تفسير سورة ق

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة ق من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ قۤ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (هُوَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ أقْسَمَ بهِ)، وقال القرطبيُّ: (هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ: قَدِيرٌ؛ وَقَادِرٌ؛ وَقَاهِرٌ؛ وَقَابِضٌ)، وقال عكرمةُ والضحَّاك وجماعةٌ المفسِّرين: (هُوَ اسْمُ جَبَلٍ مُحِيطٍ بالدُّنْيَا مِنْ زُبُرْجُدٍ أخْضَرٍ اخْضَرَّتِ السَّمَاءُ مِنْهُ، وَهُوَ وَرَاءَ الْحِجَاب الَّذِي فِيهِ تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ وَرَائِهِ بمَسِيرَةِ سَنَةٍ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ بَلَدٌ إلاَّ وَتَحْتَهَا عِرْقٌ مِنْ عُرُوقِ ذلِكَ الْجَبَلِ، فَإذا أرَادَ اللهُ أنْ يُزَلْزِلَ تِلْكَ الأَرْضَ حَرَّكَ عِرْقَهُ ذلِكَ فَزَلْزَلَ، وَإذا أرَادَ اللهُ بأَهْلِ مَدِينَةٍ هَلاَكاً أمَرَهُ فَحَرَّكَ عِرْقَهُ فَخُسِفَ بهِمْ). قال وهبُ: (إنَّ ذا الْقَرْنَيْنِ أتَى عَلَى جَبَلِ قَاف، فَسَأَلَهُ: هَلْ وَرَاءَكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: وَرَائِي أرْضٌ مَسِيرَةَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ فِي عَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ جِبَالِ الثَّلْجِ يَخْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَمِنْ وَرَائِكَ أيْضاً أرْضٌ مِثْلُهَا مِنْ الْبَرَدِ، لَوْلاَ ذلِكَ الثَّلْجُ وَالْبَرَدُ لاحْتَرَقْتَ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ). وقال بعضُهم: معنى قوله تعالى ﴿ قۤ ﴾ قُضِيَ الأمرُ ما هو كائنٌ، وقال أبو بكرٍ الورَّاق: (مَعْنَاهُ: قِفْ عِنْدَ أمْرِنَا وَنَهْينَا وَلاَ تُعَدِّيهِمَا). وَقِيْلَ: معناهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ ﴾؛ أي الشَّريفِ الكريمِ على اللهِ. واختلفَ العلماءُ في جواب القسَمِ، فقال أهلُ الكوفةِ جوابهُ: ﴿ بَلْ عَجِبُوۤاْ ﴾، وقال الأخفشُ: (جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ؛ تَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَتُبْعَثُ). وَقِيْلَ: جوابهُ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ ﴾[ق: ١٨].
وَقِيْلَ: جوابهُ﴿ قَدْ عَلِمْنَا ﴾[ق: ٤] كما قالَ اللهُ﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾[الشمس: ١] إلى أنْ قالَ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾[الشمس: ٩] فذلكَ جوابُ القسَمِ، إلاَّ أن اللامَ حُذفت منه، ويجوزُ أن تُجعل (بَلْ) في جواب القسَمِ موضعَ (لَقَدْ). وجواباتُ القسَمِ سِتَّةٌ: ١. (إنَّ) شديدةٌ كقوله﴿ وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ ﴾[الفجر: ١-٢] إلى أنْ قالَ:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤].
٢. و (مَا) في النَّفي كقولهِ﴿ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾[الضحى: ١-٣].
٣. و (لا) أي النافية، واللامُ مفتوحةٌ كقوله﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[الحجر: ٩٢].
٤. و (إنْ) الخفيفةُ كقوله﴿ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا ﴾[الشعراء: ٩٧].
٥. و (لاَ) كقوله﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾[النحل: ٣٨].
٦. و (قَدْ) كقوله﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾[الشمس: ١] إلى أنْ قالَ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾[الشمس: ٩].
٧. و (بَلْ) كقولهِ ﴿ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوۤاْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾، أي مُخَوِّفٌ يَعرِفُون حسَبَهُ ونسَبَهُ وصِدقَهُ وأمانتَهُ.
﴿ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾؛ عَجِبُوا لكونِ مُحَمَّدٍ رسُولاً إليهم، فأنكَرُوا رسالتَهُ وأنكروا البعثَ بعد الموتِ، وهو قولهُ: ﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ﴾؛ أي أنُبعَثُ إذا مِتنا؟ قالوا ذلك متعجِّبين أنَّهم إذا ماتُوا وصارُوا تُراباً كيف يُبعثون بعدَ ذلك؟ وقالوا: ﴿ ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾؛ أي الردُّ إلى الحياةِ بعيدٌ غيرُ كائنٍ أبداً، استبعَدُوا بجهلهِم أنْ يُبعثوا بعدَ الموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ ﴾؛ أي ما تأكلُ الأرضُ من لُحومِهم ودِمائهم وأشعَارهم، والمعنى: لا يخفَى علينا شيءٌ مما تأخذُ الأرض من أبدانِ الموتَى، فمَن عَلِمَ ذلك فهو قادرٌ على إعادةِ ذلك الخلقِ بعَينهِ إلى الحياةِ. وقوله: ﴿ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾؛ أرادَ به اللوحَ المحفوظَ، حُفِظَ من الزِّيادة والنُّقصان، عِندَنا كتابٌ حافظٌ لعِدَّتِهم وأسمائِهم، وقد أثبَتنا فيه ما يكون من جميعِ الأشياء المقدَّرة.
قَْوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾؛ أي كذبُوا بالقرآنِ لَمَّا جاءَهم بدلائلِ الله.
﴿ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾؛ أي مُختَلطٍ مُلتَبسٍ عليهم، لا يَثُبتون على شيءٍ واحد، مرَّةً يشُكُّون وأُخرى يجحَدُون، ومرَّة يقولون في النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ ساحرٌ، ومرَّة يقولون: هو شاعرٌ، ومرَّة يقولون: مُعَلَّمٌ مجنونٌ، وتارةً يقولون للقرآنِ: هو سِحرٌ يؤثَرُ، وتارةً يقولون: هو أساطيرُ الأوَّلين، وتارةً يقولون: سِحرٌ مُفتَرى. وقال الحسنُ: (مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إلاَّ مَرَجَ أمْرُهُمْ)، وقالَ قتادةُ: (مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ رَأيُهُ، وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ)، ومن ذلك الْمَرْجُ لاختلاطِ أشجَارها بعضُها من بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾؛ ودلَّهم بهذا على قُدرتهِ بعظيمِ خَلقهِ، فقالَ: أفَلَمْ ينظُروا كيف بَنَيناها وزيَّناها بالكواكب وما لَها من فُتُوقٍ وشُقوقٍ وصُدوعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾؛ أي بسَطناها.
﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ أي جِبَالاً.
﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾؛ أي من كلِّ لونٍ حَسَنٍ منظَرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾؛ أي فَعَلنا ذلك الذي ذكرنَاهُ ليُبصَرَ به ويُتَذكرَ به، فهو تذكيرٌ وعِظَةٌ وتنبيهٌ لكلِّ عبدٍ مُنِيبٍ يرجعُ إلى اللهِ ويتفكَّرُ في قُدرتهِ. قال أبُو حاتم: (قَوْلُهُ ﴿ تَبْصِرَةً ﴾ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَر) يعني تَبصِيراً وتَذكيراً وتَنبيهاً له؛ لأن مَن قَدَرَ على خَلقِ السَّماوات والأرضِ والنبات قَدَرَ على بعثِهم.
قَوْلهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً ﴾؛ يعني المطرَ.
﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ ﴾؛ أي بساتينَ.
﴿ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ ﴾؛ يعني الزرعَ الذي من شأنهِ أن يُحصدَ حَصِيداً، حُصد أم لم يُحصَدْ، وذلك البُرُّ والشعيرُ وسائرُ الحبوب التي تُحصَدُ وتدَّخَرُ وتُقتَاتُ. وإضافةُ الحب إلى الحصيدِ وهما واحدٌ لاختلافِ اللَّفظين، كما يُقال مسجدُ الجامعِ، وربيعُ الأوَّل، وخُفُّ البعيرِ، وحبلُ الوريدِ ونحوُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾؛ معناهُ: وأنبَتنا النخلَ طِوَالاً، يقالُ: بَسَقَتِ النَّخلَةُ إذا طَالَتْ. والطَّلعُ النَّضِيدُ: هو الكُفُرِّيُّ ما دامَ في أكمَامِها، فهو مَنضُودٌ بعضهُ فوقَ بعضٍ، وإذا خرجَ من أكمَامِها فليس بنَضيدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ ﴾؛ انتصبَ على وجهَين: أحدِهما: رَزَقَنَاهُم هذهِ الأشياءَ، والثاني: أنبَتنَاها للرِّزقِ، فهو منصوبٌ؛ لأنه مفعولٌ لَهُ؛ ولأنه مصدرُ فعلٍ محذوف. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾؛ أي أحيَينا بالمطرِ مَكاناً مَيْتاً لا نباتَ فيه، فكما أحيَينا هذه الأرضَ الْمَيتَة بالماءِ، وأنبَتنا هذه الأقواتَ من الحبوب اليابسةِ.
﴿ كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ ﴾؛ أي كذلك تَنبُتُونَ بالمطرِ في قُبوركم ثم تُخرَجون للبعثِ، والقدرةُ على إعادةِ النَّبات دليلٌ على القدرةِ على إعادةِ الحياة إلى الميْت.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ ﴾؛ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: إنَّ هؤلاءِ الكفار سَلَكوا التكذيبَ طريقةَ مَن قبلِهم من الأُمم المكذِّبة لرُسلِهم، وقد رأيتُم كيف كان إنْكَاري عليهم، وكيف أهلَكناهُم. والرَّسُّ: برزون اليَمَامَةِ، والنبيُّ هو حَنظَلُ بن سِنَان. وأصحابُ الأيْكَةِ قومُ شُعيب عليه السلام، والأَيكَةُ غَيْظٌ. وأما قومُ تُبَّعٍ فقد تقدَّم أن تُبَّعَ اسمُ ملكٍ حِميَر، وقد ذُكر ذلك في قولهِ تعالى:﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ﴾[الدخان: ٣٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ ﴾؛ أي كلٌّ مِن هؤلاءِ المذكُورين كذبَ الرُّسل.
﴿ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾؛ أي فوجبَ عليهم عذابهُ، وحقَّ عليهم كلمةُ العذاب. وسُمي تُبَّعاً لكثرةِ أتباعهِ وكان يعبدُ النارَ فأسلمَ ودعَا قومَهُ إلى الإسلامِ وهم حِميَرُ فكذبوهُ، قال حاتِمُ الرقَّاشي: كَانَ أسْعَدُ الْحِمْيَرِيُّ مِنَ التَّتَابعَةِ، آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ بسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ: شَهِدْتُ عَلَى أحْمَدَ أنَّهُ   رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَمْفَلَوْ مَدَّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ   لَكُنْتُ وَزيراً لَهُ وَابْنُ عَمْقال قتادةُ: (ذمَّ اللهُ قَوْمَ تُبَّعٍ وَلَمْ يَذُمَّهُ، وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، فَسَارَ بالْجُيُوشِ وَافْتَتَحَ الْبلاَدَ وَقَصَدَ مَكَّةَ لِيَهْدِمَ الْبَيْتَ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ لِهَذا الْبَيْتِ رَبّاً يَحْمِيهِ، فَنَدِمَ وَأحْرَمَ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بالْبَيْتِ وَكَسَاهُ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ ﴾؛ هذا جوابٌ لقولِهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). والمعنى: أعَجِزْنَا حين خلَقنَاهم أوَّلاً ولم يكونوا شَيئاً، فكيف عن بعثِهم، وهذا تقريرٌ لهم لأنَّهم اعترَفُوا بأنَّ اللهَ الخالقُ وأنكَرُوا البعثَ. ثم ذكَرَ أنَّهم في شَكٍّ من البعثِ، فقالَ اللهُ تعالى: ﴿ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾؛ أي بل هُم في شَكٍّ من البعثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾؛ أي ولقد خلَقنا لبنِي آدمَ ونعلمُ ما يُحدِّثُ به قلبهُ؛ أي نعلَمُ ما يُخفِي ويُكِنُّ في نفسهِ.
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ﴾؛ بالعلمِ بأحوالهِ وبما في ضَميرهِ.
﴿ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ ﴾؛ وهو عِرْقٌ في باطنِ العُنقِ بين العَليا والْحُلقُومِ، وهما وَريدان عن يَمين ثغرَةِ النَّحرِ ويسارها، يتَّصِلان من نَاحِيَتي الحلقِ والعاتقِ، ينصَبَّان أبداً من الإنسانِ. وقال الحسنُ: (الْوَريدُ: الْوَتِينُ؛ وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بهِ الْقَلْبُ، وَاللهُ تَعَالَى أقْرَبُ إلَى الْمَرْءِ مِنْ قَلْبهِ). ومعنى الآيةِ: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ﴾ أي أعلَمُ به وأقدَرُ عليه مِن بعضهِ، وإنْ كان بعضهُ له حجابٌ فلا يحجِبُنا شيءٌ؛ أي لا يحجبُ عِلمُنا عنه شيءٌ. ثم ذكرَ أنه مع علمهِ وَكَّلَ به مَلَكين يكتُبان ويحفَظان عليه عملهُ إلزاماً للحجَّة، فقالَ: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾؛ قال مقاتلُ: (هُمَا مَلَكَانِ يَتَلَقَّيَانِ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ وَمَنْطِقِهِ) أي يَأخُذان ذلك ويُثبتانه في صحائِفهما، أحدُهما عن يمينِ يكتبُ الحسَنات، والثاني عن شِمالٍ يكتبُ السيِّئات، فذلك قولهُ ﴿ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ ولم يقل قَعِيدَان؛ لأنه أرادَ عن اليمينِ قعيدٌ وعن الشمالِ قعيدٌ، فاكتفَى من أحدِهما عن الأُخرى، كقولِ الشَّاعر: نَحْنُ بمَا عِندَنَا وَأنْتَ بمَا   عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُأي نحنُ بما عندَنا رَاضُون. والقعيدُ مثل قاعدٍ كالسَّميع والعليمِ والقدير، وقال أهلُ الكوفةِ: أرَادَ قُعُوداً. رُوي:" أنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بالإنْسَانِ مَلَكَيْنِ باللَّيلِ، وَمَلَكَيْنِ بالنَّهَار يَحْفَظَانِ عَمَلَهُ، أحَدُهُمَا يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالثَّانِي يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، فَإذا تَكَلَّمَ الْعَبْدُ بحَسَنَةٍ كَتَبَهَا الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ عَشْراً، وَإذا تَكَلَّمَ بسَيِّئَةٍ قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِلآخَرِ: أنْظِرْهُ، فَنَظَرَهُ سِتَّ سَاعَاتٍ أوْ سَبْعَ سَاعَاتٍ، فَإنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ لَمْ يَكْتُبْهَا، وَإنْ لَمْ يَتُبْ كَتَبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً "هكذا قال صلى الله عليه وسلم. وعن أنسٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" وَكَّلَ بعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ، فَإذا مَاتَ الْعَبْدُ قَالاَ: يَا رَب قَدْ قَبَضْتَ عَبْدَكَ؛ أفَتَأْذنُ لَنَا أنْ نَصْعَدَ إلَى السَّمَاءِ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلاَئِكَتِي يُسَبحُونَ، فَيَقُولاَنِ: أنُقِيمُ فِي أرْضِكَ؟ فَيَقُولُ: إنَّ أرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يَعْبُدُونَنِي، فَيَقُولاَنِ: أيْنَ نَذْهَبُ؟ فَيَقُولُ: قُومَا عَلَى قَبْرِ عَبْدِي وَهَلِّلاَنِي وَكَبرَانِي وَاكْتُبَا ذلِكَ لِعَبْدِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَعِيدٌ ﴾ أي رَصِيدٌ حافظٌ حاضر ملازمٌ لا يبرحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾؛ أي حافظٌ حاضر ﴿ عَتِيدٌ ﴾ أي مُعْتَدٌّ لَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾؛ أي جاءَت غمَرَاتُ الموتِ وأهوالهُ وشدَّتُها التي تَغشَى الإنسانَ وتَغلِبُ على عقلهِ.
﴿ بِالْحَقِّ ﴾ أي بما يصيرُ إليه من أمرِ الآخرةِ من شَقاوَةٍ أو سَعادةٍ تُحَقَّقُ عليه عندَ الموتِ. ويقالُ له: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾؛ أي تميلُ وتَهربُ وتَكرَهُ، قد أيقَنْتَ أنه الآنَ، يقالُ: حادَ عنِ الشيء يَحِيدُ عنهُ حَيْداً؛ إذا مَالَ وزَاغَ ونَكَصَ، وقرأ أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بالْمَوْتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ ﴾؛ يريدُ نفخةَ البعثِ، يكون يومُ القيامةِ وهو يومٌ يتحقَّقُ فيه الوعيدُ، وهو اليومُ الموعُود للأوَّلين والآخِرين يجتَمعون فيه. وَقِيْلَ: معناهُ: ذلك الذي وعدَ اللهُ الكفارَ أنْ يُعذِّبَهم فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾؛ أي سائِقٌ يَسُوقُها إلى الْمَحْشَرِ، وشاهدٌ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَتْ قال الكلبيُّ: (السَّائِقُ هُوَ الَّذِي يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَالشَّهِيدُ هُوَ الَّذِي يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ)، والمرادُ بالنَّفْسِ ها هُنا نفس الكافر، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا ﴾؛ اليومِ في الدُّنيا.
﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ ﴾؛ الذي كان في الدُّنيا يغشَى قلبَكَ وسمعَكَ وبصركَ.
﴿ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾؛ أي فأنتَ اليومَ عالِمٌ نافذُ البصرِ، تُبصِرُ ما كنتَ تُنكِرُ في الدُّنيا. وَقِيْلَ: معناهُ: ﴿ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ أي فعِلمُكَ نافذٌ، وهو من البَصِيرَةِ لا بصرَ العينِ، كما يقالُ: فلانٌ بصير بهذا الأمرِ؛ أي عالِمٌ به. وَقِيْلَ: معناهُ: فبصرُكَ اليوم شاخصٌ لِمَا ترى من الْهَوْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾؛ يعني الْمَلَكَ الذي يكتبُ عملَهُ السَّيِّءَ في الدُّنيا يقول: هذا الذي كَتَبتهُ من عملهِ مُعَدٌّ محفوظٌ مُحصَى، يعني أن الملَك يقولُ: لديه هذا الذي وكَّلتَني به قد أحضَرتهُ، فيقولُ الله تعالى لقَرينهِ: ﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ﴾؛ إطرَحا فيها.
﴿ كُلَّ كَفَّارٍ ﴾؛ بالله وبنعمتهِ.
﴿ عَنِيدٍ ﴾، مُعرضٍ عن الإيمانِ والقرآنِ إعراضَ المضَادِّ له. وهذا خطابُ الواحدِ بلفظ التَّثنِيَةِ على عادةِ العرب، يقولون للواحدِ: ارحلاها وآزجراها. وَقِيْلَ: الخطابُ لخازنِ النَّار، ومخاطبَةُ الواحدِ بلفظ الاثنين من فصيحِ كلامِ العرب، ومنه قولُهم للواحد في الشِّعر (خَلِيلَيَّ)، قال امرؤُ القيسِ: خَلِيلَيَّ مُرَّا بي عَلَى أُمِّ جُنْدَب   نُقَضِّ لُبَانَاتٍ لِلْفُؤَادِ الْمُعَذبوقالَ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ   بسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِوقال الفرَّاءُ والسديُّ وأبو ثروان: فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أنْزَجِرْ   وَإنْ تَدَعَانِي أحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَاومنه قولُ الحجَّاج: (يَا حَرَسِيُّ إضْرِبَا عُنُقَهُ)، قال الزجَّاجُ: (تَثْنِيَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْخِطَابُ لِلْمُتَلَقِّينَ مَعاً، وَالسَّائِقُ وَالشَّهِيدُ جَمِيعاً)، وقرأ الحسنُ: (ألْقَيْنَ) بنونِ التأكيد كقوله تعالى:﴿ لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ ﴾[العلق: ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ ﴾؛ أي لا يُنْزِلُ خَيراً ولا يُعطي شيئاً من حقِّ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُعْتَدٍ ﴾؛ أي ظالِمٍ لا يُقِرُّ بتوحيدِ الله، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُّرِيبٍ ﴾؛ أي شَاكٍّ في البعثِ والتوحيد. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾؛ أي شَريكاً.
﴿ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ ﴾؛ أي إطرحاهُ في النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ قرِينُهُ ﴾؛ أي شَيطانهُ: ﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ﴾؛ أي ما أغوَيتهُ، ما أضلَلتهُ؛ أي لم أتَوَلَّ ذلك. وَقِيْلَ: معناهُ: قال قَرينهُ الذي يشهَدُ عليه من الملائكةِ: ﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ﴾ أي ما عجِلتُ عليه في الكتابةِ وما كتبتُ عليه إلاَّ ما قالَ وفعلَ.
﴿ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ ﴾؛ خطأ.
﴿ بَعِيدٍ ﴾؛ من الصَّواب. وإنما يقولُ الملَكُ هذا القولَ بعدَ ما يقولُ الكافرُ: يا رب عليَّ كتبَ ما لَمْ أقُلْ ولم أفعَلْ وما أنظَرَني، ولكن عجَّلَ في الكتابةِ عليَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ ﴾؛ أي يقولُ اللهُ تعالى: لا تَختَصِمُوا عندِي كما تختَصِمُوا عند مُلوكِ الدُّنيا، فإنِّي مَلِكٌ لا يُكرَّرُ الكلامُ عندي.
﴿ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم ﴾؛ على ألْسِنَةِ الرسُلِ بالوعدِ و؛ ﴿ بِٱلْوَعِيدِ ﴾؛ لا ينفعكُم الاختصامُ بعدَ أن أخبَرتُكم على ألسِنَةِ الرُّسل بعذابي في الآخرةِ لِمَن كفرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾؛ أي لا خَلَفَ لوَعدِي ووعيدي، وقد قَضيتُ ما أنَا قاضٍ عليكم من العذاب، لا تبديلَ له. وَقِيْلَ: معناهُ: لا يُكذبُ عندي ولا يغيَّرُ القولُ من جُملتهِ؛ لأنِّي أعلمُ الغيبَ وأعلمُ كيف ضَلُّوا وكيف أضْلَلتُموهم، ولا يقدرُ أحدٌ أن يُشقِي أحداً مِمَّن أسعَدتُّهُ، ولا يُسعِدُ أحدٌ ممن أشقَيتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾؛ أي لا أعاقِبُ أحداً من غيرِ جُرمٍ، ولا أخذُل أحداً من غيرِ ذنبٍ، ومَن عَمِلَ سيِّئةً فلا يُجزَى إلاَّ مِثلَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ قرأ نافعُ (يَقُولُ) بالياءِ على معنى: يقولُ اللهُ. والمعنى: أنذِرْهُمْ يومَ يقولُ لجهنَّم: هَلِ امْتَلأْتِ كما وعَدتُّكِ، فتقولُ: ﴿ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ أي لَمْ يبقَ موضعٌ لم يمتلئ فلا مزيدَ، على هذا قال المفسِّرون: أرَاها اللهُ تصديقَ قوله﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾[الأعراف: ١٨] فلمَّا امتَلأَتْ قالَ لَها: هلِ امتلأْتِ؟ فتقولُ: هل مِن مزيدٍ على هذا الامتلاءِ؟ وهذا استفهامُ إنكار؛ أي قدِ امتلأتُ ولم يبقَ فِيَّ موضعٌ خالٍ. هذا قولُ عطاء ومجاهد. وقال ابنُ عبَّاس في رواية أبي صالِح: (أنَّها تَسْتَزِيدُ إلَى مَا فِيهَا) ووجهُ هذا القولِ أنَّ هذا السؤالَ في قوله ﴿ هَلِ ٱمْتَلأَتِ ﴾ كان قبلَ دُخولِ جميعِ أهلها فيها. ويجوزُ أن يكون المعنى: أنَّها طَلبت أن تُزَادَ في سِعَتها لتَضَايُقِها بأهلِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾؛ أي قريبٍ، وأدِّيت الجنةُ للمتَّقين الشِّركَ غيرَ بعيدٍ، ينظُرون إليها قبلَ دخُولِها، ويقالُ لَهم عندَ تَقرِيبها: ﴿ هَـٰذَا ﴾؛ الذي تَرونَهُ.
﴿ مَا تُوعَدُونَ ﴾؛ في الدُّنيا على ألسِنَةِ الرُّسل.
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾؛ أي لكلِّ رجَّاعٍ عن معاصِي اللهِ إلى طاعةِ الله، حافظٍ لحدُودِ اللهِ من الخروجِ إلى ما لا يجوزُ. قال مجاهدُ: (الأَوَّاب الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ)، وَقِيْلَ: هو الذي يُذنِبُ ثم يتوبُ، ثم يُذنِبُ ثم يتوبُ. وَقِيْلَ: الأوَّابُ الْمُسَبحُ مِن قوله﴿ يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾[سبأ: ١٠].
وَقِيْلَ: هو الذاكرُ للهِ، وقال مقاتلُ: (الْمُطِيعُ). وَقِِيْلَ: هو الذي لا يقومُ من محلِّه حتى يستغفرَ اللهَ، وقال أبو بكرٍ الورَّاق: (هُوَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، لاَ يَهْتَدِي إلَى غَيْرِ اللهِ). وَقِيْلَ: هو الذي لا يشتَغِلُ إلاَّ باللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ ﴾؛ صفةٌ للأَوَّاب الحفيظِ، والمعنى: مَن خافَ اللهَ وخَافَ من عذابهِ وأطاعَهُ ولم يَعْصِهِ، وعبدَهُ حيث لا يراهُ إلاَّ اللهُ، وهو معنى قولهِ ﴿ بِٱلْغَيْبِ ﴾ ﴿ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾؛ أي جاءَ بقَلبٍ مُخلِصٍ راجعٍ عن معاصِي الله إلى طاعتهِ، والقلبُ الْمُنِيبُ: هو التَّائِبُ، وموضِعُ ﴿ مَّنْ خَشِيَ ﴾ الخفضُ على نعتِ الأوَّاب.
قولهُ تعالى: ﴿ ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ﴾؛ يعني سلامة من الهمومِ والعذاب وأمانٍ من كلِّ مكروه.
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ ﴾؛ في الجنَّة لأنه لا موتَ فيها ولا فناءَ ولا انقطاعَ.
﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا ﴾؛ من أنواعِ النَّعيم.
﴿ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾؛ أي نَزِيدُهم من عندِنا ما لم يسألوهُ، ولا خَطَرَ على قلوبٍ، ولا بلغَتهُ أفهامُهم، وقال جابرُ: " الْمَزِيدُ هُوَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ بلا كَيْفٍ).
قًوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ﴾؛ هذا تخويفٌ لأهلِ مكَّة؛ أي كم أهلَكنا من قومٍ هُم أشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً.
﴿ فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾؛ أي سَارُوا وتَقلَّبُوا وطافُوا في البلادِ. وأصلهُ من النَّقَب وهو الطريقُ؛ وكأنَّهم سلَكُوا كلَّ طريقٍ فلم يجِدُوا مَخْلَصاً عن أمرِ الله. قال الزجَّاجُ: (لَمْ يَرَوا مَخْلَصاً مِنَ الْمَوْتِ، كَأَنَّهُمْ ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ مَعَ شِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَفِي هَذا إنْذارٌ لأَهْلِ مَكَّةَ أنَّهُمْ عَلَى مِثْلِ سَبيلِهِمْ لاَ يَجِدُونَ مَفَرّاً مِنَ الْمَوْتِ، يَمُوتُونَ فَيَصِيرُونَ إلَى عَذاب اللهِ). قرأ الحسنُ: (فَنَقَبُوا) بالتخفيف، وقرأ السُّلَمي على اللفظِ الأمرِ على التهديدِ والوعيد؛ أي أقبلُوا في البلادِ وأدبرُوا يا أهلَ مكَّة وتصرَّفُوا منها كلَّ مُتَصَرَّفٍ، وسِيرُوا في الأرضِ فانُظروا.
﴿ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ ﴾؛ أي إنَّ ما صُنِعَ بهم من هلاكِ القُرى لعِبرَةً وعِظَةً؛ ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾؛ عقلٌ وحَزْمٌ وبصيرة.
﴿ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ ﴾؛ أي استمعَ ما يقالُ له على جهة التَّفَهُّمِ، يقولُ العربُ: ألْقِ سَمْعَكَ؛ أي اسْتَمِعْ مِنِّي؛ ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾؛ أي شاهِدُ القلب حاضرهُ غير غافلٍ ولا سَاهٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾؛ واللُّغُوبُ هو التَّعَبُ، وذلك أنَّ اليهودَ لَعَنَهُمُ اللهُ قالُوا: خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّام، أوَّلُها يوم الأحَدِ، وآخرُها يومُ الجمعةِ، فأَعَيا واستراحَ يومَ السبتِ! فذلكَ لا يُعمَلُ فيهِ شيئاً. فأكذبَهم اللهُ بقولهِ ﴿ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾، واللُّغُوبُ هو التعبُ، وسُبحانَ اللهِ أن يُوصَفَ بتَعَبٍ أو نصَبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ﴾؛ أي إصبرْ يا مُحَمَّدُ على ما يقُولون من الأذى والتكذيب، وهذا قبلَ أن يؤمَرَ بالقتال، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾؛ أي صَلِّ بأَمرِ ربكَ واحْمَدْهُ.
﴿ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ ﴾؛ أرادَ بذلك صلاةَ الفجرِ وصلاةَ العصرِ. وَقِيْلَ: معناهُ: قبلَ الغروب: الظهرَ والعصرَ.
﴿ وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ﴾؛ يعني: صلاةَ المغرب والعشاءِ. وسُمِّيت الصلاةُ تَسبيحاً لِمَا فيها من التسبيحِ: (سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظِيمِ، وَسُبْحَانَ رَبيَ الأَعْلَى). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ ﴾؛ يعني الرَّكعتين بعدَ المغرب وقبلَ الوترِ. وَقِيْلَ: التسبيحُ في أواخرِ الصَّلاة، يُسَبحُونَ اللهَ ثلاثاً وثلاثين، ويَحمَدُون ثلاثاً وثلاثين، ويُكَبرُونَ ثلاثاً وثلاثين. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ... ﴾ إلَى آخرِ السُّورة ". وعن الشعبيِّ والأوزاعيِّ أنَّهما قالا: (أدْبَارُ السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِب، وأدْبَارُ النُّجُومِ: الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ). وقال ابنُ زيدٍ: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ ﴾ وَهُوَ النَّوَافِلُ، وَأدْبَارُ الْمَكْتُوبَاتِ). قرأ الحسنُ وأبو عمرٍو ويعقوبُ وعاصم والكسائيُّ وابنُ عامرٍ: (وَأدْبَارَ) بفتحِ الألف جمعُ الدُّبُرِ. وقرأ الباقون بالكسرِ على المصدر مِن أدْبَرَ يُدْبرُ إدْبَاراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾؛ أي استمِعْ يا مُحَمَّدُ صيحةَ القيامةِ والبعثِ والنَّشرِ، ويومَ النداءِ هو يومُ صَيحَةِ إسرافيلَ، وهو يومُ النَّفْخَةِ الأخيرةِ، يقومُ فيه على صخرةِ بيتِ المقدسِ فينفخُ في الصُّور، والصَّخرةُ أقربُ مكانٍ من الأرضِ إلى السَّماء باثْنَي عشر مِيلاً كذا قال الكلبيُّ. وفي الحديثِ:" أنَّهُ يُنَادِي: أيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ، وَالْعُرُوقُ الْمُتَمَزِّقَةُ، وَالشُّعُورُ الْمُتَفَرِّقَةُ، أُخْرُجْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيَكُنَّ، فَيَخْرُجُونَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ".
قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي بالبعثِ، وَقِيْلَ: إنَّها كائنةٌ بالحقِّ.
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ ﴾؛ أي مِن القبور إلى المحشَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ ﴾؛ أي نُحيي الأمواتَ ونُمِيتُ الأحياءَ.
﴿ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ في الآخرةِ للجَزاءِ.
قولُه تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ﴾؛ أي تتصَدَّعُ عنهم مُسرعين، والمعنى يوم تشَقَّقُ الأرضُ عنهم خارجين سِرَاعاً يُسرِعُونَ إلى الدَّاعي.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ الحشرُ.
﴿ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾؛ أي هَيِّنٌ وسَهْلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ مِن تكذيبكَ من أمرِ البعث وغيرِ ذلك، يعني كفَّارَ مكَّة.
﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾؛ أي بُمسَلَّطٍ قَهَّارٍ تُجبرُهُمْ على الإسلامِ، إنما بُعِثتَ مُذكِّراً مُحَذِّراً، وذلك قبلَ أن يُؤمَرَ بالقتالِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ ﴾؛ أي عِظْ به.
﴿ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾؛ وإنما خَصَّ الخائفِين بالوعظِ؛ لأنَّهم همُ الذين يَنتَفِعُونَ بذلك، والمعنى: ذكِّرْ بالقُرآنِ مَن يخافُ ما وعَدتُ مَن عصَانِي من العذاب.
Icon