ﴾ أي يراجعه الكلام. يقال : تحاورنا إذا تراجعوا الكلام بينهم. ﴿ وأعز نفرا ﴾ أي عشيرة، أو حشما وأعوانا. والنفر : من ينفر من الرجل من قومه وعشيرته لقتال عدوه.
﴿ ما أظن أن تبيد ﴾ تهلك وتفنى. يقال : باد بيدا وبيودا، إذا هلك.
﴿ خيرا منها منقلبا ﴾ مرجعا وعاقبة. اسم مكان، من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء إلى غيره. أقسم أنه إذا فرض بعث في الآخرة ليجدن فيها خيرا من جنته التي في الدنيا.
﴿ لكنا هو الله ﴾ أي لكن أنا أقول : هو الله ربي.
﴿ ولولا ﴾ كلمة تحضيض كهلا، وإذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ. أي هلا قلت – عند دخولك جنتك إعجابك بها- ما أراه بها من الحسن والنضارة هو ما شاء الله تعالى، فرددت الأمر إلى المشيئة الإلهية ؟
﴿ ويرسل عليها حسبانا ﴾ عذابا﴿ من السماء ﴾ كالصواعق والسموم. أو مرامي من عذابه، إما بردا وإما حجارة، وإما غيرهما مما يشاء. ﴿ فتصبح صعيدا ﴾ ترابا أو أرضا ﴿ زلقا ﴾لا نبات فيها. أو مزلقة لا تثبت عليها قدم. والمراد أنها تصبح عديمة النفع حتى منفعة المشي عليها. يقال : مكان زلق، أي دحض، وهو في الأصل مصدر زلقت رجله تزلق زلقا، ومعناه الزلل في المشي لوحل ونحوه.
﴿ أو يصبح ماؤها غورا ﴾ غائرا ذاهبا في الأرض، مصدر وصف به للمبالغة وهو بمعنى الفاعل. يقال : غار الماء يغور غورا وغثورا، أي سفل في الأرض وذهب فيها.
﴿ وأحيط بثمره ﴾ أهلكت أثماره وأفنيت كلها، مأخوذ من إحاطة العدو بالإنسان، وهي استدارته به من جميع جوانبه، ومنه﴿ إلا أن يحاط بكم ﴾. ﴿ خاوية على عروشها ﴾ ( آية ٢٥٩ البقرة ص ٨٥ ).
﴿ وخير عقبا ﴾ أي وهو تعالى خير عاقبة لمن والاه والعقب والعقب : العاقبة. يقال : عاقبة أمره كذا وعقباه وعقبه، أي أخره وما يصير إليه منتهاه.
﴿ فأصبح هشيما ﴾ يابسا متفتتا بعد البهجة والنضارة، من الهشم وهو كسر الشيء اليابس، ومنه هشم الثريد يهشمه : كسره وثرده. ﴿ تذروه الرياح ﴾ تفرقه وتنسفه. يقال : ذرت الريح الشيء تذروه ذروا وتذرية، أطارته وأذهبته.
﴿ والباقيات الصالحات ﴾ الطاعات وأعمال الحسنات.
﴿ وترى الأرض بارزة ﴾ ظاهرة للأعين، من غير شيء يسترها من جبل أو شجر أو بنيان.
يقال : برز بروزا، خرج إلى البراز – أي الفضاء – وظهر بعد الخفاء. ﴿ وحشرناهم ﴾ جمعناهم إلى الموقف من كل صوب. ﴿ فلم نغادر منهم أحدا ﴾ فلم نترك منهم أحدا دون أن نبعثه من قبره حيا.
﴿ ووضع الكتاب ﴾ صحائف أعمال العباد. ﴿ يا ويلتنا ﴾ نداء لهلكتهم، كأنهم يقولون :
يا هلاكنا أقبل، فهذا أوانك. والويلة : الهلاك وحلول الشر والقبح والحسرة.
﴿ ففسق عن أمر ربه ﴾ خرج عن طاعته ( آية ٢٦ البقرة ص ٢٢ ).
﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا ﴾ أعوانا وأنصارا في شأن من شئوني. يقال : فلان يعضد فلانا، إذا كان يقويه ويعينه. والعضذ في الأصل : مابين المرفق إلى الكتف، ويستعار للمعين والناصر فيقال : فلان عضدي، ومنه ﴿ سنشد عضدك بأخيك ﴾ لأن اليد قوامها العضد.
﴿ وجعلنا بينهم موبقا ﴾ وجعلنا بين الداعين والمدعوين مهلكا يشتركون فيه وهو جهنم. اسم مكان من وبق وبوقا – كوثب وثوبا – أو وبق وبقا- كفرح فرحا - : إذا هلك.
﴿ فظنوا ﴾ أي علموا. ﴿ ولم يجدوا عنها مصرفا ﴾ أي معدلا عنها، ومكانا ينصرفون إليه.
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا... ﴾ أي وما منع كفار مكة من الإيمان بالله، ونبذ الشرك، ومن الاستغفار مما فرط منهم من الآثام إلا تقدير الله إتيانهم ما جرفت به سنته في الأمم المكذبة السابقة من الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. أو إرادته تعالى ذلك، بناء على ما علم سبحانه من سوء استعدادهم وخبث نفوسهم، ف ﴿ أن ﴾ وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ﴿ منع ﴾ بتقدير مضاف وهو : تقدير أو إرادة. وفي الآية إنذار لهم بأن شأنهم وعاقبة أمرهم شأن الأولين المكذبين. ﴿ أو يأتيهم العذاب قبلا ﴾ أي صنوفا وألوانا، أو عيانا ومقابلة.
﴿ ليدحضوا به الحق ﴾ ليزيلوا أو يبطلوا الحق بجدالهم، من إدحاض القدم، وهو إزلاقها. يقال : أدحض قدمه، أي أزلقها وأزلها عن موضعها. والدحض : الطين الذي يزلق فيه.
﴿ أكنة ﴾ أغطية. ﴿ وقرا ﴾ أي ثقلا وصمما ( آية ٢٥ الأنعام ص ٢١٦ ). والآية فيمن علم الله أنهم يموتون على الكفر من مشركي مكة.
﴿ موئلا ﴾ ملجأ يلجئون إليه. يقال : وأل إليه يئل وألا ووؤلا – بوزن وعولا- لجأ.
﴿ لمهلكهم موعدا ﴾ لهلاكهم ميقاتا وأجلا معينا، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
﴿ وإذ قال موسى ﴾ شروع في قصة موسى الكليم عليه السلام. ﴿ لفتاه ﴾ يوشع بن نون. وقيل : إنه ابن أخت موسى عليه السلام. ﴿ مجمع البحرين ﴾ أي قرب ملتقاهما مما يلي المشرق، وهما على ما يظهر البحر الأحمر، والبحر الأبيض. ﴿ أمضى حقبا ﴾ أي أسير دهرا طويلا، جمعه أحقاب، وفي معناه الحقبة من الدهر وجمعها حقب – كسدرة وسدر-، والحقبة وجمعها حقب، كغرفة وغرف.
﴿ مجمع بينهما.. ﴾ أي المكان الذي وعد موسى أن يجتمع فيه بالخضر عليه السلام، و﴿ بين ﴾ ظرف أضيف إلى البحرين على الاتساع. ﴿ سربا ﴾ مسلكا ومذهبا، كالسرب في الأرض.
والسرب : النفق والحفير تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء البستان. ﴿ نصبا ﴾ تعبا وإعياء.
﴿ واتخذ سبيله في البحر عجبا ﴾ أي سبيلا يعجب منه، أو اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه
كالطاق والسرب.
﴿ ذلك ما كنا نبغ ﴾ أي ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه ونلتمسه، من حيث أنه أمارة على الفوز بالمطلوب، من البغاء بمعنى الطلب. ﴿ فارتدا على آثارهما قصصا ﴾ فرجعا في طريقهما الذي سلكاه يتتبعان آثارهما إتباعا حتى انتهيا إلى مدخل الحوت. يقال : قص أثره قصا وقصصا، تتبعه.
﴿ فوجدا عبدا من عبادنا ﴾ هو الخضر، وهو نبي عند الجمهور. واختلف في حياته، فذهب جمع من الأئمة إلى أنه ليس بحي اليوم، منهم البخاري وإبراهيم الحربي وعلى بن موسى الرضا وأبوا يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية. وذهب آخرون إلى أنه حي وسيموت آخر الزمان. وقال ابن القيم : إن الأحاديث التي يذكر فيها حياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد.
﴿ مما علمت رشدا ﴾ علما ذا رشد أصيب به الخير في ديني.
﴿ تحط به خبرا ﴾ علما. يقال : خبر الأمر يخبره، علمه، والاسم الخير، وهو العلم بالشيء، ومنه الخبير، أي العالم.
﴿ شيئا إمرا ﴾ عظيما منكرا والإمر : الداهية، وأصله كل شيء شديد كثير، ومنه قيل للقوم : قد أمروا، إذا كثروا واشتد أمرهم. وأمر إمر : منكر عجيب.
﴿ ولا ترهقني من أمري عسرا ﴾ لا تكلفني من أمري مشقة في صحبتي إياك. يقال : أرهقه طغيانا، أغشاه إياه وألحق ذلك به. وأرهقه عسرا : كلفه إياه. والإرهاق : أن يحمل الإنسان على مالا يطيقه.
﴿ شيئا نكرا ﴾ منكرا عظيما. يقال : نكر الأمر، أي صعب واشتد. وعن قتادة : النكر أشد من الأمر.
﴿ قد بلغت من لدني عذرا ﴾ أي قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي حيث خالفتك مرارا.
﴿ وكان وراءهم ملك ﴾ من دأبه تعقب السفن الصالحة للاستيلاء عليها. ومن تعقب الشيء وتتبعه يقال : إنه وراءه بحثا واستقصاء، سواء أتاه من الأمام أو من الخلف. قال الزجاج :﴿ وراء ﴾ يكون لخلف وقدام، ومعناها : ما توارى عنك، أي ما استتر عنك، وليس من الأضداد كما أزعم بعض أهل اللغة وهو مما يستأنس به لما قلنا.
﴿ فخشينا أن يرهقهما ﴾ يوقعهما لو بقي حيا في الطغيان والكفر لشدة محبتهما له، وقد أعلمه الله أنه طبع كافرا ( آية٧٣هذه السورة ).
﴿ خيرا منه زكاة ﴾ أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة. ﴿ وأقرب رحما ﴾ أي رحمة عليهما وبرا بهما.
﴿ ويسألونك عن ذي القرنين ﴾ هو عبد صالح ملكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة والسلطان. وقيل : نبي، كما يشهد له ظاهر قوله تعالى :﴿ قلنا يا ذا القرنين ﴾ وسمي ذا القرنين لبلوغه المشرق والمغرب، فكأنه حاز قرني الدنيا. وليس هو الأسكندر المقدوني تلميذ أرسطو، بل كان قبله بقرون.
﴿ من كل شيء سببا ﴾ أي علما أو طريقا يوصله إليه.
﴿ فأتبع سببا ﴾ سلك طريقا أفضى به إلى المغرب. يقال : أتبع واتبع بمعنى واحد وهو السير.
﴿ حتى إذا بلغ مغرب الشمس ﴾ أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه من جهة المغرب، وكذا يقال في قوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغ مطلع الشمس ﴾. ﴿ وجدها تغرب في عين حمئة ﴾ أي رآها في نظره عند غروبها كأنها تغرب في عين مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط. والذي في أرض ملساء واسعة يراها كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها. و﴿ حمئة ﴾ أي ذات حمأة وهي الطين الأسود، من حمئت البئر تحمأ حمأ : صارت فيها الحمأة. وقرئ ﴿ حامية ﴾ أي حارة، اسم فاعل من حمي يحمي حميا
﴿ عذابا نكرا ﴾ منكرا فظيعا، وهو عذاب جهنم.
﴿ لم نجعل لهم من دونها سترا ﴾ أي لم نجعل لهم من دون الشمس ما يستترون به من البناء أو من البناء واللباس، فهم قوم عراة يسكنون الأسراب والكهوف في نهاية المعمورة من جهة المشرق.
﴿ بين السدين ﴾ الجبلين، وسمي الجبل سدا لأنه سد فجا من الأرض. قيل : إنهما فيما يقرب من عرض تسعين درجة من جهة الشمال.
﴿ خرجا ﴾ وقرئ ﴿ خراجا ﴾ ومعناها الجعل من المال. وقيل : الخرج المصدر، أطلق على الخراج وهو اسم لما يخرج من الأموال.
﴿ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ﴾ حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا، والإفساد في أرضنا.
﴿ ردما ﴾ حاجزا حصينا وجدارا متينا، وهو أوثق من السد وأحكم. يقال : ثوب مردم، أي فيه رقاع فوق رقاع. وسحاب مردم : أي متكاثف بعضه فوق بعض.
﴿ آتوني زبر الحديد ﴾ قطعه العظيمة. جمع زبرة - كغرفة – وهي القطعة الكبيرة من الحديد. وأصل الزبر : الاجتماع، ومنه زبرة الأسد، لما اجتمع من الشعر على كاهله. زبرت الكتاب : أي كتبته وجمعت حروفه. ﴿ بين الصدفين ﴾ جانبي الجبلين، وأصل الصدف الميل في خف
البعير إلى الجانب الوحشي. وسمي كل واحد من الجانبين صدفا لكونه مصادفا ومقابلا للآخر، من قولك : صادفت الرجل، أي لاقيته، ولذا لا يقال للمفرد صدف حتى يصادفه الآخر، فهو من الأسماء المتضايقة كالزوج والشفع. ﴿ قطرا ﴾ نحاسا مذابا، أو رصاصا مذابا. وأصله من القطر، لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء.
﴿ أن يظهروه ﴾ يعلو ظهره ويرقوا عليه لملامسته وارتفاعه ﴿ نقبا ﴾ خرقا لصلابته وثخانته.
﴿ جعله دكاء ﴾ أرضا مستوية. أو مثل دكاء وهي الناقة لا سنام لها. وقرئ ﴿ دكا ﴾ أي مدكوكا مسوى بالأرض. ﴿ وكان وعد ربي حقا ﴾ تذييل من ذي القرنين، وهو آخر ما حكي من قصته.
﴿ نزلا ﴾ شيئا لضيافتهم. وأصله : المنزل وما يهيئ للضيف من الزاد تكرمة له. وفي التعبير عن جهنم بالنزل تهكم واستهزاء بهم.
﴿ جنات الفردوس ﴾ أفضل الجنة. وهو معنى قولهم : إنه وسط الجنة وربوتها وأعلاها وأرفعها. وهو لفظ عربي يجمع على فراديس. وقيل معرب، ومعناه : البستان الذي يجمع ما في البساتين. ﴿ نزلا ﴾ ذكر في مقابلة ذلك النزل المعد للكافرين.
﴿ لا يبغون عنها حولا ﴾ تحولا، لكونها أطيب المنازل وأعلاها. مصدر سماعي لتحول كالعوج والصغر. يقال : حال من مكانه حولا.
﴿ لنفذ البحر ﴾ فني وفرغ. يقال : نفد ينفد نفادا ونفدا، فني وذهب، ومنه : أنفده واستنفده، أي أفناه..... والله أعلم.
تم بتوفيق الله تعالى الجزء الأول من هذا التفسير.
يليه بمشيئة تعالى الجزء الثاني، وأوله تفسير سورة ﴿ مريم ﴾.
فهرس التفسير
صحيفة صحيفة