تفسير سورة الشعراء

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وهي مائتان وسبع وعشرون آية‏. ‏

والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به، لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف، والله أعلم بالصواب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفرقان لقى الله يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب» «١»
سورة الشعراء
مكية، إلا قوله وَالشُّعَراءُ... إلى آخر السورة وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: وست وعشرون آية [نزلت بعد الواقعة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
طسم بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النون وإدغامها الْكِتابِ الْمُبِينِ الظاهر إعجازه، وصحة أنه من عند الله، والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى: آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٣]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة رضى الله عنه: باخع نفسك على الإضافة.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٤]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
أراد: آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. فَظَلَّتْ معطوف على الجزاء الذي هو ننزل،
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.
لأنه لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحا. ونظيره: فأصدّق وأكن، كأنه قيل: أصدق. وقد قرئ:
لو شئنا لأنزلنا. وقرئ: فتظل أعناقهم. فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله، كقوله: ذهبت أهل اليمامة، كأنّ الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خاضعين، كقوله تعالى لِي ساجِدِينَ وقيل أعناق الناس:
رؤساؤهم ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم هم الرءوس والنواصي والصدور. قال:
في محفل من نواصي النّاس مشهود «١»
وقيل: جماعات الناس. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. وقرئ: فظلت أعناقهم لها خاضعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية فينا وفي بنى أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥ الى ٦]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
أى: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به. فإن قلت:
كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت:
إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له فَسَيَأْتِيهِمْ وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة ما الشيء الذي كانوا يستهزءون به وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧ الى ٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم: صفة لكل ما يرضى ويحمد في
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٤٢٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
299

بابه، يقال: وجه كريم، إذا رضى في حسنه وجماله، وكتاب كريم: مرضىّ في معانيه وفوائده، وقال:


حتّي يشقّ الصّفوف من كرمه «١»
أى: من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم: المرضى فيما يتعلق به من المنافع إِنَّ فِي إنبات تلك الأصناف لَآيَةً على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم، غير مرجوّ إيمانهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه من الكفرة الرَّحِيمُ لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت: ما معنى الجمع بين كم وكل، ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم «٢» ؟ قلت: قد دلّ كُلِّ على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكَمْ على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة «٣»، فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين، أحدهما:
(١).
من رأى يومنا ويوم بنى التيم... إذا التف صيقه بدمه
لما رأوا أن يومهم أشب... شدوا حيازيمهم على ألمه
كأنما الأسد في عرينهم... ونحن كالليل جاش في قتمه
لا يسلمون الغداة جارهم... حتى يزل الشراك عن قدمه
ولا يخيم اللقاء فارسهم... حتى يشق الصفوف من كرمه
لرجل من حمير. ومن: استفهامية. والصيق والصيقة- بالكسر-: الغبار والتراب. والأشب- كحذر-: كثير الجلية والاختلاط، ويطلق على المكان الذي التف شجره، والحيزوم: الصدر. والعرين: أجمة الأسد يسكن فيها.
وجاش: ارتفع وأقبل. والقتم: الغبار والسواد والظلمة. وروى في غشمه: بالغين. والمعنى واحد، لا يسلمون لا يخذلون ولا يتركون. والشراك: سير النعل، ولا يخيم: أى لا يجبن عن اللقاء، واليوم: الزمن أو الواقعة، وإضافة الصيق والدم إليه لأنه فيه. ووصف اليوم بأنه كثير الصياح والاختلاط، لأن ذلك واقع فيه، وشد الحيازيم على الألم: كناية عن التجلد والصبر. وشبههم بالأسود في شجاعتهم، وشبه قومه بالليل في الاحاطة والقهر للغير، ثم قال: لا يتركون حليفهم غداة الروع حتى يرتبك وحده في الحرب، فزلل الشراك: كناية عن ذلك ولا يجبن الفارس منهم عن اللقاء، فهو نصب على نزع الخافض، وقيل: مفعول معه، حتى يشق صفوف الحرب ويدخلها من كرمه، أى شجاعته وجراءته، لأن الكرم في كل باب بحسبه، وحتى الأولى غاية للمنفي، والثانية غاية للنفي. ويجوز أن الثانية ابتدائية، والفعل بعدها مرفوع على الاستئناف، وهذا أبلغ في المدح، ثم إن مدح عدوهم مدح لهم.
(٢). قوله «كم أنبتنا فيها من زوج كريم» لعل بعده سقطا تقديره «كان مستقيما». (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت: ما فائدة الجمع بين كل وكم؟ وأجاب بأن كلا دخلت للاحاطة بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط به متكاثر مفرط الكثرة» قال أحمد: فعلى مقتضى ذلك يكون المقصود بالتكثير: الأنواع والظاهر أن المقصود آحاد الأزواج والأنعام، ويدل عليه أنك لو أسقطت كُلِّ فقلت: انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني، لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار إليه، فإذا أدخلت كُلِّ فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين، والله أعلم.
300
أن النبات على نوعين: نافع وضارّ، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضارّ. والثاني: أن يعم جميع النبات نافعة وضارّه، ويصفهما جميعا بالكرم وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودلّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب، كيف قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وهلا قال: آيات؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر أنبتنا، فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أىّ آية. وأن يراد: أن في كل واحدة من تلك الأزواج لآية.
وقد سبقت لهذا الوجه نظائر.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١)
سجل عليهم بالظلم بأن قدّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بالكفر وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبنى إسرائيل باستعبادهم لهم. قرئ:
ألا يتقون بكسر النون، بمعنى: ألا يتقوننى فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: ألا يتقون؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقله خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون لا يَتَّقُونَ حالا من الضمير في الظالمين، أى: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال.
وأمّا من قرأ: ألا تتقون. على الخطاب. فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحرّ مزاجه «١» وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يونجه ويعنف يه ويقول له: ألم تتق الله، ألم تستح من الناس. فإن قلت: فما فائدة هذا الالتفات، والخطاب مع موسى عليه الصلاة والسلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى
(١). قوله «وحر مزاجه» في الصحاح: حر يحر حرا وحرارة وحرور. (ع) [.....]
مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي أَلا يَتَّقُونَ بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله أَلَّا يَسْجُدُوا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣)
ويضيق وينطلق، بالرفع لأنهما معطوفان على خبر إنّ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن.
والفرق بينهما في المعنى: أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفى انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت:
اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع «١» الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهرون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله تعالى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ومعنى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: أرسل إليه جبرائيل، واجعله نبيا، وآزرنى به «٢»، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً حيث اقتصر على ذكر طرفى القصة أوّلها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله، فأراد الله إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم. فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله من
(١). قوله «من الفصحاء المصاقع» في الصحاح «صقع الديك» : صاح. وخطيب مصقع، أى: بليغ. (ع)
(٢). قوله «وآزرنى به» في الصحاح «آزرت فلانا» : عاونته. والعامة تقول: وازرته. (ع)
ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن بعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته. فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر: ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٤]
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
أراد بالذنب: قتله القبطي. وقيل: كان خباز فرعون واسمه فاتون. يعنى: ولهم علىّ تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل «١»، فأخاف أن يقتلوني به، فحذف المضاف. أو سمى تبعة الذنب ذنبا، كما سمى جزاء السيئة سيئة. فإن قلت: قد أبيت أن تكون تلك الثلاث عللا، وجعلتها تمهيدا للعذر فيما التمسه، فما قولك في هذه الرابعة؟ قلت: هذه استدفاع للبلية المتوقعة. وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة، فكيف يكون تعللا. والدليل عليه: ما جاء بعده من كلمة الردع، والموعد بالكلاءة والدفع.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
جمع الله له الاستجابتين معا في قوله كَلَّا فَاذْهَبا لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله فَاذْهَبا أى اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون. فإن قلت: علام عطف قوله فَاذْهَبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظنّ، فاذهب أنت وهرون. وقوله مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما
(١). قوله «وهي قود ذلك القتل» لعله القتيل. (ع)
303
وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون مُسْتَمِعُونَ مستقرا، ومَعَكُمْ لغوا. فإن قلت: لم جعلت مُسْتَمِعُونَ قرينة مَعَكُمْ في كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أى: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله ﷺ «١» «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» «٢». فإن قلت: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه- إذا وصف به- بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال:
ألكنى إليها وخير الرّسو ل أعلمهم بنواحي الخبر «٣»
فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول «٤»
(١). لم أجده بهذا اللفظ، والمحفوظ «صب في أذنيه الآنك» وهو الرصاص. وذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ: «البرم الدم» وقال: هو الكحل المذاب. قلت: وإنما تلقاه ابن الأثير عن الفائق، فرجع إلى الزمخشري.
(٢). قوله «صب في أذنيه البرم» في الصحاح «البرم» : ثمر العضاء. (ع)
(٣). لأبى ذؤيب. وألاكه يليكه: إذا أرسله. والمصدر إلاكة، فالهمزة زائدة. والأصل: لاك يلوك، كقام يقوم. وأما ألكه: إذا أرسله أيضا، فمصدره: ألوكة وأليكة ومألكة، بضم اللام وفتحها. ومألك بضمها.
وقيل: ألاكه، إذا تحمل رسالته. فالمعنى: أرسلنى، أو تحمل رسالتي إليها. ويروى: إليه: أى: إلى ذلك الأمر. والرسول في الأصل مصدر، فجاز إفراده مع تعدد معناه، ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم. وشبه الخبر بمكان ذى جهات على طريق المكنية. والنواحي تخييل. أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحى على طريق التصريحية، يعنى أنه أعلم من غيره بذلك.
(٤).
حلفت برب الراقصات إلى منى خلال الملا يمددن كلّ جديل
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
فلا تعجلي يا عز أن تنفهمى بنصح أتى الواشون أم بحبول
لكثير صاحب عزة. والراقصات: المطايا السائرات إلى منى في الحج، خلال الملا: أى في أثناء الناس. والجديل الرسن في عنقها تمده به. والواشي: الذي يحسن الكلام ويموهه، ويخلط الصدق بالكذب، ويحرف الكلم عن مواضعه. و «ما» نافية، أى: ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم إلى أحد برسول، أى برسالة، فهو في الأصل مصدر. وقد يطلق على المرسل، وهو الظاهر في رواية، «ولا راسلتهم برسول» أى لا شافهتهم بالسر ولا أرسلت إليهم رسولا به، وهذه الرواية أوفق بالمقابلة. ويمكن أن أرسلتهم بمعنى أرسلت إليهم، والأصل: يا عزة، فرخم بحذف التاء، أن تنفهمى، أى: في أن تنفهمى. أو لأجل أن تنفهمى، بنصح، أى: أبنصح أتى الواشون إليك، أم بحبول: جمع حبل بالكسر: وهي الداهية العظيمة، ولا أدهى من الكذب.
304
ويجوز أن يوحد، لأنّ حكمهما لتساندهما واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكما واحدا، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أنّ كل واحد منا أَنْ أَرْسِلْ بمعنى: أى أرسل، لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن افعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال:
التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له أَلَمْ نُرَبِّكَ حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه.
وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبى لقرب عهده من الولادة. وفي رواية عن أبى عمرو: من عمرك، بسكون الميم سِنِينَ قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة.
وقيل: وكز القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك.
وعن الشعبي: فعلتك بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة، فلأنها كانت وكزة واحدة. عدّد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه «١» بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ يجوز أن يكون حالا، أى: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإنّ الله تعالى عاصم من يريد أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر.
ويجوز أن يكون قوله وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ حكما عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين لفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وقرئ: إلهتك، فأجابه موسى بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو مِنَ الضَّالِّينَ أى الجاهلين. وقراءة ابن مسعود: من الجاهلين، مفسرة. والمعنى: من
(١). قال محمود: «عدد نعمته عليه ووبخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وفظعه عليه بقوله: وفعلت فعلتك» قال أحمد: ووجه التفظيع عليه من ذلك أن في إتيانه به مجملا مبهما، إيذانا بأنه لفظاعته مما لا ينطق به إلا مكنيا عنه. ونظيره في التفخيم المستفاد من الإبهام قوله تعالى فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
ومثله كثير، والله أعلم.
305
الفاعلين فعل أولى الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب.
أو الناسين، من قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرّأ ساحته، بأن وضع الضالين موضع الكافرين ربأ بمحل من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه «١»، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا. قال:
علا م يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان «٢»
فإن قلت: إذا جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء قلت:
قول فرعون: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
فإن قلت: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم؟ مع إفراده في تمنها وعبدت؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد. فإن قلت: تِلْكَ إشارة إلى ماذا، وأَنْ عَبَّدْتَ ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها. ومحل أَنْ عَبَّدْتَ الرفع عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ والمعنى: تعبيدك بنى إسرائيل نعمة تمنها على. وقال
(١). قوله «واستأصله من سنخته» في الصحاح «السنخ» الأهل، وسنخ في العلم سنوخا رسخ: وسنخ الدهر- بالكسر-: لغة في زنخ، إذا فسد وتغيرت ريحه. يقال: بيت له سنخة وسناخة اه. (ع)
(٢). علام: استفهام إنكارى عن العلة، أى: على أى شيء. وأعبدت الرجل وعبدته: إذا اتخذته عبدا. والأباعر:
جمع بعير، يطلق على الذكر والأنثى من الإبل. والعبد: يجمع على عبدان بالكسر والضم وعبدى، بتشديد الدال مقصورا وممدودا. ومعبودا، وعباد، وأعبد، وعبيد، وعبد بضمتين وبفتحتين، يقول: لأى شيء يتخذونى عبدا، والحال أنه كثرت فيهم الإبل والعبيد بسببي، فليتخذوا منها ما شاءوا: بدل من الأباعر أو واقع موقع المصدر لكثرت، دلالة على التكثير. وفي هذه الحال: تهكم بهم ودلالة على حمقهم. ويجوز أن المعنى: والحال أن بعضهم كالأباعر، وبعضهم عبيد، فليكتفوا ببعضهم عنى. وقيل: يجوز أن التقييد بهذه الحالة، لأنها التي حملتهم على التكبر عليه.
306
الزجاج: ويجوز أن يكون أَنْ في موضع نصب، المعنى: إنما صارت نعمة علىّ لأن عبدت بنى إسرائيل، أى: لو لم تفعل ذلك لكفلنى أهلى ولم يلقوني في اليم.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٣]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣)
لما قال له بوّابه إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ يريد: أى شيء رب العالمين. وهذا السؤال لا يخلو: إما أن يريد به أى شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرّفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، «ليس كمثله شيء» وإما أن يريد به: أى شيء هو على الإطلاق، تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي، فأجابه بأنّ الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك. وأمّا التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام:
أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وطنز به «١»، حيث سماه رسولهم. فلما ثلث بتقرير آخر: احتدّ واحتدم وقال: لئن اتخذت إلها غيرى. وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٤]
قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
فإن قلت: كيف قيل وَما بَيْنَهُمَا على التثنية، والمرجوع إليه مجموع؟ قلت: أريد وما بين الجنسين، فعل بالمضمر ما فعل بالظاهر من قال:
في الهيجا جمالين «٢»
(١). قوله «وطنز به» أى: سخر به واحتدم، أى: التهب صدره غيظا. أفاده الصحاح. (ع)
(٢).
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا فكيف لو قد سعي عمرو عقالين
لأصبح الناس أو بادا ولم يجدوا عند التفرق في الهيجا جمالين
الساعي: المنصوب لأخذ الزكاة. والعقال: زكاة العام، والمراد به هنا العام، لأنه جرى مجرى الظرف. والسبد:
الشيء القليل. يقال: لا له سبد ولا لبد، أى: لا قليل ولا كثير. وقال الأصمعي: الأول من الشعر، والثاني من الصوف. والأوباد: جمع وبد بفتحتين، وأصله ضيق العيش وسوء الحال، فاستعمل استعمال الصفات للمبالغة، وثنى الجمال على معنى نوعين منها أو طائفتين منها ولو من نوع واحد. يقول: سعى سنة واحدة لأخذ زكاتها، فظلمنا ولم يترك لنا شيئا قليلا من مالنا، فكيف يكون حالنا لو سعى عامين. وفي ذكر عمرو بعد تقدم ضميره نوع من التهويل. ويحتمل أنه من باب التنازع، فيجوز أن الظاهر فاعل الأول، وفاعل الثاني ضميره، وقوله «لأصبح» مرتب على محذوف، أى: لو سعى عقالين، لأصبح الناس هلكى من الفقر، ولم يجدوا عند تفرقهم في الحرب نوعين من الجمال: لكل فريق منهما نوع، فيختل أمر الغزوات لاحتمال محاربة العدو في جهتين بل في جهات، فيحتاج إلى جمالين، بل إلى جمالات.
فإن قلت: ما معنى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وأين عن فرعون وملئه الإيقان؟ قلت: معناه إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدى إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع.
أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به، لظهوره وإنارة دليله.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
فإن قلت: ومن كان حوله؟ قلت: أشراف قومه قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت الملوك خاصة. فإن قلت: ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب به الخلائق كلها، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ قلت: قد عمم أوّلا، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم. لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله، عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان، فبهت الذي كفر. وقرئ: رب المشارق والمغارب. الذي أرسل إليكم بفتح الهمزة.
فإن قلت: كيف قال أوّلا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وآخرا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟ قلت: لاين أوّلا، فلما رأى منهم شدّة الشكيمة «١» في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج خاشن وعارض: إنّ رسولكم لمجنون، بقوله: إن كنتم تعقلون.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٩]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
فإن قلت: ألم يكن: لأسجننك، أخصر من لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ومؤديا مؤداه؟ قلت:
أما أخصر فنعم. وأما مؤدّ مؤدّاه فلا، لأنّ معناه: لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في
(١). قوله شدة الشكيمة، في الصحاح: فلان شديد الشكيمة، إذا كان شديد النفس أنفا أبيا. (ع)
سجونى. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشدّ من القتل وأشدّ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
الواو في قوله أَوَلَوْ جِئْتُكَ واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام. معناه: أتفعل بى ذلك ولو جئتك بشيء مبين، أى: جائيا بالمعجزة. وفي قوله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنه لا يأتى بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوّة، والحكيم لا يصدّق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه هذا، وخفى على ناس من أهل القبلة «١» حيث جوّزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات»
(١). قوله «وخفى على ناس من أهل القبلة» يريد أهل السنة، حيث قالوا: إن كلا من الحسن والقبيح بقضاء الله تعالى وقدره، ولم يلزمهم باطل كما بين في علم التوحيد. (ع) [.....]
(٢). قال محمود: «علم فرعون أنه لا يأتى بالمعجزة إلا صادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله تعالى لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن فرعون لم يخف عليه هذا وخفى على طائفة من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى كلامه» قال أحمد: ليته سلم وجه تصنيفه من ثآليل هذه الأباطيل، وكلف هذا التكليف في كيده لأهل السنة وإن كيده لفي تضليل، بينا هو يعرض بتفضيل فرعون عليهم، إذا هو قد حتم على إخوانه القدرية أنهم فراعنة، وأن كلا منهم إذا فتش نفسه وجد فيها نصيبا من فرعنته حيث يقول أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى لأنهم يعتقدون أن أفعالهم خلقهم، وأنهم لها مبدعون خالقون كلا إنهم لهم المبتدعون المختلقون، لأنهم حجروا على الله تعالى أن يفعل إلا ما توطأت أوهامهم، على أنه حسن بالنسبة إلى الخلق في الشاهد، فمن ثم أشركوا به وهم لا يشعرون. ولما هدى الله تعالى أهل السنة إلى التوحيد الحق، اعتقدوا أن كل شيء هو مخلوق لله تعالى لا شريك له في ملكه، وأن كل ممكن يجوز أن ينظمه سلطان القدرة الأزلية في سلكه، فكان من الممكنات أن يبتلى الله عباده يخرق العادات على أيدى الكذابين، ومراده إظهار الضلالات: وقد اندرج ذلك لكونه ممكنا تحت سطوة القدرة حقا بينا، ثم لم يلزم من ذلك لله الحمد خرم في الدين، فان توهم ناظر بعين الهوى والغرض، معنون عما في قلبه من مرض: أن ذلك يجر إلى عدم الوثوق بمعجزات الأنبياء، حيث كان على يد غيرهم من الكذابين الأشقياء، قيل: معاذ الله أن نأخذ ذلك بنفس مطمئنة بصدق الأنبياء، آمنة بحصول العلم لها من وقوع ما جوزه العقل، ولو قدح الإمكان العقلي في علم حاصل يقينى، للزم الآن الشك في أن جبال الأرض قد عادت تبرا أحمر، وترابها مسكا أذفر، وانقلبت البحار دما عبيطا لأن ذلك ممكن في العقل بلا خلاف، ولا يشكك نفسه في هذا الإمكان إلا ذو خبل وعته وعمى وعمه، وأين الزمخشري من الحديث الصحيح في الشاب الذي يكذب الدجال فيقسمه بالسيف جزلتين فيمشى بينهما، ثم يقول له: عد فيعود حيا، فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم به ثانى مرة فلا يسلط عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وهو حينئذ خير أهل الأرض، أو من خير أهل الأرض» أفرأيت هذا المؤمن لما نظر انخراق العادة على يد أكذب الكاذبين حتى شاهد ذلك في نفسه، لم يشككه ذلك في معلومه، فلم يتلكأ في معاودة تكذيبه، ولكن يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.
وتقديره: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به، فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر الثعبانية، لا شيء يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزوّرة بالشعوذة والسحر. وروى أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت. ويقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا لِلنَّاظِرِينَ دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه، لخروجه عن العادة، وكان بياضا نوريا. روى أنّ فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال له: ما هذه؟ قال: يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار «١» ويسدّ الأفق.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
فإن قلت: ما العامل في حَوْلَهُ؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل، فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلى وهو النصب على الحال: قال: ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقي لا يدرى أى طرفيه أطول، حتى زلّ عنه ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره خوفا وفرقا «٢»، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحسّ به من جهة موسى عليه السلام وغلبته على ملكه وأرضه، وقوله إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ قول باهت إذا غلب ومتمحل إذا لزم تَأْمُرُونَ من المؤامرة وهي المشاورة. أو من الأمر الذي هو ضدّ النهى: جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة. وماذا منصوب: إما لكونه في معنى المصدر، وإما لأنه مفعول به من قوله: أمرتك الخير.
(١). قوله «ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار» في الصحاح «الغشاء» : الغطاء اه. ولعل عبارة المصنف يعشى بالعين المهملة، وفي الصحاح «العشا» مقصور: مصدر: الأعشى، وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. (ع)
(٢). قوله «وانتفخ سحره خوفا وفرقا» في الصحاح «السحر» : الرئة. ويقال للجبان: قد انتفخ سحره. (ع)

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]

قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
قرئ: أرجئه وأرجه: بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته، إذا أخرته. ومنه: المرجئة «١»، وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجئون لأمر الله. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: احبسه حاشِرِينَ شرطا يحشرون السحرة «٢»، وعارضوا قوله: إن هذا الساحر، بقولهم: بكل سحار، فجاءوا بكلمة الإحاطة وصفة المبالغة، ليطامنوا من نفسه ويسكنوا بعض قلقه. وقرأ الأعمش: بكل ساحر.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠)
اليوم المعلوم: يوم الزينة. وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى صلوات الله عليه من يوم الزينة في قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى والميقات:
ما وقت به، أى حدد من زمان أو مكان. ومنه: مواقيت الإحرام هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه: استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق: إذا أراد أن يحرّك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا وهو واقف. ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق «٣»
يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أى في دينهم إن غلبوا موسى،
(١). قال محمود: «معناه أخره. ومنه المرجئة الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجئون لأمر الله» قال أحمد: ضاقت عليه المسالك في تفسير الارجاء، حتى استدل عليه بالمرجئة، وصرف هذا اللقب لأهل السنة، فإنهم هم الذين لا يقطعون بوعيد فساق المؤمنين، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم.
فان كانت المرجئة هم المؤمنون بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ اللهم فاشهد أنا مرجئة.
(٢). قوله «شرطا يحشرون السحرة» الشرط- محركة-: الحرس، سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، أفاده الصحاح. (ع)
(٣). لتأبط شرا. وقيل: لجرير الخطفى، وهل: استفهام استبطائى فيه حث على الفعل. ودينار: اسم رجل وعبد رب كذلك، وهو نصب عطفا على محل دينار، لأنه مفعول معنى. وأخا عوف: نعت له. وقيل: منادى.
وعوف ومخراق: اسمان لرجلين. ويروى «عون» بالنون.
ولا نتبع موسى في دينه. وليس غرضهم باتباع السحرة «١»، وإنما الغرض الكلى: أن لا يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى عليه السلام.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
وقرئ: نعم، بالكسر «٢»، وهما لغتان. ولما كان قوله إِنَّ لَنا لَأَجْراً في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، وكان قوله وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوفا عليه ومدخلا في حكمه، دخلت إذا قارّة في مكانها الذي تقتضيه من الجواب والجزاء، وعدهم أن يجمع لهم إلى الثواب على سحرهم الذي قدروا أنهم يغلبون به موسى: القربة عنده والزلفى.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
أقسموا بعزة فرعون وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله معلقا ببعض أسمائه أو صفاته، كقولك: بالله، والرحمن، وربى، ورب العرش، وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله. قال رسول الله ﷺ «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمّهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» «٣» ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسيت لها الجاهلية الأولى، وذلك أنّ الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء: لم يقبل منه، ولم يعتدّ بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨)
(١). قوله «باتباع السحرة» لعله: اتباع، كعبارة النسفي. (ع)
(٢). قوله «وقرئ نعم بالكسر» أى كسر العين، كما في الصحاح. (ع)
(٣). أخرجه النسائي من حديث أبى هريرة دون قوله «ولا تحلفوا إلا بالله» وقال «بالأنداد» بدل الطواغيت وله من حديث عبد الرحمن بن سمرة «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» مختصر. وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله».
ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم، ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، بالتمويه على الناظرين أو إفكهم: سمى تلك الأشياء إفكا مبالغة. روى أنهم قالوا: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به، علموا أنه من الله فآمنوا. وعن عكرمة رضى الله عنه: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء، لأنه ذكر مع الإلقاآت، فسلك به طريق المشاكلة. وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا. فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عزّ وجل بما خوّلهم من التوفيق. أو إيمانهم. أو ما عاينوا من المعجزات الباهرة، ولك أن لا تقدّر فاعلا، لأنّ أَلْقُوا بمعنى خرّوا وسقطوا رَبِّ مُوسى وَهارُونَ عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون لعنة الله عليه كان يدعى الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي يدعو إليه هذان، والذي أجرى على أيديهما ما أجرى.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٤٩]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أى وبال ما فعلتم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
الضر والضير والضور: واحد، أرادوا: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله، من تكفير الخطايا والثواب العظيم، مع الأعواض الكثيرة.
أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت. والقتل أهون أسبابه وأرجاها. أو لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته، لما رزقنا من السبق إلى الإيمان وخبر لا محذوف. والمعنى: لا ضير في ذلك، أو علينا أَنْ كُنَّا معناه: لأن كنا، وكانوا أوّل جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، أو من رعية فرعون، أو من أهل المشهد. وقرئ: إن كنا، بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدلّ بأمره «١»، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أوّل
(١). قوله «المدل بأمره» أى الواثق به. أفاده الصحاح. (ع)
المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي ومنه قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٥٦]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
قرئ: أسر، بقطع الهمزة ووصلها. وسر إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أنى بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم. وروى:
أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه.
وروى: أنّ الله أوحى إلى موسى: أن اجمع بنى إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الجداء «١» واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإنى سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزا فطيرا «٢» فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمرى، فأرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدّمته سبعمائة ألف: كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى عليه السلام وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا، وسماهم شرذمة قليلين إِنَّ هؤُلاءِ محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة. ومنها قولهم:
ثوب شراذم، للذي يلي وتقطع قطعا، ذكرهم بالاسم الدال على القلة. ثم جعلهم قليلا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا، واختار جمع السلامة الذي هو للقلة «٣»، وقد يجمع
(١). قوله «ثم اذبحوا الجداء» في الصحاح «الجدى» من ولد المعز. وثلاثة أجد. فإذا كثرت فهي الجداء. (ع)
(٢). قوله «واخبزوا خبزا فطيرا» في الصحاح «الفطير» : خلاف الخمير، وكل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير. (ع)
(٣). قال محمود: «وقللهم من أربعة أوجه: عبر عنهم بالشرذمة وهي تفيد القلة، ثم وصفهم بالقلة، وجمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل، واختار جمع السلامة ليفيد القلة» قال أحمد: ووجه آخر في تقليلهم يكون خامسا:
وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد، قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف بالموصوف وتناهيه فيه بالنسبة إلى غيره من الموصوفين به، كقولهم: معا زيد جياع، مبالغة في وصفه بالجوع، فكذلك هاهنا جمع قليلا، وكان الأصل إفراده فيقال: لشرذمة قليلة، كما أفرد في قوله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ليدل بجمعه على تناهيهم في القلة، لكن يبقى النظر في أن هذا السر يبقى الوجوه المذكورة على ما هي عليه، أو يسقط منها شيئا ويخلفه، فتأمله والله الموفق.
القليل على أقلة وقلل «١». ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد. والمعنى:
أنهم لقلتهم لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه. وقرئ: حذرون وحاذرون وحادرون «٢»، بالدال غير المعجمة. فالحذر:
اليقظ، والحاذر: الذي يجدّد حذره. وقيل: المؤدى في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه. والحادر: السمين القوى. قال:
أحبّ الصّبىّ السوء من أجل أمّه وأبغضه من بغضها وهو حادر «٣»
أراد أنهم أقوياء أشداء. وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
وعن مجاهد: سماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله. والمقام: المكان، يريد:
المنازل الحسنة والمجالس البهية. وعن الضحاك: المنابر. وقيل السر في الحجال «٤» كَذلِكَ يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. والجر على أنه وصف لمقام، أى: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أى: الأمر كذلك. فَأَتْبَعُوهُمْ فلحقوهم. وقرئ: فاتبعوهم مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦١ الى ٦٨]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
(١). قوله «وقد يجمع القليل على أقلة وقلل» في الصحاح: مثل سرير وسرر. (ع) [.....]
(٢). قوله «وقرئ حذرون وحاذرون وحادرون» في الصحاح: وقرئ: وإنا لجميع حاذرون. وحذرون. وحذرون، أيضا بضم الذال، حكاه الأخفش. ومعنى «حاذرون» متأهبون. وفيه: آد الرجل، أى قوى، من الأداة، فهو مؤد بالهمز، أى: شاك في السلاح. وفيه آديت السفر فأنا مؤد له، إذا كنت متهيئا له. (ع)
(٣). الحادر: القوى الشديد، أو الشجاع الباسل، أى: إن مدار حب الولد على حب أمه، لا على حسن أوصافه وضمير «أبغضه» عائد على الصبى بدون وصفه، لكن هذه شيمة المنهمك في حب النساء.
(٤). قوله «وقيل السر في الحجال» السر: الجماع، والحجال: جمع حجلة وهي بيت العروس يزين بالثياب والأسرة والستور، كذا في الصحاح. (ع)
315
سَيَهْدِينِ طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم. وقرئ، فلما تراءت الفئتان. إنا لمدّركون: بتشديد الدال وكسر الراء، من ادّرك الشيء إذا تتابع ففنى. ومنه قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قال الحسن: جهلوا علم الاخرة. وفي معناه بيت الحماسة:
أبعد بنى أمّى الّذين تتابعوا أرجّى الحياة أم من الموت أجزع «١»
والمعنى: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد. الفرق: الجزء المتفرّق منه.
وقرئ: كل فلق. والمعنى واحد. والطود: الجبل العظيم «٢» المنطاد في السماء وَأَزْلَفْنا ثَمَّ حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ قوم فرعون، أى: قربناهم من بنى إسرائيل: أو أدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر. وقرئ: وأزلقنا، بالقاف، أى: أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، كقوله:
تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل «٣»
(١).
أبعد بى أمى الذين تتابعوا أرجى حياة أم من الموت أجزع
ثمانية كانوا ذؤابة قومهم بهم كنت أعطى ما أشاء وأمنع
أولئك إخوان الصفاء رزئتهم وما الكف إلا أصبع ثم أصبع
لأبى الحناك البراء ربعي الفقعسي، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والمراد التحسر والتحزن، وتتابعوا أى انقرضوا واحدا بعد واحد. أرحى: أى أرتجى حياة أم أجزع من الموت، أى: لا أفعل ذلك بعدهم وقال: بى أمى، لأن المقام مقام رقة ورحمة، فهم ثمانية كانوا رؤساء قومهم، كالذؤابة الرأس، وهي شعرها الذي يتحرك حولها، فهو تشبيه بليغ، ثم قال: كنت بهم أفعل ما أريد من الإعطاء والمنع. ويجوز بناء الفعلين للمجهول، فالمعنى: كنت بهم أنال ما أشاء وأكفى شر ما أشاء، ورزأته أصبته في ماله. ورزأته ماله. ورزأتهم: مبنى للمجهول، أى: نقصني الدهر إياهم وأخذهم منى، فلا قوة لي بعدهم، كما أن الكف إذا فقدت أصابعها بطلت قوتها، لأن بطشها ليس إلا بالأصابع منتظمة مرتبة، فهم لي كالأصابع للكف.
(٢). قوله «والطود الجبل العظيم المنطاد في السماء» في الصحاح «طود في الجبال» : مثل طوف وطوح. والمطاود مثال المطاوح. (ع)
(٣). لزهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف. وعبس وذبيان كلاهما اسم قبيلة. يقول: تداركتما هاتين القبيلتين بالصلح بينهما ودفع ديات قتلاهم، وقد ثل: أى هدم عرشها. وهذا تمثيل لذهاب عزهم وفناء دولتهم.
وزلت النعل بالقدم: زلقت عن مقرها، وهذا أيضا تمثيل لاختلال أمرهم وفساد رأيهم. وفي البيت شبه الطباق، حيث أن الأولى أتاها العذاب من فوق رءوسها، والثانية: أتاها من تحت أرجلها
316
ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبنى إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. عن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بنى إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبنى إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم. ويستقبل القبط فيقول: رويدكم يلحق آخركم. فلما انتهى موسى إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون- وكان بين يدي موسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر ولا يدرى موسى ما يصنع، فأوحى الله تعالى إليه: أن اضرب بعصاك البحر. فضربه فصار فيه اثنا عشر طريقا: لكل سبط طريق.
وروى أنّ يوشع قال: يا كليم الله، أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى:
هاهنا. فخاض يوشع الماء وضرب موسى بعصاه البحر فدخلوا. وروى أنّ موسى قال عند ذلك:
يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. ويقال: هذا البحر هو بحر القلزم. وقيل: هو بحر من وراء مصر، يقال له: أساف إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أية آية، وآية لا توصف، وقد عاينها الناس وشاع أمرها فيهم، وما تنبه عليها أكثرهم، ولا آمن بالله.
وبنو إسرائيل: الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١)
كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أنّ ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثم تقول له: الرقيق جمال وليس بمال. فإن قلت: ما تَعْبُدُونَ سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا: أصناما، كقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ، ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ، ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً. قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم، وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم نعبد فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده. ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول:
ألبس البرد الأتحمى «١»، فأجرّ ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا: نظل، لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
لا بد في يَسْمَعُونَكُمْ من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم. وقرأ قتادة: يسمعونكم، أى: هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم؟ وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا هل سمعوا أو أسمعوا قط. وهذا أبلغ في التبكيت.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧٤ الى ٨٢]
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأوّلين من آبائكم، فإن التقدّم والأوّلية لا يكون برهانا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة قوله تعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ولأنّ المغرى على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال عَدُوٌّ لِي تصويرا للمسألة في نفسه، على معنى:
أنى فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلا وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا:
ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمّل فيه،
(١). قوله «البرد الأتحمى» في الصحاح «الأتحمي» : ضرب من البرود. (ع)
318
فربما قادة التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعىّ رضى الله تعالى عنه أنّ رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتى ولا بيتكم. والعدوّ والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال:
وقوم علىّ ذوى مئرة... أراهم عدوّا وكانوا صديقا «١»
ومنه قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ شبها بالمصادر للموازنة، كالقبول والولوع، والحنين والصهيل إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين فَهُوَ يَهْدِينِ يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذى بالدم في البطن امتصاصا، ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة، وإلى معرفة مكانه، ومن هداه لكيفية الارتضاع، إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد، وإنما قال مَرِضْتُ دون «أمرضنى» لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه «٢» وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. وقرئ: خطاياي، والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر، لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارّة: هي أختى. وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي
(١). المرة: القوة، وشدة الجدال، ويروى: ذوى مبرة، أى: عداوة أو فخر أو شدة. والعدو والصديق يجيئان للمذكر والمؤنث والمثنى والجمع. يقول: ورب قوم أصحاب قوة على، أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء.
(٢). قال محمود: «إنما أضاف المرض إلى نفسه لأن كثيرا منه بتفريط الإنسان في مطعمه ومشربه» قال أحمد:
والذي ذكره غير الزمخشري أن السر في إضافة المرض إلى نفسه التأدب مع الله تعالى بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى، ولعل الزمخشري إنما عدل عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام قد أضاف الإماتة إلى الله تعالى وهي أشد من المرض، فلم يثبت عنده المعنى المذكور، ولكن المعنى الذي أبداه الزمخشري أيضا في المرض ينكسر بالموت، فان المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في نفسه، كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضافه إلى الله تعالى. ويمكن أن يفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب:
بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عام لا يخص، ولا كذلك المرض.
فكم من معافى منه قد بغتة الموت، فالتأسى بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه، ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا، أورده مقرونا بشرط إذا، فقال وَإِذا مَرِضْتُ وكان ممكنا أن يقول: والذي يمرضنى فيشفينى كما قال في غيره، فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة إلا لذلك، والله أعلم.
319
تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله أَطْمَعُ ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفى لا يعلم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
الحكم: الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل: النبوّة، لأنّ النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله. والإلحاق بالصالحين: أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. والإخزاء: من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية «١» وهي الحياء. وهذا أيضا من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور وفي يُبْعَثُونَ ضمير العباد، لأنه معلوم. أو ضمير الضالين. وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه «٢»، يعنى: ولا تخزني يوم يبعث الضالون وأبى فيهم إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ إلا حال من أتى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وهو من قولهم:
تحيّة بينهم ضرب وجيع «٣»
وما ثوابه إلا السيف. وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه: سلامة قلبه، تريد نفى المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.
(١). قوله «ومن الخزاية» لعله: أو من. (ع)
(٢). قوله «أو ضمير الضالين، وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه» لعله عطف على المعنى، كأنه قال: ويحتمل أنه ضمير الضالين... الخ. (ع)
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.
ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بدّ لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤوّل المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف، لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل مَنْ مفعولا لينفع، أى: لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من فتنة المال والبنين. ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص: أن حكى استثناءه هذا حكاية راض بإصابته فيه، ثم جعله صفة له في قوله وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ومن بدع التفاسير: تفسير بعضهم السليم باللديغ من خشية الله. وقول آخر: هو الذي سلم وسلم وأسلم وسالم واستسلم. وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا أن يكون حجة، ثم صوّر المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدّد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل اليه ابتهال الأوّابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)
الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها، والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها: قال الله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وقال فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا:
يجمع عليهم الغموم كلها والحسرات، فتجعل النار بمرأى منهم، فيهلكون غما في كل لحظة،
ويوبخون على إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم. أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم: لأنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أى الآلهة وَالْغاوُونَ وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم. والكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها، اللهم أجرنا منها يا خير مستجار وَجُنُودُ إِبْلِيسَ شياطينه، أو متبعوه من عصاة الجن والإنس.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٦ الى ١٠٤]
قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠)
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم. ويجوز أن يجرى ذلك بين العصاة والشياطين. والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم: رؤساؤهم وكبراؤهم، كقوله رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا وعن السدّى: الأوّلون الذين اقتدينا بهم. وعن ابن جريج: إبليس، وابن آدم القاتل، لأنه أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين وَلا صَدِيقٍ كما نرى لهم أصدقاء، لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون. وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، قال الله تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أو: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء، لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أنّ الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفى ما يتعلق بهم من النفع، لأنّ ما لا ينفع: حكمه حكم المعدوم.
والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. فإن قلت: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق «١». ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده
(١). قال محمود: «إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة إذا نزل بإنسان خطب ممن يعرفه وممن لا يعرفه وأما الصديق فقليل» قال أحمد: العجب أن الصديق يقع على الواحد وعلى الجمع، فما الدليل على إرادة الافراد؟
ثم لو كان المراد الافراد لكان أعم، لأنه في سياق النفي، فينفى الواحد فما زاد عليه إلى ما لا نهاية له، والله أعلم
لشفاعته، رحمة له وحسبة، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة. وأما الصديق- وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك- فأعز من بيض الأنوق «١». وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق: الجمع. الكرّة: الرجعة إلى الدنيا.
ولو في مثل هذا الموضع في معنى التمني، كأنه قيل: فليت لنا كرة. وذلك لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير. ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب، وهو: لفعلنا كيت وكيت.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١١٠]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)
القوم: مؤنثة، وتصغيرها قويمة. ونظير قوله الْمُرْسَلِينَ والمراد نوح عليه السلام: قولك:
فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد «٢». قيل: أخوهم، لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بنى تميم، يريدون: يا واحدا منهم. ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النّائبات على ما قال برهانا «٣»
كان أمينا فيهم مشهورا بالأمانة، كمحمد ﷺ في قريش وَأَطِيعُونِ في نصحى
(١). قوله «فأعز من بيض الأنوق» في الصحاح: الأنوق- على فعول-: طائر وهو الرخمة. (ع) [.....]
(٢). قال محمود: «المراد نوح، كما تقول: فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد» قال أحمد: لا حاجة إلى تأويل الجمع بالواحد هاهنا مع القطع بأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل لأنه ما من نبى إلا ومستند صدقه المعجزة الدالة على الصدق فقد كذبوا كل من استند صدقه إلى دليل المعجزة، وكذلك الاشارة بقوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ لأن التفرقة بينهم توجب تكذيب الكل وتصديق واحد يوجب تصديق الكل والله أعلم.
(٣).
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
لقريط بن أنيق من قبيلة بلعنبر، أغار عليه ناس من بنى شيبان فأخذوا منه ثلاثين بعيرا، فاستنجد قومه فلم ينجدوه، فاستغاث ببني مازن فركبوا معه وأطردوا له مائة بعير من بنى شيبان، وحرسوه إلى قومه، فمدحهم ووبخ قومه.
والناجذ: السن بين الضرس والناب. وقيل: ضرس العقل. وقيل: الضرس مطلقا. والزرافة- بالفتح والضم-:
الجماعة من الناس، وبها سميت الدابة المعروفة. والوحدان- بالضم-: جمع واحد. وشبه الشر بأسد يكشر عن أنيابه على طريق المكنية فأثبت له الناجذين تخييلا. يقول: بنو مازن شجعان: إذا ظهر الشر واشتد فزعوا إليه جماعات ومنفردين، فاستعار الطيران لذلك على طريق التصريحية. أو شبههم بالطيور في السرعة والانتشار على طريق الكناية والطريق تخييل، لا يسألون صاحبهم دليلا على ما قاله حين يناديهم برفع صوته في الملمات.
لكم وفيما أدعوكم إليه من الحق عَلَيْهِ على هذا الأمر، وعلى ما أنا فيه، يعنى: دعاءه ونصحه ومعنى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ: فاتقوا الله في طاعتي، وكرره ليؤكده عليهم ويقرّره في نفوسهم، مع تعليق كل واحدة منهما بعلة، جعل علة الأوّل كونه أمينا فيما بينهم، وفي الثاني حسم طمعه عنهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١١١]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١)
وقرئ: وأتباعك، جمع تابع، كشاهد وأشهاد. أو جمع تبع، كبطل وأبطال. والواو للحال. وحقها أن يضمر بعدها «قد» في: واتبعك. وقد جمع الأرذل على الصحة وعلى التكسير في قوله الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا والرذالة والنذالة: الخسة والدناءة. وإنما استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا. وقيل كانوا من أهل الصناعات الدنية «١» كالحياكة والحجامة. والصناعة لا تزري بالديانة، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: ضعفاء الناس وأراذلهم قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك «٢». وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الغاغة «٣». وعن عكرمة:
الحاكة والأساكفة. وعن مقاتل: السفلة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
وَما عِلْمِي وأى شيء علمى؟ والمراد: انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله واطلاعه على سر أمرهم وباطنه. وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا- مع استرذالهم- في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ويجوز أن يتغابى لهم نوح عليه السلام. فيفسر قولهم الأرذلين، بما هو الرذالة عنده، من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم، ثم يبنى جوابه على ذلك فيقول: ما علىّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم عمل سيئ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر لا محاسب ولا مجاز لَوْ تَشْعُرُونَ ذلك، ولكنكم تجهلون فتنساقون مع الجهل حيث سيركم، وقصد بذلك ردّ اعتقادهم وإنكار
(١). قوله «الصناعات الدنية» لعله: الدنيئة. كعبارة النسفي. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبى سفيان بلفظ: وسألتك ضعفاء الناس اتبعوه أم أشرافهم؟ فقلت:
بل ضعفاؤهم وكذلك أتباع الرسل. قلت: رواه بلفظ «أراذلهم».
(٣). قوله «هم الغاغة» لعله الصاغة. وفي الخازن: قال ابن عباس: يعنى القافة. (ع)
أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ يريد ليس من شأنى أن أتبع شهواتكم وأطيب نفوسكم بطرد المؤمنين الذين صح إيمانهم طمعا في إيمانكم وما علىّ إلا أن أنذركم إنذارا بينا بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١٦ الى ١٢٢]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
ليس هذا بإخبار بالتكذيب، لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أنى لا أدعوك عليهم لما غاظونى وآذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك، فاحكم بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ والفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح المستغلق كما سمى فيصلا، لأنه يفصل بين الخصومات. الفلك: السفينة، وجمعه فلك: قال الله تعالى: وترى الفلك فيه مواخر: فالواحد بوزن قفل، والجمع بوزن أسد، كسروا فعلا على فعل، كما كسروا فعلا على فعل، لأنهما أخوان في قولك: العرب والعرب، والرشد والرشد. فقالوا: أسد وأسد، وفلك وفلك. ونظيره: بعير هجان، وإبل هجان. ودرع دلاص. ودروع دلاص، فالواحد بوزن كناز، والجمع بوزن كرام. والمشحون: المملوء. يقال: شحنها عليهم خيلا ورجالا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٣١]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)
قرئ: بكل ريع، بالكسر والفتح: وهو المكان المرتفع. قال المسيب بن علس:
في الآل يرفعها ويخفضها ريع يلوح كأنّه سحل «١»
ومنه قولهم: كم ريع أرضك؟ وهو ارتفاعها. والآية: العلم وكانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم. فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك، لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم.
وعن مجاهد: بنوا بكل ريع بروج الحمام «٢». والمصانع: مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد. وفي حرف أبىّ: كأنكم. وقرئ تخلدون بضم التاء مخففا ومشددا وَإِذا بَطَشْتُمْ بسوط أو سيف كان ذلك ظلما وعلوا، وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب، لا تتثبتون متفكرين في العواقب.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٥]
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
بالغ في تنبيههم على نعم الله، حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال «٣» أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة، فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه.
ونحوه قوله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. فإن قلت: كيف قرن البنين بالأنعام؟ قلت: هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٤٠]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
(١). للمسيب بن علس، والآل: هو السراب. وقيل: الآل: ما في طرفى النهار وما في وسطه السراب.
والريع بالكسر: الطريق والمرتفع من الأرض. والسحل: نوع أبيض من ثياب اليمن، ولعل الضمير للظعائن، أى: هي في الآل. أو في وقته: برفعها تارة وبخفضها أخرى، ريع: أى طريق مرتفع تارة، ومنخفض أخرى.
أو مكان عال ترتفع بصعوده وتنخفض بالهبوط منه، يلوح: أى يظهر من بعد، كأنه ثياب بيض.
(٢). قال محمود: «كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم، فاتخذوا في طرقهم أعلاما فعبثوا بذلك، إذ النجوم فيها غنية عنها. وقيل: المراد القصور المشيدة، وقيل: بروج الحمام» قال أحمد: وتأويلها على القصور أظهر، وقد ورد ذم ذلك على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث وصف الكائنين آخر الزمان بأنهم يتطاولون في البنيان، وما أحسن قول مالك رضى الله عنه: ولا يصلى الامام على شيء أرفع مما عليه أصحابه، كالدكاك تكون مرتفعة في المحراب ارتفاعا كبيرا، لأنهم يعبثون، فعبر عن ترفعهم إلى المحراب على سبيل التكبر ومطاولتهم المأمومين بالعبث، كتعبير هود صلوات الله عليه وسلامه عن ترفع قومه في البنيان بالعبث. وأما تأويل الآية على اتخاذهم الأعلام في الطرقات وقد كانت لهم بالنجوم كفاية، ففيه بعد، من حيث أن الحاجة تدعو إلى ذلك لغيم مطبق وما يجرى مجراه.
ولو وضع هذا في زماننا اليوم لهذا المقصد لم يكن عبثا، والله أعلم.
(٣). قوله «حين قال» لعله: حيث قال. (ع)
فإن قلت: لو قيل أَوَعَظْتَ أو لم تعظ، كان أخصر. والمعنى واحد. قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأنّ المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه، من قولك: أم لم تعظ. من قرأ: خلق الأوّلين بالفتح، فمعناه: أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين وتخرّصهم، كما قالوا:
أساطير الأوّلين. أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية، نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب. ومن قرأ: خلق، بضمتين، وبواحدة، فمعناه. ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم، كانوا يدينونه ويعتقدونه، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت الإعادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يلفقون مثله ويسطرونه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٢]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
أَتُتْرَكُونَ يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدّعة فِي ما هاهُنا في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل. فإن قلت: لم قال وَنَخْلٍ بعد قوله: في جنات، والجنة تتناول النخل أوّل شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج، حتى أنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل. قال زهير:
.... تسقى جنّة سحقا «١»
قلت: فيه وجهان: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر، تنبيها على انفراده عنها بفضله عليها، وأن يريد بالجنات: غيرها من الشجر، لأنّ اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. الطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو. والقنو:
اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. والهضيم: اللطيف الضامر، من قولهم:
كشح هضيم، وطلع إناث النخل فيه لطف، وفي طلع الفحاحيل جفاء، وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون «٢»، فذكرهم نعمة الله في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه: لأنّ الإناث ولادة التمر، والبرني: أجود التمر وأطيبه ويجوز أن يريد أن نخيلهم أصابت جودة المنابت وسعة الماء، وسلمت من العاهات، فحملت الحمل الكثير، وإذا كثر الحمل هضم، وإذا قل جاء فاخرا.
وقيل: الهضيم: اللين النضيج، كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. قرأ الحسن: وتنحتون، بفتح الحاء. وقرئ: فرهين، وفارهين. والفراهة: الكيس والنشاط. ومنه: خيل فرهة، استعير لامتثال الأمر، وارتسامه طاعة الآمر المطاع. أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، والمراد الآمر. ومنه قولهم: لك علىّ إمرة مطاعة. وقوله تعالى وَأَطِيعُوا أَمْرِي. فإن قلت: ما فائدة قوله وَلا يُصْلِحُونَ؟ قلت: فائدته أنّ فسادهم فساد مصمت ليس معه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٤]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
المسحر: الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة، «٣» وأنه بشر.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٦]
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦)
الشرب: النصيب من الماء، نحو السقي والقيت، للحظ من السقي والقوت، وقرئ بالضم.
روى أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا «٤»، فقعد صالح يتفكر،
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون» البرني: ضرب من التمر. واللون: الدقل، والدقل:
أردا التمر، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «الرئة» لعله: بمعنى الرئة. (ع)
(٤). قوله «فتلد سقبا» في الصحاح «السقب» : الذكر من ولد الناقة. (ع)
فقال له جبريل عليه السلام: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم. وعن أبى موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعا.
وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء بِسُوءٍ بضرب أو عقر أو غير ذلك. عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٧ الى ١٥٩]
فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
وروى أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت: ثم ضربها قدار. وروى أنّ عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم. فإن قلت: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ قلت: لم يكن ندمهم ندم تائبين، ولكن ندم خائفين أن يعاقبوا على العقر عقابا عاجلا، كمن يرى في بعض الأمور رأيا فاسدا ويبنى عليه، ثم يندم ويتحسر كندامة الكسعىّ «١» أو ندموا ندم تائبين ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب. وقال الله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ... الآية. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد، وهو بعيد. واللام في العذاب: إشارة إلى عذاب يوم عظيم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٦]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦)
أراد بالعالمين: الناس، أى: أتأتون من بين أولاد آدم عليه السلام- على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكورهم في الكثرة- ذكر انهم، كأن الإناث قد أعوزتكم.
(١). قوله «كندامة الكسعي» الكسع: حي من اليمن. والكسعي: رجل منهم ربى تبعة حتى أخذ منها قوسا فرمي عنها الوحش ليلا وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصابه من الصيد فندم، وضرب به المثل من قال:
ندمت ندامة الكسعي لما رأت عيناه ما صنعت يداه
كذا في الصحاح. (ع)
أو أتأتون أنتم- من بين من عداكم من العالمين- الذكران، يعنى أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة. والعالمون على هذا القول: كل ما ينكح من الحيوان مِنْ أَزْواجِكُمْ يصلح أن يكون تبيينا لما خلق «١»، وأن يكون للتبعيض، ويراد بما خلق: العضو المباح منهنّ.
وفي قراءة ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. العادي: المتعدّى في ظلمه، المتجاوز فيه الحدّ، ومعناه: أترتكبون هذه المعصية على عظمها، بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي، فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٦٧]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧)
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن نهينا وتقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ حال: من تعنيف به، واحتباس لأملاكه «٢». وكما يكون حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه، وكما كان يفعل أهل مكة بمن يريد المهاجرة.
(١). قال محمود: «يحتمل أن يكون من أزواجكم بيانا لما خلق، وأن يكون للتبعيض ويراد به العضو المباح منهن. وفي قراءة ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، فكأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم» قال أحمد:
وقد أشار الزمخشري بهذه الاشارة للاستدلال بهذه الآية على حظر إتيان المرأة في غير المأتى، وبيانه أن «من» لو كانت بيانا لكان العنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج، ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران» وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر، ولو كان الأمر كذلك لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع، وكان إما الأفصح أو المتعين، وقد اجتمعت العامة على القراءة به مرفوعا، ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة أو في الجواز أصلا، فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد، فيتعين حمل «من» على البعضية، فيكون المنكر عليهم أمرين كل واحد منهما مستقل بالإنكار، أحدهما: إتيان الذكران. والثاني: مجانبة إتيان النساء في المأتى رغبة في إتيانهن في غيره، وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير، والله الموفق. [.....]
(٢). قال محمود: «أى من جملة من أخرجناه، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال من تعنيف به واحتباس لأملاكه وأشباه ذلك» قال أحمد: وكثيرا ما ورد في القرآن خصوصا في هذه الصورة العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، كقول فرعون لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وقولهم سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ وقولهم لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ وقوله إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ وقوله تعالى في غيرها رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وكذلك ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك والله أعلم: أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فانه يفهم أمرا زائدا على وقوعه، وهو أن الصفة المذكورة كالسمة لموصوف ثابتة العلوق به، كأنها لقب، وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة، واعتبر ذلك لو قلت: رضوا بأن يتخلفوا، لما كان في ذلك مزيد على الاخبار بوقوع التخلف منهم لا غير. وانظر إلى المساق وهو قوله رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من بوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت له لقبا لاصقا به، وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك، فتأمله واقدره قدره، والله الموفق للصواب.

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٥]

قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
ومِنَ الْقالِينَ أبلغ من أن يقول: إنى لعملكم قال، كما تقول: فلان من العلماء، فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم. ويجوز أن يريد: من الكاملين في قلاكم. والقلى: البغض الشديد، كأنه بغض يقلى الفؤاد والكبد. وفي هذا دليل على عظم المعصية، والمراد: القلى من حيث الدين والتقوى، وقد تقوى همة الدّين في دين الله حتى تقرب كراهته للمعاصي من الكراهة الجبلية مِمَّا يَعْمَلُونَ من عقوبة عملهم وهو الظاهر. ويحتمل أن يريد بالتنجية: العصمة. فإن قلت: فما معنى قوله فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً؟ قلت: معناه أنه عصمه وأهله من ذلك إلا العجوز، فإنها كانت غير معصومة منه، لكونها راضية به ومعينة عليه ومحرشة، والراضي بالمعصية في حكم العاصي. فإن قلت: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة، فكيف استثنيت الكافرة منهم:
قلت الاستثناء إنما وقع من الأهل وفي هذا الاسم لها معهم شركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان.
فإن قلت: فِي الْغابِرِينَ صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم «١» قلت: معناه إلا عجوزا مقدّرا غبورها. ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين.
قيل: إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة. والمراد بتدميرهم: الائتفاك بهم، وأمّا الإمطار: فعن قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وعن ابن زيد: لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطرا من حجارة. وفاعل فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ولم يرد
(١). قال محمود: «المجرور صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم. قلت:
معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها، أى: في الهلاك والعذاب»
قال أحمد: وإن تعجلت برفع القاعدة الممهدة آنفا، فاعلم أن السر الذي اقتضى العدول عن أن يقول مثلا: إلا عجوزا غابرة إلى ما ذكر في المتلوّ: هو أن المذكور في التلاوة يقتضى الاسجال عليها بأنها من أمة موسومين بهذه السمة من الهلاك كما قدمته الآن، فهو أبلغ من مجرد وصفها بالغبور، والله أعلم.
بالمنذرين قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذّم محذوف، وهو مطرهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٨٠]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
قرئ أصحاب الأيكة بالهمزة وبتخفيفها، وبالجرّ على الإضافة وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة: اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب النحو لان، ولولى: على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة، على أن ليكة اسم لا يعرف. وروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف، وكان شجرهم الدوم. فإن قلت: هلا قيل: أخوهم شعيب، كما في سائر المواضع؟ قلت:
قالوا: إن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة. وفي الحديث: إن شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨١ الى ١٨٤]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء، ونهى عن المحرّم الذي هو التطفيف، ولم يذكر الزائد، وكأن تركه عن الأمر والنهى: دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا عليه. قرئ: بالقسطاس مضموما ومكسورا وهو الميزان وقيل: القرسطون، فإن كان من القسط وهو العدل- وجعلت العين مكررة- فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: وهو بالرومية العدل. يقال: بخسته حقه، إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. يقال: عثا في الأرض وعثى وعاث، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك مع
توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك. وقرئ: الجبلة، بوزن الأبلة. والجبلة «١»، بوزن الخلقة.
ومعناهنّ واحد، أى: ذوى الجبلة، وهو كقولك: والخلق الأوّلين.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٦]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦)
فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟ قلت: إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان: كلاهما مناف للرسالة عندهم: التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا مثلهم. فإن قلت: إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظنّ وثانى مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن يتفرقا على المبتدإ والخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق، فلما كان البابان- أعنى باب كان وباب ظننت- من جنس باب المبتدإ والخبر، فعل ذلك في البابين فقيل: إن كان زيد لمنطلقا، وإن ظننته لمنطلقا.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٨٧]
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧)
قرئ: كسفا بالسكون والحركة، وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وسدر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة. وكسفه: قطعه. والسماء: السحاب، أو المظلة.
وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب. ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه. والمعنى: إن كنت صادقا أنك نبىّ، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٨٨]
قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨)
رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يريد: أنّ الله أعلم بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٨٩]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)
(١). قوله «الأبلة والجبلة» في الصحاح «الأبلة» بالضم وتشديد اللام: الغدرة من التمر. وفيه «الغدرة» :
القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة. وفيه أيضا: الجبلة الخلقة. ومنه قوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وقرأها الحسن بالضم اه (ع)
فإن قلت : كيف كرّر في هذه السورة في أوّل كل قصة وآخرها ما كرّر ؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأنّ في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس، وتثبيتاً لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذناً، أو يفتق ذهناً، أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ.
فَأَخَذَهُمْ الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، وسلط عليهم الومد «١» فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلّ ولا ماء ولا سرب، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروى أنّ شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت: كيف كرّر في هذه السورة في أوّل كل قصة وآخرها ما كرّر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلى بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأنّ في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ١٩٦]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
وَإِنَّهُ وإن هذا التنزيل، يعنى: ما نزل من هذه القصص والآيات. والمراد بالتنزيل:
المنزل. والباء في نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ونزل به الروح، على القراءتين للتعدية. ومعنى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جعل الله الروح نازلا به عَلى قَلْبِكَ أى: حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ إما أنّ يتعلق بالمنذرين،
(١). قوله «الومد» شدة حر الليل، كما في الصحاح. (ع)
فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي «١» لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمى، لتجافوا عنه أصلا، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه: أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعدّة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أو لا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني الكلام يتلقاها بقلبه ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت، وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهرا بمعرفتها كان نظره أولا في ألفاظها ثم في معانيها، فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربى مبين وَإِنَّهُ وإن القرآن- يعنى ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية. وقيل: إن معانيه فيها. وبه يحتج لأبى حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية حيث قيل وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير لرسول الله ﷺ وكذلك في أَنْ يَعْلَمَهُ وليس بواضح.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ١٩٧]
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧)
وقرئ: يكن، بالتذكير. وآية، بالنصب على أنها خبره، وأَنْ يَعْلَمَهُ هو الاسم. وقرئ.
تكن، بالتأنيث، وجعلت آيَةً اسماء، وأَنْ يَعْلَمَهُ خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرّج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك، فقيل: في يَكُنْ ضمير القصة، وآيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ جملة واقعة موقع الخبر. ويجوز على هذا أن يكون لَهُمْ آيَةً هي جملة الشأن، أَنْ يَعْلَمَهُ بدلا عن آية. ويجوز مع نصب الآية تأنيث يَكُنْ كقوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ومنه بيت لبيد:
(١). عاد كلامه. قال: واعلم أن الآيات الأول كالمقدمات لهذه الآيات، فان الله تعالى أبان أنه منزل بلغتهم التي لا يعرفون غيرها، وعلى لسان عربى لو أشكل عليهم فهم شيء منه لكان البيان عنده عتيدا ناجزا، وما نزله على لسان أعجمى قد يعتذرون بأنه لا يفهمهم ما استغلق على أفهامهم من معانيه، فقد أزاح أعذارهم ودحض حججهم، وسلكه في قلوبهم ومكنهم من فهمه أشد التمكين، ولكن لم يوفقهم بل قدر عليهم أنهم لا يؤمنون» قال أحمد: يعنى بقوله قدر عليهم أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا يؤمنون، لأن التقدير عنده العلم. والحق أن الله تعالى أراد منهم أنهم لا يؤمنون. وهذا تقرير لجواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: قلوبهم نائية عن قبول الحق، لا يلجها بوجه ولا بسبب، فكيف يسلك الحق فيها؟ فيجاب عنه بهذا الجواب، والله أعلم.
فمضى وقدّمها وكانت عادة منه إذا هي عرّدت أقدامها «١»
وقرئ: تعلمه، بالتاء. عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عبد الله بن سلام وغيره. قال الله تعالى وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. فإن قلت: كيف خط في المصحف «علمؤا» بواو قبل الألف؟ قلت: خط على لغة من يميل الألف إلى الواو وعلى هذه اللغة كتبت الصلوة والزكاة والربوا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٧]
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
الأعجم: الذي لا يفصح وفي لسانه عجمة واستعجام. والأعجمى مثله، إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد. وقرأ الحسن: الأعجميين. ولما كان من يتكلم بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه، قالوا له: أعجم وأعجمى، شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذى صوت من البهائم والطيور وغيرها: أعجم، قال حميد:
ولا عربيّا شاقه صوت أعجما «٢»
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ١٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢).
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة دعت ساق حر ترحة وتندما
فغنت على غصن عشاء فلم تدع لنائحة في نوحها متندما
عجبت لها أنى يكون غناؤها فصيحا ولم تغفر بمنطقها فما
ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ولا عربيا شاقه صوت أعجما
لحميد بن ثور، وقد رحلت صاحبته سلمى، يقول: وما حرك هذا الشوق وبعثه فتوقد بقلبي. إلا حمامة دعت ذكرها وساق حر: مركب إضافى: وهو ذكر القمري، أو ذكر الحمام مطلقا. والحر- بالضم-: فرخ الحمامة، والترحة:
الحزن، ضد الفرحة، والتندم: التأسف على ما فات. ويروى «ترنما» وهو تحسين الصوت، وهما نصب على الحالية، أى: حزينة ومتأسفة. أو ذات ترحة وذات تندم. وعشا: نصب على الظرف، فلم تدع: أى تترك لنائحة في غنائها، متندما: أى تندما أو شيئا يتندم به أو فيه. ويجوز أن ضمير نوحها للنائحة، وأنى بمعنى: كيف، أو من أنى. والاستفهام تعجبي. والفصيح: البين الخالي عن اللكنة والتعقيد. وفغر فاه يفغره، من باب نفع:
فتحه، أى: والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها، وإنما يخرج صوتها من صدرها. وشاقه: تسبب له في الشوق، والعربي: المفصح. والأعجم: الذي لا يفصح من الحيوان، نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده، وربما ألحقوه ياء النسب للمبالغة في شدة العجمة وبينه وبين عربى طباق التضاد.
336
سَلَكْناهُ أدخلناه ومكناه. والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم، وقد تضمنت معانيه وقصصه، وصحّ بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعرا تارة، وسحرا أخرى، وقالوا: هو من تلفيق محمد وافترائه وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فضلا أن يقدر على نظم مثله فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ هكذا فصيحا معجزا متحدّى به، لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ولسموه سحرا، ثم قال كَذلِكَ سَلَكْناهُ أى مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقرّرناه فيها، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أى وجه دبر أمرهم، فلا سبيل أن يتغيروا عماهم عليه من جحوده وإنكاره، كما قال وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشدّ التمكن، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح، يريدون: تمكن الشحّ فيه، لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه «١»، وهو قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ. فإن قلت: ما موقع لا يُؤْمِنُونَ بِهِ من قوله سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؟ قلت: موقعه منه موقع الموضع والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا، أى: سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن: فتأتيهم، بالتاء يعنى: الساعة. وبغتة، بالتحريك. وفي حرف أبىّ: ويروه بغتة. فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً...... فَيَقُولُوا؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته
(١). قال محمود: «إن قلت: كيف أسند السلك بصيغة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: المراد الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه، بدليل أنه أسند إليهم ترك الايمان به على عقبه في قوله: لا يؤمنون به» قال أحمد: وما ينقم من بقائه على ظاهره إلا أنه التوحيد المحض والايمان الصرف، وأن الله تعالى خلق قلوبهم نائية عن قبول الحق. والقدرية لا يبلغون في التوحيد إلى هذا الحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
337
وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشدّ منها وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة. ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه: إن أسات مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أنّ مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدّة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشدّ من مقتهم:
وهو مقت الله، وترى ثمّ يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ تبكيت لهم بإنكار وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ يوبخون به عند استنظارهم يومئذ، ويَسْتَعْجِلُونَ على هذا الوجه حكاية حال ماضية. ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أنّ استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لا حق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فقال تعالى: أفبعذابنا يستعجلون أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل، ثم قال: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعن ميمون بن مهران: أنه لقى الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. وقرئ: يمتعون، بالتخفيف.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٨ الى ٢٠٩]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
مُنْذِرُونَ رسل ينذرونهم ذِكْرى منصوبة بمعنى تذكرة، إمّا لأن «أنذر، وذكر» متقاربان، فكأنه قيل: مذكرون تذكرة. وإمّا لأنها حال من الضمير في منذرون أى، ينذرونهم ذوى تذكرة. وإمّا لأنها مفعول له، على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. أو مرفوعة على أنها خبر مبتدإ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى. والجملة اعتراضية. أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى. أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. ووجه آخر: وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك قوما غير ظالمين. وهذا الوجه عليه المعوّل. فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد «إلا» ولم تعزل عنها في قوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ؟
قلت: الأصل: عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٠ الى ٢١٢]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
كانوا يقولون: إنّ محمدا كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما يتنزل به الشياطين على الكهنة، فكذبوا بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه، لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء. وقرأ الحسن: الشياطون. ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجرى الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا. هذه يبرون ويبرين.
وفلسطون وفلسطين. وحقه أن تشتقه من الشيطوطة وهي الهلاك كما قيل له الباطل. وعن الفرّاء: غلط الشيخ في قراءته «الشياطون» ظنّ أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل:
إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه- يريد: محمد ابن السميقع- مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٣ الى ٢١٤]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
قد علم أنّ ذلك لا يكون، ولكنه أراد أن يحرّك منه لازدياد الإخلاص والتقوى. وفيه لطف لسائر المكلفين، كما قال وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه. وأن يقدّم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روى عنه عليه السلام:
أنه لما دخل مكة قال: «كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأوّل ما أضعه ربا العباس «١» » والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في الإنذار والتخويف. وروى أنه صعد الصفا- لما نزلت- فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا، وقال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، يا عباس عمّ النبىّ
(١). أخرجه مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج وعزاه الطيبي للترمذي من رواية عمرو بن الأحوص وليس هو عنده بتمامه.
يا صفية عمة رسول الله، إنى لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالى ما شئتم «١» ». وروى أنه جمع بنى عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا: الرجل منهم يأكل الجذعة، ويشرب العس «٢» على رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثم أنذرهم فقال:
«يا بنى عبد المطلب، لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقى؟ قالوا: نعم. قال:
فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد»
، وروى أنه قال «يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار فإنى لا أغنى عنكم شيئا» ثم قال: «يا عائشة بنت أبى بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد، اشترين أنفسكنّ من النار فإنى لا أغنى عنكنّ شيئا «٣» ».
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٥ الى ٢١٦]
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب. ومنه قول بعضهم:
(١). أخرجه ابن حبان من حديث أبى هريرة قال «قام رسول الله ﷺ حين نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فقال: يا بنى عبد مناف يا بنى هاشم، لا أغنى عنكم من الله شيئا» وروى مسلم من حديث عائشة «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام رسول الله ﷺ على الصفا فقال: يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب، يا بنى عبد المطلب: لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالى ما شئتم» وروى ابن مردويه من حديث أبى أمامة قال «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خرج رسول الله ﷺ فقال: يا بنى هاشم اشتروا أنفسكم من النار. فانى لا أملك لكم من الله شيئا، يا عائشة بنت أبى بكر ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد، ويا أم الزبير عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتروا أنفسكم من النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا».
(٢). قوله «ويشرب العس» هو القدح العظيم، كما في الصحاح. (ع)
(٣). أما أوله فأخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقه من رواية ابن عباس مطولا.
وأخرجه البزار وأبو نعيم في الدلائل من طريق عباد بن عبد الله الأسدى عن على قال «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنع لي رجل شاة على صاع من طعام. وأعد قعبا من لبن.
ففعلت. ثم قال لي: اجمع لي بنى عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا. فوضعت الطعام بينهم، فأكلوا حتى شبعوا وإن فيهم لمن يأكل الجذعة ويشرب العس، ثم جئت بالعس فشربوا حتى رووا»
وأما بقيته فمتفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ خرج رسول الله ﷺ حتى صعد الصفا، فنادى: يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال: يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم تصدقونني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك؟ ألهذا جمعتنا فنزلت هذه السورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».
وأنت الشّهير بخفض الجناح فلا تك في رفعه أجدلا «١»
ينهاه عن التكبر بعد التواضع. فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتبعون للرسول، فما قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، وأن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدّق واتبع رسول الله فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب، ثم إمّا أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى: من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم، يعنى: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٧ الى ٢٢٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
وَتَوَكَّلْ على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه، لم يخرج من حد التوكل، لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: فتوكل، وبه قرأ نافع وابن عامر، وله محملان في العطف: أن يعطف على فَقُلْ. أو فَلا تَدْعُ. عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو من أسباب الرحمة: وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سر أمرهم، وكيف يعبدون الله، وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين: المصلون. وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه
(١). شبه بطائر يرق لأفراخه ويخفض إليها جناحه رحمة لها، فاستعار خفض الجناح لذلك على سبيل التمثيل، ورشحه بقوله: «فلا تك في رفعه أجدلا» أى شبيها بالأجدل، وهو الصقر في القسوة والجفوة. أو في التكبر والترفع ويجوز أن خفض الجناح: كناية عما يلزمه من الرقة والرحمة واللين، ورفعه: كناية عن القسوة والجفوة، وبين الخفض والرفع طباق التضاد.
وسجوده وقعوده إذا أمّهم. وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله، هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال: لا يحضرني، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه: لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله الْعَلِيمُ بما تنويه وتعمله. وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلى خلفه، من قوله صلى الله عليه وسلم: «أتموا الركوع والسجود، فو الله إنى لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم «١» ». وقرئ: ويقلبك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٣]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣)
كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ هم الكهنة والمتنبئة، كشقّ، وسطيح، ومسيلمة، وطليحة يُلْقُونَ السَّمْعَ هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع أى المسموع من الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، وترى أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وفي الحديث: «الكلمة يتخطفها الجنىّ فيقرّها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» «٢» والقرّ: الصبّ. فإن قلت: كيف دخل حرف الجرّ على «من» المتضمنة لمعنى الاستفهام والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا: معنى الاسم، ومعنى الحرف، وإنما معناه: أن الأصل أمن، فحذف حرف الاستفهام واستمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من «هل» والأصل: أهل. قال:
أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم»
(١). متفق عليه من حديث قتادة عن أنس بمعناه. واللفظ المذكور عند النسائي واتفقا عليه من حديث أبى هريرة بلفظ «هل ترون قبلتي هاهنا: فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، وإنى لأراكم من وراء ظهري». [.....]
(٢). متفق عليه من حديث عائشة أتم منه.
(٣).
سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم
لزيد الخيل الذي سماه النبي ﷺ زيد الخير، وسائل: فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال، لتتلقن حقيقة الحال، ويربوع: أبو حى، والباء بمعنى عن، أى: سلهم عن قوتنا، ويروى:
بشدتنا، بفتح الشين. يقال: شد على قرنه في الحرب: حمل عليه، أى سلهم عن صولتنا عليهم، وجعل البصريون الباء بعد السؤال للسببية، لا بمعنى عن، والأصل في الاستفهام الهمزة، ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام، وأصل «هل» بمعنى «قد»، «ومن» لمن يفعل، «وما» لما لا يفعل. «ومتى» للزمان، وهكذا بقية الأدوات موضوعة لمعان غير الاستفهام، فليست عريقة فيه، بل الهمزة مقدرة قبلها، ولذلك تظهر في بعض الأحيان كما في البيت، ويدخل عليها حروف الجر، ويضاف إليها غيرها: لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال، والاستفهام هنا للتقرير، «وهل» بمعنى «قد»، وأنكر ذلك ابن هشام. ونقل عن السيرافي أن الرواية: أم هل، فأم بمعنى «بل» «وهل» للاستفهام: قال: وعلى صحة الأولى فهل مؤكدة للهمزة شذوذا اه ويروى: فهل رأونا. ويجوز أن معناه: سلهم فقد رأونا. والسفح: السطح أو أصل الجبل المنسطح. والقاع المستوى من الأرض. والأكم- بالفتح-: واحده أكمة، وجمعه أكم بالضم، وهي التلول المرتفعة.
﴿ والشعراء ﴾ مبتدأ. و ﴿ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون ﴾ خبره : ومعناه : أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل : الغاوون : الراوون. وقيل : الشياطين، وقيل : هم شعراء قريش : عبد الله بن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحيّ. ومن ثقيف : أمية ابن أبي الصلت. قالوا : نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وقرأ عيسى بن عمر : والشعراء، بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد : كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ :﴿ حَمَّالَةَ الحطب ﴾ [ المسد : ٤ ] ﴿ والسارق والسارقة ﴾ [ المائدة : ٣٨ ] و ﴿ سُورَة أنزلناها ﴾ [ النور : ١ ] وقرىء :«يتبعهم »، على التخفيف. ويتبعهم، بسكون العين تشبيهاً «لبعه بعضد ».
فإذا أدخلت حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ في ضميرك، كأنك تقول:
أعلى من تنزّل الشياطين، كقولك: أعلى زيد مررت. فإن قلت: يُلْقُونَ ما محله؟ قلت:
يجوز أن يكون في محل النصب على الحال، أى: تنزل ملقين السمع، وفي محل الجرّ صفة لكل أفاك، لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف، كأن قائلا قال: لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت. فإن قلت: كيف قيل وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكى عن الجنى، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟ قلت: أريد التفريق بينهنّ بآيات ليست في معناهنّ، ليرجع إلى المجيء بهنّ وتطرية ذكر ما فيهنّ كرّة بعد كرّة: فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله: أن يحدّث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢٥ الى ٢٢٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
وَالشُّعَراءُ مبتدأ. ويَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ خبره: ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل «١» والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم- إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل: الغاوون: الراوون. وقيل: الشياطين،
(١). قوله «والنسيب بالحرم والغزل» النسيب: أى التشبيب. والغزل: محادثة النساء ومراودتهن. والابتهار: ادعاء الشيء كذبا، كذا في الصحاح في مواضع. (ع)
وقيل: هم شعراء قريش: عبد الله بن الزبعرى، وهبيرة بن أبى وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحىّ. ومن ثقيف: أمية ابن أبى الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمد- وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم- وقرأ عيسى بن عمر: والشعراء، بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وسُورَةٌ أَنْزَلْناها «١» وقرئ: يتبعهم، على التخفيف. ويتبعهم، بسكون العين تشبيها «لبعه بعضد».
ذكر الوادي والهيوم: فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلق في المنطق ومجاوزة حدّ القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وأن يبهتوا البرىّ «٢»، ويفسقوا التقى. وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبىّ مصرّعات... وبت أفض أغلاق الختام «٣»
فقال: قد وجب عليك الحدّ، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنى الحدّ بقوله: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
[سورة الشعراء (٢٦) : آية ٢٢٧]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله ﷺ والصحابة وصلحاء الأمة،
(١). قوله «وسورة أنزلناها» لعل بعدها سقطا تقديره: بالنصب. (ع)
(٢). قوله «وأن يبهتوا البرى» أى يتهموا. (ع)
(٣).
خرجن إلى لم يطمئن قبلي... وهن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبي مصرعات... وبت أفض أغلاق الختام
للفرزدق، يقول: خرج النسوة إلى من خدورهن حال كونهن لم يطمئن، أى لم يزل بكارتهن أحد قبلي، وأكد ذلك بقوله: وهن أصح من بيض النعام الذي يصان عادة عن الكسر، لئلا تذهب زينته، فبتن مطروحات عن يمينى وشمالي، وبت أفض: أفتح وأزيل بكارتهن الشبيهة بأغلاق الختام لسدها الفروج، والأغلاق جمع غلق كسبب، بمعنى الأقفال. والختام: ما يسد به فم الزجاجة ونحوها، فاضافتها إليه بيانية. أو من إضافة المسميات إلى الاسم كأعواد السواك. ويجوز أن الختام بمعنى المختوم وهو الفرج، ويمكن أن يراد بالأغلاق: جوانب البكارة المشتبكة بالفرج وشبه البكارات أو جوانبها بالأغلاق على طريق التصريح، ولما سمع سليمان بن عبد الملك ذلك، قال: قد وجب عليك الحمد، فقال: قد درأه الله عنى بقوله: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فخلى سبيله.
344
وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وعن عمرو بن عبيد: أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسان ابن ثابت، والكعبان: كعب بن مالك، وكعب بن زهير، والذين كانوا ينافحون عن رسول الله ﷺ ويكافحون هجاة قريش. وعن كعب بن مالك أنّ النبي ﷺ قال له: «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل» «١» وكان يقول لحسان: «قل وروح القدس معك» «٢». ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول، ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله وَسَيَعْلَمُ وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله الَّذِينَ ظَلَمُوا وإطلاقه. وقوله أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضى الله عنهما حين عهد إليه «٣» : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدّتها.
وتفسير الظلم بالكفر تعليل «٤»، ولأن تخاف فتبلغ الأمن: خير من أن تأمن فتبلغ الخوف.
وقرأ ابن عباس: أى منفلت ينفلتون. ومعناها: إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب
(١). أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن ملك عن أبيه قال «لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال:
إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفس محمد بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل»
قلت: وأخرجه من هذا الوجه وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عبد الوهاب أخبرنا ابن عوف عن ابن سيرين «أن النبي ﷺ قال لكعب بن مالك: هيه: فأنشده. فقال: «لهو أشد عليهم من وقع النبل» ولمسلم عن عائشة مرفوعا «اهجوا قريشا فانه أشد عليها من رشق النبل» وللترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس في أثناء حديث: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خل عنهم يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل».
(٢). متفق عليه من حديث البزار. ولفظ النسائي: قال لحسان: اهج المشركين، فان روح القدس معك» وللحاكم وابن مردويه من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال يوم الأحزاب: «من يحمى أعراض المسلمين؟ فقال حسان: أنا. قال: فقم اهجهم، فان روح القدس سيعينك».
(٣). أخرجه ابن أبى حاتم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن المحسر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «كتب أبى وصية فذكرها وفي آخرها: وإن تجر وتظلم فانى لا أعلم الغيب. وسيعلم الذين ظلموا- الآية» ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أبى بكر عن الواقدي بأسانيد متعددة مطولا.
(٤). قوله «وتفسير الظلم بالكفر تعليل» لعله من علله بالشيء، أى: لهاء به، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يجتزأ به عن اللبن، كما في الصحاح. (ع)
345
Icon